ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ( 4 ) } .
يخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض وما بينهما لخدمة الإنسان ، وهو المكرّم الأول في هذا الكون ، وجميع الأجناس في خدمته حيوانا ونباتا وجمادا ، فهو سيد في هذا الكون ، لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله ؟ لا إنما أخذها بفضل الله عليه ، فكان عليه أولا أن يشكر من أعطاه هذه السيادة على غيره .
وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور ، فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت ، في حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره ، وهي خادمة له ، فكان لزاما عليه أن يتأمل هذه المسألة : كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم ؟
إذن : لا بد أن لي عمرا آخر أطول من هذا ، عمرا يناسب تكريم الله لي ، ويناسب سيادتي في هذا الكون ، إنها الآخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا ، لا أعيش مع الأسباب ، إنما مع المسبب سبحانه ، فلا أحتاج إلى الأسباب التي خدمتني في الدنيا ، إنما أجد كل ما أشتهيه بين يديّ دون تعب ودون سعي ، وهذه ارتقاءات لا تكون إلا لمن يطيع المرقى المعطي .
لذلك ، الحق سبحانه وتعالى يلفتنا ويقول : صحيح أنت أيها الإنسان سيد هذا الكون وكل مخلوقاتي في خدمتك ، لكن خلقها أكبر من خلقك :
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ . . ( 57 ) } [ غافر ] .
لماذا ؟ لأن للناس أعمارا محددة ، مهما طالت لا بدّ أن تنتهي إلى أجل ، ثم إن هذه الأعمار لا تسلم لهم ، إنما تنتابها الأغيار ، فالغنيّ قد يفتقر ، والصحيح قد يمرض ، والقوي قد يضعف ، أمّا الشمس والقمر والنجوم والكون كله فلا يتعرض لهذه الأغيار ، فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم أصابتها علة وانتهت كانتهاء الإنسان ، ثم أنت لست مثلها في العظة المستوعبة ، لأن قصارى ما فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك ، أمّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله .
فإذا أقرّ حتى الكفار بأن الله تعالى هو خالق السماء والأرض إذن : فهي دليل أول على وجود الحق تبارك وتعالى .
ومسألة خلق السماوات والأرض من الأشياء التي استأثر الله بعلمها وليس لأحد أن يقول : كيف خلقت ولا حتى كيف خلق الإنسان ، لأن مسائل الخلق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها ، لذلك يقول تعالى : { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( 51 ) } [ الكهف ] .
فسماهم الله مضلين ، والمضلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل ، ويصرفك عن الحق ، وقد رأينا فعلا هؤلاء المضلين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خلق السموات والأرض .
إذن : خلق السماوات والأرض مسألة لا تؤخذ إلا ممن خلق ، لذلك قصّ لنا ربنا تبارك وتعالى قصة خلق آدم ، وقصّ لنا قصة خلق السماوات والأرض ، لكن الخلق حدث وفعل ، والفعل يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله ، والإشكال هنا في قوله تعالى { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] ، فهل الحدث بالنسبة لله تعالى يحتاج إلى زمن ؟
الفعل من الإنسان يحتاج إلى علاج يستغرق زمنا ، حيث نوزع جزئيات الفعل على جزئيات الزمن ، أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بلا علاج للأمور ، إنما يقول : للشيء كن فيكون ، أما قوله تعالى { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] فقد أوضحناها بمثال ، ولله المثل الأعلى .
قلنا : أنت حين تصنع الزبادى مثلا تأتي بالحليب ، ثم تضع عليه خميرة زبادى سبق إعداده ، ثم تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحول إلى زبادى ، فهل تقول : إن صناعة الزبادى استغرقت مني سبعا أو ثماني ساعات ؟ لا ، إنها استغرقت مجرد إعداد المواد اللازمة ، ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض ، إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة .
كذلك الحق تبارك وتعالى خلق السموات والأرض بأمره ( كن ) ، فتفاعلت هذه الأشياء مكونة السماوات والأرض .
ومسألة خلق السموات والأرض في ستة أيام عولجت في سبع سور من القرآن ، أربع منها تكلمن عن خلق السماوات والأرض ولم تتعرض لما بينهما ، وثلاث تعرضت لخلق السماوات والأرض وما بينهما ، ففي الأعراف مثلا ، وفي يونس ، وهود ، والحديد . تعرضت الآيات لخلق السماوات والأرض فقط .
وفي الفرقان والسجدة وق . فتكلمت عن البينية ، فكأن السماوات والأرض ظرف خلق أولا ، ثم خلق المظروف في الظرف ، وهذا هو الترتيب المنطقي أن تعد الظرف أولا ، ثم تضع فيه المظروف .
وقوله تعالى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] الله يخاطب بهذه الآيات العرب ، واليوم له مدلول عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر ، فكيف يقول سبحانه { في ستة أيام . . 4 }( السجدة ) ولم تخلق بعد لا الشمس ولا القمر ؟
نقول : المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الآن ، وإلا فاليوم عند الله تعالى يختلف عن يومنا ، ألم يقل سبحانه وتعالى : { وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( 47 ) } [ الحج ] أي : في الدنيا .
وقال عن اليوم في الآخرة : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) }[ المعارج ] فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا ، ولليوم في الآخرة .
والحق سبحانه لم يفصل لنا مسألة الخلق هذه إلا في سورة ( فصلت ) فهي التي فصلت القول في خلق السماوات والأرض ، وهذه من عجائب هذه السورة .
فقال تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 9 ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . . ( 10 ) } [ فصلت ] هذه ستة أيام .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( 11 ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ . . 12 ) } [ فصلت ] وهكذا يصبح المجموع ثمانية أيام .
إذن : كيف نوفق بين ستة أيام في الإجمال ، وثمانية أيام في التفصيل ؟ قالوا : الأعداد يحمل مجملها على مفصلها ، لأن المفصّل تستطيع أن تضم بعضه إلى بعض ، أما المجمل فهو النهاية .
وأعد معي قراءة الآيات :
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 9 ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا . . ( 10 ) } [ فصلت ] وهذا كله من لوازم الأرض { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . . ( 10 ) } [ فصلت ] أي : أن هذه اللوازم تابعة لما قبلها .
فالمعنى : في تتمة أربعة أيام ، فاليومان الأولان داخلان في الأربعة ، كما لو قلت : سرت من القاهرة إلى طنطا في ساعة ، وإلى الأسكندرية في ساعتين ، فالساعة الأولى محسوبة من هاتين الساعتين .
فالحق سبحانه خلق الأرض في يومين ، وخلق ما يلزمها في تتمة الأربعة الأيام ، فالزمن تتمة للزمن ، لأن الحدث يتمم الحدث ، إذن : المحصلة النهائية ستة أيام ، وليس هناك خلاف بين الآيات { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ( 82 ) } [ النساء ] ومن العجيب أن يأتي هذا التفصيل في ( فصلت ) .
وقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . . ( 4 ) } [ السجدة ] الحق تبارك وتعالى يخاطب الخلق بما يقرب الأشياء إلى أذهانهم ، لأن الملوك أو أصحاب الولاية في الأرض لا يستقرون على كراسيهم إلا بعد أن يستتبّ لهم الأمر .
فمعنى { اسْتَوَى . . ( 4 ) } [ السجدة ] صعد وجلس واستقر ، كل هذه المعاني تناسب الآية ، لكن في إطار قول الحق سبحانه وتعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . . ( 11 ) } [ الشورى ] .
فكما أن لله تعالى وجودا ليس كوجودك ، وسمعا ليس كسمعك ، وفعلا ليس كفعلك ، فكذلك له سبحانه استواء ، لكن ليس كاستوائك ، وإذا دخلت حجرة الجلوس مثلا عند شيخ البلد وعند العمدة والمحافظ ورئيس الجمهورية ستجد مستويات متباينة ، كلّ على حسب ما يناسبه ، فإذا كان البشر يتفاوتون في الشيء الواحد ، فهل نسوّي بيننا وبين الخالق عز جل ؟
فالمعنى إذن { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . . ( 4 ) } [ السجدة ] استتب له أمر الخلق ، { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] الولي : من يليك ، ويكون قريبا منك ، وإليه تفزع في الأحداث ، فهو ملجؤك الأول . والشفيع : الذي يشفع لك عند من يملك أمرك ، فالولي هو الذي ينصرك بنفسه ، أمّا الشفيع فهو يتوسط لك عند من ينصرك ، فليس لك وليّ ولا شفيع من دون الله عز وجل .
لذلك يقول سبحانه : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . . 67 ) } [ الإسراء ] فلا أحد ينجيكم ، ولا أحد يسعفكم إلا الله { أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ( 4 ) } [ السجدة ] .
كأن هذه المسألة يجب أن تكون على بالك دائما ، فلا تغفل عن الله ، لأنك ابن أغيار ، والأحداث تتناوبك ، فلا يستقر بك حال ، فأنت بين الغنى والفقر ، والصحة والمرض ، والقوة والضعف .
لذلك تذكّر دائما أنه لا وليّ ولا نصير لك إلا الله ، وإذا استحضرت ذلك دائما اطمأن قلبك ، ولم لا وأنت تستند إلى وليّ وإلى نصير لا يخذلك أبدا ، ولا يتخلى عنك لحظة ، فإذا خالط هذا الشعور قلبك أقبلت على الأحداث بجسارة ، وإذا أقبلت على الحدث بجسارة لم يأخذ الحدث من قوتك شيئا ، لأن الذي يخاف الأحداث يضعف قوته الفاعلة .
فمثلا صاحب العيال الذي يخاف الموت فيتركهم صغارا لا عائل لهم لو راجع نفسه لقال لها : ولم الخوف على العيال من بعدي ، فهل أنا خلقتهم ، أم لهم خالق يرعاهم ويجعل لهم من المجتمع الإيماني آباء متعددين ؟ لو قال لنفسه ذلك ما اهتم لأمرهم ، وصدق الذي قال مادحا : أنت طرت باليتم إلى حدّ الكمال .
وقال آخر :
* قال ذو الآباء ليتى لا أبا لي *
ولم لا ؟ وقد كفل الإسلام للأيتام أن يعيشوا في ظل المجتمع المسلم أفضل مما يعيش من له أب وأم .
إذن : فالإنسان حينما يعلم أن له سندا من ألوهية قادرة وربوبية لا تسلمه يستقبل الحوادث بقوة ، ويقين ، ورضا ، وإيمان بأنه لن يسلم أبدا ما دام له إيمان برب ، وكلمة رب هذه ستأتي على باله قسرا في وقت الشدة ، حين يخذله الناس وتعييه الأسباب ، فلا يجد إلا الله حتى لو كان كافرا لقال في الشدة : يا رب .
وقوله تعالى { مِّن دُونِهِ . . ( 4 ) } [ السجدة ] يعني : لا يوجد غيره ، وإن وجد غير فبتحنين الله للغير عليك ، فالخير أيّا كان فمردّه إلى الله .