بسم الله الرحمان الرحيم . وبه نستعين .
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهذيه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
وبعد ، فهذا كتاب جمعته من أقوال العلماء في علوم القرآن وسميته : " اللباب في علوم الكتاب " ، ومن الله أسأل العون ، وبلوغ الأمل ، والعصمة من الخطأ والزلل .
الاستعاذة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
هذا ليس من القرآن إجماعا ، وإنما تعرضت له ؛ لأنه واجب في أول القراءة ، أو مندوب ، وقيل : واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم وحده .
وأصح كيفيات اللفظ هذا اللفظ المشهور ؛ لموافقته قوله تعالى : { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] ورووا فيه حديثين :
قال الشافعي[1]-رضي الله عنه- : واجب أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهو قول أبي حنيفة[2]-رضي الله عنه- قالوا : لأن هذا النظم موافق للآية المتقدمة وموافق لظاهر الخبر .
وقال أحمد[3]-رضي الله تعالى عنه- : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إنه هو السميع العليم ؛ جمعا بين الآيتين .
وقال بعض الشافعية : الأولى أن يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ؛ لأن هذا –أيضا- جمع بين الآيتين .
وروى البيهقي[4] : في كتاب " السنن " بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم كبّر ثلاثا ، وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم[5] .
وقال الثوري[6] ، والأوزاعي[7] : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم .
وروى الضحاك[8] عن ابن عباس ، أن أول ما نزل جبريل-عليه السلام- على محمد- عليه الصلاة والسلام- قال : قل يا محمد : استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل : { بسم الله الرحمان الرحيم } { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق :1 ] .
ونقل عن بعضهم ، أنه كان يقول : أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد .
فصل
اتفق الأكثرون على أن وقت الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة .
وعن النخعي[9] : أنه بعدها ، وهو قول داود الأصفهاني[10] ، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين[11] .
وقالوا : إذا [ قرأ ][12] الفاتحة وأمّن ، يستعيذ بالله .
دليل الجمهور : ما روى جبير بن مطعم[13]-رضي الله عنه- : أن النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم-حين افتتح الصلاة قال : " الله أكبر كبيرا ، ثلاث مرات ، والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، ثلاث مرات ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " [14] .
واحتج المخالف بقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط ، وذكر الاستعاذة جزاء ، والجزاء متأخر عن الشرط ؛ فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن القراءة .
ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل ؛ لأن من قرأ القرآن ، فقد استوجب الثواب العظيم ، فربما يداخله العجب ؛ فيسقط ذلك الثواب ، لقوله –عليه الصلاة والسلام- : ( ثلاث مهلكات ) وذكر منها إعجاب المرء بنفسه[15] ، فلهذا السبب أمره الله- تعالى- [ بأن يستعيذ من الشيطان ؛ لئلا يحمله الشيطان بعد القراءة ][16] على عمل محبط ثواب تلك الطاعة .
قالوا : ولا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } أي : إذا أردت قراءة القرآن ؛ كما في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة :6 ] .
والمعنى : إذا أردتم القيام فتوضئوا ؛ لأنه لم يقل : فإذا صليتم فاغسلوا ؛ فيكون نظير قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } وإن سلمنا كون هذه الآية نظير تلك ، فنقول : نعم ، إذا قام يغسل عقيب قيامه إلى الصلاة ؛ لأن الأمر إنما ورد بالغسل عقيب قيامه ، وأيضا : فالإجماع[17] دل على ترك هذا الظاهر ، وإذا ترك الظاهر في موضع لدليل ، لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل .
أما جمهور الفقهاء –رحمهم الله تعالى- فقالوا : إن قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } يحتمل أن يكون المراد منه : إذا أردت ، وإذا ثبت الاحتمال ، وجب حمل اللفظ عليه توفيقا بين الآية وبين الخبر الذي رويناه ، ومما يقوّي ذلك من المناسبات العقلية ، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة ؛ قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسولا ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } [ الحج : 52 ] فأمره الله تعالى –بتقديم الاستعاذة قبل القراءة ؛ لهذا السبب .
قال ابن الخطيب[18] –رحمه الله تعالى- : " وأقول : هاهنا قول ثالث : وهو [ أن ][19] يقرأ الاستعاذة قبل القراءة ؛ بمقتضى الخبر ، وبعدها ؛ بمقتضى القرآن ؛ جمعا بين الدلائل بقدر الإمكان " .
قال عطاء[20]-رحمه الله تعالى- : الاستعاذة واجبة لكل قراءة ، سواء كانت في الصلاة أو غيرها .
وقال ابن سيرين –رحمه الله تعالى- : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره ، فقد كفى في إسقاط الوجوب ، وقال الباقون : إنها غير واجبة .
حجة الجمهور : أن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجّل وعظّم- لم يُعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة .
ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلم يلزم من عدم الاستعاذة فيه ، عدم وجوبها .
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه :
الأول : أنه –عليه الصلاة والسلام- واظب عليه ؛ فيكون واجبا- لقوله تعالى : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] .
الثاني : أن قوله تعالى : { فاستعذ } أمر ؛ وهو للوجوب ، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل [ قراءة ] ، لأنه تعالى قال : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل ، والحكم يتكرر بتكرر العلة .
الثالث : أنه -تعالى- أمر بالاستعاذة ؛ لدفع شر الشيطان ؛ وهو واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب[21] .
فصل في حكم التعوذ قبل القراءة
التعوذ في الصلاة مستحب[22] قبل القراءة عند الأكثرين .
وقال مالك[23]-رضي الله تعالى عنه- لا يتعوذ في المكتوبة ، ويتعوذ في قيام شهر رمضان للآية والخبر ، وكلاهما يفيد الوجوب ، فإن لم يثبت الوجوب ، فلا أقل من الندب .
فصل في الجهر والإسرار بالتعوذ
روي أن عبد الله بن عمر[24] –رضي الله تعالى عنهما- لما قرأ ، أسر بالتعويذ .
وعن أبي هريرة[25]-رضي الله تعالى عنه- : أنه جهر به ؛ ذكره الشافعي –رحمه الله تعالى- في " الأم " ، ثم قال : فإن جهر به جاز ، [ وإن أسرّ به جاز ][26] .
فصل في موضع الاستعاذة من الصلاة
قال ابن الخطيب[27] : " أقول : إن الاستعاذة إنما تقرأ بعد الاستفتاح ، وقبل الفاتحة ، فإن ألحقناها بما قبلها ، لزم الإسرار ، وإن ألحقناها بالفاتحة ، لزم الجهر ، إلا أن المشابهة بينها ، وبين الاستفتاح أتمّ ؛ لكون كل منهما نافلة " .
فصل في بيان هل التعوذ في كل ركعة ؟
قال بعض العلماء –رحمهم الله- : إنه يتعوذ في كل ركعة .
وقال بعضهم : لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى .
حجته : أن الأصل هو العدم ، وما لأجله أمرنا بالاستعاذة ؛ هو قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] وكلمة " إذا " لا تفيد العموم .
ولقائل أن يقول : إن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلة ؛ فيتكرر الحكم بتكرر العلة .
فصل في بيان سبب الاستعاذة
التعوذ في الصلاة ، لأجل القراءة ، أم لأجل الصلاة ؟
عند أبي حنيفة[28] ومحمد[29]-رضي الله تعالى عنهما- أنه للقراءة[30] [ وعند أبي يوسف[31] : أنه للصلاة ][32] ويتفرع على هذا الأصل فرعان :
الأول : أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام ؟
عندهما : لا يتعوذ ؛ لأنه لا يقرأ ، وعنده يتعوذ ؛ وجه قولهما قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } [ النحل : 98 ] علّق الاستعاذة على القراءة ، ولا قراءة على المقتدي .
وجه قول أبي يوسف-رحمه الله- أن التعوذ لو كان للقراءة ؛ لكان يتكرر بتكرر القراءة ، ولما لم يكن كذلك ، بل يتكرر بتكرر الصلاة ؛ دل على أنها للصلاة .
الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللهم ، هل يقول : أعوذ بالله ، ثم يكبر ، أم لا ؟
عندهما أنه يكبر التكبيرات ، ثم يتعوذ عند القراءة .
وعند أبي يوسف-رحمه الله- يقدم التعوذ على التكبيرات .
فصل
السنة أن يقرأ القرآن مرتلا ؛ لقوله تبارك وتعالى : { ورتل القرآن ترتيلا } [ المزمل :4 ]
والترتيل : هو أن يذكر الحروف مبنية ظاهرة ، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه ؛ فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ ، وأفهم غيره تلك المعاني ، وإذا قرأها سردا ، لم يفهم ولم يفهم ، فكان الترتيل أولى .
روى أبو داود[33] -رحمه الله تعالى- بإسناده عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقال للقارئ : اقرأ وارق ، ورتل ، كما كنت ترتل في الدنيا ؛ [ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها )[34] ][35] .
قال أبو سليمان الخطابي[36]-رحمه الله- : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة ؛ يقال للقارئ : اقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن ، فمن استوفى ، فقرأ جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة .
فصل في استحباب تحسين القراءة جهرا
إذا قرأ القرآن جهرا ، فالسنة أن يحسن في القراءة ؛ روى أبو داود ، عن البراء بن عازب[37]-رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم )[38] .
فصل في صحة الصلاة مع النطق بالضاد والظاء .
قال ابن الخطيب-رحمه الله تعالى- : " المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء عندنا لا يبطل الصلاة ؛ ويدل عليه أن المشابهة حاصلة بينهما جدا ، والتمييز عسر ، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق .
بيان المشابهة أنهما من الحروف المجهورة ، وأيضا من الحروف الرّخوة ، وأيضا من الحروف المطبقة ، وأيضا : أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب ؛ قال-عليه الصلاة والسلام- : " أنا أفصح من نطق بالضاد " [39] فثبت بما ذكر أن المشابهة بينهما شديدة ، والتمييز عسير .
وأيضا : لم يقع السؤال عنه في زمن النبي –عليه الصلاة والسلام- وأزمنة الصحابة ، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام ، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذا البتة ، علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ، ليس في محل التكليف .
فصل في عدم جواز الصلاة بالوجوه الشاذة
اتفق على أنه لا تجوز القراءة [ في الصلاة ][40] بالوجوه الشاذة : لأن الدليل ينفي جواز القراءة مطلقا ، لأنها لو كانت من القرآن ، لوجب بلوغها إلى حد التواتر ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنها ليست من القرآن ، عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة بها خارج الصلاة ، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع .
فصل في قولهم : " القراءات المشهورة منقولة بالتواتر "
اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالتواتر[41] ، وفيه إشكال ؛ وذلك لأنا نقول : هذه القراءة إما أن تكون منقولة بالتواتر ، أو لا .
فإن كان الأول ، فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله-تعالى- قد خير المكلفين بين هذه القراءة ، وسوى بينهما في الجواز .
وإذا كان كذلك ، كان ترجيح بعضها على البعض واقعا على خلاف الحكم المتواتر ؛ فواجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض ، مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير ، لكنا نرى أن كل واحد يختص بنوع معين من القراءة ، ويحمل الناس عليها ، ويمنعهم من غيرها ، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه .
وإن قلنا : هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر ؛ بل بطريق الآحاد ، فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم ، والقطع اليقين ؛ وذلك باطل بالإجماع ؛ ولقائل أن يجيب عنه ؛ فيقول : بعضها متواتر ، ولا خلاف بين الأمة فيه ، وتجويز القراءة بكل واحد منها ؛ وبعضها من باب الآحاد ، لا يقتضي كون القراءة بكليته خارجا عن كونه قطعيا ، والله أعلم ؛ ذكره ابن الخطيب .
فصل في اشتقاق الاستعاذة وإعرابها
العوذ له معنيان : أحدهما : الالتجاء والاستجارة .
والثاني : الالتصاق ؛ ويقال : " أطيب [ اللحم ][42] عوّذه " هو : ما التصق بالعظم .
فعلى الأول : أعوذ بالله ، أي : ألتجئ إلى رحمة الله ، ومنه العوذة : وهي ما يعاذ به من الشر .
وقيل للرقية ، والتميمة-وهي ما يعلق على الصبي : عوذة ، وعوذة [ بفتح العين وضمها ][43] ، وكل أنثى وضعت فهي عائذ إلى سبعة أيام .
ويُقال : عاذ يعوذُ عَوذاً ، وعياذا ، ومَعَاذا ، فهو عائذ ومعوذ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] .
1-ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني[44]
قيل : عائذ -هنا- أصله اسم فاعل ؛ ولكنه وقع موقع المصدر ؛ كأنه قال : " وعياذا بك " وسيأتي تحقيق هذا القول إن شاء الله تعالى .
و " أعوذُ " فعل مضارع ، وأصله : " أعوذُ " بضم الواو ؛ مثل " أقتلُ ، وأخرجُ أنا " وإنما نقلوا حركة الواو إلى السّاكن قبلها ؛ لأن الضمة ثقيلة ، وهكذا كل مضارع من " فَعَلَ " عينه واو ؛ نحو : " أقوم ، ويقومُ ، وأجولُ ، ويجولُ " وفاعله ضمير المتكلم .
وهذا الفاعل لا يجوز بروزه ؛ بل هو من المواضع السبعة التي يجب فيها استتار الضمير على خلاف في السابع ولا بد من ذكرها ؛ لعموم فائدتها ، وكثرة دورها :
الأول : المضارع المسند للمتكلم وحده ؛ نحو : " أَفْعَلُ " .
الثاني : المضارع المسند للمتكلم مع غيره ، أو المعظم نفسه ؛ نحو : " نَفْعَلُ نحنُ " .
الثالث : المضارع المسند للمخاطب ؛ نحو " تَفْعَلُ أنْتَ " ، ويوحّد المخاطب بقيد الإفراد ، والتذكير ؛ لأنه متى كان مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا –وجب بروزه ؛ نحو : " تقومان-يقومون-تقومين " .
الرابع : فعل الأمر المسند للمخاطب ؛ نحو " أفعل أنت " ويوحد المخاطب أيضا- بقيد الإفراد ، والتذكير ؛ لأنه متى كان مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا-وجب بروزه ؛ نحو : " افعلا-افعلوا-افعلي " .
الخامس : اسم فعل الأمر مطلقا ، سواء كان المأمور مفردا ، أو مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا ؛ نحو : " صه يا زيد- يا زيدان- يا زيدون- يا هند- يا هندان- يا هندات " .
بخلاف فعل الأمر ؛ فإنه يبرز فيه ضمير غير المفرد المذكر ، كما تقدم .
السادس : اسم الفعل المضارع ؛ نحو : " أوَّهْ " أي : أتوجَّعُ ، و " أفٍّ " أي : أتضجّر ، و " وَيْ " أي : أعجب .
وهذه الستة لا يبرز فيها الضمير ؛ بلا خلاف .
وتحرزت بقولي : اسم فعل الأمر ، واسم الفعل المضارع " عن اسم الفعل الماضي ؛ فإنه لا يجب فيه الاستتار كما سيأتي .
السابع : المصدر الواقع موقع الفعل بدلا من لفظه ؛ نحو : " ضربا زيدا " ؛ وقول الشاعر : [ الطويل ] .
2- يمرّون بالدّهْنَا خِفافا عيابهم ويرجعن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناسَ جلُّ أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب[45]
وقوله تعالى : { فضرب الرقاب } [ محمد :4 ] .
هذا إذا جعلنا في " ضربا " ضميرا مستترا ؛ وأما من يقول من النحويين : إنه لا يتحمل ضميرا ألبتة ؛ فلا يكون من المسألة في شيء .
والضابط فيما يجب استتاره ، وإن عرف من تعداد الصور المتقدمة- " أن كل ضمير لا يحل محله ظاهر ، ولا ضمير متصل ، فهو واجب الاستتار كالمواضع المتقدمة ، وما جاز أن يحل محله أحدهما ، فهو جائز الاستتار ؛ نحو : " زيد قام " في " قام " ضمير جائز الاستتار ، ويحل محله الظاهر ؛ نحو : " زيد قام أبوه " أو الضمير المنفصل ، نحو : " زيد ما قام إلا هو " فإن وجد من لسانهم في أحد المواضع المتقدمة ، الواجب فيها الاستتار ضمير منفصل ، فليعتقد كونه توكيدا للضمير المستتر ؛ كقوله تعالى : { اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] ف " أنتَ " مؤكد لفاعل " اسكن " .
و " بالله " جار ومجرور ، وكذلك : " من الشيطان " وهما متعلقان ب " أعوذ " .
ومعنى الباء : الاستعانة ، و " مِنْ " للتعليل ، أي : أعوذ مستعينا بالله من أجل الشيطان ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لابتداء الغاية ، ولها معان أخر ستأتي إن شاء الله تعالى .
وأما الكلام على الجلالة ، فيأتي في البسملة إن شاء الله تعالى .
والشيطان : المتمرد من الجن ، وقيل : الشياطين أقوى من الجن ، والمردة أقوى من الشياطين ، والعفريت أقوى من المردة ، والعفاريت أقواها .
وقال أبو عبيدة[46] –رحمه الله- : الشيطان : اسم لكل عارم من الجن ، والإنس ، والحيوانات ؛ [ لبعده ][47] من الرشاد قال تبارك وتعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، فجعل من الإنس شياطين .
وركب عمر[48] –رضي الله تعالى عنه- بَرْذَوْناً ، فطفق يتبختر ، فجعل يضربه ، فلا يزداد إلا تبخترا ؛ فنزل عنه ، وقال : " ما حملتموني إلا على شيطان " [49] .
وقد يطلق على كل قوة ذميمة في الإنسان ؛ قال-عليه الصلاة والسلام- : " الحسد شيطان ، والغضب شيطان " [50] ؛ وذلك لأنهما ينشآن عنه .
واختلف أهل اللغة في اشتقاقه :
فقال جمهورهم : هو مشتق من : " شطَنَ-يَشْطُنُ " أي : بَعُدَ ؛ لأنه بعيد من رحمة الله تعالى ؛ وأنشد : [ الوافر ] .
3-نأتي بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين[51]
وقال آخر : [ الخفيف ] .
4-أيما شاطن عصاه عكاه *** ثم يلقى في السجن والأكبال[52]
وحكى سيبويه[53] –رحمه الله- : " تَشَيْطَنَ " أي :فَعَل فِعْلَ الشياطين ؛ فهذا كله يدل على أنه من " شَطَنَ " لثبوت النون ، وسقوط الألف في تصاريف الكلمة ، ووزنه على هذا : " فَيْعَالَ " .
وقيل : هو مشتق من " شَاطَ – يَشِيطُ " أي : هَاجَ ، واحترقَ ، ولا شك أن هذا المعنى موجود فيه ، فأخذوا بذلك أنه مشتق من هذه المادة ؛ لكن لم يسمع في تصاريفه إلا ثابت النون ، محذوف الألف ؛ كما تقدم ، ووزنه على هذا " فعلان " ، ويترتب على القولين : صرفه وعدم صرفه ، إذا سمي به ، وأما إذا لم يسم به ، فإنه متصرف ألبتة ؛ لأن من شرط امتناع " فعلان " الصفة ألا يؤنث بالتاء ، وهذا يؤنث بها ؛ قالوا : " شيطانة " .
قال ابن الخطيب : و " الشيطان " مبالغة في الشّيطَنة ؛ كما أن " الرحمن " مبالغة في الرحمة . و " الرجيم " في حق الشيطان " فَعِيلٌ " بمعنى " فاعل " .
إذا عرفت هذا ، فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم .
قوله : " الرجيم " نعت له على الذم ، وفائدة النعت : إما إزالة اشتراك عارض في معرفة ؛ نحو : " رأيت زيدا العاقل " .
وإما تخصيص نكرة ؛ نحو : " رأيت رجلا تاجرا " وإما لمجرد مدح ، أو ذم ، أو ترحم ؛ نحو : " مررت بزيد المسكين " وقد يأتي لمجرد التوكيد ؛ نحو قوله : { نفخة واحدة } [ الحاقة : 13 ] ولا بد من ذكر قاعدة في النعت ، تعم فائدتها :
اعلم أن النعت إن كان مشتقا بقياس ، وكان معناه لمتبوعه ، لزم أن يوافقه في أربعة من عشرة ؛ أعني في واحد من ألقاب الإعراب : الرفع ، والنصب ، والجر ، وفي واحد من الإفراد ، والتثنية ، والجمع ، وفي واحد من : التذكير ، والتأنيث ، وفي واحد من : التعريف ، والتنكير .
وإن كان معناه لغير متبوعه ، وافقه في اثنين من خمسة : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير[54] ، نحو : " مررت برجلين عاقلة أمهما " ، فلم يتبعه في تثنية ولا تذكير .
وإذا اختصرت ذلك كله ، فقل : النعت يلزم أن يتبع منعوته في اثنين من خمسة مطلقا : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير ، وفي الباقي كالفعل ؛ يعني : أنك تضع موضع النعت فعلا ، فمهما ظهر في الفعل ، ظهر في النعت ؛ مثاله ما تقدم في : " مررت برجلين [ عاقلة أمهما " ][55] ؛ لأنك تقول : " مررت برجلين عقلت أمهما " .
" والرجيم " قد تبع موصوفه في أربعة من عشرة ؛ لما عرفت ، وهو مشتق من " الرجم " والرجم أصله : الرمي بالرجام ، وهي الحجارة ، ويستعار الرجم للرمي بالظن والتوهم . قال زهير[56] : [ الطويل ]
5-وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم[57]
ويعبر به -أيضا- عن الشتم ؛ قال تعالى : { لئن لم تنته لأرجمنك } [ مريم : 46 ] قيل : أقول فيك قولا سيئا .
والمراجمة : المسابة الشديدة استعارة كالمقاذفة ، فالرجيم معناه : المرجوم ، فهو " فعيلٌ " بمعنى " مفعول " ؛ كقولهم : كف خضيب أي : مخضوب ؛ ورجل لعين أي : ملعون قال الراغب[58] : والترجمان تفعلان من ذلك كأنه يعني أنه يرمي بكلام[59] من يترجم عنه إلى غيره ؛ والرجمة : أحجار القبر ، ثم عبر بها عنه ؛ وفي الحديث : ( لا ترجموا قبري ) ، أي : لا تضعوا عليه الرجمة .
ويجوز أن يكون بمعنى " فاعل " ؛ لأنه يرجم غيره بالشر ، ولكنه بمعنى " مفعول " أكثر ، وإن كان غير مقيس .
ثم في كونه مرجوما وجهان :
الأول : أن معنى كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى ؛ قال الله تعالى : { فاخرج منها فإنك رجيم } [ الحجر :34 ] واللعن يسمى رجما .
وحكى الله تعالى –عن والد إبراهيم-عليه الصلاة والسلام- أنه قال : { لئن لم تنته لأرجمنك } قيل : عنى بقوله الرجم بالقول .
وحكى الله -تعالى- عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا : { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } [ الشعراء : 116 ] وفي سورة يس : { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } [ يس :18 ] .
والوجه : أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما ؛ لأنه -تعالى- أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب ؛ طردا لهم من السماوات ، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد وأما قوله في بعض وجوه الاستعاذة : إن الله هو السميع العليم ، ففيه وجهان :
الأول : أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ، ومعلوم أن الوسوسة كأنها كلام خفي في قلب الإنسان ، ولا يطلع عليها أحد ، فكأن العبد يقول : يا من هو يسمع كل مسموع ، ويعلم كل سر خفي أنت تعلم وسوسة الشيطان ، وتعلم غرضه منها ، وأنت القادر على دفعها عني ، فادفعها عني بفضلك ؛ فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار .
الثاني : أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع ؛ اقتداء بلفظ القرآن ؛ وهو قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } [ الأعراف :200 ] .
وقال في حم السجدة : { إنه هو السميع العليم } [ فصلت : 36 ] .
فصل في احتجاج المعتزلة لإبطال الجبر
قال ابن الخطيب –رحمه الله تعالى- : قالت المعتزلة[60] قوله : " أعوذ بالله " يبطل القول بالجبر من وجوه :
الأول : أن قوله : " أعوذ بالله " اعتراف بكون العبد فاعلا ، لتلك الاستعاذة ، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى ، لامتنع كون العبد فاعلا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، وأيضا فإذا خلقه الله في العبد ، امتنع دفعه ، وإذا لم يخلقه الله فيه ، امتنع تحصيله ، فثبت أن قوله : " أعوذ بالله " اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال[61] نفسه .
والثاني : أن الاستعاذة من الشيطان إنما تحسن إذا لم يكن الله تعالى ، خالقا للأمور التي منها يستعاذ .
أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى ، امتنع أن يستعاذ بالله منها ؛ لأن بهذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله في غير ما يفعله الله تعالى .
والثالث : أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدل على أن العبد غير راض بها ، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى ، وقضائه ، وحكمه ، وجب أن العبد يكون راضيا بها ؛ لما ثبت بالإجماع أن الرضا بقضاء الله تعالى واجب .
والرابع : أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان ، أما إذا كانت فعلا لله ، ولم يكن للشيطان في وجودها أثر ألبتة ، فكيف يستعاذ من شر الشيطان ؟ بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله ؛ لأنه لا شر إلا من قبله .
والخامس : أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا ، وأنت يا إله الخلق علمت[62] صدور الوسوسة عني ، ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك ، وحكمت بها علي ، ولا قدرة لي على مخالفة حكمك ، ثم قلت : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ، وقلت : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقلت : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] فمع هذه الأعذار الظاهرة ، والأسباب القوية فكيف يجوز في حكمتك ، ورحمتك أن تذمني ، وتلعنني على شيء خلقته في ؟
والسادس : جعلتني مرجوما ملعونا إما أن يكون بسبب جرم صدر مني ، أو لا [ يكون ][63] بسبب جرم صدر مني .
فإن كان الأول ؛ فقد بطل الجبر ، وإن كان الثاني ، فهذا محض الظلم ، وأنت قلت : { وما الله يريد ظلما للعباد } [ غافر : 31 ] فكيف يليق هذا بك ؟
فإن قال قائل : هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر ، وأنا لا [ أقول ][64] بالجبر ، ولا بالقدر ، بل أقول : الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر ؛ وهو الكسب .
فنقول : هذا ضعيف ؛ لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال ، أو لا يكون . فإن كان الأول ، فهو تمام القول بالاعتزال ، وإن كان الثاني ، فهو الجبر المحض ، و[ الأسئلة ][65] المذكورة واردة على هذا القول ، فكيف يعقل حصول الواسطة ؟
قال أهل السنة والجماعة-رحمهم الله- أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا ، فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين :
الأول : أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين ، أو كانت صالحة للطرفين معا ، فإن كان الأول ، فالجبر لازم ، وإن كان الثاني ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر ، إما أن يتوقف على المرجح ، أو لا يتوقف .
فإن كان الأول ، ففاعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع ، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع . وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه .
وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح ؛ فهذا باطل لوجهين :
الأول : أنه لو جاز لك ، لبطل الاستدلال [ بترجح ][66] أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح .
والثاني : أن بهذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ، ولا يكون صادرا عن العبد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد عاد الجبر المحض ، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا ، فهو وارد عليكم .
الوجه الثاني في السؤال : أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا ؛ وذلك محال ؛ والمفضي إلى المحال محال ، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم لزوما لا جواب عنه .
ثم قال أهل السنة : قوله : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " - يبطل القول بالاعتزال من وجوه :
الأول : أن المطلوب من قولك : " أعوذ بالله " إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير ؛ أو على سبيل القهر والجبر .
أما الأول فقد فعله ، ولما فعله كان طلبه من الله تعالى محالا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال .
وأما الثاني فهو غير جائز ؛ لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين ، وقد ثبت كونهم مكلفين .
أجاب عنه المعتزلة فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن ، وترك القبيح .
لا يقال : فتلك الألطاف قد فعلها الله تعالى بأسرها في الفائدة في الطلب ؛ لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند الدعاء ، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله .
أجاب أهل السنة عن هذا السؤال بوجوه :
أحدها : أن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا أثر فيه ، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع : والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم ، فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم ، وهو جمع بين النقيضين ؛ وهو محال .
فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب ، وذلك يبطل القول بالاعتزال وإن لم يحصل بسبب تلك الألطاف رجحان [ طرف ][67] الوجود ، لم يكن لفعلها ألبتة أثر ؛ فيكون فعلها عبثا محضا ؛ وذلك في حق الله تعالى محال .
الوجه الثاني : أن يقال : إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح العبد ، أو لا يكون فإن كان الحق هو الأول ، فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع .
فإن توقع منه إفساد العبد ، مع أن الله تعالى يريد إصلاح العبد ، فلم خلقه ، ولم سلطه على العبد ؟ وإن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد ، فأي حاجة [ للعبد ][68] إلى الاستعاذة منه ؟ .
وأما إذا قيل : إن الله قد لا يريد ما هو صلاح حال العبد ، فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان ؟
الوجه الثالث : أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر ، أو يكون قادرا على فعل الخير والشر ، وعلى فعل أحدهما .
فإن كان الأول ، فقد أجبره الله على الشر ؛ وذلك يقدح في قولهم : إنه -تعالى- لا يريد إلا الصلاح والخير ، وإن كان الثاني ، وهو أنه قادر على فعل الشر والخير ؛ فها هنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى ، وإذا كان ذلك ، فأي فائدة في الاستعاذة ؟
الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان ، فإن الشيطان كيف وقع في المعاصي ؟
فإن قلنا : إنه وقع فيها بسبب وسوسة شيطان آخر ، لزم التسلسل .
وإن قلنا : وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر ، فلم لا يجوز مثله في البشر ؟
وعلى هذا التقدير لا فائدة للاستعاذة من الشيطان ، وإن قلنا : إنه -تعالى- سلّطه الشيطان على البشر ، ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر ، فهذا أحيف على البشر ، وتخصيص له بمزيد التثقيل ، والإضرار ؛ وذلك ينافي كون الإله رحيما ناظرا لعباده .
الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الاستعاذة منه ، وإن كان واجب الوقوع ، كذلك .
اعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله : " أعوذ بالله " إلا أن ينكشف أن الكل من الله تعالى ، وبالله .
وحاصل الكلام ما قاله الرسول –عليه الصلاة والسلام- أعوذ برضاك من سخطك[69] . . . الحديث .
فصل في المستعاذ به
وهو على وجهين :
أحدهما : أن يقال : " أعوذ بالله " .
والثاني : أن يقال : " أعوذ بكلمات الله التامات " . فأما الاستعاذة بالله ، فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة " الله " وسيأتي ذلك في تفسير : " بسم الله " وأما الاستعاذة بكلمات الله ، فاعلم أن المراد ب " كلمات الله " هو قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] .
والمراد من قوله : " كن " نفاذ قدرته في الممكنات ، وسريان مشيئته في الكائنات ؛ بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع ، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله -تعالى- إلا لكونه موصوفا بتلك القدرة القاهرة ، والمشيئة النافذة .
قال ابن الخطيب[70] رحمه الله تعالى- فرق بين أن [ يقول ][71] : " أعوذ بالله " وبين أن يقول : " بالله أعوذ " ، فإن الأول لا يفيد الحصر ، والثاني يفيده ، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني ، مع أنا بينا أن الثاني أكمل ؟
وأيضا : جاء قوله : " الحمد لله " وجاء أيضا : قوله : " لله الحمد " وأما ها هنا ، فقد جاء قوله : " أعوذ بالله " ، وما جاء " بالله أعوذ " فما الفرق ؟
فصل في المستعيذ
اعلم أن قوله : " أعوذ بالله " أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك ، وهو[72] غير مختص بشخص معين ، فهو أمر على سبيل العموم ، لأنه –تعالى- حكى ذلك عن الأنبياء ، والأولياء ، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله تعالى ؛ كما حكي عن نوح –عليه الصلاة والسلام- أنه قال : { أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود :47 ] ؛ فأعطاه [ الله ][73] خلعتين : السلام والبركات ؛ { اهبط بسلام منا وبركات عليك } [ هود : 48 ] .
وقال يوسف –عليه الصلاة والسلام- : { معاذ الله إنه ربي } [ يوسف : 23 ] ، فأعطاه الله خلعتين صرف السوء عنه والفحشاء ، وقال أيضا : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } [ يوسف : 79 ] فأكرمه الله تعالى بخلعتين : رفع أبويه على العرش العرش وخروا له سجدا .
وحكي عن موسى –عليه الصلاة والسلام- قال : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] ؛ فأعطاه الله خلعتين : إزالة التهمة ، وإحياء القتيل .
وحكي عن موسى –عليه الصلاة والسلام- أيضا : { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } [ الدخان : 20 ] ، وفي آية أخرى : { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } [ غافر : 27 ] ؛ فأعطاه الله خلعتين : أفنى عدوه ، وأورثهم أرضهم وديارهم .
وحكي أن أم مريم قالت : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } [ آل عمران :36 ] ؛ فأعطاها الله -تعالى- خلعتين : { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا } [ آل عمران :37 ] .
ومريم –عليها السلام- لما رأت جبريل- عليه الصلاة والسلام- في صورة بشر يقصدها : { قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا } [ مريم : 18 ] ؛ فوجدت نعمتين : ولدا من غير أب ، [ وتبرئة ][74] الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء ؛ وهو قوله تعالى : { إني عبد الله } [ مريم :30 ] .
وأمر نبيه -محمدا- عليه الصلاة والسلام- بالاستعاذة مرة أخرى : فقال : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون } [ المؤمنون : 97 ، 98 ] .
وقال تعالى : { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق } [ الفلق : 1 و 2 ] ، وقال تعالى : { قل أعوذ برب الناس } [ الناس : 1 ] ، وقال تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } [ الأعراف : 200 ] ، فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام –كانوا أبدا في الاستعاذة بالله –عز وجل- من شر شياطين الجن والإنس .
وأما الأخبار ؛ فكثيرة :
عن معاذ بن جبل[75]-رضي الله عنه- قال : استب رجلان عند النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ، وفخّم- وأغرقا فيه ؛ فقال عليه الصلاة والسلام- : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذلك عنه ؛ هي قوله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " [76] .
وعن معقل بن يسار[77] -رضي الله تعالى عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ( من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم ) ، وفي رواية : ( من الشيطان الرجيم ) . وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي ، كان بتلك المنزلة[78] .
وعن ابن عباس[79] عن النبي –صلى الله عليه وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم وفخّم- أنه قال : " من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات ، وكّل الله تعالى به ملكا ؛ يذوذ عنه الشيطان " [80] .
وعن خولة بنت حكيم[81] –رضي الله تعالى عنها- عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق ؛ لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل )[82] .
وعن عمرو بن شعيب[83] عن أبيه ، عن جده –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا فرغ أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة : من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن شر همزات الشياطين ، وأن يحضرون ، فإنها لن تضره )[84] ؛ وكان عبد الله بن عمر-رضي الله تعالى عنهما- يعلمها من بلغ من عبيده ، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه .
وعن ابن عباس –رضي الله تعالى عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم- : كان يعوذ الحسن[85] والحسين[86]-عليهما السلام ويقول : :أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامّة[87] ؛ ويقول : " كان إبراهيم-عليه الصلاة والسلام- يعوذ بها إسماعيل ، وإسحاق-عليهما الصلاة والسلام " .
وكان –عليه السلام- يعظم أمر الاستعاذة ؛ حتى أنه لما تزوج امرأة ، ودخل بها ، وقالت : أعوذ بالله منك ؛ فقال –عليه الصلاة والسلام : ( عذت بمعاذ ، فالحقي بأهلك )[88] .
وروى الحسن –رضي الله عنه- قال : بينما رجل يضرب مملوكا له فجعل المملوك يقول : أعوذ بالله ، إذ جاء نبي الله –عليه الصلاة والسلام- فقال : أعوذ برسول الله ؛ فأمسك عنه فقال –عليه السلام- : ( عائذ الله أحق أن يمسك عنه ) قال : فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر ؛ لوجه الله -تعالى- ، فقال عليه السلام : ( أما والذي نفسي بيده ، لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار ) .
وعن سويد[89] ، سمعت أبا بكر الصديق[90]-رضي الله عنه- يقول على المنبر : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ؛ وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت " .
وكان عليه الصلاة والسلام[91] يقول : " اللهم ، أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك " [92] .
فصل
في المستعاذ منه ؛ وهو الشيطان .
اعلم أن الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرها ؛ كما قال تبارك وتعالى : كما يقول الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] .
فأما كيفية الوسوسة بناء على أن ما روي من الآثار ذكروا : أنه يغوص في باطن الإنسان ، ويضع رأسه على حبة قلبه ، ويلقى إليه الوسوسة ؛ واحتجوا بما روي أن النبي-صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم- قال : ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ؛ ألا فضيقوا مجاريه بالجوع )[93] وقال -عليه الصلاة والسلام- : ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات )[94] .
وقال الغزالي[95]-رحمه الله- في كتاب الإحياء : القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب ، ومثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب ، ومثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص ؛ فتتراءى فيها صورة بعد صورة ، ومثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة .
قال ابن الخطيب[96]-رحمه الله تعالى- لقائل أن يقول : لم لم يقل : أعوذ بالملائكة مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان ؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى ؟
وجوابه : كأنه تعالى يقول : عبدي إنه يراك ، وأنت لا تراه ؛ لقوله تعالى : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } [ الأعراف : 27 ] ؛ فإنه يفيد كيده فيكم ؛ لأنه يراكم ، وأنتم لا ترونه ؛ فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه ؛ وهو الله تعالى فقيل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .
فصل في وجود الجن
اختلف الناس في وجود الجن والشياطين ، [ فمن الناس من أنكر الجن والشياطين ][97] . وعلم أنه لا بد أولا من البحث عن ماهية الجن والشياطين ؛ فنقول : أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة ، تجيء وتذهب ؛ مثل الناس والبهائم ؛ بل القول المحصل فيه قولان :
الأول : أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، ولها عقول وأفهام ، وقدرة على أعمال صعبة شاقة .
والقول الثاني : أن كثيرا من الناس أثبتوا أنها موجودات[98] غير متحيزة ، ولا حالة في المتحيز ، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية .
ثم إن هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام [ بالكلية ][99] ؛ وهم الملائكة المقربون –عليهم السلام- كما قال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } [ الأنبياء : 19 ] .
ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام ، وأشرفها حملة العرش ؛ كما قال تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] .
والمرتبة الثالثة : ملائكة الكرسي .
والمرتبة الرابعة : ملائكة السماوات طبقة بطبقة .
والمرتبة الخامسة : ملائكة كرة الأثير .
والمرتبة السادسة : ملائكة الهواء الذي هو في طبع النسيم .
والمرتبة السابعة : ملائكة كرة الزمهرير .
والمرتبة الثامنة : مرتبة الأرواح[100] المتعلقة بالبحار .
والمرتبة التاسعة : مرتبة الأرواح المعلقة بالجبال .
والمرتبة العاشرة : مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا العالم .
واعلم أنه على كلا القولين ؛ فهذه الأرواح قد تكون مشرقة الهيئة ، خيرية سعيدة ؛ وهي المسماة بالصالحين من الجن ، وقد تكون كدرة سفلية شريرة شقية ، وهي المسماة بالشياطين .
واعلم[101] أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين :
أما القرآن فآيات : منها قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق } [ الأحقاف : 29و 30 ] ، وهذا نص على وجودهم ، وعلى أنهم سمعوا القرآن ، وعلى أنهم أنذروا قومهم .
وقوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) [ البقرة : 102 ] .
وقوله : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات } [ سبأ :13 ] .
وقوله : { والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد } [ ص : 37 و38 ] .
وقوله : { ولسليمان الريح } إلى قوله : { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه }
[ سبأ : 12 ] .
وقوله : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنقذوا } [ الرحمان : 33 ] .
وقوله تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد } [ الصافات : 6 و 7 ] وأما الأخبار فكثيرة منها :
ما روى مالك في " الموطأ " ، عن صيفي بن أفلح[102] ، عن أبي السائب[103] مولى هشام ابن زهرة ، أنه دخل على أبي سعيد الخدري[104] ، قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، قال : فسمعت تحريكا تحت سريره في بيته ، فإذا حية ، ففرت فهممت أن أقتلها ، فأشار أبو سعيد : أن اجلس ، فلما انصرف من صلاته ، أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ قلت نعم ، قال : إنه كان فيه فتى قريب عهد بعرس ، وساق الحديث إلى أن قال : فرأى امرأته واقفة بين الناس . فهيأ الرمح ؛ ليطعنها ؛ بسبب الغيرة ، فقالت امرأته : ادخل بيتك لترى ، فدخل [ بيته ][105] فإذا هو بحية على فراشه ، فركز فيها الرمح ، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا : الفتى أم الحية ؛ فسألنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال : ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فمن بدا لكم منه فاذنوه ثلاثة أيام ، فإن عاد فاقتلوه فإنه شيطان )[106] .
وروى في " الموطأ " ، عن يحيى بن سعيد[107] ، قال : لنا أسري برسول الله –صلى الله عليه وسلم- رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار ، كلما التفت رآه ، فقال جبريل –عليه الصلاة والسلام- ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته ، قل : ( أعوذ بوجه الله الكريم ، وبكلماته التامات اللاتي ذرأ في الأرض لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما نزل إلى الأرض ، وشر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن )[108] .
وروى مالك -أيضا- في " الموطأ " أن كعب الأحبار[109] كان يقول : أعوذ بوجه لله العظيم ، الذي ليس شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها ، وما لم أعلم ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ . [110]
وروى مالك أيضا في الموطأ ، أن خالد بن الوليد[111] قال : يا رسول الله ، إني [ أروَّع ] في منامي ، فقال : قل : ( أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون )[112] .
وخبر خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن ، وقراءته عليهم ، ودعوته إلى الإسلام .
وروى القاضي أبو بكر في " الهداية " أن عيسى عليه الصلاة والسلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم ، فأراه ذلك ، فإذا رأسه مثل رأس الحية ، واضع رأسه ][113] على قلبه ، فإذا ذكر الله تعالى ، [ خنس ][114] ؛ وإذا لم يذكره ، وضع رأسه على حبة قلبه .
وقال –عليه الصلاة والسلام- ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ) .
وقال : ( وما منكم من أحد إلا وله شيطان ) قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا ، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم )[115] والأحاديث كثيرة .
فصل في قدرة الجن على النفوذ خلال البشر
المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر ، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك .
أما حجة المثبتين فوجوه :
الأول : أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ، ولا جسماني ، فحينئذ يكون معنى كونه قادرا على النفوذ في باطنه ؛ أنه يقدر على التصرف في باطنه ، وذلك غير مستبعد .
وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه ، كان نفاذه في باطن بني آدم-أيضا- غير ممتنع قياسا على النفس وغيره .
الثاني : قوله تعالى : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] .
الثالث : قوله –عليه الصلاة والسلام- : ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ) .
وأما المنكرون ، فاحتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبليس : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } [ إبراهيم : 22 ] صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان ، إلا من الوجه الواحد ، وهو : إلقاء الوسوسة ، والدعوة إلى الباطل .
وأيضا : فلا شك أن الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- والعلماء المحققين- يدعون الناس إلى لعن الشياطين ، والبراءة منهم ، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم ، أعظم أنواع العداوة ، فلو كانوا قادرين على النفوذ في البواطن ، وعلى إيصال البلاء ، والشر إليهم ، وجب أن يكون
تضرر{[0116 الأنبياء ، والعلماء ، منهم أشد من تضرر كل واحد ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنه باطل .
فصل في تنزه الملائكة عن شهوتي البطن والفرج
اتفقوا على أن الملائكة –عليهم السلام- لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ؛ { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ]
وأما الجن والشياطين ، فإنهم يأكلون ويشربون ؛ قال –عليه الصلاة والسلام- في الروث والعظم : إنه زاد إخوانكم من الجن .
وأيضا : فإنهم يتوالدون ؛ قال تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني } [ الكهف :50 ] .
فصل في اشتقاق البسملة
البسملة : مصدر " بسمل " ، أي : قال : " بسم الله ، نحو : " حوقل ، وهيلل ، وحمدَل ، وحيعل " ، أي قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله ، وحي على الصلاة ومثله " الحسبلة " وهي قوله : " حسبنا الله " ، و " السبحلة " وهي قول : " سبحان الله " و " الجعفلة " [0] : قول " جعلت فداك " ، و " الطلبقة والدمعزة " حكاية قولك : " أطال الله تعالى بقاءك ، وأدام عزك " .
وهذا شبيه بباب النحت في النسب ، أي أنهم يأخذون اسمين ، فينحتون منهما لفظا واحدا ؛ فينسبون إليه ؛ كقولهم : " حضرمي ، وعبقسين وعبشمي " نسبة إلى " حضرموت " ، وعبد قيس " {[1]}وعبد شمس " ؛ قال الشاعر{[2]} : [ الطويل ]
6-وتضحك مني شيخة عبشمية *** كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا{[3]}
وهو غير مقيس ، فلا جرم أن بعضهم قال في : " بسمل ، وهيلل " : إنهما لغة مولدة .
قال الماوردي{[4]} رحمه الله تعالى : يقال لمن قال : " بسم الله " : " مُبسمل " وهي لغة مولدة ؛ وقد جاءت في الشعر ؛ قال عمر بن أبي ربيعة{[5]} : [ الطويل ] .
7-لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل{[6]}
وغيره من أهل اللغة نقلها ، ولم يقل إنها مولدة كـ " ثعلب " {[7]}و " المطرزي " {[8]} .
" بسم الله " : جار ومجرور ، والباء متعلق بمضمر ، فنقول : هذا المضمر يحتمل أن يكون اسما ، وأن يكون فعلا ، وعلى التقديرين ؛ فيجوز أن يكون متقدما ومتأخرا ، فهذه أقسام أربعة .
أما إذا كان متقدما ، وكان فعلا ؛ فكقولك : أبدأ ببسم الله .
وإن كان متقدما ، وكان اسما ؛ فكقولك : ابتدائي ببسم الله .
وإن كان متأخرا ، وكان فعلا ؛ فكقولك : بسم الله أبدأ .
وإن كان متأخرا ، وكان اسما ؛ كقولك : بسم الله ابتدائي .
وأيهما أولى التقديم أم التأخير ؟
قال ابن الخطيب : كلاهما ورد في القرآن الكريم ، أما التقديم ، فكقوله { بسم الله مجراها ومرساها } [ هود :41 ] وأما التأخير ؛ فكقوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } [ العلق :1 ] وأقول : التقديم أولى ؛ لأنه-تعالى- قديم واجب الوجود لذاته ، فيكون وجوده سابقا على وجود غيره ، لأن السبق بالذات يستحق السبق في الذكر ؛ قال تبارك وتعالى : { هو الأول والآخر } [ الحديد :3 ] وقال تعالى : { لله الأمر من قبل ومن بعد } [ الروم :4 ] وقال تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] .
قال أبو بكر الرازي{[9]}-رحمه الله تعالى- إضمار الفعل أولى من إضمار الاسم ؛ لأن نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل ، وهو الأمر ، لأنه –تبارك وتعالى- قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } فكذا قوله تعالى { بسم الله الرحمان الرحيم } التقدير : قولوا : بسم الله .
وأقول : لقائل أن يقول : بل إضمار الاسم أولى ؛ لأنا إذا قلنا : تقدير الكلام : بسم الله ابتداء كل شيء ، كان هذا إخبارا عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث ، ومخالفا لجميع الكائنات ، سواء قاله قائل ، أو لم يقله ، ولا شك أن هذا الاحتمال أولى ، وتمام الكلام يأتي في بيان أن الأولى أن يقال : الحمد لله وسيأتي لذلك زيادة بيان في الكلام في الاسم إن شاء الله تعالى .
فصل فيما يحصل به الجر
الجر يحصل بشيئين :
أحدهما بالحرف ؛ كما في قوله تعالى : " بسم الله " .
والثاني : بالإضافة ؛ كما في قوله تعالى : " الله " من قوله " بسم الله " .
وأما الجر الحاصل في لفظة " الرحمان الرحيم " فإنما حصل ، لكون الوصف ثابتا للموصوف في الإعراب ، فها هنا أبحاث :
أحدها : أن حروف الجر لم اقتضت الجر ؟
وثانيهما : أن الإضافة لم اقتضت الجر ؟
وثالثها : أن اقتضاء الحروف أقوى ، أم اقتضاء الإضافة ؟
ورابعها : أن الإضافة بين الجزء والكل ، أو بين الشيء الخارج عن ذات الشيء المنفصل ؟
قال مكي{[10]}-رحمه الله تعالى- كُسرت الباء من " بِسم الله " ؛ لتكون حركتها مشبهة لعملها ؛ وقيل : كسرت ليفرق بين ما يخفض ، ولا يكون إلا حرفا ؛ نحو : الباء ، واللام ، وبين ما يخفض ، وقد يكون اسما نحو : الكاف .
وإنما عملت الباء وأخواتها الخفض ؛ لأنها لا معنى لها إلا في الأسماء ، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأسماء ، وهو الخفض ، وكذلك الحروف التي تجزم الأفعال ، إنما عملت الجزم ؛ لأنها لا معنى لها إلا في الأفعال ، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأفعال ، وهو الجزم .
والباء-هنا- للاستعانة ؛ كـ " عملت بالقدوم " لأن المعنى : أقرأ مستعينا بالله ، ولها معان أخر تقدم الوعد بذكرها وهي :
الإلصاق : حقيقة أو مجازا نحو : مسحت برأسي ، " مررت بزيد " .
قال ابن الخطيب{[11]} –رحمه الله تعالى- فرّع أصحاب أبي حنيفة –رحمه الله- على " باء " الإلصاق مسائل :
إحداها : قال محمد –رحمه الله تعالى- في " الزيادات " : إذا قال لامرأته : أنت طالق بمشيئة الله ، لا يقع الطلاق ؛ وهو كقوله : أنت طالق إن شاء الله ، ولو قال : لم يشأ الله يقع ؛ لأنه أخرج مخرج التعليل ، وكذلك أنت طالق بمشيئة{[12]} الله تعالى لا يقع الطلاق ، ولو قال أو بإرادة{[13]}الله لا يقع ، [ ولو قال لإرادة الله يقع ]{[14]}أما إذا قال : أنت طالق بعلم الله ، أو لعلم الله ، فإنه يقع في الوجهين ، ولا بد من الفرق .
وثانيهما : في باب الأيمان لو قال : إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني ، فأنت طالق ، تحتاج في كل مرة إلى إذنه ، ولو قال : إن خرجت إلا أن آذن لك ، فأذن لها مرة كفى ، ولا بد من الفرق .
وثالثها : لو قال : طلقي نفسك ثلاثا بألف ، فطلقت نفسها واحدة ، وقعت بثلث الألف ، وذلك أن الباء تدل على البدلية ، فيوزع البدل على المبدل ، فصار بإزاء كل طلقة ثلث الألف ، ولو قال : طلقي نفسك ثلاثا على ألف ، فطلقت نفسها واحدة ، لم يقع عند أبي حنيفة ؛ لأن لفظة " على " كلمة شرط{[15]} ولم يوجد الشرط ، وعند صاحبيه يقع واحدة بثلث الألف دلت وها هنا مسائل متعلقة بالباء .
قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الثمن إنما يتميز عن المثمّن بدخول " الباء " عليه ، فإذا قلت : بِعت كذا بكذا ، فالذي دخل عليه " الباء " هو الثمن وعلى هذا تبنى مسألة البيع الفاسد ، فإذا قال بعت هذا الكرباس من الخمر صح البيع ، والعقد فاسد .
وإذا قال : بعث هذا الخمر ، فالكرباس لم يصح ، وله الفرق في الصورة الأولى : أن الخمر ثمن ، وفي الثانية الحمر مثمن ، وجعل الخمر مثمنا لا يجوز .
ومنها قال الشافعي-رضي الله تعالى عنه- : إذا قال : بعتك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم .
وعند أبي حنيفة –رحمه الله- لا يتعين .
والسببية : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا } [ النساء : 160 ] أي : بسبب ظلمهم .
والمصاحبة : نحو : " خرج زيدٌ بثيابه " أي : مصاحبا لها .
والبدل : كقوله –عليه الصلاة والسلام- : " ما يسرني بها حمر النعم " {[16]} ، أي : بدلها ؛ وكقول الآخر : [ البسيط ] .
8-فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا{[17]}
أي بدلهم .
والقسم : " أحلف بالله لأفعلن " .
والظرفية : نحو : " زيد بمكة " أي : فيها .
والتعدية : نحو { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] .
والتبعيض : كقول الشاعر في هذا البيت : [ الطويل ] .
9-شرِبْنَ بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر ، لهن نئيج{[18]}
أي : من مائه .
والمقابلة : " اشتريت بألف " أي : قابلته بهذا الثمن .
والمجاوزة : نحو قوله تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ، ومنهم من قال : لا يكون كذلك إلا مع السؤال خاصة ؛ نحو : { فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ] أي : عنه ، وقول علقمة{[19]} : [ الطويل ]
10-فإن تسألوني بالنساء فإنــني خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء [ أو ]{[20]} قلّ ماله فليس له في ودهن نصيب{[21]}
والاستعلاء : كقوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } [ آل عمران :75 ] ، أي : على قنطار .
وبمعنى " إلى " : كقوله { وقد أحسن بي } [ يوس : 100 ] .
والجمهور يأبون جعلها إلا للإلصاق ، أو التعدية ، ويردون جميع المواضع المذكورة إليهما ، وليس هذا موضع استدلال .
وقد تزاد مطردة ، وغير مطردة :
فالمطردة : في فاعل " كفى " نحو : { كفى بالله } [ العنكبوت : 52 ] أي : كفى الله . بدليل سقوطها في قول الشاعر : [ الطويل ] .
11- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا{[22]}
وفي خبر " ليس " و " ما " أختها غير موجب بـ " إلا " ؛ كقوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } [ الزمر : 36 ] { وما ربك بغافل } [ الأنعام : 132 ] ، وفي " بحسبك زيد " .
وغير مطردة : في مفعول " كفى " ؛ كقوله : [ الكامل ] .
12-فكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا{[23]}
أي : كفانا ، وفي البيت كلام آخر ، وفي المبتدإ غير " حسب " .
ومنه في أحد القولين : { بأييّكم المفتون } [ القلم : 6 ] .
[ أي : أيكم المفتون ]{[24]} وقيل : المفتون مصدر كالمعقول والميسور ، فعلى هذا ليست زائدة .
وفي خبر " لا " أخت " ليس " ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
13-وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلا عن سواد بن قارب{[25]}
أي : مغنيا .
وفي خبر " كان " منفية ؛ نحو : [ الطويل ] .
14-وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل{[26]}
أي : لم أكن أعجلهم .
وفي الحال ، وثاني مفعولي " ظن " منفيين أيضا ؛ كقول القائل في ذلك البيت : [ الوافر ] .
15-فما رجعت بخائبة ركاب حكيم بن المسيب منتهاها{[27]}
وقال الآخر : [ الطويل ]
16-دعاني أخي والخيل بيني وبينه فلما دعاني لم يجدني بقعدد{[28]}
أي : ما رجعت ركاب خائبة ، ولم يجدني قعددا .
وفي خبر " إنَّ " ؛ كقول امرئ القيس{[29]} : [ الطويل ] .
17-فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فإنك مما أحدثت بالمجرب{[30]}
أي : فإنك المجرب .
وفي { أولم يروا أن الله } [ الإسراء : 99 ] .
والاسم لغة : ما أبان عن مسمى ، واصطلاحا : ما دل على معنى في نفسه فقط غير متعرض ببنيته لزمان ، ولا دال جزء من أجزائه على جزء من أجزاء معناه .
وبهذا القيد الأخير خرجت الجملة الاسمية ، والتسمية : جعل اللفظ دالا على ذلك المعنى .
قال أبو عبيدة : -رحمه الله تعالى- : ذكر الاسم في قوله تعالى : " بسم الله " صلة زائدة ، والتقدير : " بالله " ، وإنما ذكر لفظة " الاسم " : إما للتبرك ، وإما أن يكون فرقا بينه وبين القسم .
قال ابن الخطيب{[31]}-رحمه الله تعالى- : وأقول : المراد من قوله تعالى : " بسم الله " ابدءوا بـ " بسم الله " ، وكلام أبي عبيدة ضعيف ، لأن الله أمرنا بالابتداء ، فهذا الأمر إنما يتناول فعلا من أفعالنا ، وذلك الفعل ، هو لفظنا وقولنا ، فوجب أن يكون المراد : ابدءوا بـ " بسم الله " .
وقال صاحب " البحر المحيط " : اختلف الناس : هل الاسم عين المسمى ، أو غيره ؟ وهي مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .
واستشكلوا على كونه هو المسمى إضافته إليه ؛ فإنه يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه . وأجاب أبو البقاء{[32]}-رحمه الله- عن ذلك بثلاثة أجوبة :
أجودها : أن الاسم -هنا- بمعنى التسمية ، والتسمية غير الاسم ؛ لأن التسمية هي : اللفظ بالاسم ، والاسم هو : اللازم للمسمى ؛ فتغايرا .
الثاني : أن في الكلام حذف مضاف تقدير : بسم مسمى الله .
الثالث : أن لفظ " اسم " زائد ؛ كقوله : [ الطويل ] .
18- إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر{[33]}
أي : السلام عليكما .
وقول ذي الرمة{[34]} : [ البسيط ] .
19-لا ينعش الطرف إلا ما تخونه داع يناديه باسم الماء مبغوم{[35]}
وإليه ذهب أبو عبيدة{[36]} ، والأخفش{[37]} وقطرب{[38]} -رحمهم الله- واختلفوا في معنى الزيادة :
فقال الأخفش : " ليخرج من حكم القسم إلى قصد التبرك " .
وقال قطرب : " زيد للإجلال والتعظيم " . وهذان الوجهان ضعيفان ؛ لأن الزيادة ، والحذف لا يصار إليهما إلا إذا اضطر إليهما .
ومن هذا القبيل-أعني ما يوهم إضافة الشيء إلى نفسه-إضافة الاسم إلى اللقب ، والموصوف ، إلى صفته ؛ نحو : " سعيد كرز " و " زيد " قفة " و " مسجد الجامع " و " بقلة الحمقاء " ؛ ولكن النحويين أولوا النوع الأول بأن جعلوا الاسم بمعنى المسمى ، واللقب بمعنى اللفظ ، فتقديره : جاءني مسمى هذا اللفظ ، وفي الثاني جعلوه على حذف مضاف ، فتقدير " بقلة الحمقاء " " : " بقلة الحبة الحمقاء " ، و " مسجد الجامع " : " مسجد المكان الجامع " .
واختلف النحويون في اشتقاقه{[39]} :
فذهب أهل " البصرة " : إلى أنه مشتق من السمو ، وهو [ العلو و ]{[40]} الارتفاع ؛ لأنه يدل على مسماه ، فيرفعه ويظهره .
وذهب الكوفيون : إلى أنه مشتق من الوسم ، وهو : العلامة ؛ لأنه علامة على مسماه ، وهذا وإن كان صحيحا من حيث المعنى ؛ لكنه فاسد من حيث التصريف .
واستدل البصريون على مذهبهم بتكسيرهم له على " أسماء " ، وتصغيرهم له على " سمي " ، لأن التكسير والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها .
وتقول العرب : فلان سميك ، وسميت فلانا بكذا وأسميته بكذا ، فهذا يدل على أن اشتقاقه من : " السمو " ، ولو كان من : " الوسم " لقيل في التكسير{[41]} : " أوسام " ، وفي التصغير " وسيم " ؛ ولقالوا : وسيمك فلان ، ووسمت ، وأوسمت فلانا بكذا فدل عدم قولهم ذلك ؛ أنه ليس كذلك .
وأيما فجعله من " السمو " مدخل له في الباب الأكثر ، وجعله من " الوسم " مدخل له في الباب الأقل ؛ وذلك أن حذف اللام كثير ، وحذف الفاء قليل .
وأيضا فإنا عهدناهم غالبا يعوضون في غير محل الحذف ، فجعل همزة الوصل عوضا عن اللام موافق لهذا الأصل ، بخلاف ادعاء كونها عوضا عن الفاء .
فإن قيل : قولهم : " أسماء " في التكسير ، و " سمي " في التصغير ، لا دلالة فيه ؛ لجواز [ أن يكون ]{[42]} الأصل : " أوساما " و " وسيما " ، ثم قلبت الكلمة بأن{[43]} أخرت فاؤها بعد لامها ، فصار لفظ " أوسام " ، " أسماوا " ، ثم أعل إعلال " كساء " ، وصار " وسيم " ، " سميوا " ثم أعل إعلال " جري " تصغير " جرو " .
فالجواب : أن ادعاء ذلك لا يفيد ؛ لأن القلب على خلاف القياس ، فلا يصار إليه ، وما لم تدع إليه ضرورة .
وهل لهذا الخلاف فائدة أم لا ؟
والجواب : أن له فائدة ، وهي أن من قال باشتقاقه من العلو يقول : إنه لم يزل موصوفا قبل وجود الخلق ، وبعدهم ، وعند فنائهم ، ولا تأثير لهم في أسمائه ، ولا صفاته ، وهو قول أهل السنة-رحمهم الله- .
ومن قال : إنه مشتق من الوسم يقول : كان الله تعالى في الأزل بلا اسم ، ولا صفة ، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات ، وهو قول المعتزلة . وهذا أشد خطأ من قولهم " بخلق القرآن " ، وعلى هذا الخلاف وقع الخلاف أيضا في الاسم والمسمى .
فصل في لغات " الاسم "
وفي الاسم خمس لغات : " اسم " بضم الهمزة وكسرها ، و " سمّ " بكسر السين وضمها . وقال أحمد بن يحيى : من قال : " سم " بضم السين ، أخذه من سموت أسمو ،ومن قال بالكسر أخذه من سميت أسمي ، وعلى اللغتين قوله : [ الرجز ] .
20-وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
مبتركا لكل عظم يلحمه{[44]}
ينشد بالوجهين .
وأنشدوا على الكسر : [ الرجز ] .
21-باسم الذي في كل سورة سمه{[45]}
فعلى هذا يكون في لام " اسم " وجهان :
أحدهما : أنها واو .
والثاني : أنها ياء ؛ وهو غريب ، ولكن أحمد بن يحيى- رحمه الله تعالى- جليل القدر ثقة فيما ينقل .
و " سمى " مثل : هدى ، ؛ واستدلوا على ذلك بقول الشاعر : [ الرجز ] .
22-والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركا{[46]}
ولا دليل في ذلك لجواز أن يكون من لغة من يجعله منقوصا مضموم السين ، وجاء به منصوبا ، وإنما كان ينتهض دليلا لو قيل : " سمى " حالة رفع أو جر .
وهمزته همزة وصل ، أي : تثبت ابتداء ، وتحذف درجا ، وقد تثبت ضرورة ؛ كقوله : [ الطويل ] .
23-وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ولا من تسمى ثم يلتزم الإسما{[47]}
وهو أحد الأسماء العشرة التي ابتدئ في أوائلها بهمزة الوصل وهي : اسم ، واست ، وابن ، وابنم ، وابنة ، وامرؤ ، وامرأة ، واثنان ، واثنتان ، وايمن في القسم .
والأصل في هذه الهمزة أن تثبت{[48]} خطا ، كغيرها من همزات الوصل .
وإنما حذفوها حين يضاف الاسم إلى الجلالة خاصة ؛ لكثرة الاستعمال .
وقيل : ليوافق الخط اللفظ .
وقيل : لا حذف أصلا ، وذلك لأن الأصل " سم " أو " سُم " بكسر السين أو ضمها ، فلما دخلت الباء سكنت السين تخفيفا ؛ لأنه وقع بعد الكسرة كسرة أو ضمة .
قال ابن الخطيب{[49]}-رحمه الله تعالى- : إنما حذفوا ألف " اسم " في قوله تعالى : " بسم الله : وأثبتوها في قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } [ العلق :1 ] لوجهين :
الأول : أن كلمة " بسم الله " مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال ؛ فلأجل التخفيف حذفوا الألف ، بخلاف سائر المواضع ، فإن ذكرها يقل .
الثاني : قال الخليل{[50]}-رحمه الله تعالى- إنما حذفت الألف في " بسم الله " ؛ لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن ، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف ، فسقطت في الخط ، وإنما لم تسقط في { اقرأ باسم ربك } ؛ لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع ، كما في " بسم الله " ؛ لأنه يمكن حذف الباء من { اقرأ باسم ربك } مع بقاء المعنى صحيحا ، فإنك لو{[51]} قلت : اقرأ اسم ربك صح المعنى ، [ أما لو ]{[52]} حذفا [ الباء ]{[53]} من " بسم الله " لم يصح المعنى ، فظهر الفرق .
قال بعضهم : فلو أضيفت إلى غير الجلالة ثبتت نحو : " باسم الرحمان " هذا هو المشهور ، وحكي عن الكسائي{[54]} ، والأخفش –رحمة الله تعالى عليهما- جواز حذفها إذا أضيف إلى غير الجلالة من أسماء الباري تعالى ؛ نحو : " بسم ربك " و " بسم الخالق " .
وإنما طولوا الباء من " بسم الله " ولم يطولوها في سائر المواضع لوجهين :
الأول : أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ؛ ليدل طولها على الألف المحذوفة التي بعدها ، ألا ترى أنهم لما كتبوا { اقرأ باسم ربك } بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية .
قال مكي –رحمه الله تعالى- : حذفت الألف من " بسم الله " لكثرة الاستعمال .
وقيل : حذفت لتحريك السين في الأصل ؛ لأن أصل السين الحركة ، وسكونها لعلة دخلتها .
الثاني : قال القتيبي : إنما طولوا الباء ، لأنهم أرادوا ألا يستفتحوا كتاب الله-تعالى- إلا بحرف معظم وكان عمر بن عبد العزيز{[55]} رضي الله تعالى عنه يقول لكتابه : طولوا الباء ، وأظهروا السين ، ودوّروا الميم{[56]} تعظيما لكتاب الله تعالى .
فصل في متعلق الجار والمجرور
الجار والمجرور لا بد له من شيء يتعلق به ، فعل ، أو ما في معناه ، إلا في ثلاث صور :
" حرف الجر الزائد " ، و " لعل " و " لولا " عند من يجر بهما ، وزاد ابن عصفور{[57]} -رحمه الله تعالى- " كاف التشبيه " ؛ وليس بشيء ، فإنها تتعلق .
إذا تقرر ذلك فـ " بسم الله " لابد من شيء يتعلق به ، ولكنه حذف ، واختلف النحويون في ذلك :
فذهب أهل البصرة : إلى أن المتعلق اسم .
وذهب أهل " الكوفة " : إلى أنه فعل .
واختلف كل من الفريقين :
فذهب بعض البصريين : إلى أن ذلك المحذوف مبتدأ حذف هو ، وخبره ، وبقي معموله ، تقديره : ابتدائي بسم الله كائن أو مستقر ، أو قراءتي بسم الله كائنة أو مستقرة ؛ وفيه نظر : من حيث إنه يلزم حذف المصدر ، وإبقاء معموله وهو ممنوع . وقد نص مكي{[58]} -رحمه الله تعالى- على منع هذا الوجه .
وذهب بعضهم : إلى أنه خبر حذف هو ومبتدؤه -أيضا- ، وبقي معموله قائما مقامه ؛ والتقدير : ابتدائي كائن بسم الله ، نحو : " زيد بمكة " ، فهو على الأول : منصوب المحل ، وعلى الثاني : مرفوعه ؛ لقيامه مقام الخبر .
وذهب بعض الكوفيين : إلى أن ذلك الفعل المحذوف مقدر قبله ، قال : لأن الأصل التقديم ؛ والتقدير : اقرأ بسم الله ، أو أبتدئ بسم الله .
ومنهم من قدره بعده ، والتقدير : بسم الله اقرأ ، أو أبتدئ ، أو أتلو .
وإلى هذا نحا الزمخشري{[59]} –رحمه الله-قال{[60]} : " ليفيد التقديم الاختصاص ؛ لأنه وقع ردا على الكفرة الذين كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم ؛ كقولهم : باسم اللات ، وباسم العزى " وهذا حسن جدا .
ثم اعترض على نفسه بقوله تبارك وتعالى : { اقرأ باسم ربك } حيث صرّح بهذا العامل مقدما على معموله .
ثم أجاب : بأن تقديم الفعل في سورة العلق أوقع ؛ لأنها أول سورة نزلت ؛ فكان الأمر بالقراءة أهم .
وأجاب غيره : بأن " بسم ربك " ليس متعلقا بـ " اقرأ " الذي قبله ، بل بـ " اقرأ " الذي بعده ، فجاء على القاعدة المتقدمة ، وفي هذا نظر ؛ لأن الظاهر على هذا القول أن يكون " اقرأ " الثاني توكيدا للأول ؛ فيكون قد فصل بمعمول المؤكد بينه ، وبين ما أكده مع الفصل بكلام طويل . واختلفوا -أيضا- هل ذلك الفعل أمر أو خبر ؟
فذهب الفراء :{[61]} إلى أنه أمر تقديره : " اقرأ أنت بسم الله " .
وذهب الزجاج{[62]} : إلى أنه خبر تقديره : " اقرأ أنا ، أو ابتدئ " ونحوه{[63]} .
قال ابن الخطيب{[64]} –رحمه الله تعالى- : أجمعوا على أن الوقف على قوله تعالى : " بسم " ناقص قبيح ، وعلى قوله تعالى : " بسم الله الرحمان " كاف صحيح ، وعلى قوله : " بسم الله الرحمان الرحيم " تام .
واعلم أن الوقف لا بد وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة : وهو أن يكون ناقصا ، أو كافيا ، أو كاملا ، فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص ، والوقف على كل كلام مفهوم المعاني ، إلا أن ما بعده يكون متعلقا بما قبله يكون كافيا ، والوقف على كل كلام تام ، ويكون ما بعده منقطعا عنه يكون تاما{[65]} .
ثم لقائل أن يقول : قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] كلام تام ، إلا أن قوله تعالى : { الرحمان الرحيم مالك } [ الفاتحة :3 ] متعلق بما قبله ؛ لأنها صفات ، والصفات تابعة للموصوفات ، فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف ، وجعلها وحدها آية ، فلم لم يقولوا : " بسم الله الرحمان " آية ؟ ثم يقولوا : " الرحيم " آية ثانية ، وإن لم يجز ذلك ، فكيف جعلوا " الرحمان الرحيم " آية مستقلة ؟ فهذا الإشكال لا بد من جوابه .
فصل الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ؟
قال ابن الخطيب{[66]} -رحمه الله تعالى- : قالت الحشوية ، والكرامية ، والأشعرية : الاسم نفس المسمى ، وغير التسمية{[67]} .
وقالت المعتزلة : " الاسم غير المسمى ونفس التسمية ، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى ، وغير التسمية .
وقبل الخوض في ذكر الدلائل لابد من التنبيه على مقدمة ، وهي أن قول القائل : الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ؟ يجب أن يكون مسبوقا ببيان أن الاسم ما هو ؟ وأن المسمى ما هو ؟ حتى ينظر بعد ذلك في " الاسم " هل هو نفس المسمى أم لا ؟
فنقول : إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة ، وحروف مؤلفة ، المسماة تلك الذوات في أنفسها ، وتلك الحقائق بأعيانها ، فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى ؛ والخوص في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثا ، وإن كان{[68]} المراد بالاسم ذات المسمى ، وبالمسمى -أيضا- تلك الذات ، فقولنا : " الاسم " هو " المسمى " معناه : أن ذات الشيء عين ذات الشيء ، [ وهذا ]{[69]} وإن كان حقا ، إلا أنه من إيضاح الواضحات ؛ وهو عبث ، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث .
قال البغوي –رحمه الله تعالى- : الاسم هو المسمى ، وعينه وذاته ؛ قال تبارك وتعالى : { إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } [ مريم :7 ] ثم نادى الاسم فقال " { يا يحيى } [ مريم :12 ] ، وقال تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } [ يوسف :40 ] وأراد الأشخاص المعبودة ؛ لأنهم كانوا{[70]} يعبدون المسميات .
واعلم أنا استخرجنا لقول من يقول : الاسم نفس المسمى تأويلا لطيفا ، وبيانه أن لفظ الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين ، ولفظ الاسم كذلك ، فوجب أن يكون لفظ الاسم في هذه الصورة نفس المسمى ، إلا أن فيه إشكالا ، وهو أن كون الاسم للمسمى من باب المضاف ، وأحد المضافين لا بد وأن يكون مغايرا للآخر .
فصل في الأدلة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى
" في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى " :
وذلك أن المسمى قد يكون معدوما ، فإن المعدوم منفي سلب لا ثبوت له . والألفاظ ألفاظ موجودة ، مع أن المسمى بها عدم محض ، ونفي صرف .
وأيضا قد يكون المسمى موجودا ، والاسم معدوما مثل الحقائق التي ما وضعوا لها ألفاظا معينة ، وبالجملة فثبوت كل واحد منها حال عدم الآخر معلوم إما أن يكون مقدرا أو مقررا ، وذلك يوجب المغايرة .
الثاني : أن الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحدا ، كالأسماء المترادفة ، وقد يكون الاسم واحدا [ وتكون ]{[71]} المسميات كثيرة ، كالأسماء المشتركة ، وذلك-أيضا- يوجب المغايرة .
الثالث : أن كون الاسم اسما للمسمى ، وكون المسمى مسمى بالاسم من باب الإضافة : كالمالكية ، والمملوكية ، وأحد المضافين مغاير للآخر ، ولقائل أن يقول : يشكل هذا بكون الشيء عالما بنفسه .
الرابع : الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات ، وتلك الأصوات أعراض غير باقية ، والمسمى قد يكون باقيا ، وقد يكون واجب الوجود لذاته .
الخامس : أنا إذا تلفظنا بالنار ، والثلج ، فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا ، فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج ، وذلك لا يقوله عاقل .
السادس : قوله تبارك وتعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تسعة وتسعين اسما ){[72]} فها هنا الأسماء كثيرة ، والمسمى واحد ، وهو الله –سبحانه وتعالى- .
السابع : أن قوله تعالى : " بسم الله " ، وقوله –تعالى :- { تبارك اسم ربك } [ الرحمان : 78 ] ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى الله-تعالى- وإضافة الشيء إلى نفسه محال .
الثامن : أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا : " اسم الله " وبين قولنا : " اسم الاسم " ، وبين قولنا : " الله الله " ، وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى .
التاسع : أنا نصف{[73]} الأسماء بكونها عربية وفارسية ، فنقول : الله : اسم عربي ، وخوذاي : اسم أعجمي وأما ذات الله تعالى ، فمنزهة عن كونه كذلك .
العاشر : قال تبارك وتعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف :180 ] أمرنا بأنا ندعو الله بأسمائه ، والاسم آلة الدعاء ، والمدعو هو الله تعالى ، والمغايرة بين ذات المدعو ، وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة .
واحتج من قال : الاسم هو المسمى بالنص ، والحكم :
أما النص ، فقوله تعالى : { تبارك اسم ربك } والمتبارك المتعالى هو الله –تبارك وتعالى- لا الصوت ولا الحرف .
وأما الحكم : فهو أن الرجل إذا قال : " زينب طالق " {[74]} ، وكان زينب{[75]} اسما لامرأته ، وقع عليها الطلاق ، ولو كان الاسم غير المسمى ، لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة ، فكان يجب ألا يقع الطلاق عليها .
الجواب عن الأول : أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه منزها عن النقائص{[76]} والآفات ، فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات الله -تعالى- وصفاته عن العبث ، والرّفث ، وسوء الأدب ؟
وعن الثاني : أن قولنا " زينب طالق " معناه : أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ " طالق " ، فلهذا السبب وقع الطلاق عليها . و " الله " في " بسم الله " مضاف إليه .
وهل العامل في المضاف إليه المضاف أو حرف الجر المقدر ، أو معنى الإضافة ؟
ثلاثة أقوال خيرها أوسطها وهو على المعبود بحق لا يطلق على غيره [ ولم يجز لأحد من المخلوقين أن يسمى باسمه ، وكذلك الإله قبل النقل ، والإدغام ، لا يطلق إلا على المعبود بحق ]{[77]} .
قال الزمخشري رحمه الله " كأنه صار علما بالغلبة " وأما " إله " المجرد عن الألف ، فيطلق على المعبود بحق وعلى غيره ، قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } [ المؤمنون :117 ] ، { ومن اتخذ إلهه هواه } [ الفرقان :43 ] .
قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : [ من الناس ] من طعن في قول من يقول " الإله هو المعبود " من وجوه :
أحدها : أنه-تعالى- إله الجمادات والبهائم ، مع أن صدور العبادة منها محال .
الثاني : أنه -تعالى- إله المجانين والأطفال ، مع أنه لا تصدر العبادة منهم .
الثالث : يلزم أن يقال : إنه -تعالى- ما كان إلها في الأزل .
وقال قوم الإله ليس عبارة عن المعبود ، بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبودا ، وهذا القول-أيضا- يرد عليه ألا يكون إلها للجمادات ، والبهائم ، والأطفال ، والمجانين ، وألا يكون إلها في الأزل .
وأجيب : بأن هذين الإلزامين ضعيفان .
فإن الله -تعالى- مستحق للعبادة [ في الأزل ]{[78]} ، بمعنى أنه أهل لأن يعبد ، وهذا لا يتوقف على حصول العبادة .
والثاني : -أيضا- ضعيف ؛ لأنه في الأزل مستحق للعبادة .
واختلف الناس : هل هو مرتجل أو مشتق{[79]} ؟
والصواب الأول وهو أعرف المعارف [ حكي أن سيبويه رؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : خيرا كثيرا ؛ لجعل اسمه أعرف المعارف ]{[80]} .
ثم القائلون باشتقاقه اختلفوا اختلافا كثيرا :
فمنهم من قال : إنه مشتق من " لاهَ-يَلِيهُ " ، أي : ارتفع ، ومنه قيل للشمس : إلاهة-بكسر الهمزة وفتحها-لارتفاعها .
وقيل : لاتخاذهم إياها معبودا ، وعلى هذا قيل : " لهْيَ أبوكَ " يريدون لله أبوك فقلب العين إلى موضع اللام ، وخفّفه بحذف الألف واللام ، وحذف حرف الجر .
وأبعد بعضهم ، فجعل من ذلك قولَ الشاعر في ذلك : [ الطويل ] .
24-ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنّك من برق عليّ كريم{[81]}
فإن الأصل : " لله إنك كريم عليّ " فحذف حرف الجر ، وحرف التعريف ، والألف التي قبل الهاء من الجلالة ، وسكّن الهاء ؛ إجراء للوصل مجرى الوقف ، فصار اللفظ : " له " ثم ألقى حركة همزة " إن " على الهاء فبقي " لهنَّكَ " كما ترى ، وهذه سماجة من قائله [ وفي البيت قولان أيسر من هذا ]{[82]} .
ومنهم من قال : هو مشتق من " لاهَ- يَلُوه- لِيَاهاً " [ أي احتجب فالألف على هذين القولين أصيلة فحينئذ أصل الكلم لاه ] " اللاه " ثم أدغمت لام التعريف في اللام بعدها ؛ لاجتماع شروط الإدغام ، وفخمت لامُه ، ووزنه على القولين المتقدمين إما : " فَعَلَ " أو " فَعِلَ " بفتح العين وكسرها ، وعلى كل تقدير : فتحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، وكان الأصل : لِيَهاً أو لِيهاً أو لَوَهَا أو لَوِهَا .
ومنهم من جعله مشتقا من " أَلَهَ " و " أَلَه " لفظ مشترك بين معان ، وهي : العبادة والسكون ، والتحير ، والفزع ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
25-ألِهْتَ إلينا والحوادث جمّة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[83]}
أي : سكنت ؛ وقال غيره : [ الطويل ]
26-ألِهْتُ إليها والركائب وُقَّف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[84]}
أي : فزعت إليها .
فمعنى " إله " أن خلقه يعبدونه ، ويسكنون إليه ، ويتحيرون فيه ، ويفزعون إليه ، ومنه قول رؤبة{[85]} : [ الرجز ]
27- لله در الغانيات المده سبّحن واسترجعن من تأله{[86]}
أي : من عبادة .
ومنه قوله تعالى : { ويذرك وآلهتك } [ الأعراف : 127 ] أي : عبادتك .
وإلى معنى التحير أشار أمير المؤمنين –رضي الله عنه- بقوله : " كل دون صفاته تحير الصفات ، وضل هناك تصاريف اللغات " {[87]} ؛ وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته تحيّر ؛ ولهذا روي : " تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله " {[88]} .
وعلى هذا فالهمزة أصلية ، والألف قبل الهاء زائدة ، فأصل الجلالة : " الإله " ؛ كقول الشاعر [ في ذلك البيت ]{[89]} : [ الطويل ] .
28- معاذ [ الإله ]{[90]}أن تكون كظبية ولا دمية ولا عقيلة رَبْرَبِ{[91]}
ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ؛ كما حذفت في " ناس " والأصل : أناس ؛ كقوله : [ الكامل ] .
29-إن المنايا يطلعـ ـن على الأناس الآمنينا{[92]}
فالتقى حرف التعريف مع اللام ، فأدغم فيها وفخّم .
أو تقول : إن الهمزة من " الإله " حذفت للنقل بمعنى : أنا نقلنا حركتها إلى لام التعريف ، وحذفناها بعد نقل حركتها ، كما هو المعروف في النقل ، ثم أدغم لام التعريف ؛ لما تقدم ، إلا أن النقل-هنا- لازم ؛ لكثرة الاستعمال .
ومنهم من قال : هو مشتق من " وَلِهَ " ؛ لكون كل مخلوق وإله نحوه ، ولهذا قال بعض الحكماء : الله محبوب للأشياء كلها وعلى هذا دل قوله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] .
فأصله : " ولاَه " ثم أبدلت الواو همزة ، كما أُبدلت في " إشاحٍ ، وإعاء " والأصل : " وِشاح ، ووعاء " .
فصار اللفظ به : " إلها " ثم فعِل به ما تقدم من حذف همزته ، والإدغام ، ويعزى هذا القول للخليل-رحمه الله تعالى- .
فعلى هذين القولين ووزن " إلاه " : " فعال " وهو بمعنى مفعول ، أي : معبود أو متحير فيه ؛ كالكتاب بمعنى مكتوب ، ورد قول الخليل بوجهين :
أحدهما : أنه لو كانت الهمزة بدلا من واو ، لجاز النطق بالأصل ، ولم يقله أحد ، ويقولون : " إشاح " و " وِشَاحَ " ، و " إعَاءَ " و " وِعَاء " .
والثاني : أنه لو كان كذلك لجمع على " أَوْلِهة " كـ " أَوْعِيَة " ، و " أَوْشِحَة " ، فتردّ الهمزة إلى أصلها ، ولم يجمع " إله " إلا على " آلهة " .
وللخليل أن ينفصل عن هذين الاعتراضين ؛ بأن البدل لزم [ في ]{[93]} هذا الاسم ؛ لأنه اختص بأحكام لم يشركه فيها غيره كما ستقف عليه –إن شاء الله تعالى- ثم جاء الجمع على التزام البدل .
وأما الألف واللام ، فيترتب الكلام فيها على كونه مشتقا أو غير مشتق .
فإن قيل بالأول كانت في{[94]} الأصل معرفة .
وإن قيل بالثاني كانت زائدة .
وقد شذ حذف الألف واللام من الجلالة في قولهم : " لاه أبوك " والأصل : " لله أبوك " كما تقدم ، قالوا : وحذفت الألف التي قبل الهاء خطا ؛ لئلا يشتبه بخط " اللات " : اسم الصنم ؛ لأن بعضهم يقلب هذه التاء في الوقف هاء ، فيكتبها هاء تبعا للوقف ، فمن ثم جاء الاشتباه .
وقيل : لئلا يشبه{[95]} بخط " اللاه " اسم فاعل من " لها-يلهو " وهذا إنما يتم على لغة من يحذف ياء المنقوص{[96]} وقفا ؛ لأن الخط يتبعه ، وأما من يثبتها وقفا فيثبتها خطا ، فلا لبس حينئذ .
وقيل : حذف الألف لغة قليلة جاء الخط عليها ، والتزم ذلك ؛ لكثرة استعماله ؛ قال الشاعر : [ الرجز ] .
30- أقبل سيْل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنة المغلة{[97]}
قال ابن الخطيب –رحمه الله- : ويتفرع على هذا مسائل :
أحدها : لو قال عند الحلف : بِلّه ، فهل تنعقد يمينه أم لا ؟
قال بعضهم : لا ؛ لأن بله [ اسم ]{[98]} للرطوبة فلا ينعقد اليمين به .
وقال آخرون : ينعقد اليمين ؛ لأن ذلك بحسب أصل اللغة جائز ، وقد نوى به الحلف ، فوجب أن تنعقد .
وثانيها : لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا ؟
وثالثها : لو ذكر قول : " الله " في قوله : " الله أكبر " هل تنعقد الصلاة به أم لا ؟
وحكم لامه التفخيم ، تعظيما ما لم يتقدمه كسر فترقق .
وقد{[99]} كان أبو القاسم الزمخشري –رحمه الله تعالى- قد أطلق{[100]} التفخيم ، ولكنه يريد ما قلته .
ونقل أبو البقاء{[101]} –رحمه الله- : " إن منهم من يرققها على كل حال وهذا ليس بشيء ؛ لأن العرب على خلافه كابرا عن كابر كما ذكره{[102]} الزمخشري .
ونقل الفراء خلافا فيما إذا تقدمه فتحة ممالة أي قريبة من الكسرة : فمنهم من يرققها ، ومنهم من يفخمها ، وذلك كقراءة السوسي{[103]} في أحد وجهيه : { حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] .
قال ابن الخطيب{[104]} –رحمه الله تعالى- : " لم يقل أحد : " الله " بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات " .
ونقل السهيلي{[105]} ، وابن العربي{[106]} فيه قولا غريبا ، وهو أن الألف واللام فيه أصلية غير زائدة ، واعتذروا عن وصل الهمزة ؛ لكثرة الاستعمال كما يقول الخليل في همزة التعريف{[107]} ، وقد رد قولهما بأنه كان ينبغي أن ينوّن لفظ الجلالة ، وكان وزنه حينئذ " فعّال " نحوك " لئّال " و " سئّال " ، وليس فيه ما يمنعه من التنوين ، فدل على أن " أل " زائدة على ماهية الكلمة .
ومن غريب ما نقل فيه -أيضا- أنه ليس بعربي ، بل هو معرب ، وهو سرياني الوضع ، وأصله : " لاهَا " فعربته العرب ، فقالوا : " اللهُ " ؛ واستدلوا على ذلك بقول الشاعر : [ مخلّع بسيط ]
31-كحلفة من أبي رياح يسمعها لاهه الكبار{[108]}
فجاء به على الأصل قبل التعريف ، نقل ذلك أبو زيد البلخي{[109]}-رحمه الله تعالى- .
ومن غريب ما نقل فيه -أيضا- أن الأصل فيه " الهاء " التي هي كناية عن الغائب ، قالوا : وذلك أنهم أثبتوه موجودا في نظر عقولهم ؛ فأشاروا إليه بالضمير ، ثم زيدت فيه لام الملك ، إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها ، فصار اللفظ " له " ، ثم زيد فيه الألف واللام ؛ تعظيما وتفخيما ، وهذا لا يشبه كلام أهل اللغة ، ولا النحويين ، وإنما يشبه كلام بعض المتصوفة .
ومن غريب ما نقل فيه -أيضا- أنه صفة ، وليس باسم ، واعتلّ [ هذا الذاهب إلى ]{[110]} ذلك ؛ أن الاسم يعرف المسمى ، والله -تعالى- لا يدرك حسا ولا بديهة ، فلا يعرفه اسمه ، وإنما تعرفه صفاته ؛ ولأن العلم قائم مقام الإشارة ، وذلك ممتنع في حق الله تعالى .
وقد رد الزمخشري هذا القول بما معناه : أنك تصفه ، ولا تصف به فتقول : إله عظيم واحد كما تقول : شيء عظيم ، ورجل كريم ، ولا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل ، ولو كان صفة لوقع صفة لغيره لا موصوفا .
وأيضا : فإن صفاته الحسنى ، لا بد لها من موصوف بها تجري عليه ، فلو جعلناها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها ، وليس فيما عدا الجلالة خلاف في كونه صفة ، فتعين أن تكون الجلالة اسما لا صفة ، والقول في هذا الاسم الكريم يحتمل الإطالة ، وهذا القدر كاف .
فصل في اختصاص لفظ الجلالة به سبحانه
قال ابن الخطيب{[111]} -رحمة{[112]} الله تعالى عليه- : أطبق جميع الخلق على أن قولنا : " الله " مخصوص بالله تبارك وتعالى ، وكذلك قولنا : " الإله " مخصوص به سبحانه وتعالى .
وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله -تعالى- فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال : " إله كذا " ، أو ينكرونه كما قال –تبارك وتعالى- عن قوم موسى-عليه السلام- : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] .
فصل في خواص لفظ الجلالة .
قال ابن الخطيب{[113]} –رحمه الله تعالى- : ( اعلم أن هذا الاسم مخصوص بخواص لا توجد في سائر أسماء الله تعالى .
فالأولى : أنك إذا حذفت الألف من قولك : " الله " بقي الباقي على صورة " الله " وهو مختص به سبحانه وتعالى ، كما في قوله تعالى : { ولله ملك السموات الأرض }( آل عمران :189 ) ، وإن حذفت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة ( له ) ؛ كما في قوله تبارك وتعالى : { له مقاليد السموات والأرض } ( الشورى : 12 ) ، وقوله تعالى : { له الملك وله الحمد } التغابن :1 ) ، وإن حذفت اللام الباقية كانت البقية " هو " وهو أيضا- ويدل عليه سبحانه وتعالى ، كما في قوله تعالى : { قل هو الله أحد } ( الاخلاص :1 ) و قوله : { لا إله الاهو } ( البقرة :255 ) والواو زائدة ؛ بدليل : سقوطه في التثنية والجمع فإنك تقول : هما ، وهم ، ولا تبقي الواو فيهما ، فهذه الخاصية موجودة في لفظ " الله " –تعالى- غير موجودة في سائر الأسماء ، كما [ حصلت ]{[114]} هذه الخاصية بحسب اللفظ{[115]} [ فقد حصلت – أيضا- بحسب المعنى ][116] ، فإنك إذا دعوت الله –تبارك وتعالى- بالرحمة فقد وصفته بالرحمة ، وما وصفته بالقهر ، وإذا دعوته بالعليم ، فقد وصفته بالعلم ، وما وصفته بالقدرة .
وأما إذا قلت : " ياالله " ، فقد وصفته بجميع الصفات ، لأن الإله لا يكون إلها إلا إذا كان موصوفا بجميع هذه الصفات ، فتبث أن قولنا : " الله " قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء .
الخاصية الثانية : أن كلمة الشهادة ، وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإيمان[117] ، ولو يكن فيها هذا الاسم ، لم يحصل الإيمان ، فلو قال الكافر : أشهد أن لا إله إلا الرحيم ، أو إلا الملك ، أو إلا القدوس ، لم يخرج من الكفر ، ولم يدخل في الإسلام .
أما إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فإنه يخرج من الكفر ، ويدخل في الاسلام ، وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة .
[ وفي هذا نظر ][118] ؛ لأنا لا نسلم هذا في الأسماء المختصة بالله –سبحانه وتعالى- مثل : القدوس والرحمن .
فصل في رسم لفظ الجلالة
كتبوا لفظة " الله " بلامين ، وكتبوا لفظة " الذي " بلام واحدة ، مع استوائهما في اللفظ ، وفي أكثر الدوران على الألسنة ، وفي لزوم التعريف ؛ والفرق من وجوه :
الأول : أن قولنا : " الله " اسم معرب متصرف تصرف الأسماء ، فأبقوا كتابته على الأصل .
أما قولنا " الذي " فهو مبني من أجل أنه ناقص ، مع أنه لا يفيد إلا مع صلته ، فهو كبعض الكلمة ، ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنيا ، فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب ، ألا ترى أنهم كتبوا قوله -تعالى- " اللذان " بلامين ؛ لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف ؛ لأن الحرف لا يثنى .
الثاني : أن قولنا : " الله " لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله : " إله " ، وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا : " الذي " .
الثالث : أن تفخيم ذكر الله -تعالى- في اللفظ واجب ، هكذا في الخط ، والحذف ينافي التفخيم .
وأما قولنا : " الذي " فلا تفخيم له في المعنى ، فتركوا- أيضا- تفخيمه في الخط .
قال ابن الخطيب[119] -رحمة الله تعالى عليه- : " إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا : " الله " في الخط ؛ لكراهة اجتماع الحروف [ المتشابهة في الصورة ][120] ، [ وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المقابلة في اللفظ ][121] عند القراءة " .
{ الرحمان الرحيم } [ الفاتحة : 1 ] صفتان مشتقتان من الرحمة .
وقيل : الرحمان ليس مشتقا ؛ لأن العرب لم تعرفه في قولهم : { وما الرحمان } [ الفرقان : 60 ] وأجاب ابن العربي عنه : بأنهم إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ؛ ولذلك لم يقولوا : ومن الرحمان ؟
وقد تبعا موصوفهما في الأربعة من العشرة المذكورة .
وذهب[122] الأعلم الشنتمري[123] إلى أن " الرحمان " بدل من اسم " الله : لا نعت له ، وذلك مبني على مذهبه من أن " الرحمان " عنده علم بالغلبة .
واستدل على ذلك بأنه قد جاء غير تابع لموصوف [ كقوله تعالى : { الرحمان علم القرآن }[124] [ الرحمان : 1-2 ] و{ الرحمان على العرش استوى } [ طه :5 ] .
وقد رد عليه السهيلي بأنه لو كان بدلا لكان مبينا لما قبله ، وما قبله وهو الجلالة الكريمة لا تفتقر إلى تبيين ؛ لأنها أعرف الأعلام ، ألا تراهم قالوا : " وما الرحمان " ولم يقولوا : وما الله ؟ .
وأما قوله : " جاء غير تابع " فذلك لا يمنع كونه صفة ؛ لأنه إذا علم الموصوف جاز حذفه ، وبقاء صفته ؛ كقوله تبارك وتعالى : { ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } [ فاطر : 28 ] أي : نوع مختلف [ ألوانه ][125] ، وكقول الشاعر [ في ذلك المعنى ][126] : [ البسيط ]
32- كناطح صخرة يوما ليفلقها فما وهاها وأوهى قرنه الوعل[127]
أي : كوعْل ناطح ، وهو كثير .
والرحمة لغة : الرقة والانعطاف ، ومنه اشتقاق الرحم ، وهي البطن ؛ لانعطافها على الجنين ، فعلى هذا يكون وصفه -تعالى- بالرحمة مجازا عن إنعامه على عباده ، كالملك إذا عطف على رعيته أصابهم خيره ، هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري –رحمه الله تعالى- ويكون على هذا التقدير صفة فعل ، لا صفة ذات .
وقيل : الرحمة : إرادة الخير لمن [ أراده الله بذلك ][128] ووصفه بها على هذا القول حقيقة ، وهي حينئذ صفة ذات ، وهذا القول هو الظاهر .
وقيل : الرحمة [ رقة ][129] تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرد ، وإذا وصف به البارئ -تعالى- فليس يراد به [ إلا ][130] الإحسان المجرد دون الرقة ، وعلى هذا روي : " الرحمة من الله -تعالى- إنعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف " .
وقال ابن عباس –رضي الله تعالى عنهما- : " هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة " .
قال الخطابي : وهو مشكل ؛ لأن الرقة لا مدخل لها في صفاته .
[ وقال الحسين بن الفضل[131] : هذا وهم من الراوي ؛ لأن الرقة ليست من صفات الله –تعالى-في شيء ][132] ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر والرفق من صفاته .
قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله-تعالى- رفيق يحب الرفق ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف " [133] ؛ ويؤيده الحديث الآخر . وأما الرحيم فهو الرفيق بالمؤمنين خاصة .
واختلف أهل العلم في أن " الرحمان الرحيم " بالنسبة إلى كونهما بمعنى واحد ، أو مختلفين ؟
فذهب بعضهم : إلى أنهما بمعنى واحد كـ " ندمان ونديم " ، ثم اختلف هؤلاء على قولين :
فمنهم من قال : يجمع بينهما ؛ تأكيدا .
ومنهم من قال : لما تسمى مسيلمة –لعنه الله-بـ " الرحمان " قال الله تعالى لنفسه : " الرحمان الرحيم " فالجمع بين هاتين الصفتين لله -تعالى- فقط . وهذا ضعيف جدا ؛ فإن تسميته بذلك غير معتد بها ألبتة ، وأيضا : فإن " بسم الله الرحمان الرحيم " قبل ظهور أمر مسيلمة .
ومنهم من قال : لكل واحد فائدة غير فائدة الآخر ، وجعل ذلك بالنسبة إلى تغاير متعلقهما ؛ إذ يقال : " رحمان الدنيا ، ورحيم الآخرة " ، ويروى ذلك عن النبي –صلى الله عليه وسلذم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم- وذلك لأن رحمته في الدنيا تعم المؤمن والكافر ، وفي الآخر تخص المؤمنين فقط .
ويروى : " رحيم الدنيا ، ورحمان الآخرة " وفي المغايرة بينهما بهذا القدر وحده نظر لا يخفى .
وذهب بعضهم إلى أنهما مختلفان ، ثم اختلف هؤلاء أيضا :
فمنهم من قال : الرحمان أبلغ ؛ ولذلك لا يطلق على غير البارئ-تعالى- ، واختاره الزمخشري ، وجعله من باب " غضبان " و " سكران " للممتلئ غضبا وسكرا ؛ ولذلك يقال : " رحمان الدنيا والآخرة ، ورحيم الآخرة فقط " .
قال الزمخشري[134] : " فكان القياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما يقال : " شجاع باسل " ولا يقال : " باسل شجاع " .
ثم أجاب : بأنه أردف " الرحمان " الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بـ " الرحيم " ؛ ليكون كالتتمة والرديف ؛ ليتناول [ ما دق منها ][135] ، ولطف .
ومنهم من عكس : فجعل " الرحيم " أبلغ ، ويؤيده رواية من قال : " رحيم الدنيا ، ورحمان الآخرة " ؛ لأنه في الدنيا يرحم المؤمن والكافر ، وفي الآخرة لا يرحم إلا المؤمن .
لكن الصحيح أن " الرحمان " [136] أبلغ ، وأما هذه الرواية فليس فيها دليل ، بل هي دالة على أن " الرحمان " أبلغ ؛ وذلك لأن القيامة فيها الرحمة أكثر بأضعاف ، وأثرها فيها أظهر على ما يروى : " أنه خبأ لعباده تسعا وتسعين رحمة ليوم القيامة " .
والظاهر أن جهة المبالغة فيهما مختلفة ؛ فمبالغة " فعلان " من حيث : الامتلاء والغلبة ، ومبالغة " فعيل " من حيث : التكرار والوقوع بمحال الرحمة .
وقال أبو عبيدة[137] وبن
[ سورة فاتحة الكتاب ]{[0296
وهي مكية في قول الأكثرين ، وهي سبع آيات ، وتسع وعشرون كلمة ، ومائة واثنان وأربعون حرفا .
عن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- : " الحمد لله رب العالمين ، سبع آيات ، إحداهن بسم الله الرحمان الرحيم ، وهي السبع المثاني ، وهي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب " {[0297 .
قال علي بن أبي طالب{[0298 –كرم الله وجهه- : " نزلت فاتحة الكتاب ب " مكة " من [ كنز ] تحت العرش " {[0299 .
وقال مجاهد{[0300 –رضي الله عنه- " فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة " {[0301 .
قال الحسين بن الفضل : " لكل عالم هفوة " وهذه نادرة من مجاهد ؛ لأنه تفرد بها ، والعلماء على خلافه .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم أنها أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني ، [ وسورة الحجر مكية ] بلا خلاف ، ولا يمكن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ب " مكة " بضع عشر سنة بلا فاتحة الكتاب .
قال بعضهم : ويمكن الجمع بين القولين بأنها نزلت مرتين : مرة ب " مكة " ، ومرة ب " المدينة " .
ولها أسماء كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى :
فالأول : " فاتحة الكتاب " سميت بذلك ؛ لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم ، والقراءة في الصلاة . وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .
الثاني : سورة الحمد ؛ لأن أولها لفظ الحمد .
الثالث : " أم القرآن " قيل : لأن أم الشيء أصله ، ويقال لمكة : أم القرى ، لأنها أصل البلاد ، دحيت الأرض من تحتها .
وقال الثعلبي{[0302 سمعت أبا القاسم بن حبيب قال : سمعت أبا بكر القفال قال : سمعت أبا بكر بن دريد{[0303 يقول : " الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر " .
قال قيس بن الخطيم{[0304 : [ الوافر ]
36- نصبنا أمنا حتى ازعرروا وصاروا بعد ألفتهم شلالا
فسميت هذه السورة بأم القرآن ؛ لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة ، كما أن مفزع العسكر إلى الراية . والعرب تسمي الأرض أما ، لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ، ولأنه يقال : أم فلان فلانا إذا قصده .
والرابع : السبع المثاني ، سميت بذلك ؛ قيل : لأنها مثنى نصفها ثناء العبد للرب ، ونصفها عطاء الرب للعبد .
وقيل : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة .
وقيل : لأنها مستثناة من سائر الكتب ، قال عليه الصلاة والسلام : " والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان{[0305 مثل هذه السورة ، فإنها السبع المثاني ، والقرآن العظيم " .
وقيل : لأنها سبع آيات ، كل آية تعدل قراءتها بسبع من القرآن فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله -تعالى- ثواب من قرأ كل القرآن .
وقيل : لأنها نزلت مرتين : مرة ب " مكة " ومرة ب " المدينة "
وقيل : لأن آياتها سبع ، وأبواب النيران سبعة ، فمن قرأها غلقت عنه [ أبواب النيران السبعة ] .
والدليل عليه ما روي أن جبريل –عليه الصلاة والسلام- قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم- : " يا محمد ، كنت أخشى العذاب على أمتك ، فلما نزلت الفاتحة أمنت ، قال : لم يا جبريل ؟ قال : لأن الله -تعالى- قال : { وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 43 ، 44 ] ، وآياتها سبع ، فمن قرأها صارت كل آية طبقا على كل باب من أبواب جهنم ، فتمر أمتك عليها سالمين " .
وقيل : لأنها إذا قرئت في الصلاة تثنى بسورة أخرى .
وقيل : سميت مثاني ؛ لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له .
الخامس : " الوافية : كان سفيان بن عيينة{[0306-رضي الله عنه- يسميها بهذا الاسم .
وقال الثعلبي : وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرئ نصفها في ركعة ، والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز ؟ وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة .
السادس : " الوافية " سميت بذلك ؛ قيل : لأن المقصود من كل القرآن الكريم تقدير أمور أربعة : الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله -تعالى- فقوله : { الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم } [ الفاتحة : 2-3 ] يدل على الإلهيات .
وقوله : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] يدل على المعاد .
وقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة :5 ] يدل على نفي الجبر ، والقدرة على إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره .
وقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] إلى آخرها يدل -أيضا-على إثبات قضاء الله -تعالى- وقدره .
وعلى النبوات كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
السابع : " الكافية " لأنها تكفي عن غيرها ، وغيرها لا يكفي عنها ، روى محمود بن الربيع{[0307 ، عن عبادة بن الصامت{[0308-رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم : " أم القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضا عنها " {[0309 .
الثامن : " الأساس " قيل : لأنها أول سورة من القرآن ، فهي كالأساس .
وقيل : إن أشرف العبادات بعد الإيمان هي الصلاة ، وهذه السورة مشتملة على كل ما لابد منه في الإيمان ، والصلاة لا تتم إلا بها .
التاسع : " الشفاء " عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم : " فاتحة الكتاب شفاء من كل سم " {[0310 .
ومر بعض الصحابة –رضي الله عنهم- برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه ، فبرئ ، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( هي أم القرآن ، وهي شفاء من كل داء ){[0311 .
العاشر : " الصلاة قال عليه الصلاة والسلام : يقول الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) ، والمراد هذه السورة .
وقيل : لها أسماء غير ذلك .
قيل : اسمها " السؤال " .
وقيل : -أيضا- : اسمها " الشكر " .
وقيل : اسمها -أيضا- " الدعاء " .
وقيل : " الرقية " لحديث الملدوغ{[0312 .
فصل في فضائلها
عن أبي سعيد الخدري –رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- أنه قال : " فاتحة الكتاب شفاء من السم " .
وعن حذيفة بن اليمان{[0313 –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب : " الحمد لله رب العالمين " [ الفاتحة :2 ] فيسمعه{[0314 الله-تعالى- فيرفع عنهم بسببه العذاب أربع سنين " {[0315 .
وعن الحسن{[0316-رضي الله عنه- قال : " أنزل الله-تعالى- مائة وأربعة كتب : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن ، ثم أودع علوم القرآن في المفصل ، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة ، فمن علم تفسير الفاتحة ، كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ، ومن قرآها ، فكأنما قرأ التوراة والإنجيل ، والزبور ، والفرقان " {[0317 .
وعن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- قال : مر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- على أبي بن كعب{[0318 -رضي الله عنه- وهو قائم يصلي فصاح به فقال له : تعالى يا أبي ، فعجّل أبي في صلاته ، ثم جاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- فقال : " ما منعك يا أبي أن تجيبني ، إذ دعوتك ؟ أليس [ الله تعالى يقول ]{[0319 : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } [ الأنفال : 24 ] قال أبي –رضي الله عنه- لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك ، وإن كنت مصليا ، قال : " أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ، وفي الإنجيل ، وفي الزبور ، ولا في الفرقان مثلها " ؟ فقال أبي –رضي الله عنه- : نعم يا رسول الله ، قال : " لا تخرج من باب المسجد حتى تتعلمها –والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلما بلغ الباب ليخرج ، قال أبي : السورة يا رسول الله ، فوقف فقال : " نعم كيف تقرأ في صلاتك " ؟ فقال أبي : [ إني أقرأ ]{[0320 أم القرآن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- : " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها ، إنها السبع المثاني التي آتاني الله عز وجل " {[0321 .
" القول في النزول "
ذكروا في كيفية نزول هذه السورة أقوالا :
أحدها : أنها مكية ، روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه- أنه قال : " نزلت فاتحة الكتاب ب " مكة " من كنز تحت العرش " ثم قال الثعلبي : وعليه أكثر العلماء –رحمهم الله تعالى- وروى أيضا بإسناده عن عمرو بن شرحبيل{[0322-رضي الله عنه- أنه قال : أول ما نزل من القرآن : { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة :2 ] ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- أسر إلى خديجة- رضي الله عنها- فقال : " لقد خشيت أن يكون خالطني شيء " فقالت : وما ذاك ؟ قال : إنني إذا خلوت سمعت النداء { اقرأ ] [ العلق :1 ] ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل{[0323 ، وسأله عن تلك الواقعة ، فقال له ورقة : إذا أتاك النداء ، فاثبت له ، فأتاه جبريل-عليه الصلاة والسلام- فقال له : قل : { بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1-2 ] .
وبإسناده عن أبي صالح{[0324 ، عن ابن عباس-رضي الله تعالى عنهما- قال : قام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- ب " مكة " فقال : " بسم الله الرحمان الرحيم " ، فقالت قريش : رضّ الله فاك{[0325 .
القول الثاني : أنها نزلت ب " المدينة " ، روى الثعلبي بإسناده ، عن مجاهد أنه قال : " فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة " {[0326 .
قال الحسين بن الفضل : لكل عالم هفوة ، وهذه هفوة مجاهد ؛ لأن العلماء-رحمهم الله تعالى- على خلافه .
ويدل عليه وجوه :
الأول : أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ، ومنها قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] ، وهي فاتحة الكتاب ، وهذا يدل على أنه-تعالى- آتاه هذه السورة فيما تقدم .
وهذا ليس فيه دليل ، لأن النبي –عليه الصلاة والسلام- قال : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد . . . ){[0327 الحديث ، فيكون هذا الإتيان بالنسبة إلى اللوح المحفوظ ، فإن منع في البعض فلا يمنع{[0328 في الشفاعة .
الثاني : أنه يبعد أن يقال : إنه أقام ب " مكة " بضع سنين بلا فاتحة الكتاب .
الثالث : قال بعض العلماء : هذه السورة نزلت ب " مكة " مرة ، وب " المدينة " مرة أخرى ، فهي مكية مدنية ، ولهذا السبب سمّاها الله-تعالى- بالسبع المثاني ؛ لأنه ثنى إنزالها ، وإنما كان كذلك ؛ مبالغة في تشريفها ، وأجمعت الأمة على أن الفاتحة سبع آيات .
وروي شاذا عن الحسين الجعفي{[0329 أنها ست آيات ، وأجمعت الأمة-أيضا- على أنها من القرآن .
ونقل القرطبي{[0330 : أن الفاتحة مثبتة في مصحف ابن مسعود{[0331 –رضي الله تعالى عنه- وأن المعوذتين ليستا من القرآن عنده ، وسيأتي الكلام على ذلك آخر الكلام على الفاتحة إن شاء الله تعالى ."