البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة

ابن عجيبة القرن الثالث عشر الهجري

صفحة 1

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ٤

و{ مَلِك } نِعت لما قبله ، قراءةُ الجماعة بغير ألف من ( المُلك ) بالضم ، وقرأ عاصم[67] والكسائي[68] بالألف ، من ( المِلك ) بالكسر ، والتقدير على هذا : مالك مجيء يوم الدين ، أو مالك الأمر يوم الدين . وقراءةُ الجماعة أرجح[69] ، لثلاثة أوجه : الأول : أن الملك أعظم من مالك ، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس ، والثاني : قوله : { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } [ الأنعَام : 73 ] ، والثالث : أنها لا تقتضي حذفاً ، والحذف خلاف الأصل[70] .

و{ يوم الدين } ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع ، وأُجري الظرف مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية ، أي : الملك في يوم الدين ، أو ملك الأمر يوم الدين ، فيكون فيه حذف . وقد رُويت القراءتان - أي : القصر والمد - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقد قرئ { ملك } بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها . فإن قيل : ملك ومالك نكرة ؛ لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص ، وكيف يُنعت به { الرحمان الرحيم } وهما معرفتان ؟ قلت : إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ؛ لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ ، وأما هذا فهو مستمر دائماً ، فإضافته محضة . قاله ابن جُزَيّ .

ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد ، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال : { ملك يوم الدين } أي : المتصرف في عباده كيف شاء ، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى ، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار .

وإنما خصّ يوم الدين - وهو يوم الجزاء - بالملكية ؛ لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق ، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده[71] ، حتى يراه المؤمنون عياناً ، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين ، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم . ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام ، قال تعالى : { لِّمَنِ الْمَلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْقَهَّارِ } [ غَافر : 16 ] .

{ الإشارة }[0] لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت ، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، حمد نفسه بنفسه ، ومجَّد نفسه بنفسه ، ووحَّد نفسه بنفسه ، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ ، حيث قال[1] :

ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ *** إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ

توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ *** عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ

توحيدُه إياه توحيدُه *** ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ

فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه : { الحمد لله رب العالمين } ، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود ، وأنا القائم بكل موجود ، أنا رب الأرباب ، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب ، أنا رب العالمين ، أنا قيوم السموات والأرَضين ، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي ، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي ، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي ، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي .

قال رجل بين يدي الجنيد[2] : { الحمد لله } ولم يقل : { رب العالمين } ، فقال له الجنيد : كَمِّلْهَا يا أخي ، فقال الرجل : وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه ؟ ! فقال الجنيد : قُلها يا أخي ؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم .

يقول سبحانه : يا مَن هو مني قريب ، تَدبر سِرِّي فإنه غريب ، أنا المحبُ ، وأنا الحبيب ، وأنا القريب ، وأنا المجيب ، أنا الرحيم الرحمان ، وأنا الملك الديّان ، أنا الرحمان بنعمة الإيجاد ، والرحيمُ بتوالي الإمداد . منِّي كان الإيجاد ، وعليَّ دوام الإمداد ، وأنا رب العباد ، أنا الملك الديَّان ، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان ، أنا الملك على الإطلاق ، لولا جهالة أهل العناد والشقاق ، الأمر لنا على الدوام ، لمن فهم عنا من الأنام " .

قال في الرسائل الكبرى[3] : لا عبرة بظواهر الأشياء ، وإنما العبرة بالسر المكنون ، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه ، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور ، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور ، وانقشعت الظلمات بإشراق النور ، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين ، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين ، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين ، حين يكون الملك لله رب العالمين ، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الحَجّ : 56 ] ، وقوله : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفِطار : 19 ] ؟ ! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة . هـ .