تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 415

الٓمٓ١

سورة السجدة[1]

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه من الحروف المقطعة المبنية على الوقف ، على خلاف آيات القرآن التي بنيت كما قلنا على الوصل من أول القرآن إلى آخره ، بل على وصل آخره بأوله ؛ لذلك ينبغي أن تقرأ القرآن على الوصل ، ما دام نفسك يساعدك ، ولا تقف إلا إذا انقطع النفس ، فتقف وتسكن الحرف الذي وقفت عليه .

وقد قال علماء القراءات : وليس في القرآن من وقف وجب ، لأنه بني على الوصل ، فلا تقف إلا إذا ضاق نفسك ، لذلك جعلوا في القرآن مواضع للوقف ، وترسم في المصحف ( صلى ، قلى ، ج ) ، لكن الأصل الوصل .

وقلنا : إن أوضح مثال على الوصل في القرآن أن كلمة الناس في آخر سورة الناس ، وهي آخر القرآن لم تأت ساكنة ، إنما متحركة بالكسر ( الناس ) ، لأن الله تعالى قدر حلك في الناس فجعلك ترحل إلى بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة ، فلا تقطع الصلة بين آخر القرآن وأوله ، وسمينا قارئ القرآن لذلك " الحال المرتحل " .

وهنا تأتي { ألم ( 1 ) } [ السجدة ] بعد مفاتح الغيب الخمسة التي سبقت في آخر سورة لقمان ، وكأنها ملحقة بها ، فهي سر استأثر الله تعالى بعلمه ، ونحن في تفسيرنا لها نحوم حولها ، لذلك كل من فسّر الحروف المقطعة في بدايات السور لا بدّ أن يقول بعدها : والله أعلم بمراده ؛ لأن تفسيراتنا كلها اجتهادات تحوم حول المعنى المراد ، لذلك نحن لا نقول هذه الكلمة في كل آيات القرآن ، إنما في هذه الآيات والحروف بالذات .

وكيف بنا حين يجمعنا الله تعالى إن شاء الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، كيف بنا حين نسمع هذا القرآن مباشرة من الله عز وجل ؟ لا شكّ أننا سنسمع كلاما كثيرا غير الذي سمعناه ، ومعاني كثيرة غير التي توصلنا إليها في اجتهاداتنا ، وعندها سنعرف مرادات الله تعالى في هذه الحروف ، وسنعرف كم قصرت عقولنا عن فهمها ، وكم كنا أغبياء في فهمنا لمرادات ربنا .

تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

وقوله تعالى { آلم ( 1 ) } [ السجدة ] عادة يأتي بعد هذه الحروف المقطعة أمر يخصّ الكتاب العزيز .

وهنا يقول سبحانه :

{ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 ) } .

مادة ( نزل ) وردت في القرآن بلفظ : نزل ، ونزّل ، وأنزل . أنزل تدل على التعدية ، يعني : أن الله تعالى عدّى القرآن من اللواح المحفوظ ، إلى أن يباشر مهمته في السماء الدنيا ، وهذا الإنزال من الله تعالى .

أما نزّل فالتنزيل مهمة الملائكة ، لذلك يقول تعالى في الإنزال : { إنا أنزلناه في ليلة القدر ( 1 ) } [ القدر ] أي : من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم تتنزل به الملائكة منجّما حسب الأحداث ، وفي ذلك يقول تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ( 193 ) } [ الشعراء ] .

ويقول سبحانه : { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ . . ( 105 ) } الإسراء فقد كان محفوظا عندنا في اللوح المحفوظ { لا يمسه إلا المطهرون ( 79 ) } [ الواقعة ] ثم نزل به الروح الأمين جبريل .

وما دام { نَزَلَ بِهِ . . ( 193 ) } [ الشعراء ] فهذا يعني أن القرآن نزل معه ، فقوله : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ( 193 ) } [ الشعراء ] تساوى تماما { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ . . ( 105 ) } الإسراء ، فالنزول ينسب مرة إلى القرآن ، ومرّة إلى الروح الأمين .

ومادة نزل وما يشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه ، كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع ، وما دمت تتلقى من جهة أعلى منك ، فإيّاك أن تضل بك الفكر لناحية أخرى .

لذلك يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر التكليف : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . . ( 151 ) } [ الأنعام ] فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعال . أي : أقبل ، لكنها تحمل مع هذا المعنى معنى العلو : أقبل دانيا إلى متعال ، تعال من أوضاعك الأرضية إلى علو ربك في الملأ الأعلى .

تعال يعني : لا تأخذ من نفسك ولا من مساو لك ، إنما ارتفع وخذ من الأعلى ، ارتفع عن مستوى الأرض وعقولهم وأفكارهم ، وخذ من الذي شرع لك ، لأنه لا بدّ أن تكون عنده أمور ومواصفات آمن لك وأسلم ، لأن علمه أوسع ، فلا يشرع لك اليوم ما ينقضه غدا .

ثم إن شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها ، وهذه المواصفات لا تكون إلا في الحق تبارك وتعالى وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها ، فلا يشرّع لك إلا ما يصلحك ، ثم هو سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع ، كما نرى في تشريعات البشر للبشر .

وقد رأينا الرأسماليين حينما شرعوا قانونا جاء يخدمهم ، وليكونوا هم أول المنتفعين به ، لذلك سرعان ما تهاوى ، لأن شرط المشرع الحق ألاّ ينتفع هو بما يشرّع ، وعليه فلا مشرّع حق إلا الله .

لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بالله من الكافرين أو المشركين بعد أن تعضهم الأحداث ، وتخفق قوانينهم في حلّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين الإسلام .

ولما سئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 33 ) } [ التوبة ] وفي موضع آخر { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ( 8 ) } [ الصف ] .

قالوا لنا : هذا يعني أن الإسلام ظاهر على الأديان منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ، فما بالنا نرى الآن أكثر أهل الأرض من غير المسلمين ؟

فقلت في الرد عليهم : والله لو فهمتم أسرار اللغة ، وتأملتم هذه الآية لوجدتم أن الردّ فيها ، فواحدة تقول { ولو كره الكافرون ( 8 ) } [ الصف ] ، والأخرى تقول { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 33 ) } [ التوبة ] .

إذن : فالكفر والشرك موجودان مع وجود الإسلام ، وليس معنى الظهور هنا أن يطمس هؤلاء ، أو أن يقضى عليهم قضاء مبرما ، إنما يظهر عليهم بحيث يضطرون إليه ، ويلجئون إلى أحكامه ، رغم عدم إيمانهم به ، وهذا أبلغ في الظهور ، أن تأخذ بما في القرآن وأنت غير مؤمن به ، لأنك لا تجد حلا لقضاياك إلا فيه .

وأوضح مثال على ذلك أنهم هاجموا شرع الله في مسألة الطلاق ، وفي مسألة تعدد الزوجات ، واتهموا الإسلام بالوحشية . . إلخ ، ثم تضطرهم أقضية الحياة ومشاكلها أن يشرعوا الطلاق ، وأن يأخذوا به على مرأى ومسمع من الفاتيكان ، فماذا جرى ؟ فنقول لهم : هل أسلمتم وآمنتم ؟ لا ، إنما لجأنا إليه ، لأن فيه الحل لهذه المشاكل التي أحاطت بنا .

فهذه إذن شهادة العدو لدين الله ، وهذا هو أعظم الإظهار للإسلام على هذه الأديان ؛ لأنهم لو أسلموا لقالوا عنهم : أخذوا بهذا الشرع لأنهم أسلموا ، إنما ها هم يأخذون به وهم به كافرون مشركون .

ومعنى { لَا رَيْبَ فِيهِ . . ( 2 ) } [ السجدة ] أي : لا شكّ فيه . وقلنا : إن النسب في القضايا ، أي : نسبة شيء لشيء إما مجزوم بها أو غير مجزوم بها ، فلو قلنا : الأرض كروية هذه قضية جزم بها الآن ، ونستطيع التدليل على صحتها دليلا حسيا ، فهذه قضية واقعة ومجزوم بصحتها ، وعليها دليل من الكون .

فإن كانت القضية غير مجزوم بها ، فهي بين ثلاث حالات : إما فيها شك ، أو ظن ، أو هم : الشك أن تتساوى الكفتان : الإثبات والنفي ، والظن أن تغلب جانب الإثبات فلا تجزم به إنما ترجحه ، فإن غلّبت الأخرى وجعلتها هي الراجحة ، فهذا توهم .

وهنا قال سبحانه { لَا رَيْبَ فِيهِ . . ( 2 ) } [ السجدة ] لا شكّ فيه ، فنفى الشكّ ، وهو تساوي النفي والإثبات ، وما دام قد نفى التساوي ، فهذا يعني أنه أراد أن يثبت الأعلى . أي : أنه حق لا يرقى إليه الشك .

وجملة { لَا رَيْبَ فِيهِ . . ( 2 ) } [ السجدة ] جملة اعتراضية بين { الْكِتَابِ . . ( 2 ) } [ السجدة ] ، وبين { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 ) } [ السجدة ] وما دام أنه { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } فلا بدّ أنه حق لا ريب فيه .

أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ٣

ثم يقلو الحق سبحانه :

{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( 3 ) } .

عجيب أن يقابل العرب كلام الله بهذا الاتهام ، وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان ، وقد بلغوا في هذا شأنا عظيما ، حتى جعلوا للكلام معارض وأسواقا ، كما نقيم الآن المعارض لمنتجاتنا ، ولا يعرض في المعارض هذه إلا السلع الجيدة محلّ الفخر ، فقبل الإسلام كان في عكاظ وذي المجاز مضمار للقول ، وللأداء البياني بين الأدباء والشعراء .

فعجيب منهم ألا يميزوا كلام الله عن كلام البشر ، خاصة وقد تحداهم وتحدى فصاحتهم وبلاغتهم أن تأتي بآية واحدة من مثله ، ومعلوم أن التحدي يكون للقوي لا للضعيف ، فتحدّى القرآن للعرب يحسب لهم ، وهو اعتراف بمكانتهم ومكانة لغتهم ، فهو _ إذن_شهادة لهم ، ويكفيهم أن الله تعالى أدخلهم معه في مجال التحدي .

ولما عجزوا عن الإتيان بمثله راحوا يتهمونه ويتهمون رسول الله ، فمرة يقولون : شاعر ، ومرة : ساحر ، وأخرى يقولون : مجنون ، ومرة يقولون : بل يعلمه ذلك أحد الأعاجم . . إلخ ، وهذا كله إفلاس في الحجة ، فهم يريدون أن يكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما القرآن في حدّ ذاته ، فلا يخفى عليهم أنه كلام الله ، وأن البشر لا يقولون مثل هذا الكلام ، بدليل أن الوليد بن المغيرة لما سمعه قال : " والله ، إن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وأنه يعلو ولا يعلى عليه " [5564] .

لذلك لما لم يجدوا في القرآن مطعنا اعترفوا بأنه من عند الله ، لكن كان اعتراضهم أن ينزل على هذا الرجل بالذات : { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ[5565] مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( 31 ) } [ الزخرف ] فكانوا ينتظرون أن ينزل القرآن على عظيم من عظائمهم أو ملك من الملوك ، لكن أن ينزل على محمد هذا اليتيم الفقير ، فهذا لا يرضيهم ، وقد ردّ القرآن عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَت رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . . ( 32 ) }[ الزخرف ] .

يعني : إذا كنا قد قسمنا بينهم أمور الدنيا وما يتفاضلون به من عرضها ، فهل نترك لهم أمور الآخرة يقسمونها على هواهم وأمزجتهم ؟ والرسالة رحمة من الله يختص بها من يشاء من عباده { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . . ( 124 ) } [ الأنعام ] .

وهذا يعني أنهم انتهوا إلى أن القرآن معجز ، وأنه من عند الله لا غبار عليه ، والذي قرأه منهم ، وأيقن أنه حق قال : { اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 32 ) } [ الأنفال ] .

وهذا الكلام لا يقول به عاقل ، وقد دلّ على غبائهم وحمقهم ، وكان الأولى بهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه .

وقد ردّ القرآن على كل افتراءاتهم على رسول الله ، وفنّدها جميعا ، وأظهر بطلانها ، لما قالوا عن رسول الله إنه مجنون ردّ الله عليهم : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 ) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( 2 ) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( 3 ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 ) } [ القلم ] .

والمجنون لا يكون أبدا على خلق عظيم ، لأنه محكوم بالغريزة لا يختار بين البدائل والتصرفات كالحيوان ، ولا ينشأ عن ذلك خلق كريم .

أما الإنسان السوي فإنه يختار بين البدائل المتعددة ، فلو اعتدى عليه إنسان فقد يردّ عليه . بمثل هذا الاعتداء ، وقد يفكر في المثلية ، وأن اعتداءه قد يزيد فيميل إلى التسامح ، واحد يكظم غيظه ، وآخر يزيل كل أثر للغيظ ، ويبغي الأجر على ذلك من الله ، عملا بقوله تعالى[5566] : { أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ . . ( 22 ) } [ النور ] وكأن الله يشجعنا على عمل الخير .

لذلك لما سئل الحسن البصري : كيف يطلب الله منا أن نحسن إلى من أساء إلينا ؟ قال : هذه مراق في مجال الفضائل ، وقد أباح الله لك أن تردّ الإساءة بمثلها { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا . . ( 40 ) }[ الشورى ] لكن يترك الباب مفتوحا أمام أريحية النفس المؤمنة { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ . . ( 40 ) } [ الشورى ] .

ثم إذا حسبنا هذه المسألة بمقاييس العقل ، فإن الخلق كلهم عيال الله ، وهم عنده سبحانه سواء ، فماذا لو اعتدى أحد عيالك على الآخر ؟ لا شكّ أنك ستكون في جانب المظلوم ، فتأخذه في حضنك وترعاه وتعطف عليه ، وكذلك الحق تبارك وتعالى يكون في جانب عبده إذا ظلم . وقد قال أحدهم : ألا أحسن إلى من جعل الله في جانبي ؟

من هنا يقولون : أنت لا تكسب كثيرا من الأخيار ، إنما كل كسب لك يأتي من الأشرار حين يسيئون إليك وتحسن إليهم ، لذلك يقولون : فلان هذا رجل طيب ، لكن من يمشي معه لا يستفيد منه حسنة أبدا ، لماذا ؟ يقولون : لأنه خادم للجميع ، وجعل خدّه ( مداسا ) لمن معه ، فلا يجعل أحدا ( يستفتح ) منه بحسنة .

وروى عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبسم في مجلس مع أصحابه ، فقالوا : ما يضحكك يا رسول الله ؟ فقال : " رأيت ربي ، وقد أجلس بين يديه خصمين ، فقال أحدهما : يا رب إن هذا ظلمني فخذ لي حقي منه ، فقال : كيف آخذ لك حقك منه ؟ قال : أعطني من حسناته بقدر ما أساء إليّ ، فقال : ليست له حسنات ، فقال : فخذ من سيئاتي واطرح عليه ، فقال : أو يرضيك ألاّ تكون لك سيئة ؟ قال : إذن ، يا رب كيف أقضي حقي منه ؟ قال : انظر يمينك ، فنظر الرجل يمينه ، فوجد قصورا وبساتين وجنانا ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فقال : لمن هذه يا رب ؟ قال : لمن يدفع ثمنها ، فقال : وما ثمنها يا رب ؟ قال : أن تأخذ بيد أخيك إلى الجنة ، فعجبت من ربّ يصلح بين عباده " [5567] .

هذا عن قولهم عن رسول الله : مجنون ، أما قولهم : ساحر ، فالردّ عليها ميسور ، فإذا كان محمد ساحرا ، سحر من آمن به ، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضا ؟ فكونكم سالمين من السحر دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ليس ساحرا ، بل هذا كذب وافتراء على رسول الله .

أما قولهم : شاعر ، فهذا عجيب منهم ، وهم أمة كلام وبلاغة ، وهم أكثر خلق الله تمييزا للشعر من النثر ، وخير من يفرق بين الأساليب وطرق الأداء ، وقد تولى الله تعالى الردّ عليهم ، فقال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ . . ( 69 ) } [ يس ] .

وفي سورة الحاقة ، يقول سبحانه : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) } [ الحاقة ] .

فلما خابت كل هذه الحيل ، وكذبت كل هذه الافتراءات قالوا : بل له شيطان يعلمه ، وكانوا يقولون ذلك للشاعر البليغ الذي لا يشقّ له غبار في الفصاحة وحسن الأداء ، حتى جعلوا لهؤلاء الجن مكانا خاصا بهم ، فقالوا ( وادي عبقر ) ، وهو مسكن هؤلاء الجن الذين يلهمون البشر ويعلمونهم .

والشعر كلام موزون مقفّى ، وله بحور معروفة ، فهل القرآن على هذه الشاكلة ؟ لا ، إنما هو افتراء على رسول الله ، كافترائهم عليه هنا :

{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ . . ( 3 ) } [ السجدة ] .

فقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ . . ( 3 ) } [ السجدة ] أم تعني أن لها مقابلا ، يعني : أيقولون كذا ؟ أم يقولون : افتراه ، فماذا هذا المقابل ؟ المقابل { تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 ) } [ السجدة ] فالمعنى : أيصدقون بأن هذا الكتاب من عند رب العالمين ، وأنه لا ريب فيه ؟ أم يقولون افتراه محمد ، فأم هنا جاءت لتنقض ما يفهم من الكلام السابق عليها .

وقوله : { بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ . . ( 3 ) } [ السجدة ] نعرف أن ( بل ) تأتي للاستدراك ، لكنها هنا ليست للاستدراك ، إنما لإبطال قولهم { افْتَرَاهُ . . ( 3 ) } [ السجدة ] كما لو قلت : زيد ليس عندي بل عمرو ، فأفادت الإضراب عما قبلها ، وإثبات الحكم لما بعدها ، وهم يقولون افتراه والله يقول : { بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ . . ( 3 ) } [ السجدة ] فكلامهم واتهامهم باطل ، والقرآن هو الحق من عند الله .

وقلنا : إن { الْحَقُّ . . ( 3 ) } [ السجدة ] هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير ، لذلك فالحقائق ثابتة لا تتغير أبدا ، كيف ؟ هب أن حادثة وقعت نتج عنها مدّع ومدّعى عليه وشهود ، واجتمعوا جميعا أمام القاضي ، وقد يحدث أن يغيّر أحدهم أقواله ، أو يشهد الشهود شهادة زور .

لكن خبرة القاضي ودربته تكشف الحقائق وتظهر كذبهم حين يضرب أقوال بعضهم ببعض ، ويسألهم ويحاورهم إلى أن يصل إلى الحقيقة ، ذلك لأن الواقع شيء واحد ، ولو أنهم يصفون واقعا لاتفقوا فيه ، ولباقة القاضي هي التي تظهر الباطل المتناقض وتبطله وتحق وتغلب الحق الذي لا يمكن أن يتناقض .

كالقاضي الذي اجتمع أمامه خصمان ، يدّعى أحدهما على الآخر أنه أخذ منه مالا ولم يردّه إليه ، فقال المدّعى عليه : بل رددته إليه في مكان كذا وكذا ، فأنكر المدّعى ، فقال القاضي للمدّعى عليه : اذهب إلى هذا المكان ، فلعل هذا المال وقع منك هناك ، فذهب الرجل وأبطأ بعض الوقت ، فقال القاضي للمدعى : لقد أبطأ صاحبك ، فقال : أبطأ ، لأن المكان بعيد ، فوقع في الحقيقة التي كان ينكرها .

ثم يقول سبحانه : { لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ . . ( 3 ) } [ السجدة ] ومعلوم أن سيدنا رسول الله جاء بشيرا ونذيرا ، لكن خصّ هنا النذير ؛ لأنه جاء ليصلح معتقدات فاسدة ، وإصلاح الفاسد لا بدّ أن يسبق ما يبشر به ، ولم يأت ذكر البشارة هنا ؛ لأنهم ما سمعوا للنذارة ، وما استفادوا بها .

لكن قوله تعالى : { مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ . . ( 3 ) } [ السجدة ] تصطدم لفظيا بقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 ) }[ فاطر ] وقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( 15 ) } [ الإسراء ] وليس بين هذه الآيات تناقض ، لأن المعنى : ما أتاهم من نذير قريب ، ولا مانع من وجود نذير بعيد ، كما قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ . . ( 19 ) } [ المائدة ] .

وإلا ، فمن أين عرفوا أن الله تعالى خالق السموات والأرض ، كما حكى القرآن عنهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ . . ( 25 ) } [ لقمان ] فهذا أثر من آثار الرسل السابقين ، كما كان فيهم أناس متبعون لمنهج الدين الحق ، والذين سماهم الله الحنفاء ، وهم الذين لم يسجدوا لصنم ، ولم ينحرفوا عن الفطرة السوية .

وقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( 3 ) } [ السجدة ] لعل تفيد الرجاء ، والرجاء من الله كأنه واقع متحقق ، لأن الله تعالى يحب لعباده جميعا أن يؤمنوا به ، ليأخذوا جميل عطائه في الآخرة ، كما أخذوا عطاءه في الدنيا ، وهم جميعا خلقه وصنعته ، وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي : " . . . دعوني وما خلقت ، عن تابوا إليّ فأن حبيبهم ، وإن لم يتوبوا إليّ فأنا طبيبهم . . " [5568] .

ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ٤

ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون :

{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ( 4 ) } .

يخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض وما بينهما لخدمة الإنسان ، وهو المكرّم الأول في هذا الكون ، وجميع الأجناس في خدمته حيوانا ونباتا وجمادا ، فهو سيد في هذا الكون ، لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله ؟ لا إنما أخذها بفضل الله عليه ، فكان عليه أولا أن يشكر من أعطاه هذه السيادة على غيره .

وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور ، فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت ، في حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره ، وهي خادمة له ، فكان لزاما عليه أن يتأمل هذه المسألة : كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم ؟

إذن : لا بد أن لي عمرا آخر أطول من هذا ، عمرا يناسب تكريم الله لي ، ويناسب سيادتي في هذا الكون ، إنها الآخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا ، لا أعيش مع الأسباب ، إنما مع المسبب سبحانه ، فلا أحتاج إلى الأسباب التي خدمتني في الدنيا ، إنما أجد كل ما أشتهيه بين يديّ دون تعب ودون سعي ، وهذه ارتقاءات لا تكون إلا لمن يطيع المرقى المعطي .

لذلك ، الحق سبحانه وتعالى يلفتنا ويقول : صحيح أنت أيها الإنسان سيد هذا الكون وكل مخلوقاتي في خدمتك ، لكن خلقها أكبر من خلقك :

{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ . . ( 57 ) } [ غافر ] .

لماذا ؟ لأن للناس أعمارا محددة ، مهما طالت لا بدّ أن تنتهي إلى أجل ، ثم إن هذه الأعمار لا تسلم لهم ، إنما تنتابها الأغيار ، فالغنيّ قد يفتقر ، والصحيح قد يمرض ، والقوي قد يضعف ، أمّا الشمس والقمر والنجوم والكون كله فلا يتعرض لهذه الأغيار ، فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم أصابتها علة وانتهت كانتهاء الإنسان ، ثم أنت لست مثلها في العظة المستوعبة ، لأن قصارى ما فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك ، أمّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله .

فإذا أقرّ حتى الكفار بأن الله تعالى هو خالق السماء والأرض إذن : فهي دليل أول على وجود الحق تبارك وتعالى .

ومسألة خلق السماوات والأرض من الأشياء التي استأثر الله بعلمها وليس لأحد أن يقول : كيف خلقت ولا حتى كيف خلق الإنسان ، لأن مسائل الخلق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها ، لذلك يقول تعالى : { مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( 51 ) } [ الكهف ] .

فسماهم الله مضلين ، والمضلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل ، ويصرفك عن الحق ، وقد رأينا فعلا هؤلاء المضلين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خلق السموات والأرض .

إذن : خلق السماوات والأرض مسألة لا تؤخذ إلا ممن خلق ، لذلك قصّ لنا ربنا تبارك وتعالى قصة خلق آدم ، وقصّ لنا قصة خلق السماوات والأرض ، لكن الخلق حدث وفعل ، والفعل يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله ، والإشكال هنا في قوله تعالى { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] ، فهل الحدث بالنسبة لله تعالى يحتاج إلى زمن ؟

الفعل من الإنسان يحتاج إلى علاج يستغرق زمنا ، حيث نوزع جزئيات الفعل على جزئيات الزمن ، أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بلا علاج للأمور ، إنما يقول : للشيء كن فيكون ، أما قوله تعالى { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] فقد أوضحناها بمثال ، ولله المثل الأعلى .

قلنا : أنت حين تصنع الزبادى مثلا تأتي بالحليب ، ثم تضع عليه خميرة زبادى سبق إعداده ، ثم تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحول إلى زبادى ، فهل تقول : إن صناعة الزبادى استغرقت مني سبعا أو ثماني ساعات ؟ لا ، إنها استغرقت مجرد إعداد المواد اللازمة ، ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض ، إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة .

كذلك الحق تبارك وتعالى خلق السموات والأرض بأمره ( كن ) ، فتفاعلت هذه الأشياء مكونة السماوات والأرض .

ومسألة خلق السموات والأرض في ستة أيام عولجت في سبع سور من القرآن ، أربع منها تكلمن عن خلق السماوات والأرض ولم تتعرض لما بينهما ، وثلاث تعرضت لخلق السماوات والأرض وما بينهما ، ففي الأعراف مثلا ، وفي يونس ، وهود ، والحديد[5569] . تعرضت الآيات لخلق السماوات والأرض فقط .

وفي الفرقان والسجدة وق[5570] . فتكلمت عن البينية ، فكأن السماوات والأرض ظرف خلق أولا ، ثم خلق المظروف في الظرف ، وهذا هو الترتيب المنطقي أن تعد الظرف أولا ، ثم تضع فيه المظروف .

وقوله تعالى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] الله يخاطب بهذه الآيات العرب ، واليوم له مدلول عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر ، فكيف يقول سبحانه { في ستة أيام . . 4 }( السجدة ) ولم تخلق بعد لا الشمس ولا القمر ؟

نقول : المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الآن ، وإلا فاليوم عند الله تعالى يختلف عن يومنا ، ألم يقل سبحانه وتعالى : { وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( 47 ) } [ الحج ] أي : في الدنيا .

وقال عن اليوم في الآخرة : { تَعْرُجُ[5571] الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) }[ المعارج ] فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا ، ولليوم في الآخرة .

والحق سبحانه لم يفصل لنا مسألة الخلق هذه إلا في سورة ( فصلت ) فهي التي فصلت القول في خلق السماوات والأرض ، وهذه من عجائب هذه السورة .

فقال تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 9 ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . . ( 10 ) } [ فصلت ] هذه ستة أيام .

{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( 11 ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ . . 12 ) } [ فصلت ] وهكذا يصبح المجموع ثمانية أيام .

إذن : كيف نوفق بين ستة أيام في الإجمال ، وثمانية أيام في التفصيل ؟ قالوا : الأعداد يحمل مجملها على مفصلها ، لأن المفصّل تستطيع أن تضم بعضه إلى بعض ، أما المجمل فهو النهاية .

وأعد معي قراءة الآيات :

{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 9 ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا . . ( 10 ) } [ فصلت ] وهذا كله من لوازم الأرض { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . . ( 10 ) } [ فصلت ] أي : أن هذه اللوازم تابعة لما قبلها .

فالمعنى : في تتمة أربعة أيام ، فاليومان الأولان داخلان في الأربعة ، كما لو قلت : سرت من القاهرة إلى طنطا في ساعة ، وإلى الأسكندرية في ساعتين ، فالساعة الأولى محسوبة من هاتين الساعتين .

فالحق سبحانه خلق الأرض في يومين ، وخلق ما يلزمها في تتمة الأربعة الأيام ، فالزمن تتمة للزمن ، لأن الحدث يتمم الحدث ، إذن : المحصلة النهائية ستة أيام ، وليس هناك خلاف بين الآيات { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ( 82 ) } [ النساء ] ومن العجيب أن يأتي هذا التفصيل في ( فصلت ) .

وقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . . ( 4 ) } [ السجدة ] الحق تبارك وتعالى يخاطب الخلق بما يقرب الأشياء إلى أذهانهم ، لأن الملوك أو أصحاب الولاية في الأرض لا يستقرون على كراسيهم إلا بعد أن يستتبّ لهم الأمر .

فمعنى { اسْتَوَى . . ( 4 ) } [ السجدة ] صعد وجلس واستقر ، كل هذه المعاني تناسب الآية ، لكن في إطار قول الحق سبحانه وتعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . . ( 11 ) } [ الشورى ] .

فكما أن لله تعالى وجودا ليس كوجودك ، وسمعا ليس كسمعك ، وفعلا ليس كفعلك ، فكذلك له سبحانه استواء ، لكن ليس كاستوائك ، وإذا دخلت حجرة الجلوس مثلا عند شيخ البلد وعند العمدة والمحافظ ورئيس الجمهورية ستجد مستويات متباينة ، كلّ على حسب ما يناسبه ، فإذا كان البشر يتفاوتون في الشيء الواحد ، فهل نسوّي بيننا وبين الخالق عز جل ؟

فالمعنى إذن { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . . ( 4 ) } [ السجدة ] استتب له أمر الخلق ، { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ . . ( 4 ) } [ السجدة ] الولي : من يليك ، ويكون قريبا منك ، وإليه تفزع في الأحداث ، فهو ملجؤك الأول . والشفيع : الذي يشفع لك عند من يملك أمرك ، فالولي هو الذي ينصرك بنفسه ، أمّا الشفيع فهو يتوسط لك عند من ينصرك ، فليس لك وليّ ولا شفيع من دون الله عز وجل .

لذلك يقول سبحانه : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . . 67 ) } [ الإسراء ] فلا أحد ينجيكم ، ولا أحد يسعفكم إلا الله { أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ( 4 ) } [ السجدة ] .

كأن هذه المسألة يجب أن تكون على بالك دائما ، فلا تغفل عن الله ، لأنك ابن أغيار ، والأحداث تتناوبك ، فلا يستقر بك حال ، فأنت بين الغنى والفقر ، والصحة والمرض ، والقوة والضعف .

لذلك تذكّر دائما أنه لا وليّ ولا نصير لك إلا الله ، وإذا استحضرت ذلك دائما اطمأن قلبك ، ولم لا وأنت تستند إلى وليّ وإلى نصير لا يخذلك أبدا ، ولا يتخلى عنك لحظة ، فإذا خالط هذا الشعور قلبك أقبلت على الأحداث بجسارة ، وإذا أقبلت على الحدث بجسارة لم يأخذ الحدث من قوتك شيئا ، لأن الذي يخاف الأحداث يضعف قوته الفاعلة .

فمثلا صاحب العيال الذي يخاف الموت فيتركهم صغارا لا عائل لهم لو راجع نفسه لقال لها : ولم الخوف على العيال من بعدي ، فهل أنا خلقتهم ، أم لهم خالق يرعاهم ويجعل لهم من المجتمع الإيماني آباء متعددين ؟ لو قال لنفسه ذلك ما اهتم لأمرهم ، وصدق الذي قال مادحا : أنت طرت باليتم إلى حدّ الكمال .

وقال آخر :

* قال ذو الآباء ليتى لا أبا لي *

ولم لا ؟ وقد كفل الإسلام للأيتام أن يعيشوا في ظل المجتمع المسلم أفضل مما يعيش من له أب وأم .

إذن : فالإنسان حينما يعلم أن له سندا من ألوهية قادرة وربوبية لا تسلمه يستقبل الحوادث بقوة ، ويقين ، ورضا ، وإيمان بأنه لن يسلم أبدا ما دام له إيمان برب ، وكلمة رب هذه ستأتي على باله قسرا في وقت الشدة ، حين يخذله الناس وتعييه الأسباب ، فلا يجد إلا الله حتى لو كان كافرا لقال في الشدة : يا رب .

وقوله تعالى { مِّن دُونِهِ . . ( 4 ) } [ السجدة ] يعني : لا يوجد غيره ، وإن وجد غير فبتحنين الله للغير عليك ، فالخير أيّا كان فمردّه إلى الله .

يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ٥

ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :

{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( 5 ) } .

في هذه الآية رد على الفلاسفة الذين قالوا بأن الله تعالى قادر وخالق ، لكنه سبحانه زاول سلطانه في ملكه مرة واحدة ، فخلق النواميس ، وخلق القوانين ، ثم تركها تعمل في إدارة هذا الكون ، ونقول : لا بل هو سبحانه { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ . . ( 5 ) } [ السجدة ] أي : أمر الخلق ، وهو سبحانه قيّوم عليه .

وإلا فما معنى { لا تأخذه سنة ولا نوم . . ( 255 ) } [ البقرة ] إن قلنا بصحة ما تقولون ؟ بل هو سبحانه خلق الكون ، ويدبر شئونه على عينه عز وجل ، والدليل على قيوميته تعالى على خلقه أنه خلق الأسباب على رتابة خاصة ، فإذا أراد سبحانه خرق هذه الرتابة بشواذ تخرج عن القوانين المعروفة كما خرق لإبراهيم عليه السلام قانون الإحراق ، وكما خرق لموسى عليه السلام قانون سيولة الماء ، ومسألة خرق القوانين في الكون دليل على قيوميته تعالى ، ودليل على أن أمر الخلق ما يزال في يده سبحانه .

ولو أن المسألة كما يقول الفلاسفة لكان الكون مثل المنبه حين تضبطه ثم تتركه ليعمل هو من تلقاء نفسه ، ولو كان الأمر كذلك لانطفأت النار التي ألقي فيها إبراهيم عليه السلام مثلا .

لذلك لما سئل أحد العارفين عن قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) }[ الرحمن ] ما شأن ربك الآن ، وقد صحّ أن القلم قد جفّ ؟ قال : أمور يبديها ولا يبتديها ، يرفع أقواما ويضع آخرين[5572] .

إذن : مسألة الخلق إبداء لا ابتداء ، فأمور الخلق معدّة جاهزة مسبقا ، تنتظر الأمر من الله لها بالظهور .

وقلنا هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 82 ) }[ يس ] فكلمة { يَقُولَ لَهُ . . ( 82 ) } [ يس ] تدل على أن هذا الشيء موجود بالفعل ينتظر أن يقول الله له : اظهر إلى حيّز الوجود .

فالحق سبحانه { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ . . ( 5 ) } [ السجدة ] ثم تعود إليه سبحانه النتائج { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ . . ( 5 ) } [ السجدة ] فالله سبحانه يرسل إلى الأرض ، ثم يستقبل منها ، لأن المدبرات أمرا من الملائكة لكل منهم عمله واختصاصه ، وهذه المسألة نسميها في عالمنا عملية المتابعة عند البشر ، فرئيس العمل يكلف مجموعة من موظفيه بالعمل ، ثم لا يتركهم إنما يتابعهم ليستقيم العمل ، بل ويحاسبهم كلا بما يستحق .

والملائكة هي التي تعرج بالنتائج إليه سبحانه { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( 5 ) } [ السجدة ] فالعود سيكون للملائكة ، وخطو الملائكة ليس كخطوك ؛ لذلك الذي يعمله البشر في ألف سنة تعمله الملائكة في يوم .

ومثال ذلك ما قرأناه في قصة سليمان عليه السلام حين قال : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( 38 ) } [ النمل ] .

وهذا الطلب من سليمان عليه السلام كان على ملأ من الإنس والجن ، لكن لم يتكلم بشرى ، ولم يتصدّ أحد منهم لهذا العمل ، إنما تصدّى له ، عفريت ، وليس جنيا عاديا ، والعفريت جني ماهر له قدراته الخاصة ، وإلا ففي الجن أيضا من هو ( لبخة ) لا يجيد مثل هذه المهام ، كما في الإنسان تماما .

قال العفريت : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ . . ( 39 ) } [ النمل ] وهذا يعني أنه سيستغرق وقتا ، ساعة أو ساعتين ، أما الذي عنده علم من الكتاب ، فقال : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ . . ( 40 ) } [ النمل ] يعني : في طرفة عين لما عنده من العلم ، لذلك لما رأى سليمان العرش مستقرا عنده في لمح البصر ، قال : { قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ . . ( 40 ) } [ النمل ] .

إذن : الفعل يستغرق من الزمن على قدر قوة الفاعل ، فكلما زادت القوة قلّ الزمن ، وقد أوضحنا هذه المسألة في كلامنا على الإسراء والمعراج .

ومعنى : { مِّمَّا تَعُدُّونَ ( 5 ) } [ السجدة ] أي : من سنينكم أنتم .

ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ٦

ثم يقول الحق سبحانه :

{ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 6 ) } .

قوله تعالى { ذَلِكَ . . ( 6 ) } [ السجدة ] إشارة إلى تدبير الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم متابعة الأمر ونتائجه ، هذا كله لأنه سبحانه { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ . . ( 6 ) } [ السجدة ] وأنه سبحانه { الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 6 ) } [ السجدة ] فالحق سبحانه يعلمنا أن الآمر لا بد أن يتابع المأمور .

وقلنا : إن عالم الغيب تعني أنه بالأولى يعلم الشهادة ، لكن ذكر الحق سبحانه علمه بالشهادة حتى لا يظن أحد أن الله غيب ، فلا يعلم إلا الغيب ، وقد بيّنا معنى الشهادة هنا حينما تكلّمنا عن قول الله تعالى : { يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ( 110 ) }[ الأنبياء ] .

والجهر أو الشهادة يعني الجهر المختلط حين تتداخل الأصوات ، فلا تستطيع أن تميزها ، مع أنها جهر أمامك وشهادة ، أما الحق سبحانه فيعلم كل صوت ، ويردّه إلى صاحبه ، فعلم الجهر هنا أقوى من علم الغيب .

ومعنى { الْعَزِيزُ . . ( 6 ) } [ السجدة ] أي : الذي لا يغلب ولا يقهر ، فلا يلويه أحد عن علمه ، ولا عن مراداته في كونه ، ومع عزّته فهو سبحانه ( الرحيم ) .

ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ٧

الخلق إيجاد من عدم بحكمة ، ولغاية ومهمة مرسومة ، وليس عبثا هكذا يخلق الأشياء كما اتفق ، فالخالق عز وجل قبل أن يخلق يعلم ما يخلق ، ويعلم المهمة التي سيؤديها ، لذلك يخلق سبحانه على مواصفات تحقق هذه الغاية ، وتؤدي هذه المهمة .

وقد يخيّل لك أن بعض المخلوقات لا مهمة لها في الحياة ، أو أن بعضها كان من الممكن أن يخلق على هيئة أفضل مما هي عليها .

ونذكر هنا الرجل الذي تأمل في كون الله فقال : ليس في الإمكان أبدع مما كان . والولد الذي رأى الحداد يأخذ عيدان الحديد المستقيمة ، فيلويها ويعوجها ، فقال الولد لأبيه : لماذا لا يترك الحداد عيدان الحديد على استقامتها ؟ فعلّمه الوالد أن هذه العيدان لا تؤدي مهمتها إلا باعوجاجها ، وتأمل مثلا الخطّاف وآلة جمع الثمار من على الأشجار ، إنها لو كانت مستقيمة لما أدّت مهمتها .

وفي ضوء هذه المسألة نفهم الحديث النبوي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن النساء : " إنهن خلقن من ضلع ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء " [5573] .

وحين تتأمل الضلوع في قفصك الصدري تجد أنها لا تؤدي مهمتها في حماية القلب والرئتين إلا بهذه الهيئة المعوجة التي تحنو على أهم عضوين في جسمك ، فكأن هذا الاعوجاج رأفة وحنو وحماية ، وهكذا مهمة المرأة في الحياة ، ألا تراها في أثناء الحمل مثلا تترفق بحملها وتحافظ عليه ، وتحميه حتى إذا وضعته كانت أشد رفقا ، وأكثر حنانا عليه ؟

إذن : هذا الوصف من رسول الله ليس سبّة في حق النساء ، ولا إنقاصا من شأنهن ، لأن هذا الاعوجاج في طبيعة المرأة هو المتمم لمهمتها ، لذلك نجد أن حنان المرأة أغلب من استواء عقلها ، ومهمة المرأة تقتضي هذه الطبيعة ، أما الرجل فعقله أغلب ليناسب مهمته في الحياة ، حيث يناط به العمل وترتيب الأمور فيما ولّي عليه .

إذن : خلق الله كلا لمهمة ، وفي كل منّا مهما كان فيه من نقص ظاهر ميزة يمتاز بها ، فالرجل الذي تراه لا عقل له ولا ذكاء عنده تقول : ولماذا خلق الله مثل هذا ؟ لكن تراه قويّ البنية ، يحمل من الأثقال والمشاق ما لا تتحمله أنت ، والرجل القصير مثلا ، ترى أنت عيبه في قصر قامته ، لكن يراها غيرك ميزة من مزاياه ، وربما استدعاه للعمل عنده لهذه الصفة فيه .

وحين تتأمل مثلا عملية التعليم ، وتقارن بين أعداد التلاميذ في المرحلة الابتدائية ، وكم منهم يصل إلى مرحلة التعليم العالي ؟ وكم منهم يتساقطون في الطريق ؟ ولو أنهم جميعا أخذوا شهادات عليا لما استقام الحال ، وإلاّ فمن للمهن المتواضعة والحرف وغيرها ؟ إذن : لا بدّ أن يوجد هذا التفاوت ؛ لأن العقل الواحد يحتاج إلى آلاف ينفذون خطته ، وقيمة كل امرئ ما يحسنه مهما كان عمله .

لذلك قلنا : إنه لا ينبغي لأحد أن يتعالى على أحد ؛ لأنه يمتاز عنه في شيء ما ، إنما ينظر فيما يمتاز به غيره ، لأن الخالق عز وجل وزّع المواهب بين الخلق جميعا ، ويكفي أن تقرأ قول الحق سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ . . ( 11 ) }[ الحجرات ] .

فالله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . . ( 7 ) } [ السجدة ] لأن لكل مخلوق مهمة مهيأ لها ، وتعجب من تصاريف القدر في هذه المسألة فتجد أخوين ، يعمل أحدهما في العطور ، ويعمل الآخر في الصرف الصحي ، وتجد هذا راضيا بعمله ، وهذا راض بعمله .

حتى أنك تجد الناس الذين خلقهم الله على شيء من النقص أو الشذوذ حين يرضى الواحد منهم بقسمة الله له وقدره فيه يسود بهذا النقص ، أو بهذا الشذوذ ، وبعضنا لاحظ مثلا الأكتع إذا ضرب شخصا بهذه اليد الكتعاء ، كم هي قوية ! وكم يخافه الناس لأجل قوته ! وربما يجيد من الأعمال ما لا يجيده الشخص السوي .

فإن قلت : إذا كان الخالق سبحانه أحسن كل شيء خلقه ، فما بال الكفر ، خلقه الله وما يزال موجودا ، فأي إحسان فيه ؟

نقول : والله لولا طغيان الكافرين ما عشق الناس الإيمان ، كما أنه لولا وجود الظلم والظالمين لما شعر الناس بطعم العدل . إذن : فالحق سبحانه يخلق الشيء ، ويخلق من ضده دافعا له .

ثم يقول سبحانه : { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ( 7 ) } [ السجدة ] فالإنسان الذي كرمه الله على سائر المخلوقات بدأه الله من الطين ، وهو أدنى أجناس الوجود ، وقلنا : إن جميع الأجناس تنتهي إلى خدمة الإنسان : الحيوان وهو أقربها للإنسان ، ثم النبات ، ثم الجماد ، ومن الجماد خلق الإنسان .

وقد عوّض الله عز وجل الجماد الخادم لباقي الأجناس حين أمر الإنسان المكرّم بأن يقبله في فريضة كتبت عليه مرة واحدة في العمر ، وهي فريضة الحج ، فأمره بأن يقبّل الحجر الأسود ، وأن يتعبد لله تعالى بهذا التقبيل ، لذلك يتزاحم الناس على الحجر ، ويتقاتلون عليه ، وهو حجر ، وهم بشر كرّمهم الله ، وما ذلك إلا ليكسر التعالي في النفس الإنسانية ، فلا يتعالى أحد على أحد .

وسبق أن بينا أن المغرضين الذين يحبون أن يستدركوا على كلام الله قالوا : إن الله تعالى قال في مسألة الخلق مرة { من ماء . . ( 20 ) } [ المرسلات ] ومرة { من تراب . . ( 37 ) } [ الكهف ] ومرة { من طين ( 12 ) } [ المؤمنون ] ومرة { من صلصال . . ( 33 ) } [ الحجر ] ومرة { من حمأ مسنون ( 26 ) } [ الحجر ] . . إلخ ، فأي هذه العناصر أصل للإنسان ؟

وقلنا : إن هذه مراحل مختلفة للشيء الواحد ، والمراحل لا تقتضي النية الأولية ، فالماء والتراب يكونان الطين ، فإذا ترك الطين حتى تتغير رائحته فهو الحمأ المسنون ، فإذا ترك حتى يجف ويتجمد فهو الصلصال ، فهذه العناصر لا تعارض بينها ، ويجوز لك أن تقول : إن الإنسان خلق من ماء ، أو من تراب ، أو من طين . . الخ .

والمراد هنا الإنسان الأول ، وهو سيدنا آدم عليه السلام ثم أخذ الله سلالته من ماء مهين ، والسلالة هي خلاصة الشيء ، فالخالق سبحانه خلقنا أولا من الطين ، ثم جعل لنا الأزواج والتناسل الذي نتج عنه رجال ونساء .

ثم يحتفظ الخالق سبحانه لنفسه بطلاقة القدرة في هذه المسألة ، وكأنه يقول لك : إياك أن تفهم أنني لا أخلق إلا بالزوجية ، إنما أنا أستطيع أن أخلق بلا زوجية كما خلقت آدم ، وأخلق من رجل بلا امرأة كما خلقت حواء ، وأخلق من امرأة بلا رجل كما خلقت عيسى عليه السلام .

وقد تتوفر علاقة الزوجية ويجعلها الله عقيما لا ثمرة لها ، وهكذا تناولت طلاقة القدرة كل ألوان القسمة العقلية في هذه المسألة ، واقرأ إن شئت : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ( 49 ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( 50 ) } [ الشورى ] .

إذن : هذه مسألة طلاقة قدرة للخالق سبحانه ، وليست عملية ( ميكانيكية ) ، لأنها هبة من الله { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا . . ( 49 ) } [ الشورى ] ولاحظ أن الله قدّم هنا الإناث ، وهم الجنس الذي لا يفضّله الناس أن يولد لهم ، ولكن تجد الذي يرزقه الله بالبنت فيفرح بها ، ويعلم أنها هبة من الله يعوضه الله بزوج لها يكون أطوع له من ولده .

كما أنه لو رضي صاحب العقم بعقمه ، وعلم أنه هبة من الله لعوضه الله في أبناء الآخرين ، وشعر أنهم جميعا أبناؤه ، ولماذا نقبل هبة الله في الذكور وفي الإناث ، ولا نقبل العقم ، وهو أيضا هبة الله ؟

ثم ألست ترى من الأولاد من يقتل أباه ، ومن يقتل أمه ؟ إذن : المسألة تحتاج منّا إلى الرضا والتسليم والإيمان بأن العقم هبة ، كما أن الإنجاب هبة .

ثم إن خلق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين جاء من البداية على صورته التامة الكاملة ، فخلقه الله رجلا مستويا ، فلم يكن مثلا طفلا ثم كبر وجرت عليه سنة التطور ، لا إنما خلقه الله على صورته ، أي : على صورة آدم .

والبعض يقول : خلق الله آدم على صورته أي على صورة الحق[5574] ، فالضمير يعود إلى الله تعالى ، والمراد : على صورة الحق لا على حقيقة الحق ، فالله تعالى حيّ يهب من حياته حياة ، والله قوي يهب من قوته قوة ، والله غني يهب من غناه غنى ، والله عليم يهب من علمه علما .

لذلك قيل : " تخلقوا بأخلاق الله " ؛ لأنه سبحانه وهبكم صفات من صفات تجليه ، وقد وهبكم هذه الصفات ، فاجعلوا للصفة فيكم مزية وتخلقوا بها ، فمثلا كن قويا على الظالم ، ضعيفا متواضعا للمظلوم ، على حدّ قول الله تعالى في صفات المؤمنين :

{ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ . . ( 29 ) } [ الفتح ] .

وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ . . ( 54 ) } [ المائدة ] .

وهذه الصفات المتناقضة تجتمع في المؤمن ، لأنه ليس له طبع واحد ، إنما الموقف والتكليف هو الذي يصبغه ويلويه إلى الصفة المناسبة .

وقلنا : إن علماء التحاليل في معاملتهم أثبتوا صدق القرآن في هذه الحقيقة ، وهي خلق الإنسان من طين حينما وجدوا أن العناصر المكونة لجسم الإنسان هي ذاتها العناصر الموجودة في التربة ، وعددها 16 عنصرا ، أقواها الأكسوجين ، ثم الكربون ، ثم الهيدروجين ، ثم النيتروجين ، ثم الصوديوم ، ثم الماغنسيوم ، ثم البوتاسيوم . . الخ .

ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ٨

النسل هو الأنجال والذرية ، والسلالة : خلاصة الشيء تسل منه كما يسلّ السيف من غمده ، فالسلالة هي أجود ما في الشيء ، ولذلك نقول : فلان من سلالة كذا ، وفلان سليل المجد ، يعني : في مقام المدح . حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويسجلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها .

هذا النسل وهذه السلالة خلقها الله من ماء ، وهو مني الرجل وبويضة المرأة .

هذا الماء وصفه الله بأنه { مَّهِينٍ ( 8 ) } [ السجدة ] لأنه يجري في مجرى البول ، ويذهب مذهبه إذا لم يصل إلى الرحم ، وفي هذا الماء المهين عجائب ، ويرحم الله العقاد[5575] حين قال : إن أصول ذرات العالم كله يمكن أن توضع في نصف كستبان الخياطة ، وتأمل كم يقذف الرجل في المرة الواحدة من هذا المقدار ؟ إذن : المسألة دقة تكوين وعظمة خالق ، ففي هذه الذرة البسيطة خصائص إنسان كامل ، فهي تحمل : لونه ، وجنسه ، وصفاته . . الخ .

وسبق أن قلنا في عالم الذر : إن في كل منا ذرة وجزيئا حيا من لدن أبيه آدم عليه السلام .

ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ٩

ثم يقول الحق سبحانه :

{ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ[5576] وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( 9 ) } .

وهذه التسوية كانت أولا للإنسان الأول الذي خلقه الله من الطين ، كما قال سبحانه : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ( 29 ) } [ الحجر ] وقد مرّ آدم عليه السلام في هذه التسوية بالمراحل التي ذكرت ، كذلك الأمر في سلالته يسويها الخالق عز وجل وتمر بمثل هذه المراحل : من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة . . الخ ، ثم تنفخ فيه الروح .

وإذا كان الإنسان لم يشهد كيفية خلقه ، فإن الله تعالى يجعل من المشاهد لنا دليلا على ما غاب عنّا ، فإن كنّا لم نشهد الخلق فقد شاهدنا الموت ، والموت نقض للحياة وللخلق ، ومعلوم أن نقض الشيء يأتي على عكس بنائه ، فإذا أردنا مثلا هدم عمارة من عدة أدورا فإن آخر الأدوار بناء هو أول الأدوار هدما .

كذلك الحال في الموت ، أول شيء فيه خروج الروح ، وهي آخر شيء في الخلق ، فإذا خرجت الروح تصلب الجسد ، أو كما يقولون ( شضّب ) ، وهذه المرحلة أشبه بمرحلة الصلصالية ، ثم ينتن وتتغير رائحته ، كما كان في مرحلة الحمأ[5577] المسنون ، ثم يتحلل هذا الجسد ويتبخر ما فيه من مائية ، وتبقى بعض العناصر التي تتحول إلى تراب ليعود إلى أصله الأول .

إذن : خذ من رؤيتك دليلا على صدق ربك عز وجل فيما أخبرك به من أمر الخلق الذي لم تشهده .

وقوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ . . ( 9 ) } [ السجدة ] سبق أن تكلمنا عن هذه الأعضاء ، وقد قرر علماء وظائف الأعضاء مهمة كل عضو وجارحة ، ومتى تبدأ هذه الجارحة في أداء مهمتها ، وأثبتوا أن الأذن هي الجارحة الأولى التي تؤدي مهمتها في الطفل ، بدليل أنك إذا وضعت أصبعك أمام عين الطفل بعد ولادته لا ( يرمش ) ، في حين يفزع عن أحدثت بجواره صوتا ، ذلك لأنه يسمع بعد ولادته مباشرة ، أما الرؤية فتتأخر من ثلاثة إلى عشرة أيام .

لذلك كانت حاسة السمع هي المصاحبة للإنسان ، ولا تنتهي مهمتها حتى في النوم ، وبها يتم الاستدعاء ، أما العين فلا تعمل أثناء النوم .

وهذه المسألة أوضحها الحق سبحانه في قصة أهل الكهف ، فلما أراد الحق سبحانه أن ينيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة ، والكهف في صحراء بها أصوات الرياح والعواصف والحيوانات المتوحشة ، لذلك ضرب الله على آذانهم وعطّل عندهم هذه الحاسة كما قال سبحانه : { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا11 } [ الكهف ] .

إذن : الأذن هي أول الأعضاء أداء لمهمتها ، ثم العين ، ثم باقي الأعضاء ، وآخرها عملا الأعصاب ، بدليل أن الطفل تصل حرارته مثلا إلى الأربعين درجة ، ونراه يجري ويلعب دون أن يشعر بشيء ، لماذا ؟ لأن جهازه العصبي لم ينضج بعد ، فلا يشعر بهذه الحرارة .

لذلك نجد دائما القرآن يقدم السمع على البصر ، ويتقدم البصر إلا في آية واحدة هي قوله تعالى : { أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا . . ( 12 ) } [ السجدة ] لأنها تصور مشهدا من مشاهد القيامة ، وفيه يفاجأ الكفار بأهوال القيامة ، ويأخذهم المنظر قبل أن يسمعوا الصوت حين ينادي المنادي .

ومن عجائب الأداء البياني في القرآن أن كلمة أسماع يقابلها أبصار ، لكن المذكور هنا { السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ . . ( 9 ) } [ السجدة ] فالسمع مفرد ، والأبصار جمع ، فلماذا أفرد السمع وجمع البصر ؟

قالوا : لأن الأذن ليس لها غطاء يحجب عنها الأصوات ، كما أن للعين غطاء يسدل عليها ويمنع عنها المرئيات ، فإذن فهو سمع واحد لي ولك وللجميع ، الكل يسمع صوتا واحدا ، أما المرئيات فمتعددة ، فما تراه أنت قد لا أراه أنا .

ولم يأت البصر مفردا في هذا السياق إلا في موضع واحد هو قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً ( 36 ) } [ الإسراء ] ذلك لأن الآية تتكلم عن المسئولية ، والمسئولية واحدة ذاتية لا تتعدى ، فلا بدّ أن يكون واحدا .

ومن المناسب أن يذكر الحق سبحانه السمع والأبصار والأفئدة بعد الحديث عن مسألة الخلق ، لأن الإنسان يولد من بطن أمه لا يعلم شيئا ، وبهذه الأعضاء والحواس يتعلّم ويكتسب المعلومات والخبرات كما قال سبحانه : { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 78 ) } [ النحل ] .

إذن : فهذه الأعضاء ضرورية لوجود الإنسان الخليفة في الأرض ، وبها يتعايش مع غيره ، ولا بدّ له من اكتساب المعلومات ، وإلاّ فكيف سيتعايش مع بيئته ؟

وقلنا : إن الإنسان لكي يتعلم لا بدّ له من استعمال هذه الحواس المدركة ، كل منها في مناطه ، فاللسان في الكلام ، والعين في الرؤية ، والأذن في السمع ، والأنف في الشم ، والأنامل في اللمس .

وقلنا : إن هذه الحواس هي أمهات الحواس المعروفة ، حيث عرفنا فيما بعد حواس أخرى ، لذلك احتاط العلماء لهذا التطور ، فأطلقوا على هذه الحواس المعروفة اسم " الحواس الظاهرة " ، وبعد ذلك عرفنا حاسة البين التي نعرف بها رقة القماش وسمكه ، وحاسة العضل التي نعرف بها الثقل .

إذن : حينما يولد الإنسان يحتاج إلى هذه الحواس ليتعايش بها ويدرك ويتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه ، ولو أن الإنسان يعيش وحده ما احتاج مثلا لأن يتكلم ، لكنه يعيش بطبيعته مع الجماعة ، فلا بد له أن يتكلم ليتفاهم معهم ، وقبل ذلك لا بدّ له أن يسمع ليتعلم الكلام .

وعرفنا سابقا أن اللغة وليدة السماع ، فالطفل الذي يولد في بيئة عربية ينطق بالعربية ، والذي يعيش في بيئة إنجليزية ينطق الإنجليزية وهكذا ، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان ، فإذا لم تسمع الأذن لا ينطق اللسان .

لذلك سبق أن قلنا في سورة البقرة في قول الله تعالى : { صم بكم . . ( 18 ) } [ البقرة ] أن البكم وهو عدم الكلام نتيجة الصمم ، وهو عدم السماع ، فالسمع إذن هو أول مهمة في الإنسان ، وهو الذي يعطيني الأرضية الأولى في حياتي مع المجتمع من حولي .

ومعلوم أن تعلم القراءة مثلا يحتاج إلى معلم أسمع منه النطق ، فهذه ألف ، وهذه باء ، هذه فتحة ، وهذه ضمة . . الخ ، فإذا لم أسمع لا أستطيع النطق الصحيح ، ولا أستطيع الكتابة .

وبالسماع يتم البلاغ عن الله من السماء إلى الأرض ، لذلك تقدم ذكر السمع على ذكر البصر .

والحق سبحانه لما تكلّم عن السمع بهذه الصورة قال : أنا سأسمع أسماء الأشياء ، فهذه أرض ، وهذه سماء . . الخ ، لذلك حينما نعلم التلميذ نقول له : هذه عين ، وهذه أذن .

وبعد أن يتعلم التلميذ من معلّمه القراءة يستطيع بعد ذلك أن يقرأ بذاته ، فيحتاج إلى حاسّة البصر في مهمة القراءة ، فإذا أتم تعليمه واستطاع أن يصحح قراءته بنفسه ، واختمرت عنده المعلومات التي اكتسبها بسمعه وبصره استطاع أن يقرأ أشياء أخرى غير التي قرأها له معلمه ، واستطاع أن يربي نفسه ويعلمها حتى تتكون عنده خلية علمية يستحدث من خلالها أشياء جديدة ، ربما لا يعرفها معلمه ، وهذه مهمة الفؤاد { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ . . ( 9 ) } [ السجدة ] .

فالمعانى تتجمع بهذه الحواس ، حتى يصير الإنسان سويا لديه الملكة التي يتعلم بها ، ثم يعلم هو غيره .

واللغة المنطوقة لا تتعلم إلا بالسماع ، فأنا سمعت من أبي ، وأبي سمع من أبيه ، وتستطيع أن تسلسل هذه المسألة لتصل إلى آدم عليه السلام أبي البشر جميعا ، فإن قلت : فممّن سمع آدم ؟ نقول : سمع الله حينما علّمه الأسماء كلها : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[5578] ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 ) [ البقرة ] .

وهذا أمر منطقي ، لأن اللغة المسموعة بالأذن لا يمكن لأحد اختراعها ، ومع ذلك يوجد من يعترض على هذه المسألة ، يقول : هذا يعني أن اللغة توقيفية ، لا دخل لنا فيها ، بمعنى : أننا لا نستحدث فيها جديدا .

ونقول : نعم ، اللغة أمر توقيفي ، لكن أعطى الله آدم الأسماء وعلّمه إياها ، وبهذه الأسماء يستطيع أن يتفاهم على وضع غيرها من الأسماء في المعلومات التي تستجد في حياته .

وإلا ، فكيف سمينا ( الراديو والتليفزيون . . الخ ) وهذه كلها مستجدات لا بدّ لها من أسماء ، والاسم لا يوجد إلا بعد أن يوجد مسمّاه ، وهذه مهمة المجامع اللغوية التي تقرر هذه الأسماء ، وتوافق على استخدامها ، وقد

اصطلح المجمع على تسمية الهاتف : مسرة . والتليفزيون : تلفاز . . الخ .

إذن : أتينا بهذه الألفاظ واتفقنا عليها ، لأنها تعبر عن المعاني التي نريدها ، وهذه الألفاظ وليدة الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام ، فاللغة بدأت توقيفية ، وانتهت وضعية .

وقوله تعالى بعد هذه النعم : { قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( 9 ) } [ السجدة ] دليل على أن هذه النعم تستوجب الشكر ، لكن قليل منّا من يشكر ، وكان ينبغي أن نشكر المنعم كلما سمعنا ، وكلما أبصرنا ، وكلما عملت عقولنا وتوصلت إلى جديد .

لذلك ، كان شكر المؤمن لربه لا ينتهي ، كما أن أعياده وفرحته لا تنتهي ، فنحن مثلا نفرح يوم عيد الفطر بفطرنا وبأدائنا للعبادة التي فرضها الله علينا ، وفي عيد الأضحى نفرح ، لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام تحمّل عنّا الفداء بولده ، لكي يعفينا جميعا من أن يفدي كل منّا ، ويتقرب إلى الله بذبح ولده ، وإلا لكانت المسألة شاقة علينا ، لذلك نفرح في عيد الأضحى ، ونذبح الأضاحي ، ونؤدي النسك في الحج .

وما دام المؤمن ينبغي له أن يفرح بأداء الفرائض وعمل الطاعات ، فلماذا لا نفرح كلما صلّينا أو صمنا أو زكينا ؟ لماذا لا نفرح عندما نطيع الله بعمل المأمورات ، وترك المنهيات ؟ لماذا لا نفرح في الدنيا حتى يأتي يوم الفرح الأكبر ، يوم تتجمع حصيلة هذه الأعمال ، وننال ثوابها الجنة ونعيمها ؟

واقرأ إن شئت قول ربك : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 9 ) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 10 ) } [ يونس ] .

وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ١٠

معنى { ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ . . ( 10 ) } [ السجدة ] أي : غبنا فيها ، واندثرت ذراتنا ، بحيث لا نعرف أين ذهبت ، وإلى أيّ شيء انتقلت ، إلى حيوان أم إلى نبات ؟ إذا حدث هذا { أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . . ( 10 ) } [ السجدة ] يعني : أيخلقنا الله من جديد مرة أخرى ؟

والحق سبحانه يرد عليهم : { بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ( 10 ) } [ السجدة ] بل تفيد الإضراب عن كلامهم السابق ، وتقرير حقيقة أخرى ، هي أنهم لا ينكرون البعث والحشر ، إنما ينكرون لقاء الله { بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ( 10 ) } [ السجدة ] لأن مسألة الحشر مستحيل أن ينكروها ؛ لأن الدليل عليها واضح .

كما قال سبحانه : { أَفَعَيِينَا[5579] بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 15 ) }[ ق ] والذي خلق من العدم أولا قادر على الإعادة من موجود ، لأن ذراتك وخاماتك موجودة ، فالإعادة أسهل من البدء ، لذلك قال سبحانه : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ . . ( 27 ) } [ الروم ] .

إذن : تكذيبهم ليس للبعث في حدّ ذاته ، إنما للقاء الله وللحساب ، لكنهم ينكرون البعث ، لأنه يؤدي إلى لقاء الله ، وهم يكرهون لقاء الله ، فينكرون المسألة من بدايتها .

۞قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ١١

تلحظ هنا أنهم يتكلمون عن البعث { وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . . ( 10 ) }( السجدة ) ومعلوم أن البعث إيجاد حياة ، فإذا بالقرآن يحدثهم عن الوفاة ، وهي نقض للحياة ، ليذكرهم بهذه الحقيقة .

ومعنى { يَتَوَفَّاكُم . . ( 11 ) } [ السجدة ] من توفيت دينا من المدين . أي : أخذته كاملا غير منقوص ، والمراد هنا الموت ، والتوفي ينسب مرة إلى الله عز وجل : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ( 42 ) } [ الزمر ] .

وينسب لملك الموت { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ . . ( 11 ) } [ السجدة ] وينسب إلى أعوانه من الملائكة { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ( 61 ) } [ الأنعام ] .

لأن مسألة الموت أمرها الأعلى بيد الخالق سبحانه ، فهو وحده واهب الحياة ، وهو وحده صاحب الأمر في نقضها وسلبها من صاحبها ، لذلك حرّم الله القتل ، وجعل القاتل ملعونا ، لأنه يهدم بنيان الله ، فإذا قدّر الله على إنسان الموت أذن لملك الموت في ذلك ، وهو عزرائيل .

إذن : هذه المسألة لها مراحل ثلاث : التوفي من الله يأمر به عزرائيل ، ثم يأمر به عزرائيل ملائكته الموكلين بهذه المسألة ، ثم ينفذ الملائكة هذا الأمر .

وتأمل لفظة { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا . . ( 61 ) } [ الأنعام ] أي : أخذته كاملا ، فلم يقل : أعدمته مثلا ، لذلك نقول قبضت روحه أي : ذهبت إلى حيث كانت قبل أن تنفخ فيه ، ذهبت إلى الملأ الأعلى ، ثم تحلل الجسد وعاد إلى أصله ، وذاب في الأرض ، جزئية هنا وجزئية هناك ، كما قالوا { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . . ( 10 ) } [ السجدة ] .

فالذي يتوفّى لم يعدم ، إنما هو موجود وجودا كاملا ، روحه وجسده ، والله قادر على إعادته يوم القيامة ، لذلك لم يقل أعدمنا . وهذه المسألة تحل لنا إشكالا في قصة سيدنا عيسى عليه السلام فقد قال الله فيه : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ . . ( 55 ) }[ آل عمران ] .

فالبعض يقول : إنه عليه السلام توفي أولا ، ثم رفعه الله إليه . والصواب أن واو العطف هنا تفيد مطلق الجمع ، فلا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ، واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . . ( 7 ) } [ الأحزاب ] .

والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ونوح عليه السلام قبله .

فالمعنى هنا أن الله تعالى قدّم الوفاة على الرفع ، حتى لا يظن أحد أن عيسى عليه السلام تبرأ من الوفاة ، فقدّم الشيء الذي فيه شك أو جدال ، وما دام قد توفاه الله فقد أخذه كاملا غير منقوص ، وهذا يعني أنه لم يصلب ولم يقتل ، إنما رفعه الله إليه كاملا .

وقوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ . . ( 11 ) } [ السجدة ] جاءت ردا على قولهم { أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . . ( 10 ) } [ السجدة ] فالحق الذي قال أنا خلقت الإنسان لم يقل وأنا سأعدمه إنما سأتوفاه ، فهو عندي كامل بروحه وبذراته التكوينية ، والذي خلق في البدء قادر على الإعادة ، وجمع الذرات التي تشتت .

وقوله عن ملك الموت { الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ . . ( 11 ) } [ السجدة ] أي : يرقبكم ولا يغفل عنكم ، يلازمكم ولا ينصرف عنكم ، بحيث لا مهرب منه ولا فكاك ، كما قال أهل المعرفة : الموت سهم انطلق إليك فعلا ، وعمرك بمقدار سفره إليك ، فهو واقع لا محالة ، كما قلنا في المصيبة وأنها ما سميت مصيبة إلا لأنها ستصيبك لا محالة .

وقوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( 11 ) } [ السجدة ] أي : يوم القيامة .

صفحة 416

وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَآ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ١٢

ثم يقول الحق سبحانه :

{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ( 12 ) } .

تصور لنا هذه الآية مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، يوم يساق المجرم ذليلا إلى ما يستحق من العذاب ، كأن ترى مجرما مثلا تسوقه الشرطة وهو مكبّل بالقيود يذوق الإهانة والمذلّة ، فتشفي نفسك حين تراه ينال جزاءه بعد أن أتعب الدنيا وأداخ الناس .

وفي هذا المشهد يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو أول مخاطب ، ثم يصبح خطابا لأمته : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ . . . ( 12 ) } [ السجدة ] أي : حالة وجودهم أنهم ناكسو رءوسهم ، وتقدير جواب الشرط : لرأيت أمرا عجيبا يشفي صدرك مما فعلوه بك .

ونلحظ في هذا الأسلوب دقة الأداء في قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى . . ( 12 ) } [ السجدة ] فلم يقل مثلا : ولو تعلم ؛ لأن إخبار الله كأنه رؤيا العين ، فحين يخبرك الله بأمر ، فاعلم أنه أصدق من عينك حين ترى ، لأن عينك قد تخدعك ، أما إخبار الله لك فهو الحق .

ومعنى { نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ . . ( 12 ) } [ السجدة ] النكس هو جعل الأعلى أسفل ، والرأس دائما في الإنسان أعلى شيء فيه .

وقد وردت هذه المادة في قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام حين حطم الأصنام ، وعلّق الفأس على كبيرهم : { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ( 65 ) } [ الأنبياء ] .

فبعد أن عادوا إلى رشدهم واتهموا أنفسهم بالظلم انتكسوا وعادوا إلى باطلهم ، فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ( 65 ) } [ الأنبياء ] .

وورد هذا اللفظ أيضا في قوله تعالى : { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( 68 ) }[ يس ] .

والمعنى : نرجعه من حال القوة والفتوة إلى حال الضعف والهرم وعدم القدرة ، كما قال سبحانه : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا . . ( 70 ) } [ النحل ] .

فيعد القوة يتكئ على عصا ، ثم لا يستطيع السير فيحبو ، أو يحمل كما يحمل الطفل الصغير ، هذا هو التنكيس في الخلق ، وحين نتأمله نقول : الحمد لله لو عافانا من هذه الفترة وهذه التنكيسة ، ونعلم أن الموت لطف من الله ورحمة بالعباد ، ألا ترى أن من وصل إلى هذه المرحلة يضيق به أهله ، وربما تمنوا وفاته ليستريح وليستريحوا ؟

وتنكيس رءوس المجرمين فيه إشارة إلى أن هذه هي العاقبة فاحذر المخالفة ، فمن تكبر وتغطرس في الدنيا نكست رأسه في الآخرة ، ومن تواضع لله في الدنيا رفعت رأسه ، وهذا معنى الحديث الشريف : " من تواضع لله رفعه " [5580] .

وفي تنكيس رءوس المجرمين يوم القيامة معنى آخر ، لأن الحق سبحانه وتعالى سيفعل في كل مخالف في الآخرة من جنس ما فعل في الدنيا ، وهؤلاء الذين نكّس الله رءوسهم في الآخرة فعلوا ذلك في الدنيا ، واقرأ إن شئت قول ربك : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ . . ( 5 ) } [ هود ] .

أي : يطأطئون رءوسهم ؛ لكي لا يواجهوا رسول الله ، فللحق صولة وقوة لا يثبت الباطل أمامها ، لذلك نسمع من أصحاب الحق : تعال واجهني ، هات عيني في عينك ، ولابد أن يستخزي أهل الباطل ، وأن يجبنوا عن المواجهة ، لأنها ليست في صالحهم .

وهذا العجز عن المواجهة يدعو الإنسان إلى ارتكاب أفظع الجرائم ، ويصل به إلى القتل ، والقتل لا يدل على القوة ، إنما يدل على عجز وضعف وجبن عن المواجهة ، فالقاتل أقر بأنه لايستطيع أن يواجه حياة عدوه فقتله ، ولو كان قويا لواجه حياته .

ومن العذاب الذي يأتي من جنس ما فعل الإنسان في الدنيا قول الله تعالى في الذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 34 ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( 35 ) } [ التوبة ] .

سبحان الله ، كأنها صورة طبق الأصل مما فعلوه في الدنيا ، فالواحد منهم يأتيه طالب العطاء فيعبس في وجهه ، ثم يعرض عنه ، ويعطيه جنبه ، ثم يعرض عنه ويعطيه ظهره ، ويأتي العذاب بنفس هذا التفصيل ، إذن : فعلى العاقل أن يحذر هذه المخالفات ، فمن جنسها يكون العذاب في الآخرة .

وهؤلاء المجرمون حال تنكيسهم يقولون : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا . . ( 12 ) } [ السجدة ] هذا كلامهم ، ومع ذلك لم يقل القرآن : قالوا أبصرنا وسمعنا ، فحذف الفعل هنا يدل على أن القول ليس سهلا عليهم ؛ لأنه إقرار بخطئهم الأول لذلّة التوبة .

وقلنا : إن هذه هي الآية الوحيدة التي تقدم فيها البصر على السمع ، لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولا ، ثم نسمع ما نراه .

لذلك يقول تعالى مصورا أثر هذا الهول : { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( 2 ) } [ الحج ] .

وفي معرض حديثنا السابق عن الحواس : السمع والبصر والفؤاد فاتنا أن نذكر آية مهمة جاءت على غير هذا الترتيب ، وهي قول الله تعالى : { خَتَمَ[5581] اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 ) }[ البقرة ] .

فجاء الفؤاد هنا أولا ، وجمع الفؤاد مع السمع في الختم لأنهما اشتركا فيه ، أما البصر فاختص بشيء آخر ، وهو الغشاوة التي تغطي أبصارهم ، ذلك لأن الآية السابقة في السمع والبصر والفؤاد كانت عطاء من الله ، فبدأ بالسمع ، ثم البصر ، ثم ترقى في العطاء إلى الفؤاد ، لكن هنا المقام مقام سلب لهذه النعم ، فيسلب الأهم أولا ، فأتى بالفؤاد ثم السمع ثم الأبصار .

لكن أي شيء أبصروه ؟ وأي شيء سمعوه في قولهم { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا . . ( 12 ) } [ السجدة ] ؟ أول شيء يبصره الكافر يوم القيامة { وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ . . ( 39 ) } [ النور ] وحده سبحانه ليس معه شريك من الشركاء الذين عبدوهم في الدنيا ، وليس لهم من دونه سبحانه وليّ ، ولا شفيع ، ولا نصير .

ومعنى { سَمِعْنَا . . ( 12 ) } [ السجدة ] أي : ما أنزلته يا رب على رسولك ، ونشهد أنه الحق وصدّقنا الرسول في البلاغ عنك ، وأنه ليس مفتريا ، ولا هو شاعر ، ولا هو ساحر ، ولا هو كاذب[5582] .

لكن ، ما فائدة هذا الاعتراف الآن ؟ وبماذا ينفعهم[5583] وهم في دار الحساب ؟ لا في دار العمل والتكليف ؟ ! وما أشبه هذا الاعتراف باعتراف فرعون قبل أن يغرق : { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ . .

( 90 ) } [ يونس ] لذلك ردّ الله عليه : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 91 ) } [ يونس ] .

فقولهم { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا . . ( 12 ) } [ السجدة ] إقرار منهم بأنهم كانوا على خطأ ، وأنهم يرغبون في الرجوع إلى الصواب ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ( 99 ) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ . . ( 100 ) } [ المؤمنون ] ، وردّ الله عليه : { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا . . ( 100 ) } [ المؤمنون ] .

ثم كشف حقيقة أمرهم : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 28 ) } [ الأنعام ] .

وهنا يقولون : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ( 12 ) } [ السجدة ] وهل يكون اليقين في هذا الموقف ؟ اليقين إنما يكون بالأمر الغيبي ، وأنتم الآن في اليقين الحسّّي المشاهد ، فهو إذن يقين لا يجدى[5584] .

وَلَوۡ شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ مِنِّي لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ١٣

ثم يقول الحق سبحانه :

{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 13 ) } .

هنا قد يسأل سائل : لماذا جعل الله الناس : مؤمنا وكافرا ، وطائعا وعاصيا ؟ لماذا لم يجعلنا جميعا مهتدين طائعين ؟ أهذا صعب على الله سبحانه ؟ لا ، ليس صعبا على الله تعالى ، بدليل أنه خلق الملائكة طائعين منفذين لأوامره سبحانه { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( 6 ) }[ التحريم ] .

كذلك الأرض والسماء والجبال . . الخ ، كلها تسبح الله وتعبده { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ . . ( 41 ) } [ النور ] .

وقال : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . ( 44 ) } [ الإسراء ] ، وبعد ذلك يعطي الله تعالى لبعض خلقه معرفة هذا التسبيح ، كما قال في حق داود عليه السلام : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ . . ( 79 ) } [ الأنبياء ] .

نعم ، هي تسبح أيضا مع غير داود ، لكن الميزة أنها تشترك معه في تسبيح واحد ، كأنهم ( كورس ) يرددون نشيدا واحدا .

وعرفنا في قصة الهدهد وسليمان عليه السلام أنه كان يعرف قضية التوحيد على أتم وجه ، كأحسن الناس إيمانا بالله ، وهو الذي قال عن بلقيس ملكة سبأ : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ( 24 ) } [ النمل ] .

وقال { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ[5585] فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( 25 ) } [ النمل ] .

والحق سبحانه وتعالى حينما يريد أن يدلّل لخلقه على قدرته يجعل من الضعف قوة ، ومن القوة ضعفا ، وانظر إلى حال المؤمنين الأوائل ، وكم كانوا أذلة مستضعفين ، فلما أسلموا رفعهم الله بالإسلام وجعلهم سادة .

ومشهورة قصة الصديق أبي بكر لما أدخل عليه المستضعفين أمثال : عمار وبلال . . وترك صناديد قريش بالباب ، فعاتبه أبوه على ذلك : كيف يدخل العبيد ويترك هؤلاء السادة بالباء ؟ فقال أبو بكر : يا أبي ، لقد رفع الإسلام الخسيسة ، وإذا كان هؤلاء قد ورمت أنوفهم أن يدخل العبيد قبلهم ، فكيف بهم حين يدخلهم الله الجنة قبلهم ؟ .

وعجيب أن يصدر هذا الكلام من الصديق أبي بكر ، مع ما عرف عنه من اللين ورقة القلب والحلم .

وهذا لون من تبديل الأحوال واجتماع الأضداد ، وقد عرض الحق تبارك وتعالى لهذه المسألة في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ( 29 ) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ( 30 ) } [ المطففين ] يعني : يسخرون منهم ويهزأون بهم . كما نسمع من أهل الباطل يقولون للإنسان المستقيم ( خذنا على جناحك ) .

وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد ، إنما إذا عادوا إلى أهلهم كرروا هذا الاستهزاء ، وتبجحوا به ، وفرحوا لإيذائهم لأهل التقوى والاستقامة : { وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ( 31 ) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ( 32 ) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ( 33 ) } [ المطففين ] لكن ينهي الحق سبحانه هذا الموقف بقوله : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ( 34 ) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ( 35 ) }[ المطففين ] ثم يسألهم الله : { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 36 ) }[ المطففين ] .

فهنا يقول الحق سبحانه : لا يفهموا أن أحدا تأبى عليّ ، من خلقي ، إنما أردت لهم الاختيار ، ثم أخبرتهم بما أحب أن يفعلوه ، فيريد الله أن يعلم علم وقوع بمن آمن به ، وهو يملك ألاّ يؤمن . وإلا فهو سبحانه عالم أزلا ، ليكون الفعل حجة على أصحابه ، إذن : إياك أن تظن أنك باختيارك كسرت قهر العلي .

وسبق أن قلنا : إن الذين ألفوا التمرد على الله إيمانا به ، فكفروا وتمردوا على طاعته فعصوه . . الخ نقول لهم : ما دمتم قد تعودتم التمرد على أوامر الله ، فلماذا لا تتمردون على المرض مثلا أو على الموت ؟ إذن : أنت عبد رغم أنفك .

يقول سبحانه هنا : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا . . ( 13 ) } [ السجدة ] أي : لجعل الناس كالملائكة ، وكالمخلوقات المسيّرة التي لا اختيار لها ، وسبق أن

قلنا : إن المخلوقات كلها خيّرت في حمل الأمانة ، وليس الإنسان وحده ، لكن الفرق أن ابن آدم أخذ الاختيار مفصّلا ، وبقية الخلق أخذوا الاختيار جملة ، بدليل قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ( 72 ) } [ الأحزاب ] .

ومعنى الهداية في { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا . . ( 13 ) } [ السجدة ] أي : هدى المعونة ، وإلا فقد هدى الله جميع الناس هدى الدلالة على طريق الخير ، فالذي أخذ بهدى الدلالة وقال على العين والرأس يأخذ هدى المعونة ، كما قال سبحانه { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( 17 ) }[ محمد ] .

ولكي نفهم الفرق بين الهديين ، اقرأ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ . . ( 17 ) }[ فصلت ] أي : دللناهم وأرشدناهم { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى . . ( 17 ) }[ فصلت ] .

ثم يقول سبحانه : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 13 ) } [ السجدة ] .

الحق سبحانه يريد أن يثبت لخلقه أنه هو الأولى بالحكمة في الخلق ، بدليل أن الذي يشذ عن مراد الله لا بدّ أن يفسد به المجتمع ، كما نرى المجتمعات تشقى بكفر الكافر ، وبعصيان العاصي .

والحق سبحانه يترك الكافر يكفر باختياره ، والعاصي يعصى باختياره ليؤذي الناس بإثم الكافر وبإثم العاصي ، وعندها يعودون إلى تشريع الله ويلجئون إلى ساحته سبحانه ، ولو أن الناس عملوا بشرع الله ما حدث فساد في الكون ولا خلل في حياتهم أبدا .

لذلك نفرح حينما ينتقم الله من أهل الكفر ومن أهل المعصية ، ونقول : الحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد .

إذن : مخالفة منهج الله في القمة كفرا به سبحانه ، وفي غيرها معصية لأمره هو الذي يبين مزايا الإيمان وحلاوة التشريع . وقلنا : إن التشريع يجب أن يأخذه المكلّف أخذا كاملا بما له وبما عليه ، فالله كلفك ألا تسرق من الناس ، وكلّف الناس جميعا ألا يسرقوا منك .

ومعنى { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي . . ( 13 ) } [ السجدة ] أي : وقع وثبت وقطع به ، ويأتي هذا المعنى بلفظ سبق ، كما في { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( 171 ) } [ الصافات ] وفي قصة نوح عليه السلام : { فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ . . ( 27 ) } [ المؤمنون ] .

وقال تعالى حكاية عن الكفار في حوارهم يوم القيامة : { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ( 31 ) } [ الصافات ] .

ومعنى { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 13 ) } [ السجدة ] عرفنا أن الله تعالى خلق الجنة ، وخلق لها أهلا يملأونها ، وخلق النار وخلق لها أهلا يملأونها ، ، فليس فيهما أزمة أماكن ، فالجنة أعدّت لتسع جميع الخلق إن آمنوا ، وكذلك النار أعدت لتسع الخلق جميعا إن كفروا .

لذلك حين يذهب أهل الجنة إلى الجنة يرثون أماكن أهل النار فيها[5586] ، كما قال سبحانه : { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) } [ الأعراف ] .

والجنة : أي الجنّ والعفاريت .

فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَآ إِنَّا نَسِينَٰكُمۡۖ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ١٤

ثم يقول الحق سبحانه :

{ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 14 ) } .

والتقدير : ذوقوا العذاب ، كما جاء في آية أخرى { ذوقوا مسّ سقر ( 48 ) } [ القمر ] ويقال هذا لزعماء ورءوس الكفر { ذق إنك أنت العزيز الكريم ( 49 ) } [ الدخان ] .

واختار حاسة التذوق ، لأن كل وسيلة إدراك قد تتصل بلون من ألوان الترف في الحياة ، أمّا الذوق فيتصل بإمداد الحياة ، وهو الأكل والشرب ، وبهما قوام حياة الإنسان ، فهما ضرورتان للحياة لا مجرد ترف فيها .

وفي موضع آخر ، يبين لنا الحق سبحانه أثر الإذاقة ، فيقول عن القرية التي كفرت بربها : { فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( 112 ) } [ النحل ] وتصور أن يكون الجوع لباسا يستولي على الجسم كله ، وكأن الله تعالى يريد أن يبين لنا عضة الجوع ، التي لا تقتصر على البطن فحسب ، إنما على كل الأعضاء ، فقال { لِبَاسَ الْجُوعِ . . ( 112 ) } [ النحل ] لشمول الإذاقة ، فكأن كل عضو في الجسم سيذوق ألم الجوع ، وهذا المعنى لا يؤديه إلا اللفظ الذي اختاره القرآن .

وقد فطن الشاعر إلى هذه الشمولية التي تستولي على الجسم كله ، فقال عن الحب الإلهي حين يستشرف في القلب ويفيض منه ليشمل كلّ الجوارح ، فقال :

خطرات ذكرك تستثير مودّتي

فأحس منها في الفؤاد دبيبا

لا عضو لي إلا وفيه صبابة[5587]

فكأن أعضائي خلقن قلوبا

وعلّة هذه الإذاقة { بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا . . ( 14 ) } [ السجدة ] أي : يوم القيامة الذي حدثناكم عنه ، وحذرناكم من أهواله ، فلم نأخذكم على غرّة ، لكن نبهناكم إلى سوء العاقبة ، فلا عذر لكم الآن ، وقد ضخمنا لكم هذه الأهوال ، فكان من الواجب أن تلتفتوا إليها ، وأن تعتبروا بها ، وتتأكدوا من صدقها .

أما المؤمنون فحين يرون هذا الهول وهذا العذاب ينزل بالكفرة والمكذبين يفرحون ، لأن الله نجاهم بإيمانهم من هذا العذاب .

وتكون عاقبة نسيان لقاء الله { إِنَّا نَسِينَاكُمْ . . ( 14 ) } [ السجدة ] فأنتم نسيتم لقاء الله ، ونسيتم توجيهاته ، وأغفلتم إنذاره وتحذيره لكم ، ونحن تركناكم ليس هملا ، إنما تركناكم من امتداد الرحمة بكم ، فقد كانت رحمتي تشملكم في الدنيا ، ولم أخص بها المؤمنين بي ، بل جعلتها للمؤمن وللكافر .

فكل شيء في الوجود يعطي الإنسان مطلق الإنسان طالما أخذ بالأسباب ، لا فرق بين مؤمن وكافر ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فننساكم من هذه الرحمة التي لا تستحقونها ، بل : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 14 ) } [ السجدة ] .

فإن كنتم قد تمردتم على الله وكفرتم به في دنيا محدودة ، وعمرك فيها محدود ، فإن العذاب الواقع بكم اليوم خالد باق دائم ، فخسارتكم كبيرة ، ومصيبتكم فادحة .

وقلنا : إن العمل في الدنيا للآخرة يمثل معادلة ينبغي أن تحل حلا صحيحا ، فأنت في الدنيا عمرك لا يحسب بعمرها ، إنما بمدة بقائك فيها ، فهو عمر محدود ، أما الآخرة فخلود لا ينتهي ، فلو أن النعيم فيهما سواء لكان امتداد الزمن مرجحا للآخرة .

ثم إن نعيمك في الدنيا على قدر إمكاناتك وحركتك فيها ، أما نعيم الآخرة فعلى قدر إمكانات الله في الكون ، نعيم الدنيا إما أن يفوتك أو تفوته أنت ، ونعيم الآخرة باق لا يفوتك أبدا لأنك مخلد فيه .

إذن : هي صفقة ينبغي أن تحسب حسابا صحيحا ، وتستحق أن نبيع من أجلها الدنيا بكل ما فيها من غال ونفيس ، لذلك سماها رسول الله تجارة رابحة .

وقال سبحانه وتعالى عن الكافرين { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 ) } [ البقرة ] .

إِنَّمَا يُؤۡمِنُ بِـَٔايَٰتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَسَبَّحُواْ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ۩١٥

ثم يقول الحق سبحانه :

{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( 15 ) } .

الخرور : السقوط بغير نظام ولا ترتيب ، كما جاء في قوله تعالى { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ . . ( 26 ) } [ النحل ] وفي موضع آخر قال سبحانه في هذا المعنى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ . . ( 107 ) } [ الإسراء ] أي : من قبل القرآن { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ( 107 ) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ( 108 ) } [ الإسراء ] .

فالخرور أن تهوى إلى الأرض ساجدا دون تفكير ، وكل سجود في القرآن يتلو هذه المادة ( خرّ ) دليل على أنها أصبحت ملكة وآلية في المؤمن ، بل ويؤكدها الحق سبحانه بقوله : { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ( 107 ) } [ الإسراء ] لأنه سجود يأخذ الذقن ، فهو متمكن في الذلة ، وهو فوق السجود الذي نعرفه في الصلاة على الأعضاء السبعة المعروفة .

ولم يذكر الخرور مع الركوع إلا في موضع واحد ، هو قوله تعالى في شأن سيدنا داود : { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( 24 ) } [ ص ] .

وفي موضع آخر قال سبحانه : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ( 109 ) } [ الإسراء ] فكلما ازدادوا ذلة ازدادوا خشوعا ، فكأنهم عشقوا التكليف ، وأحبوا أوامر الله ، لذلك بالغوا في الذلة والعبودية لله تعالى ، وهذه المسألة تفسر لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا من الدعاء )[5588] .

ففي السجود تضع وجهك وجبهتك ، وهي رمز العلو والرفعة تضعها على الأرض خضوعا لله عز وجل .

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ١٦

ثم يقول الحق سبحانه عنهم[5589] :

{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 16 ) } . التجافي يعني الترك ، لكن الترك قد يكون معه شوق ويصاحبه ألم ، كما تودع حبيبا وتتركه وأنت غير زاهد فيه ولا قال[5590] له ، أما الجفوة فترك في كراهية للمتروك ، فهؤلاء المؤمنون الذين يتركون مضاجعهم كأن جنوبهم تكره المضجع وتجفوه ، لأنها تتركه إلى لذة أبقى وأعظم هي لذة الاتصال بالله ومناجاته .

ونذكر هنا أن الإمام عليا رضي الله عنه حينما ذهب ليدفن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وقف عند قبر رسول الله وقال : السلام عليك يا سيدي يا رسول الله ، قلّ عن صفيتك صبري ، ورقّ عنها تجلدي ، إلا أن لي في التعزي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تأسّ يعني : الذي تحمّل فقدك يا رسول الله يهون عليه أيّ فقد بعدك فلقد وسدتك يا رسول الله في ملحودة قبرك ، وفاضت بين سحري[5591] ونحري نفسك ، أما ليلي فمسهّد ، وأما حزني فسرمد[5592] ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، هذا وستخبرك ابنتك عن حال أمتك وتضافرها على هضمها . . فأصغها السؤال ، واستخبرها الحال . هذا ولم يطل منك العهد ، ولم يخل منك الذكر .

ثم لما أراد أن ينصرف عن قبر حبيبه قال : والسلام عليك سلام مودّع ، لا قال ولا سئم ، فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله به عباده الصابرين .

فقوله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ . . ( 16 ) } [ السجدة ] أي : تكرهها وتجفوها ، مع أنها أعزّ ما يركن إليه الإنسان عند راحته ، فالإنسان حين تدبّ فيه الحياة ، ويستطيع أن تكون له قوة ونشاط يعمل في الحياة ، فالعمل فرع وجود الحياة ، وبالقوة يمشي ، وبالقوة يحمل الأثقال .

فإذا ما أتبعه الحمل وضعه عن نفسه ليستريح ، لكنه يستطيع أن يمشي بدون حمل ، فإن أتعبه المشي وقف ، فإذا أتعبه الوقوف جلس ، لذلك يحدث أن تقول لصاحبك : لو سمحت احمل عني هذا الحمل فيقول : يا شيخ ، هل أنا قادر أن أحمل نفسي ؟

إذن : التعب في هذه الحالة ناشئ من ثقل الجسم على القدمين فيتعبه الوقوف ، ألا ترانا إذا أطال الإمام في الصلاة مثلا نراوح بين القدمين مرة على هذه ، ومرة على هذه ، ، أما القعود فيريح الإنسان ؛ لأنه يوسّع دائرة العضو المحتمل ، فثقل الجسم في حالة القعود يوزع على المقعدة كلها ، فإذا بلغ به التعب حدا بحيث أتعبه القعود فإنه يستلقي على جنبه ، ويمد جسمه كله على الأرض فيتوزع الثقل على كل الأعضاء ، فلا يحمل العضو إلا ثقله فقط .

فإن شعر الإنسان بتعب بعد هذا كله تقلّب على جنبه الآخر أو على ظهره ، هذه كلها ألوان من الراحة لجسم الإنسان ، لكنه لا يرتاح الراحة الكاملة إلا إذا استغرق في النوم ، ويسمّون هذا التسلسل متواليات عضلية .

والدليل على أن النوم راحة تامة أنك لا تشعر فيه بالألم الذي تشعر به حال اليقظة إن كنت تتألم من مرض مثلا وهذه كلها متواليات يمر بها المؤمن ، وبالتالي إذا مات استراح أكثر ، ثم إذا بعث يوم القيامة ارتاح الراحة الكبرى ، فهي مراحل نمر بها إلى أن نرتمي في حضن خالقنا عز وجل .

إذن : فالمضاجع آخر مرحلة في اليقظة ، ولم تأت إلا بعد عدة مراحل من التعب ، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه ينسيهم هذه الراحة ، ويزهدهم فيها ، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله .

وفي موضع آخر قال تعالى عنهم : { وكانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( 17 ) } [ الذاريات ] ثم يقول سبحانه : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ . . ( 16 ) } [ السجدة ] أي : يدعون ربهم وهم على حال التعب ، كأن الدعاء مجرد الدعاء يريحهم ، لماذا ولم يجابوا بعد ؟ قالوا : لأنهم وضعوا حاجاتهم وطلبهم عند قادر على الإنفاذ ، ثم إن حلاوة لقائهم بربهم في الصلاة تنسيهم التعب الذي يعانون .

والمؤمنون يدعون ربهم { خَوْفًا وَطَمَعًا . . ( 16 ) } [ السجدة ] أي : خوفا مما حدث منهم من تقصير في حق الله ، وأنهم لم يقدموا لله تعالى ما يستحق من التقوى ومن الطاعة { وَطَمَعًا . . ( 16 ) } [ السجدة ] أي : في المغفرة { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 16 ) } [ السجدة ] والمراد هنا الزكاة .

لذلك نرى في قوله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ . . ( 16 ) } [ السجدة ] أن هذا التجافي كان بقصد الصلاة ، لأن القرآن عادة ما يقرن الصلاة بالزكاة ، فقال بعدها : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 16 ) } [ السجدة ] .

فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٧

قلنا : إن الحق سبحانه أخفى أسرار الخير عن الخلق ، ولم يعطهم منها إلا على قدر حاجتهم منها ، فإذا أراد سبحانه أن يجازى عباده المؤمنين لا يجازيهم بما يعلمون من خيرات الدنيا وإمكاناتهم فيها ، إنما يجازيهم بما يعلم هو سبحانه ، وبما يتناسب مع إمكانات قدرته .

وهذه الإمكانات لا نستطيع نحن التعبير عنها ، لأن ألفاظ اللغة لا تستطيع التعبير عنها ، ومعلوم أن الإنسان لا يضع الاسم إلا إذا وجد المسمى والمعنى أولا ، لذلك قال تعالى في التعبير عن هذا النعيم : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ . . ( 17 ) } [ السجدة ] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة : " فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " [5593] إذن : كيف نسمّي هذه الأشياء ؟ وكيف نتصوّرها وهي فوق إدراكاتنا ؟ لذلك سنفاجأ بها حين نراها إن شاء الله .

ثم ألا ترى أن الحق سبحانه حينما يعرض علينا طرفا من ذكر الجنة لا يقول لنا الجنة كذا وكذا ، إنما يقول : { مثل الجنة التي وعد المتقون . . ( 35 ) } [ الرعد ] أي : أن ما نعرضه عليك ليس هو الجنة ، إنما شبيه بها ، أما هي على الحقيقة ففوق الوصف الذي تؤديه اللغة ، فأنا أعطيكم الصورة القريبة لأذهانكم .

ثم ينقى الحق سبحانه المثل الذي يضربه لنا من شوائبه في الدنيا ، وتأمل في ذلك قول الله تعالى عن نعيم الجنة : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ . . ( 15 ) }[ محمد ] وكانت آفة الماء عندهم أن يأسن ويتغير في الجرار ، فنقّاه الله من هذه الآفة .

وكذلك في { وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ( 15 ) } [ محمد ] وكان العربي إذا سار باللبن يحمض فيعافه { وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ . . ( 15 ) }[ محمد ] وآفة خمر الدنيا أنها تغتال العقل ، وتذهب به ، وليس في شربها لذة ، لذلك نرى شاربها والعياذ بالله يتجرّعها مرة واحدة ، ويسكبها في فمه سكبا ، دليلا على أنها غير طيبة ، وهل رأيت شارب الخمر يمتصها مثلا كما تمتص كوبا من العصير ، وتشعر بلذة شربه ؟

وقد وصف الله خمر الآخرة بقوله : { لا فِيهَا غَوْلٌ[5594] وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ[5595] ( 47 ) } [ الصافات ] .

ثم يقول سبحانه : { وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى . . ( 15 ) } [ محمد ] فوصف العسل بأنه مصفّى ، لأن آفة العسل عندهم ما كان يعلق به من الحصى والشوائب حين ينحدر من بيوت النحل في الجبال ، فصفّى الله عسل الآخرة من شوائب العسل في الدنيا .

ومهما بلغ بنا ترف الحياة ونعيمها ، ومهما عظمت إمكاناتنا في الدنيا ، فلن نرى فيها نهرا من الخمر ، أو من اللبن ، أو من العسل ، ثم إن هذه الأنهار تجري في الجنة بلا شطآن ، بل ويتداخل بعضها في بعض دون أن يطغى أحد منها على الآخر ، وهذه طلاقة القدرة التي لا حدود لها .

إذن : الحق سبحانه حين يشرح لنا نعيم الجنة ، وحين يصفها يعطينا المثال لا الحقيقة ، ثم ينقي هذا المثال مما يشوبه في الدنيا .

ومن ذلك أن العربي كان يحب شجرة السدر أي النبق ، فيستظل بظلها ، ويأكل ثمرها ، لكن كان ينغص عليه هذه اللذة ما بها من أشواك لا بدّ أن تؤذي من يقطف ثمارها ، فلما ذكرها الله تعالى في نعيم الجنة قال عنها : { في سدر[5596] مخضود ( 28 ) } [ الواقعة ] أي : منزوع الشوك ، فالمتعة به تامة لا ينغصها شيء .

ولما تكلم عن نساء الجنة قال سبحانه عن الحور العين : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ [5597] إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 74 ) }[ الرحمن ] فنفى عنهن ما ينغص على الرجل جمال المرأة في الدنيا ، وطمأنك أنها بكر لم ينظر إليها أحد قبلك .

لهذا قال تعالى عن نعيم الجنة { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ . . ( 17 ) } [ السجدة ] والقرة والقرور أي : السكون ، ومنه قرّ في المكان أي : استقر فيه ، والمعنى أن الإنسان لا يستقر في المكان إلا إذا وجد فيه راحته ومقومات حياته ، فإذا أردت أن تستقر في مكان أو تشتري شقة مثلا تسأل عن المرافق والخدمات من ماء وكهرباء وطرق . . الخ .

حتى نحن في تعبيراتنا العامية وفي الريف الذي يحتفظ لنا بخصائص الفطرة النقية التي لم يشبها زيف الحضارات ولا زخرفة المدينة ، وهذه الفطريات تستهوي النفوس وتجذبها ، بدليل أن الإنسان الحضاري مهما بلغ القمة وسكن ناطحات السحاب ، وتوفرت له كل كماليات الحياة لا بدّ أن يأتي اليوم الذي يلجأ فيه إلى أحضان الطبيعة ، فلا ترتاح نفسه ، ولا تستقر إلا في الريف ، فيقضي هناك عدة أيام حيث تهدأ هناك نفسه ، وتستريح من ضوضاء المدينة ، والبعض يسمونها ( الويك إند ) .

فمعنى ( قرة العين ) أي : استقرارها على شيء بحيث لا تتحول عنه إلى غيره ، والعين لا تستقر على الشيء إلا إذا أعجبها ، ورأت فيه كل ما تصبو إليه من متعة .

ومن ذلك قولنا ( فلان عينه مليانة ) يعني : لا يحتاج مزيدا من المرائي غير ما يراه ( وفلان عينه فارغة ) يعني : لا يكتفي بما يرى ، بل يطلب المزيد ، فينظر هنا وهناك .

ففي الجنة تقر العيون بحيث لم يعد لها تطلعات ، فقد كملت لها المعاني ، فلا ينبغي لها أن تطمع في شيءآخر إلا الدوام .

لذلك يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ . . ( 131 ) } [ طه ] .

فالإنسان إذا كانت عينه فارغة تراه زائغ العينين ، ينظر هنا وهناك ، ولو كانت عينه ( مليانة ) لانتهى عندها .

ومن معاني مادة ( قرّ ) القرّ وهو البرد الشديد ، وهذا المعنى يكنون به عن سرور النفس ، فالعين الباردة أي : المسرورة ، أما العين الساخنة فهي الحزينة المتألمة .

ومن المعاني أيضا لقرور العين سكونها وعدم حركتها لعلة أو عمى ، ومن ذلك قول المرأة التي دخلت على الخليفة فقالت : أقرّ الله عينك ، وأتمّ عليك نعمتك . ففهم الحاضرون أنها تدعو له ، فقال : والله ما دعت لي ، إنما دعت عليّ ، فهي تقصد أقرّ الله عينك يعني : أسكنها فلا تتحرك ، وأتمّ عليك نعمتك . أي : أزالها ، لأن النعمة إذا تمت زالت ، فلا شيء بعد التمام إلا النقصان .

ثم يعلّل الحق سبحانه هذا النعيم الذي أخفاه لعباده المؤمنين في الجنة بأنه { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 17 ) } [ السجدة ] وهذه أثارت معركة بين العلماء هي معركة الأحباء : فريق قال إن المؤمن يدخل الجنة بعمله ، كما نصّت هذه الآية أي أن الجنة بالعدل لا بالفضل ، وفريق قال : بل يدخل الجنة بفضل الله ، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 58 ) } [ يونس ] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني[5598] الله برحمته ) [5599] .

فلما حميت هذه المعركة أرادوا أن يوحدوا هذين الرأيين ، ويوفقوا بينهما ، فقالوا : لقد سبق الله تعالى المكلف بالإحسان ، فخلق له مقومات حياته قبل أن يوجد ، ثم تركه يرتع في نعمه دون أن يطالبه بشيء حتى بلغ سنّ التكليف .

فإذا ما كلّفه الله بعد سابق نعمه عليه ، فعليه أن يطيع هذا التكليف جزاء ما سبق من إحسان الله إليه الإحسان الأول ، وبذلك يكون الجزاء في الآخرة ليس على العمل ، إنما محض فضل من الله على عباده .

إذن : حينما تؤدي ما كلفك ربك به كأنك تجازي ربك بطاعته على سابق إحسانه إليه ، فكأن الجنة ونعيمها زيادة وفضل من الله ، فالله سبحانه له الفضل عليك في الأولى ، وله الفضل عليك في الآخرة .

ثم إن الحق تبارك وتعالى حين يشرّع لك ويكلفك ، فشرعه وتكليفه في ذاته فضل ، ألا ترى أن الحسنة عنده سبحانه بعشر أمثالها ، وأنها تضاعف إلى أضعاف كثيرة ، ونحن ملكه سبحانه ، يعطينا أو لا يعطينا .

وبعض أهل المعرفة والشطح يقولون : الله قدّم الإحسان أولا ، فيجب على العبد أن يأتي الإحسان جزاء الإحسان ، لأنه { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( 60 ) } [ الرحمن ] .

وحين يحسن العبد في التكليف يحييه ربه بإحسان آخر ، فيرد العبد على إحسان ربه إليه بالإحسان ، وهكذا يتواصل الإحسان بين العبد وربه إلى ما لا نهاية .

أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ١٨

ثم يقول الحق سبحانه[5600] :

{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ( 18 ) } .

أولا : نلحظ في اللفظ أن مؤمنا وفاسقا جاءت بصيغة المفرد ، فكان القياس أن نقول لا يستويان ، إنما سياق القرآن { لَّا يَسْتَوُونَ ( 18 ) } [ السجدة ] وسبق أن قلنا : إن ( من وما ) الموصولتين تأتي للمفرد أو للمثنى أو للجمع ، وللمذكر وللمؤنث ، فمرة يراعي السياق لفظها ، ومرة يراعي معناها .

والمعنى هنا { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ( 18 ) } [ السجدة ] الحق سبحانه لا يتكلم عن المفرد ، إنما عن الجمع ، أو أنها قيلت ردا لحالة مخصوصة بين مؤمن وكافر وأراد الحق سبحانه أن يعطيها العموم لا خصوص السبب ، فراعى السياق خصوص السبب في مؤمن وكافر ، وراعى عموم الموضوع فقال { لَّا يَسْتَوُونَ( 18 ) } [ السجدة ] والقاعدة الفقهية تقول : إن العبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب[5601] .

وقيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين جادل عليا رضي الله عنه . فقال له : أنا أشب منك شبابا ، وأجلد[5602] منك جلدا ، وأذرب[5603] منك لسانا ، وأحدّ منك سناما ، وأشجع منك وجدانا ، وأكثر منك مرقا . فردّ عليه عليّ كرّم الله وجهه بما يدحض هذا كله ويبطله ، فقال له : اسكت يا فاسق ، ولا موهبة لفاسق .

والمعنى : إن كنت كما تقول فقد ضيعت هذا كله بفسقك ، حيث استعملت قوة شبابك وجلدك وذرب لسانك وشجاعة وجدانك في الباطل وفي المعصية ، وفي الصدّ عن سبيل الله .

وهكذا جمعت الآية بين خصوصية هذا السبب في { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا . . ( 18 ) } [ السجدة ] وبين عموم الموضوع في { لَّا يَسْتَوُونَ ( 18 ) } [ السجدة ] ، فهذا الحكم ينسحب على الجمع أيضا .

وجاء قوله تعالى : { لَّا يَسْتَوُونَ ( 18 ) } [ السجدة ] كأنه جواب للسؤال{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا . . ( 18 ) } [ السجدة ] لكن ، لماذا لم يأت الجواب مثلا : لا يستوي المؤمن والفاسق ؟ قالوا : لأن هذا الأسلوب يسمى أسلوب الإقناع التأكيدي ، وهو أن تجعل الخصم هو الذي ينطق بالحكم .

كما لو قال لك صديق : لقد مررت بأزمة ولم تقف بجانبي ، فتستطيع أن تقول له : وقفت بجانبك يوم كذا ويوم كذا على سبيل الخبر منك ، لكن الإخبار منك يحتمل الصدق ويحتمل الكذب ، فتلجأ إلى أسلوب آخر لا يستطيع معه الإنكار ، ولا يملك إلا الاعتراف لك بالجميل فتقول بصيغة السؤال : ألم أقدم لك كذا وكذا يوم كذا وكذا ؟ وأنت لا تسأله إلا إذا وثقت بأن جوابه لا بدّ أن يأتى وفق مرادك وعندها يكون كلامه حجة عليه .

لذلك طرح الحق سبحانه هذه المسألة في صورة سؤال : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا . . ( 18 ) } [ السجدة ] ولا بد أن نقول نحن في جواب هذا السؤال : لا يستوي مؤمن وفاسق ، ومن يقل بهذا فقد وافق مراد ربه .

أَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلۡمَأۡوَىٰ نُزُلَۢا بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٩

وما دام أن المؤمن لا يستوي والفاسق ، فلكل منهما جزاء يناسبه : { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 19 ) } .

وإن كانت لفظة ( مؤمن ) جاءت مفردة ، فقد أوضحت هذه الآية أن المراد الجمع { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . . ( 19 ) } [ السجدة ] أي : العموم ، لأنه أخذ مما كان مفردا جمعا ، وهذا دليل على أن هذا المفرد في جنسه جمع كثير ، كما في قوله تعالى { والعصر ( 1 ) إن الإنسان لفي خسر ( 2 ) } [ العصر ] فالإنسان مفرد يستثنى منه الجمع { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . ( 3 ) } [ العصر ] لأن لفظة الإنسان هنا تدل على الجماعة . و( ال ) فيها ال الاستغراقية .

فالحق سبحانه ينقلنا من المؤمن إلى العموم { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا . . ( 19 ) } [ السجدة ] ومن الفاسق إلى { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا . . ( 20 ) } [ السجدة ] فهما جماعتان متقابلتان لكل منهما جزاؤه الذي يناسبه :

{ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى . . ( 19 ) } [ السجدة ] والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويلجأ إليه ليحفظه من كل مكروه ، كما قال تعالى في شأن عيسى وأمه مريم عليهما السلام : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( 50 ) } [ المؤمنون ] يعني : يمكنهما الاستقرار فيها ، لأن بها مقومات الحياة ( ومعين ) يعني : عين ماء .

ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابن نوح حين قال لأبيه : { سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ . . ( 43 ) } [ هود ] فنبهه أبوه وحذره ، فقال : { لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ . . ( 43 ) }[ هود ] .

ونلحظ في هذه القصة حنان الأبوة من سيدنا نوح حين قال { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي . . ( 45 ) }[ هود ] لكن ربه عز وجل لا يتركه على هذه القضية ، إنما يصححها له { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ . . ( 46 ) }[ هود ] .

إذن : فالنبوة هنا ليست بنوة نسب ، إنما بنوة إيمان وعمل ، ألا ترى أن سيدنا رسول الله قال لسلمان الفارسي وهو من غير العرب بالمرة : " سلمان منا آل البيت " [5604] .

وإن كان النسب ينفع من الآباء إلى الأبناء ، فهذه ليست خصوصية للأنبياء ، إنما لكل الناس ، كما قال سبحانه : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ . . ( 21 ) } [ الطور ] .

وإلحاق الأبناء بالآباء في الحقيقة كرامة للآباء أن يجدوا أولادهم معهم في الجنة جزاء إيمان الآباء وعملهم الصالح ، فإن كان الأولاد دون سنّ التكليف فطبيعي أن يلحقوا بالآباء ، بل وتكون منزلتهم أعظم من منزلة آبائهم ؛ لأن الأطفال الذين يموتون قبل الرشد ليس لهم أماكن محددة ، إنما ينطلقون في الجنة يمرحون فيها كما يشاؤون .

وقد مثلنا لذلك بالولد الصغير تأخذه معك في زيارة أحد الأصدقاء ، فتجلس أنت في حجرة الجلوس ، بينما الولد الصغير يجري في أنحاء البيت ، ويدخل أي مكان فيه لا يمنعه فيه أحد ، لذلك يسمون الأطفال ( دعاميص ) الجنة[5605] .

والبعض هنا يثير مسألة أن الإنسان مرتهن بعمله ، ولا ينتفع بعمل غيره ، فكلّ معلق من ( عرقوبه ) كما نقول ، فالبعض يسأل : لماذا إذا نصلي على الميت ، والصلاة عليه ليست من عمله ؟ فإن كانت الصلاة عليه لها فائدة تعود عليه فقد انتفع بغير عمله ، وإن لم تكن لها فائدة فهي عبث ، وحاش لله أن يضع تشريعا عبثا .

ونقول : هل صليت على كل ميت مؤمنا كان أو كافرا ؟ لا إنما نصلي على المؤمن ، إذن : صلاتك أنت عليه نتيجة إيمانه ، وجزء من عمله ، ولولا إيمانه ما صلّينا عليه .

نعود إلى معنى كلمة ( المأوى ) ، فالجنة مأوى المؤمن ، تحفظه من النار وأهوالها { نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 19 ) } [ السجدة ] أي : جزاء عملهم الصالح ، والنزل هو المكان المعدّ لينزل فيه الضيف الطارئ عليك ؛ لذلك يسمون الفندق ( نزل ) ، فإذا كانت الفنادق الفاخرة التي نراها الآن ما أعدّه البشر للبشر ، فما بالك بما أعدّه ربّ البشر لعباده الصالحين ؟

وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمۡ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ٢٠

{ فَسَقُوا . . ( 20 ) } [ السجدة ] من الفسوق أي الخروج ، نقول : فسقت البلحة يعني خرجت عن قشرتها ، والمراد هنا الذين خرجوا عن طاعة الله وعن مطلوبات الحق سبحانه { فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ . . ( 20 ) } [ السجدة ] قلنا : إن المأوى هو المكان الذي تأوي إليه ، فيحميك من كل مكروه ، فكيف توصف به النار هنا ؟

قالوا : المأوى المكان الذي ينزل فيه الإنسان على هواه وعلى ( كيفه ) ، أما هؤلاء فينزلون هنا رغما عنهم ، أو أن الكلام هنا على سبق التهكم والسخرية ، كما في قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم ( 21 ) } [ آل عمران ] .

ومعلوم أن البشرى لا تكون إلا بالشيء السّار ، ومثل : { ذق إنك أنت العزيز الكريم ( 49 ) } [ الدخان ] ، وهذا كثير في أسلوب القرآن ؛ لأنه أسلوب يؤلم الكافرين ، ويحط من شأنهم .

ثم يصوّر لنا الحق سبحانه ما فيه أهل النار من اليأس : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا . . ( 20 ) } [ السجدة ] وفي موضع آخر قال عنهم { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ( 77 ) } [ الزخرف ] إذن : لا أمل لهم في الخروج ، ولا حتى في الموت الذي يريحهم مما هم فيه ، بل تردهم الملائكة في العذاب ، ويقولون لهم : { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 20 ) } [ السجدة ] .

فالإذاقة تعدّت اللسان واستولت على كل الأعضاء ، فكل ذرة فيه تذوق عذاب النار جزاء ما كانوا يكذبون بها في الدنيا ، حيث كذّبوا بالأصل ، وهو الرجوع إلى الله يوم القيامة .