آراء ابن حزم الظاهري في التفسير

ابن حزم القرن الخامس الهجري

صفحة 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

[ 1 ] : مسألة : في تحقيق المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه في إنكاره كون الفاتحة ، والمعوذتين من القرآن .

قال ابن حزم :

كل ما روي عن ابن مسعود : من أن المعوذتين ، وأم القرآن لم تكن في مصحفه ؛ فكذب موضوع لا يصح ؛ وإنما صحت عنه قراءة عاصم[1] ، عن زر بن حبيش[2] ، عن ابن مسعود ، وفيها أم القرآن ، والمعوذتان[3] [4] .

الاستعاذة

وفيها مسألتان :

[ 2 ] : المسألة الأولى : في حكم الاستعاذة .

ومذهب ابن حزم : أنها فرض عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها .

قال ابن حزم :

وفرض على كل مصل أن يقول إذا قرأ : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لا بد له في كل ركعة من ذلك لقول الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }[5]

ومن الخطأ أن يأمر الله تعالى بأمر ثم يقول قائل بغير برهان من قرآن ، ولا سنة : هذا الأمر ليس فرضا ، لاسيما أمره تعالى بالدعاء في أن يعيذنا من كيد الشيطان ؛ فهذا أمر متيقن : أنه فرض ؛ لأن اجتناب الشيطان ، والفرار منه ؛ وطلب النجاة منه : لا يختلف اثنان في أنه فرض ، ثم وضع الله تعالى ذلك علينا عند قراءة القرآن .

قال ابن حزم : فلم يبق إلا قول من أوجب التعوذ : فرضا ، في قراءة القرآن في الصلاة وغير الصلاة ، على عموم الآية المذكورة .

1 حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، ثنا أحمد بن عون الله ، ثنا قاسم بن أصبغ ، ثنا محمد بن بشار ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عاصم العنزي عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الصلاة قال : " الله أكبر كبيرا ، الله أكبر كبيرا ، الله أكبر كبيرا ، ثلاثا ، الحمد لله كثيرا ، الحمد لله كثيرا ، الحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان ، من همزه ، ونفخه ونفثه " [6]

2 حدثنا حمام ، ثنا ابن مفرج ، ثنا ابن الأعرابي ، ثنا الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن سعيد الجريري ، ثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال : قلت : يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين قراءتي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ذلك شيطان يقال له : خنزب ؛ فإذا حسسته فتعوذ واتفل عن يسارك ثلاثا " [7] .

3 وعن ابن جريج ، عن عطاء قال : الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الأرض في الصلاة وغيرها ويجزئ عنك ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .

قال ابن جريج : فقلت له : من أجل : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } قال : نعم[8] [9] .

[ 3 ] : المسألة الثانية : في محل الاستعاذة من القراءة .

ومذهب ابن حزم أنها تكون قبل القراءة .

قال ابن حزم :

روينا من طريق معمر : عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين : أنه كان يتعوذ من الشيطان في الصلاة قبل أن يقرأ أم القرآن ، وبعد أن يقرأ أم القرآن[10] .

قال ابن حزم : ومن قال بقول بن سيرين وأخذ به فيرى التعوذ سنة قبل افتتاح القراءة ؛ لأنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل القراء جيلا بعد جيل ، وفرضا بعد أن يقرأ ما يقع عليه اسم القرآن ، ولو أنه كلمتان ، على نص الآية ؛ لأنها توجب التعوذ بعد القراءة بظاهرها .

قال ابن حزم : إلا أنه قد صح إجماع جميع قراء أهل الإسلام جيلا بعد جيل على الابتداء بالتعوذ متصلا بالقراءة قبل الأخذ في القراءة ، مبلغا إلينا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا قاض على كل ذلك . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا توضأ أحدكم فليستنثر " [11]

وصح أنه عليه السلام استنثر في أول وضوئه[12] وبالله تعالى التوفيق[13] .

قوله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم1 }

[ 4 ] : مسألة : في البسملة هل هي آية من الفاتحةَ ؟

قال ابن حزم :

من كان يقرأ برواية من عد من القراء { بسم الله الرحمن الرحيم } آية من [ أم ] [27] القرآن ؛ لم تجزه الصلاة إلا بالبسملة وهم : عاصم بن أبي النجود ، وحمزة ، والكسائي ، وعبد الله بن كثير[28] ، وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم .

ومن كان يقرأ برواية من لا يعدها من أم القرآن : فهو مخير بين أن يبسمل ، وبين أن لا يبسمل وهم : ابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وفي بعض الروايات عن نافع[29] .

وقال مالك : لا يبسمل المصلي إلا في صلاة التراويح في أول ليلة من الشهر

وقال الشافعي : لا تجزئ صلاة إلا ب { بسم الله الرحمن الرحيم } .

قال ابن حزم : وأكثروا من الاحتجاج بما لا حجة لأي من الطائفتين فيه .

مثل الرواية عن أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم } لا قبلها ولا بعدها[17] وعن أبي هريرة مثل هذا[18] .

قال ابن حزم : وهذا كله لا حجة فيه ، لأنه ليس في شيء من هذه الأخبار نهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } وإنما فيها : أنه عليه السلام كان لا يقرؤها .

وقد عارضت هذه الأخبار أخبار أخر منها :

1 ما روينا من طريق أحمد بن حنبل : حدثنا وكيع ، ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا لا يجهرون ب{ بسم الله الرحمن الرحيم }[19]

2 ورويناه أيضا : فلم يجهروا ب{ بسم الله الرحمن الرحيم }

فهذا يوجب أنهم كانوا يقرءونها ويسرون بها ، وهذا أيضا الإيجاب فيه لقراءتها .

وكذلك سائر الأخبار .

قال ابن حزم : والحق من هذا أن النص قد صح بوجوب قراءة أم القرآن فرضا ، ولا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن هذه القراءات حق كلها مقطوع به ، مبلغة كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل عليه السلام ، عن الله عز وجل بنقل الملوان[20] ، فقد وجب إذ كلها حق أن يفعل الإنسان في قراءته أي ذلك شاء ؛ وصارت { بسم الله الرحمن الرحيم } في قراءة صحيحة آية من أم القرآن ، وفي قراءة صحيحة ليست آية من أم القرآن .

مثل لفظة { هو } في قوله تعالى في سورة الحديد : { هو الغني الحميد }[21] وكلفظة { من } في قوله تعالى : { من تحتها الأنهار }[22] في سورة ( براءة ) على رأس المائة آية هما من السورتين في قراءة من قرأ بهما ، وليستا من السورتين في قراءة من لم يقرأ بهما .

ومثل هذا في القرآن وارد في ثمانية مواضع ، ذكرناها في كتاب القراءات[23] ، وآيات كثيرة وسائر ذلك من الحروف يطول ذكرها . كزيادة ميم { منها } في سورة الكهف[24] ، وفي حم عسق : { فبما كسبت }[25]

وهاءات في مواضع كثيرة في يس : { وما علمناه }[26] ، وفي الزخرف : { تشتهيه الأنفس }[27] ، و { لم يتسنه }[28] ، وغير ذلك .

والقرآن أنزل على سبعة أحرف ، كلها حق ، وهذا كله حق ، وهذا كله من تلك الأحرف بصحة الإجماع المتيقن على ذلك وبالله تعالى التوفيق[29] .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢
ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣
مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

قوله تعالى : { مالك يوم الدين4 }

[ 5 ] : مسألة : في معنى الدين في الآية واستعمالاته في القرآن واللغة .

يرى ابن حزم أن " الدين " يأتي في اللغة بمعنى ، الجزاء وفي القرآن بمعنى الجزاء والشريعة ، أما في آية الفاتحة فهو بمعنى : الجزاء .

قال ابن حزم : الدين هو الجزاء في أصول اللغة تقول العرب : كما تدين تدان ، وهو في الشريعة واقع على الجزاء أيضا . قال تعالى : { ملك[30]يوم الدين4 }[31] أي : يوم الجزاء .

ويقع أيضا على جميع الشرائع قال عز وجل : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين85 }[32] يريد : شريعة .

وقال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }[33] وقال تعالى : { لكم دينكم ولي دين6 }[34] [35] .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥
ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

قوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم6 }

[ 6 ] : مسألة : في أنواع الهداية في القرآن

ذكر ابن حزم نوعين من أنواع الهداية في القرآن وهما :

1 هداية الدلالة والبيان .

2 وهداية التوفيق والإلهام .

قال ابن حزم :

الهدى الذي أعطاه الله تعالى جميع الناس ، هو غير الهدى الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه .

والهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة التي يقع الاسم منها على مسمين مختلفين بنوعهما فصاعدا فالهدى يكون بمعنى :

1 الدلالة : تقول : هديت فلانا الطريق ، بمعنى أريته إياه ، وأوقفته عليه ، وأعلمته إياه ، سواء سلكه أو تركه .

وتقول : فلان هاد للطريق ؛ أي هو دليل فيه ، فهذا هو الهدى الذي هدى الله تعالى ثمود[36] وجميع الجن والملائكة ، وجميع الإنس كافرهم ومؤمنهم ، لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي .

2 ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير ، والتيسير له ، وخلقه لقبول الخير في النفوس ، فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم ، والمهتدين من الإنس والجن ، ومنعه الكفار والفاسقين فيما فسقوا به ، ولو أعطاهم إياه لما كفروا ولا فسقوا ، وبالله تعالى التوفيق[37] .

وقال : إن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء }[38] ، وقال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }[39] .

فصح يقينا أن الهدى الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم هو الدلالة وتعليم الدين ، وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده أ . ه[40] .

وقد مثل ابن حزم للنوع الأول بقوله تعالى : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }[41] وبقوله تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }[42] .

وللنوع الثاني بقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة }[43] وبقوله تعالى : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل }[44] .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧