تأويلات أهل السنة للماتريدي

الماتريدي القرن الرابع الهجري

صفحة 589

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ١

سورة [ الانشقاق وهي مكية ][1]

الآية 1 : قوله تعالى : { إذا السماء انشقت } هو جواب سؤال تقدم لما ذكرنا أن حرف { إذا } حرف جواب ، وليس بحرف ابتداء ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ملاقاة الأعمال : متى وقتها ؟

فقال تعالى : { إذا السماء انشقت } { وأذنت لربها وحقت } فذلك[23334] وقت ملاقاة الأعمال .

وقيل : ذكر في الخبر أن أخوين : أحدهما مسلم ، والآخر كافر ، قال [ الكافر ][23335] للمسلم : أترابا بعد الموت مبعوثون ؟ قال له : بلى والذي خلقك { والجبلّة الأولين } [ الشعراء : 184 ] .

فنزلت هذه السورة تبين لهم وقت بعثهم أنه عند انشقاق السماء ومد الأرض ونحوه .

ثم ذكر الجواب في ابتداء السورة ليكون المرء أذكر لها لأنه يكون أدعى لها ، وإذا ذكر في وسط السورة لم يتحفظ إلا بالتلاوة . ولهذا المعنى ، والله أعلم ، جعلت : { الم } و{ الر } و { كهيعص } و{ طه } رؤوس السور لأن الكفرة كان من عادتهم الإعراض عن القرآن وترك الاستماع إليه ، ليتفهموه .

فابتدئت [ بعض السور ][23336] بما ذكرت من الرموز والإشارات ليحملهم ذلك على التفكر فيه والنظر ، إذ لم يسبق منهم[23337] العلم بمعرفة ما يراد من قوله تعالى : { الم } و{ الر } .

ثم ذكر انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها لما جعل فيها ليعرفوا شدة ذلك اليوم ، فيخافوه ، ويستعدوا له .

وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ٢

الآية 2 : وقوله تعالى : { وأذنت لربها وحقت } قيل : سمعت لربها ، وأطاعت ، وأجابت إلى ما دعيت إليه .

ثم المراد من الإذن مختلف ، فحقه أن يصرف كل شيء إلى ما هو الأولى به .

ألا ترى أنك إذا قلت : أذن الرجل لعبده في التجارة ، فليست تريد بقولك : أذن ما تريد به إذا أذنت لغيرك أن يتناول من طعامك ، بل تريد بالإذن للعبد الأمر بأن يتجر حتى إذا[23338] لم يفعل تلزمه على ذلك ، وتريد بالآخر إباحة التناول ؟

قال الله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [ آل عمران : 145 ] وقال في موضع آخر : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله }[ يونس : 100 ] فكان المراد من الإذنين مختلفا[23339] .

فثبت أن حقه أن يحمله إلى ما دعاه إليه أوجه ؛ وهو إلى الطاعة والإجابة ههنا/633 – أ/ أوجه . لذلك حملوه عليه .

وقوله عز وجل : { وحقت } أي حق لها أن تسمع ، وتطيع . وجائز أن تكون الإجابة منصرفة إلى أهلها ، ثم نسب إليها ذلك ، وإن كان المراد منه الأهل كقوله تعالى : { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها } [ الطلاق : 8 ] ولا يوجد من القرية عتو ، وإنما يوجد من أهلها .

فإن كان كذلك ففيه أنه لا يتخلف أحد عن الإجابة إلى ما دعاه إليه الرب تعالى خلافا لما[23340] كانوا عليه في الدنيا ؛ فإن كثيرا من أهل الدنيا أعرضوا عن طاعته ، واشتغلوا بمعصيته .

ثم الإجابة والطاعة والطوع والكره ومثل هذه الأوصاف إذا أضيفت إلى من هو من أهل الاختيار فهو على الطوع المعروف والإجابة المعروفة ، وإذا أضيفت إلى من ليس هو من أهل الاختيار فهو على تعيين الهيئة [ على ما هي عليه الخلقة نحو الأرض ، توصف بالحياة إذا أنبتت ، وتوصف بالموت إذا يبس [ ما ][23341] عليها ، وصارت متهشمة ، فيراد بهما أنهما صارتا[23342] بهيئة لو وجدت تلك الهيئة ][23343] في الروحانيين لصار أحدهما علما لحياته ، والآخر علما لوفاته ، كقوله[23344] تعالى : { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } [ البقرة : 29 ] وقوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وهما لا يوصفان بطوع ولا كره ؛ خلقتا على هيئة لو وجدت تلك الهيئة في من وصف بالطوع والإكراه كان ذلك منه طوعا . وقول[23345] إبراهيم عليه السلام : { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } [ إبراهيم : 36 ] [ وهي ][23346] في الحقيقة لا تضل ، ولكنها أنشئت على هيئة ، لو كانت تملك الإضلال لعد ذلك منها إضلال .

وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ٣

الآية 3 : وقوله تعالى : { وإذا الأرض مدت } قيل : بسطت ، وسويت بكسر الشعاب ، والأودية [ بكسر الجبال ، وتماستا ، فصارت ][23347] { قاعا صفصفا } { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } [ طه : 106 و107 ] .

وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ٤

الآيتان 4 و5 : وقوله تعالى : { وألقت ما فيها وتخلت } [ { وأذنت لربها وحقت } ][23348] أي ألقت ما وضع فيها من الموتى والكنوز ، فتخلت عنها ، فنسب التخلي إليها ، وإن كان من فيها ، هو الذي تخلى[23349] عنها ، وكانت هي الحابسة[23350] ، لأنه إذا [ تخلى عنها تخلت ][23351] هي عنه .

وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ٥
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ٦

الآية 6 : وقوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح } الكادح ، هو الساعي ، وهو الذي اعتاد ذلك ، وهذا في كل إنسان ، تراه أبدا ساعيا إما في عمل الخير [ وإما في ][23352] عمل الشر وإما[23353] في ما يضره حتى إذا[23354] هم بترك السعي لم يقدر لأن تركه السعي نوع من السعي .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين تلا هذه الآية قال : ( ( أنا ذلك الإنسان ) ) فهذا ليس أنه هو المخصوص بالخطاب لأنه بين الإنسان فقال : { فمن أوتي كتابه بيمينه } [ الإسراء : 81 و . . . ] { وأما من أوتي كتابه بشماله } [ الحاقة : 25 ] { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } [ الانشقاق : 10 ] ][23355] ولا يجوز أن يكون هو المراد بهذا كله ؛ فكل أحد على الإشارة مراد بقوله تعالى : { يا أيها الإنسان } فلذلك قال النبي عليه السلام : ( ( أنا ذلك الإنسان ) ) .

وقوله تعالى : { إلى ربك كدحا } فجائز أن يكون معناه : أن اجعل كدحك إلى ربك في أن تسعى إلى طاعته وطلب مرضاته { فملاقيه } فإنك ملاقيه ، لا محالة ؛ أي تلاقي جزاء عملك إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

وجائز أن تكون الملاقاة كناية عن البعث ؛ إذ البعث قد يكنّى عنه بلقاء الرب . قال تعالى : { فمن كان يرجوا لقاء ربه } [ الكهف : 110 ] وسمي ذلك اليوم يوم المصير إلى الله تعالى ويوم البروز بقوله تعالى : [ { وإليك المصير } [ البقرة : 285 ] وقوله تعالى ][23356] : { وبرزوا لله جميعا } [ إبراهيم : 21 ] ووجه التسمية بهذه الأسامي ما ذكرنا أن المقصود من خلق العالم العاقبة ، فسمي بروزا لما للبروز أنشئ ، وسمي مصيرا إلى الله تعالى لمصيرهم إلى ماله خلقوا ، وإن كان الخلق كلهم بارزين له قبل ذلك ، ولم يكونوا عنه غائبين ، فيصيروا إليه خصوصا لذلك اليوم .

فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ٧

الآيتان 7 و8 : وقوله تعالى : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ فسماه حسابا يسيرا ][23357] لوجوه :

أحدها : أن المؤمن اعتقد تصديق الرب في كل ما دعاه إليه . فإذا كان [ مصدقا ][23358] سهل عليه تذكر[23359] ما قد عمله بتفكر الجملة .

[ والثاني ][23360] : أنه إذا نظر في كتابه رأى حسناته مقبولة وسيئاته مغفورة ، فسمى ذلك اليوم يسيرا له لما أثبت فيه من الخيرات ، ومحي عنه من السيئات كما سميت الخيرات يسرى وسمي ما يجري عليها يسرا أيضا ، فكذلك الذي أوتي كتابه بيمينه ، يجري عليه الخير ، يسمى حسابه يسيرا .

[ والثالث ][23361] : أن يكون المسلم ، يحاسب في أن يذكر ما أنعم عليه في الدنيا ، ولا يحاسب حساب توبيخ وتهويل بأن يقال له : لم فعلت كذا ؟ والكافر يسأل سؤال توبيخ ، فيقال : فعلت كذا على الإنحاء [ بالملائمة على ما ][23362] فعل وفي ذلك تعسير عليه .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ( من نوقش في الحساب فهو معذب ) ) [ البخاري 6536 ] .

وفي بعضها : ( ( من حوسب عذب ) ) قالت : قلت يل رسول الله : ألم يقل الله تعالى : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } { وينقلب إلى أهله مسرورا } ؟ قال : ( ( ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب هلك ) ) [ البخاري 4939 ] .

قال الفقيه ، رحمه الله : في ظاهر قوله عليه السلام : ( ( من نوقش الحساب عذب ) ) [ البخاري 6536 ] رفع ما قالته عائشة رضي الله عنها لأن الفهم من قوله عليه السلام : ( ( من نوقش الحساب ) ) غير الفهم من قوله تعالى : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } فليس في قوله ظاهر جواب لها ، وكان الظاهر من الكلام الأول على ما فهمته عائشة رضي الله عنها ولكن وجه الجواب فيه أن قوله عليه السلام : ( ( من حوسب عذب ) ) وقوله عز وجل : { فسوف يحاسب } ليس على كل الحساب ، وإنما هو على الحساب الذي لا يناقش فيه .

فأما الذي هو عرض فليس مما يعذب عليه ، فيكون فيه إبانة لا يفهم بالخطاب العام عموم المراد كما فهمته عائشة رضي الله عنها بل يجوز أن يكون الخطاب عاما ، والمراد منه خاصا .

فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا٨
وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا٩

الآية 9 : وقوله تعالى : { وينقلب إلى أهله مسرورا } وقال في شأن الذي { أوتي كتابه وراء ظهره } { فسوف يدعوا ثبورا } { ويصلى سعيرا } : [ الآيات : 10 – 12 ] إنه كان في أهله مسرورا .

فهذا لأن المسلم إنما تأهل على قصد تحصيل النفع لنفسه في العاقبة ، وتكون معينة له على أمور الآخرة ، فحصل له ذلك النفع بإحرازه السرور الدائم بذلك . والكافر تأهل للمنافع الحاضرة ، وسر بأهله[23363] سرورا ، أنساه السرور أمر العاقبة ، فحق عليه العذاب لتركه السعي للآخرة لا لسروره بأهله ، وهو كقوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } الآية [ الإسراء : 18 ] .

والكل منا يريد العاجلة ، ولا بد له منها ، لكن الذي يصلى جهنم ، هو الذي ابتغى العاجلة ابتغاء أنساه ذلك الآخرة[23364] ، فكذلك المسرور بأهله ، إنما حلت به النقمة لما منعه السرور عن النظر للعاقبة لا لنفس السرور ، إذ كل متأهل ، لا يخلو عن السرور بأهله ، والله أعلم .

وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ١٠

الآية 10 : وقوله تعالى : { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } فالإيتاء من وراء الظهر يحتمل وجهين :

أحدهما : أن استقذر منه لخبث منظره ، فأوتي من وراء ظهره مجازاة له بما سبق من صنعه ؛ وصنعه أنه نبذ كتاب الله تعالى وراء ظهره ، وترك أوامره ونواهيه كذلك وراء ظهره ، فجوزي أيضا بدفع كتابه وراء ظهره ، ودفع إلى المؤمن/ 633 – ب/ كتابه بيمينه لما في كتابه من المحاسن والبركات ، واليمين أنشئت لتستعمل في البركات وأنواع [ الخير ][23365] ، وسميت أيضا باسم مشتق من اليمن والبركة .

[ والثاني : أن ][23366] الشمال جعلت لتستعمل في الأقدار والأجناس ، فدفع كتابه من حيث عمله إليه بشماله أيضا أو من وراء ظهره ، لأن أهل الإيمان قبلوا أمور[23367] الله تعالى ونواهيه ، واستقبلوها بالتعظيم والتبجيل ؛ ومن أراد تعظيم الآخر في الشاهد وتبجيله أخذه بيمينه ، فجوزوا في الآخرة بالتعظيم لهم بأن أوتوا[23368] كتبهم بأيمانهم .

وأما الكافر بأنه استخف بأمر الله تعالى وطاعته فجوزي في الآخرة بأن أوتي كتابه بشماله التي تستعمل في الأقذار إهانة وتحقيرا .

فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا١١

الآيتان 11 – 13 : وقوله تعالى : { فسوف يدعوا ثبورا } [ { ويصلي سعيرا } { إنه كان في أهله مسرورا } ][23369] الثبور والويل حرفان ، يتكلم بهما عند الوقوع في المهالك ، فيكون في ذكر الثبور ذكر وقوعه في المهلكة التي تحق له ، ودعاء[23370] الثبور والويل على نفسه ، دعا به ، أو لم يدع ، على سبيل الكناية عن الوقوع في المهالك ، وهو كقوله تعالى : { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا }[ التوبة : 82 ] فالضحك كناية عن السرور ، والبكاء كناية عن الحزن ؛ فمعناه أنه يستقبله ما يحزن به طويلا ، كان هناك بكاء ، أو لم يكن .

وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا١٢
إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا١٣

/ت12

إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ١٤

الآيتان 14 و15 : وقوله تعالى : { إنه ظن أن لن يحور } { بلى } فيه دلالة أنه إنما حل به ما ذكر من العذاب ، لأنه كان للبعث ظانا ، ولم يكن به متيقنا .

وكذلك الله سبحانه وتعالى [ حين ][23371] قسم الوعد للفريقين ذكر في آخره ما يبين أن الذي أوعد بالعذاب ، هو المكذب ، وذكر الوعيد ههنا ، وبين أن الذي يحل به هذا الوعيد ، هو الذي كان ظانا بالميعاد ، ولم يكن متحققا . وقال الله تعالى : { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } إلى قوله : { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } [ السجدة : 20 ] فتبين أن الوعيد في المكذبين ، وقال تعالى : { تلفح وجوههم النار } إلى قوله : { فكنتم بها تكذبون } [ المؤمنون : 104 و105 ] ليعلم أن الوعيد الدائم في المكذبين خاصة ؛ فيكون فيه دفع قول المعتزلة : إن أهل الكبائر يخلدون في النار .

وقوله تعالى : { إن ربه كان به بصيرا } أي كان بصيرا بما سبق من أعماله الخبيثة ، فيحاسبه على علم منه بما كسبت يداه ، ويعذبه على علم منه باكتساب ما استوجب من العذاب خلافا لأمر ملوك الدنيا ؛ إنهم يحاسبون على تذكير الغير لهم ما عليهم[23372] من الحساب ، ويعذبون على تعريف الغير لهم ما استوجب به التعذيب لا على علم منهم بذلك .

أو يكون معناه : أنه كان به بصيرا في الأزل أنه ماذا يعمل إذا أنشأه وإلى ماذا ينقلب أمره إلى النار أو إلى الجنة ، فخلقه على علم أنه يعادي أولياءه ، ويعمل بمعاصيه .

ولقائل أن يقول : إن المرء في الشاهد ، لا يشرع في الأمر الذي يعلم أنه في العاقبة ، يضره ، ولا ينفعه ، ولو شرع فيه ، وأتمه ، كان مذموما عند الناس ، ولم يكن محمودا ، فأي حكمة في إنشاء عدوه ، وهو عالم أنه يسعى في معاداته .

فجوابه ، والله أعلم ، أن الذي يشرع في الأمر الذي علم أن إتمامه ، يضره ، ولا ينفعه ، إنما لحقته المذمة لما سعى في إضرار نفسه .

فأما الذي أعرض عن طاعة الله ، وكفر به ، فإنما اكتسب الضرر على نفسه خاصة بأن أوقعها في المهالك ، ولم يضر غيره ، لذلك لم تلحقه المذمة في خلقه وإنشائه .

وفي هذا دلالة أن الله حين[23373] خلق الخلق لم يخلقهم لمنفعة له ولا لمضرة تلحقه من جهتهم ، بل منافعهم ومضارهم راجعة إلى أنفسهم ، والله أعلم .

بَلَىٰٓۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا١٥
فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ١٦

الآية 16 : وقوله تعالى : { فلا أقسم بالشفق } فمنهم من حمل قوله : { فلا } على دفع منازعة ، وقعت في ما بين القوم على ما نذكر في سورة { لا أقسم }[23374] إن شاء الله . والقسم قوله عز وجل : { أقسم } ومنهم من جعل لا بحق الصلة .

فإن كان على الوجه الأول لم يجز حذف لا من الكلام ، بل حقه أن يقرأ { فلا أقسم } .

وإن كان بحق الصلة استقام في حذفه كما قرأ بعض القراء : فلأقسم بالشفق . [ ثم الشفق يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه ][23375] أثر النهار . فجائز أن يكون القسم واقعا على النهار كله ، وإن كان ذكر طرفا منه .

والثاني : أن الشفق يجتمع فيه أثر النهار ، وهو النور الذي فيه أثر الشمس ، وهي الحمرة التي تكون فيه ، فيكون القسم واقعا على النهار بما فيه كما كان واقعا على الليل بما فيه لقوله : { والليل وما وسق } فتكون فيه حجة لقول أبي حنيفة رضي الله عنه : إن وقت العشاء لا يدخل حتى يغيب الشفق ، لأن وقتها يدخل بغيبوبة الشفق ، والشفق وجدناه مشتملا على البياض والحمرة ، فما لم تتم الغيبوبة لم يهجم وقتها .

ألا ترى أن الصلاة التي تلي الغروب لا يدخل وقتها حتى يتم غروب الشمس ؟ فعلى ذلك الصلاة التي تلي غروب[23376] الشفق ، لا يدخل وقتها حتى تتم الغيبوبة

وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ١٧

الآية 17 : وقوله تعالى : { والليل وما وسق } قال بعضهم : { وما وسق } أي وما حمل معه [ من ][23377] الظلمة والنجم والدابة وغير ذلك . والوسق الحمل ، يقال : وسق بعير أي حمل بعير .

قال بعضهم : وسق : أي جمع ، وساق كل شيء إلى مأواه من الطير والسباع ، فذكر النهار والليل لما فيهما من المنافع .

وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ١٨

الآية 18 : وقوله تعالى : { والقمر إذا اتسق } فالاتساق الاجتماع ، ومعناه استوى ، وكمل ، إذ ذلك اجتماعه ، وذلك في ليالي البيض .

وقال أبو بكر الأصم : معناه أنه جمع ، وسوي ، بعد أن كان { كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] فيذكرهم قوته ليعلموا أنه قادر على بعثهم[23378] .

لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ١٩

الآية 19 : وقوله تعالى : { لتركبن طبقا عن طبق } قرئ بنصب[23379] الباء ورفعها ، وكلا القراءتين في المعنى واحد ؛ إن كان في الظاهر ، إحداهما للجمع ، والأخرى للوحدان ، وإحدى القراءتين بحرف الجمع فيذكر بالرفع ؛ فإن قوله : { لتركبن } منصرف إلى كل إنسان في نفسه خاصة لا على الاقتصار على شخص واحد لما ليس في قوله عز وجل : { يا أيها الإنسان إنك كادح } [ الآية 6 ] إشارة إلى شخص بعينه ، ولكن المراد منه الجملة ، فثبت أن الخطاب منصرف إلى الجملة .

ثم قوله تعالى : { لتركبن طبقا عن طبق } قيل : حالا بعد حال . ثم جائز أن يصرف إلى دار الآخرة ، فكأنه قال : لتركبن حال الآخرة بعد حال الدنيا ، فيكون فيه تصريح القول على إيجاب البعث .

ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا ؛ فينتقل إلى حال المضغة بعد كونه [ نطفة وإلى ][23380] حال العلقة وإلى حال الطفولة إلى أن يبلغ أشده ، فلا يزال يركب حالة بعد حالة ، فيكون في نقله من حال إلى حال إبانة أنه لم يرد من إنشائه أن تتغير عليه الأحوال فقط ، بل أريدت العاقبة التي بها صار إنشاء الخلق حكمة لا عبثا ، فيكون قوله : { لتركبن } منصرفا إلى كل إنسان في نفسه خاصة لا على الاقتصار على شخص واحد لما ذكرنا .

ومنهم من قال : إنما أراد بهذا الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه وعن ابن مسعود رضي الله عنه .

ولكن قال ابن مسعود رضي الله عنه : لتركبن يا محمد ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : لتركبن السماء حالا بعد حال .

فإن كان التأويل على ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه ففيه بشارة بإسلام قومه وإجابتهم له ، فيقول : إنهم سيطلعونك ، ويصيرون لك أنصارا بعد صدهم الناس عن الإيمان وجفوتهم إياك .

ومن قال : لتركبن سماء بعد سماء فيقول : ذلك ليلة أسري به .

والتأويل الأول أقرب لأن موقع/634 – أ/ القسم في قوله تعالى : لتركبن ، والإسراء لم يكن يعرفه قومه حتى يكون في ذكره دفع الاشتباه عن أولئك القوم .

فأما ظهور الإسلام وعلو النبي على أعدائه فمما يشاهده الناس ، فيتحقق في الآخرة ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيب ، فيكون تأكيدا لرسالته . فلذلك قلنا : إن الحمل على المعنى الأول أحق ، والله أعلم .

فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ٢٠

الآية 20 : وقوله تعالى : { فما لهم لا يؤمنون } الأصل أن كل من اعتقد مذهبا فإنما يعتقده بحجة تقررت عنده أو شبهة اعترضت له ، ظنها حجة . فأما أن يعتقده حراما فليس يفعله ، فقال الله تعالى في هؤلاء : { فما لهم لا يؤمنون } . أي [ أي ][23381] حجة لهم تمنعهم عن الإيمان بالله تعالى وبرسوله ، وتدعوهم إلى الشرك والتزين به ؟

ثم قد ذكرنا أن ما خرج مخرج الاستفهام من الله تعالى فحقه أن ينظر ما يقتضي ذلك الكلام من الجواب أن لو كان من مستفهم ، فيحمل الأمر عليه ، وحق جواب هذا الكلام أن يقول : لا شيء يمنعه عن ذلك . فقوله : { فما لهم لا يؤمنون } أي لا حجة لهم في ما اختاروا من الشرك ، وإنما يتدينون به تشهيا وتمنيا ، فيكون هذا على النفي في أن لا حجة لهم ، أو كأنه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : سلهم لماذا لا يؤمنون ؟ وإذا سألهم لم يجدوا لأنفسهم حجة في الإعراض عن الإيمان ، فيرجع الأمر إلى ابتغاء الحجة أيضا .

ثم المعتزلة احتجت علينا بهذه الآية في تثبيتهم القدرة قبل الفعل ، وزعمت أنه لو لم يكن أعطى قوة الإيمان لم يكن يعاتب على تركه لأنه لا عذر للعبد أعظم من أن يقول ، إن قيل له : لم لا تؤمن[23382] ؟ لأني لا أقدر عليه ، ولأن[23383] قوله تعالى : { فما لهم لا يؤمنون } حرف تعجيب ؛ ولو كانت القوة ممنوعة قبل الفعل لكان له أن يقول : إنما لم أؤمن لأني منعت عنه ، فيرتفع عنه التعجيب ، فدل أنه أعطي القوة ، فلم يبق له في الخلق عن الإيمان عذر .

والجواب عن الفصل الأول أن الكافر لما[23384] لحقته كلفة الإيمان لأنه هو الذي ضيع القوة باختياره ، فعل الكفر ، وإنما ترتفع الكلفة إذا منعت عنه الطاقة .

وأما إذا كان هو الذي ضيعه فالكلفة عليه قائمة ، والأصل أن القدرة في الصحيح السليم تحدث تباعا على قدر حرصه على العبادة وميله إليها . ثم العبد متى اشتغل بفعل صار مضيعا لضده من الأفعال لا[23385] إن كان ممنوعا عن الفعل الذي هو ضد هذا .

فلذلك إذا آثر الكفر ، وأتى به ، فقد صار باختياره الكفر مضيعا لقوة الإيمان لا[23386] صار ممنوعا عنها ، لذلك لحقته كلفة الإيمان .

وأما ما ذكر من التعجيب فقد وصفنا وجه التعجيب في ذلك ، وهو أنهم لم يلزموا الكفرة بحجة دعتهم إلى القول به ، والمرء إذا تقلد[23387] مذهبا تقلده[23388] لا عن حجة وبرهان ، فعجّب الخلق باختيارهم الكفر لا عن حجة .

ثم لو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة أن الله تعالى قد أعطاهم جميع أسباب الهداية ، ولم يبق في خزانته شيئا ، منعه عنهم ، لكان التعجيب راجعا إليه لا إلى الذين لم يؤمنوا ، فيقول : مالي لا أصل إلى هدايتهم ، ولم يبق عندي شيء ، به هدايتهم ، إلا وقد أعطيتهم ، لا أن يعجب الخلق عن صنيعهم ، فليس الذي اختاروه في القول سوى وصفهم رب العالمين بالعجز ، والعاجز لا يصح أن يكون ربا ، والله الموفق .