تفسير القرآن للمراغي

المراغي القرن الرابع عشر الهجري

صفحة 434

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ١

سورة فاطر --- سورة الملائكة

آيها خمس وأربعون

هي مكية نزلت بعد سورة الفرقان .

ومناسبتها لما قبلها : إنه لما ذكر سبحانه في آخر سابقتها هلاك المشركين وإنزالهم منازل العذاب- لزم المؤمنين حمده تعالى وشكره كما جاء في قوله : ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين( ( الأنعام : 45 ) .

بسم الله الرحمن الرحيم

( الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير( ( فاطر : 1 ) .

تفسير المفردات :

فطر الشيء : أوجده على غير مثال سابق ، رسلا : أي وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون عنه رسالاته ، مثنى وثلاث ورباع : أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة .

الإيضاح :

( الحمد لله فاطر السماوات والأرض( أي له سبحانه الشكر ، فقد أبدع خلق السماوات والأرض وما بينهما على غير مثال سابق وأحكم تدبيرهما على أتم نظام ، كما قيل ليس في الإمكان أبدع مما كان .

( جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع( أي جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون إليهم رسالاته- ذوي أجنحة إما اثنين اثنين ، وإما ثلاثة ثلاثة ، وإما أربعة أربعة .

والأجنحة في العالم المادي تساعد على الطيران وكثرتها تومئ إلى السرعة ، وهي في عالم الأرواح ترشد إلى القدرة على السرعة في تنفيذ أوامر الله وتبليغ رسالات ربهم إلى أنبيائه .

وفي هذا إيماء إلى أن الملائكة تتفاوت أقدارهم وقواهم عند الله تعالى بحسب استعدادهم الروحي . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح " وفي هذا رمز إلى قوة استعداده الروحي وقربه من الملأ الأعلى وسرعة تنفيذه ما يؤمر به .

( يزيد في الخلق ما يشاء( أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء ، كما يزيد في أرجل الحيوان ما يشاء حتى لقد تبلغ فوق العشرين أحيانا ، وهكذا يزيد في تفاوت العقول والنفوس والقوى المادية والمعنوية كما قيل :

والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا

ثم ذكر ما هو كالدليل لما سبق بقوله :

( إن الله على كل شيء قدير( فيزيد كل ما هو أهل للزيادة وما هو مستعد لها ، حسية كانت أو معنوية ، فلا يمتنع عليه فعل شيء أراده ، لما له من القدرة والسلطان على كل شيء .

مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا يُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ٢

( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم( ( فاطر : 2 ) .

المعنى الجملي : بعد أن وصف سبحانه نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة النافذة- أيد ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من الضيق حينا والسعة حينا آخر ، مع العجز عن دفع البؤس إن وجد ، وجلب النعمة لو أراد .

تفسير المفردات :

يفتح : يعطي ، ورحمة : أي نعمة حسية كانت أو معنوية ، كرزق وصحة وأمن وعلم وحكمة ، إلى نحو ذلك مما لا يحاط به .

الإيضاح :

مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه ، فما يعط من خير فلا يستطيع أحد منعه ولا إمساكه ، وأي خير يمسكه فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح ، لأن الأمور كلها بيده ، ومنه البذل والعطاء ، والمنع والإمساك .

وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي منها الفتح والإمساك ، وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة .

وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم والتوجه إليه في قضاء حاجاتهم ، والتوكل عليه في جميع مآربهم ، والإعراض عما سواه من جميع خلقه .

ونحو الآية قوله : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله( ( يونس : 107 ) .

روى أحمد بن المغيرة بن شعبة أنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : " سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد اللهم أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد : اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .

وأخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس قال : أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي : ( 1 ) ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده( ( 2 ) ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله( ( يونس : 107 ) ، ( 3 ) ( سيجعل الله بعد عسر يسرا( ( الطلاق : 7 ) . ( 4 ) ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها( ( هود : 6 ) .

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ٣

( يأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون( ( فاطر : 3 ) .

المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه أنه وحده هو المنعم بما يشاهده كل أحد في نفسه- أمر بذكر نعمه بالاعتراف بها والشكر عليها .

تفسير المفردات : أنى تؤفكون : أي كيف تصرفون عن توحيد الخالق ، مع الاعتراف بأنه وحده هو الرازق . وتشركون المنحوت : بمن له الملك والملكوت .

الإيضاح : أيها الناس راعوا نعم الله ، واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها ، وخصوا خالقها بالعبادة والطاعة فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم ، فإلي أي وجه تصرفون عنه بعد أن استبان الحق ، ووضح السبيل .

والخلاصة : احفظوا نعم الله وأدوا حقها ، ولا تشركوا به سواه من الأصنام والأوثان ، بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان .

صفحة 435

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ٤

الإيضاح :

( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور( أي وإن استمر قومك على تكذيبك فيما بلغته إليهم من الحق المبين ، بعد أن أقمت لهم الحجج وضربت الأمثال ، فتأس بمن سبقك من الرسل فقد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلماتنا .

وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب .( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل مكن قبلك وإلى الله ترجع الأمور4 يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور5 إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير( ( فاطر : 4-6 )

المعنى الجملي : بعد أن ذكر الأصل الأول وهو التوحيد- ثنى بذكر الأصل الثاني وهو الرسالة وسلى رسوله على تكذيب قومه له بأنه ليس ببدع بين الرسل فقد كذب كثير منهم قبله ، فعليه أن يتأسى بهم ويصبر على أذاهم- ثم ذكر الأصل الثالث وهو البعث والنشور مع بيان أنه حق لا شك فيه ،وأنه لا ينبغي أن يقبلوا فيه وساوس الشيطان ، فإنه عدو لبني آدم ولا يرشدهم إلا إلى الذنوب والآثام التي توصلهم إلى عذاب النار ، وبئس القرار .

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ٥

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 4

الإيضاح :

ثم ذكر أن البعث آت لا ريب فيه فقال :

( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور( أي إن وعد الله بالحشر والجزاء حق لا شك فيه ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلنكم التمتع بمتاعها ، ولا يلهينكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعا لوساوس الشيطان .

والخلاصة : إنكم لا تغتروا بالحياة الدنيا ، وتتركوا فعل ما أمرتم به ، وتفعلوا ما نهيتم عنه .

ثم ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال : ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا( .

إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ٦

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 4

الإيضاح :

( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا( أي إن الشيطان معلن عداوته لكم بوسوسته ، فعادوه أنتم أشد العداوة ، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به .

ثم ذكر أعماله ودعوته أتباعه إلى الغواية والضلالة فقال :

( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير( أي ما غرضه من دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى لذات الدنيا إلا إضلالهم وإلقاؤهم في العذاب الدائم من حيث لا يشعرون .

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٌ٧

الإيضاح :

( الذين كفروا لهم عذاب شديد( أي الذين كفروا بالله ورسوله لهم عذاب شديد في النار ، من جراء كفرهم وإجابتهم دعوة الشيطان واتباعهم خطواته .

( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير( أي والذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه- لهم مغفرة من الله لذنوبهم وأجر كبير كفاء ما ملئوا به قلوبهم من عامر الإيمان ، وأخبتوا لربهم بصالح الأعمال .

ثم بين البعد ما بين الفريقين ، واختلاف حال الفئتين فقال : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا( .( الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير7 أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون( ( فاطر :7-8 ) .

المعنى الجملي : بعد أن أبان أن الشيطان يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار- ذكر هنا أن حزب الشيطان له العذاب الشديد ، وأن حزب الله له المغفرة والأجر الكبير ، ثم بين أن الضلالة والهداية بيد الله بحسب ما يعلم من الاستعداد وصفاء النفوس وقبول الهداية ، أو تدسيتها وارتكابها الإجرام والمعاصي ، فلا تحزن على ما ترى من ضلال قومك وإتباعهم لوساوس الشيطان ، والله عليم بحالهم وسيجازيهم بما يستحقون .

أخرج جويبر عن الضحاك أن الآية نزلت في عمر رضي الله عنه وأبي جهل حيث هدى الله عمر وأضل أبا جهل .

أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ٨

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 7

تفسير المفردات : الحسرات : واحدها حسرة ، وهي الغم على ما فات والندم عليه .

الإيضاح :

( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا( أي أفمن حسن له الشيطان سيء الأعمال من معاصي الله والكفر به وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان ، فحسب سيء ذلك حسنا ، وظن قبحه جميلا ، ألك فيه حيلة ؟

ثم ذكر السبب في اتجاه كل من الفريقين إلى ما اتجه إليه فقال :

( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء( أي فإن ذلك الإضلال بمشيئة الله تعالى التابعة لعلمه باستعداد النفوس للخير وللشر ، وقد تقدم ذلك غيره مرة ، فلا حاجة إلى الإطناب فيه .

ثم أتى بما هو كالنتيجة لما سلف فقال :

( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات( أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك ، فإن الله حكيم في قدره ، فهو يضل من يضل من عباده ويهدي من يشاء لما له في ذلك من الحجة البالغة ، والعلم التام باستعداد النفوس ،إما بإخباتها لربها ، وإنابتها إليه ، وميلها إلى صالح العمل ، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات ، وارتكاب الموبقات .

ونحو الآية قوله : ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا( ( الكهف : 6 ) .

ثم هدد الكافرين على قبيح أعمالهم فقال :

( إن الله عليما بما يصنعون( أي إن الله عليم بما يصنعون من القبائح ، فيجازيهم عليه بما يستحقون ، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال وتدك منه الأرض دكا .

وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ٩

تفسير المفردات :

أرسل : أي أطلق وأوجد من العدم ، تثير : أي تحرك ،ميت وميّت : بمعنى قاله محمد بن زيد وأنشد :

ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميّت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا *** كاسفا باله قليل الرجاء

ويرى بعضهم أن الميت بالتخفيف هو الذي مات ، والميّت بالتشديد ، والمائت هو الذي لم يمت بعد وأنشد :

ومن يك ذا روح فذلك ميّت *** وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

والمراد أنه لا نبات فيه ، والنشور : إحياء الأموات يقال نشر الله الميت وأنشره أي أحياه .

الإيضاح :

( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور( أي أفلا تتدبرون وتعقلون فتعلموا أن من أوجد الرياح بعد أن لم تكن ، ثم جعلها تسير السحاب الثقال ، فتنزل منها الغيث إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها ، فتحيا بعد أن كانت ميتة وتهتز وتربو وتنبت كل زوج بهيج- أفليس ذلك القادر الحكيم الذي أحيا ميت الأرض بقادر على أن يحي الموتى بعد بلاها ، وبعد أن كانت عظاما نخرة ؟ إنه على كل شيء قدير .

وعن أبي رزين قال : " قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال صلى الله عليه وسلم " يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلا ، ثم مررت به يهتز خضرا ؟ " قلت : بلى ، قال صلى الله عليه وسلم : " فكذلك يحيي الله الموتى " .( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور9 من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور 10 والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير( ( فاطر : 9-11 ) .

المعنى الجملي : بعد ان ذكر عز اسمه أن الكافرين لهم عذاب شديد يوم القيامة ، وأن الذين يعملون الصالحات لهم أجر كبير عند ربهم في ذلك اليوم- أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا ريب فيه ، وضرب المثل الذي يدل على تحققه لا محالة ، ثم ذكر أن من يريد العزة فليطع الله ورسوله ، ولا يتعزز بعبادة الأصنام والأوثان كما أخبر الله عنهم ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا( ( مريم : 81 ) وأن العمل الطيب يرفع إلى الله ويحفظ لديه ويجازي عليه ، ثم أعقب ذلك بأن من يمكر بالمؤمنين ويريد خداعهم فالله يفسد عليه تدبيره ويجازيه بما عمل شر الجزاء ، وبعد أن ذكر دليل البعث بما يشاهده في الآفاق من دلائل القدرة ، ذكر دليلا عليه بما يرى في الأنفس من اختلاف أطوارها ، فقد كانت ترابا ثم نطفة ثم وضعت في الأرحام إلى أن صارت بشرا سويا ، ومنها ما يمد في عمرها ، ومنها ما يخترم قبل ذلك ، كما تدل عليه المشاهدة ، وكل ذلك يسير على الله .

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ١٠

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 9

تفسير المفردات :

العزة : أي الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز : أي صلبة ، والكلم الطيب : هو التوحيد أو الذكر أو قراءة القرآن ، وصعوده إلى الله : قبوله والعمل الصالح : هو ما كان بإخلاص ، يرفعه : أي يقبله ، يمكرون : أي يعملون على وجه المكر والخديعة ، والسيئات : المكرات السيئات كأن يراؤوا المؤمنين في أعمالهم يوهمونهم أنهم في طاعة الله ، يبور : أي يفسد من البوار وهو الهلاك .

الإيضاح :

( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا( أي من كان يود أن يكون عزيزا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى ، فإن بها تنال العزة إذ الله العزة فيهما جميعا .

( إليه يصعد الكلم الطيب( أي إنه سبحانه يقبل طيب الكلام كالتوحيد والذكر وقراءة القرآن ، ومن الذكر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .

( والعمل الصالح يرفعه( صلاح العمل بالإخلاص فيه ، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه ، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه بل عليه العقاب ، فالصلاة والزكاة وأعمال البر إذا فعلت مراءاة للناس لا يتقبلها الله كما قال سبحانه : ( فويل للمصلين4 الذين هم عن صلاتهم ساهون5 الذين هم يراءون 6ويمنعون الماعون( ( الماعون : 4-7 ) .

وروي عن ابن عباس أنه قال : الكلام الطيب ذكر الله ، والعمل الصالح أداء فرائضه . وعن الحسن وقتادة : لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، من قال وأحسن قبل الله منه .

والخلاصة : إن القول إذا لم يصحبه عمل لا يقبل ، وأنشدوا :

لا ترض من رجل حلاوة قوله *** حتى يزين ما يقول فعال

وإذا وزنت فعاله بمقاله *** فتوازنا فإخاء ذاك جمال

وقال ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر .

وبعد أن ذكر أن العمل الصالح يصعد إلى الله ، ذكر أن المرائين لا يتقبل منهم عمل ، ولهم عذاب شديد عند ربهم قال :

( والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد( أي والذين يمكرون المكر السيء بالمسلمين ، بأن يعملوا كل ما يكون سببا في ضعف الإسلام والحط من قدره حتى يمحي أثره من الوجود ، كما فعلت قريش في دار الندوة ، إذ تدارست الرأي في شان النبي صلى الله عليه وسلم بحبسه أو قتله أو إجلائه من مكة - لهم العذاب الشديد يوم القيامة .

( ومكر أولئك هو يبور( أي ومكر هؤلاء المفسدين يظهر زيفه عن قريب لأولي البصائر ، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فالمرائي لا يروج أمره ولا يتفق إلا على غبي ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل ينكشف عن قريب ، ويجازون عليه أشد الخزي والهوان .

وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَٰجٗاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ١١

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 9

تفسير المفردات :

أزواجا : أي أصنافا ذكرانا وإناثا ، يعمر من معمر أي يمد في عمر أحد ، في كتاب : أي في صحيفة المرء .

الإيضاح :

ثم ذكر دليلا على صحة البعث بما يرى في الأنفس فقال :

( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا( أي والله خلق الناس من النطفة ، والنطفة من الغذاء ، والغذاء ينتهي آخرا إلى الماء والتراب ، فهم من تراب صار نطفة ، ثم جعلهم أصنافا ذكرانا وإناثا بقدر معلوم بحيث يكاد الفريقان يستويان عددا ، ولو لم يكن كذلك لفني الإنسان والحيوان ، إذ حفظ النوع لا يتم إلا بتلك المساواة على وجه التقريب ، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم ، وإلى ذلك أشار بقوله :

( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه( أي ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه ، ولو لم يكن كذلك وكانت المصادفة العمياء هي صاحبة السلطان في هذا العالم ، لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين فيفنى الإنسان والحيوان .

ونحو الآية قوله : ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار8 عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال( ( الرعد : 8-9 ) .

( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب( أي لا أحد يقضى له بطول العمر إلا وهو بالغ ما قدر له ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه ، ولا أحد مقدر له قصر العمر بزائد على ما قدر له في الكتاب الذي كتب له ، وذلك لحفظ الموازين في الأرض حتى ينتظم العمران ، ولو لم يكن على هذا النحو لاختلط الحابل بالنابل ، وساء حال الكون ، إذ يكثر الناس وتزدحم الأرض ويشتد الكرب ، ومن ثم تفاوتت الأعمار في جميع الأمصار وكانت بمقدار ، واعتدل النظام بالمرض والموت ، والوباء والحرب .

( إن ذلك على الله يسير( أي إن ذلك النظام البديع للعالم- هين على الله لعلمه الشامل ، وعدم خفاء شيء عليه .

صفحة 436

وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ١٢

تفسير المفردات :

عذب : أي حلو لذيذ طعمه ، فرات : أي كاسر للعطش مزيل له ، سائغ : أي سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس ، أجاج : أي شديد الملوحة والحرارة ، حلية : أي لؤلؤا ومرجانا ، مواخر : أي شاقات للماء حين جريانها .

الإيضاح :

( وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج( أي وما يعتدل البحران فيستويان : أحدهما عذب سائغ شرابه يجري في الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار . وثانيهما ملح ساكن تسير فيه السفن الكبار .

( ومن كل تأكلون لحما طريا( أي ومن كل البحار تأكلون السمك الغض الطري فضلا من الله ومنة .

( وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون( أي وتستخرجون الدر والمرجان من الملح الأجاج ومن العذب الفرات ، وتجري السفن في كل منهما تشقه شقا بحيازيمها حين جريها ، مقبلة مدبرة حاملة أقواتكم من بلد إلا آخر ، فتدفع عنكم المخمصة وتسد العوز .

لعلكم تشكرونه سبحانه على تسخيرها لكم ، تتصرفون فيها كيف شئتم ، وتذهبون فيها إن أردتم .

ولما كان بين الفلك في البحر والشمس والقمر في مدارهما مناسبة ، فإن كلا منهما سارح في تلك العوالم الشاسعة- أردفه ذكر الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر فقال : [ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل( .( وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون12 يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل تجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير13 إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير( ( فاطر : 12-14 ) .

المعنى الجملي : بعد أن ذكر الأدلة على إثبات البعث وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الغيث عليها- أردف هذا ذكر البراهين المختلفة على وحدانيته وعظيم قدرته بخلقه الأشياء المتحدة في الجنس المختلفة في المنافع ، فهذا ماء عذب ذلال يجري في الأقاليم والأمصار ، والبراري والقفار ، يسقى منه الإنسان والحيوان وينبت النبات الذي فيه غذاء لهما ، وهذا ماء ملح أجاج تسير فيه السفن الكبار ويستخرج منه اللؤلؤ والمرجان ، ومن كل منهما تأكل لحما طريا فيه لذة للآكلين ، وهذان ليل ونهار ، ضياء وظلام ، يدخل أحدهما في الآخر فيأخذ هذا من طول ذاك ، ويزيد هذا في قصر ذاك فيعتدلان ، ثم يتقارضان صيفا وشتاء ، وسخر الشمس والقمر والنجوم الثوابت والسيارات ، كل يجري بمقدار معين وعلى نهج ثابت لا يتغير ، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم .

أما ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان فلا يملكون شروى نقير ، ولا يسمعون لكم دعاء ، ولا يستجيبون لدعوة ، ويوم القيامة يتبرؤون منكم إذا دعوتموهم واستشفعتم بهم ، ولا ينبئك بهذا إلا الخبير وهو ربك العليم بما كان وما سيكون .

يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ١٣

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 12

تفسير المفردات :

يولج : أي يدخل ، والقطمير : لفافة النواة ، وهي القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين الثمرة والنواة .

الإيضاح :

( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل( أي يدخل الليل في النهار فيكون النهار أطول من الليل ساعة فأكثر ، ويدخل النهار في الليل فيكون الليل أطول من النهار كذلك .

( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى( أي وأجري لكم الشمس والقمر ، نعمة منه عليكم ورحمة بكم ، لتعلموا عدد السنين والحساب ، ولتسكنوا في الليل ، وتبتغوا فضلا منه في النهار ، ولا يزالان يجريان هكذا لأجل معلوم ، لا يقصران دونه ، ولا يتعديانه ، وهو يوم القيامة .

( ذلكم الله ربكم له الملك( أي ذلك الذي يفعل هذه الأفعال هو معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو ربكم الذي له الملك التام والسلطان المطلق والقهر والجبروت ، وكل من في السماوات والأرض فهو عبد له وتحت قبضته وبطشه .

( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير( أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان لا يملكون شيئا ولو كان حقير ، بل هم ملك لخالق القوى والقدر .

إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ١٤

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 12

تفسير المفردات :

يكفرون بشرككم أي يجحدون بإشراككم إياهم وعبادتكم لهم ، ولا ينبئك مثل خبير : أي ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل الخبير به .

الإيضاح :

ثم أكد ما سلف مبينا حقارة شأنهم وعظيم ضعفهم بقوله : ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم( أي وإن تدعوا هذه الآلهة من دون الله لا تسمع لكم دعاء ، لأنهم جماد لا أرواح لهم ولا سمعوا ما قدروا أن ينفعوكم ويستجيبوا لشيء مما تطلبون .

والخلاصة : كيف تعبدون من لا ينفع ولا يضر ، وتدعون من بيده النفع والضر ، وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون .

وبعد أن نفى المقتضي للعبادة ، وهو مجيء النفع والضر من قبلهم ، ذكر المانع من عبادتهم وهو كفرهم بهم يوم القيامة فقال :

( ويوم القيامة يكفرون بشرككم( أي وهم يوم القيامة يتبرؤون منكم ويقولون : ما كنتم إيانا تعبدون ، بل كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وما زينته لكم شياطينكم .

ونحو الآية قوله : ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا 81 كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا( ( مريم : 81-82 ) .

ثم أكد صدق ما حكاه عنهم من أحوالهم بقوله :

( ولا ينبئك مثل خبير( أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة إلا ذو خبرة بأمرها وأمرهم ، وهو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان أو سيكون في مستأنف الأزمان .

۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ١٥

الإيضاح :

( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد( أي أنتم أيها العباد أولوا الحاجة والفقر إلى خالقكم ورازقكم ، فإياه فاعبدوا ، وإلى رضاه فسارعوا ، وهو الغني عن عبادتكم وعن غيرها ، وهو المحمود على نعمه ، فكل نعمة بكم وبسواكم فهي منه ، فله الحمد والشكر على كل حال .

والخلاصة : أنتم في حاجة إليه وهو ذو الغنى وحده لا شريك له ، والمحمود في جميع ما يقول ويفعل ويشرع لكم ولغيركم من الأحكام .

ثم أرشد إلى غناه وإلى قدرته الكاملة بقوله : [ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز( .( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد15 إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد16 وما ذالك على الله بعزيز17 ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربي إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير( ( فاطر : 15-18 ) .

المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن ملك السماوات والأرض له ، وأن ما يدعون من دونه من الأصنام والأوثان لا يملك شيئا ولا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا- أعقب هذا بما هو فذلكة لما تقدم وكالنتيجة له ، بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه ، فهو الذي تجب عبادته وحده ، لأن النفع والضر بيده لا شريك له ثم بين أنه يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا تستطيع دفع ضر عنها ولو كانت ذات قرابة منها ، ثم أرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تجدي نفعا لدى من يخشى الله ويخاف عقابه ، وأن من يتزكى فنفع ذلك عائد إليه ، وإلى الله عاقبة الأمور كلها ومردها إليه .

إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَأۡتِ بِخَلۡقٖ جَدِيدٖ١٦

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

الإيضاح :

( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز( أي إن يشأ ربكم أن يهلككم أهلككم ، لأنه هو الذي أنشأكم من غير حاجة به إليكم ، ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما نهاهم عنه ، وما ذلك بصعب على الله الخالق لجميع عباده بل هو يسير هين عليه .

وليس بخاف ما في هذا من تهديد ووعيد ، وزجر وتأنيب .

وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٖ١٧
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ١٨

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

تفسير المفردات :

ولا تزر : أي ولا تحمل ، وازرة : أي نفس آثمة ، وزر أخرى : أي إثم نفس أخرى ، والمثقلة : النفس التي أثقلتها الذنوب والأوزار ، ذا قربى : أي ذا قرابة من الداعي ، بالغيب : أي غائبا عنهم وتزكى : أي تطهر من ندس الأوزار والذنوب ، والمصير : المرجع والعاقبة .

الإيضاح :

ثم أخبر عن أحوال يوم القيامة وأهوالها وشدائدها بقوله :

( ولا تزر وازرة وزر أخرى( أي ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى ، بل تحمل كل نفس وزرها فحسب ، ولا تنافي بين هذا وما جاء في سورة العنكبوت من قوله سبحانه : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم( ( العنكبوت : 13 ) فإن هذا في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم ، وكل ذلك آثامهم لا آثام غيرهم .

( وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى( أي وإن تسأل نفس ذات ثقل من الذنوب ، من يحمل عنها ذنوبها ؟ لم تجد من يجيبها إلى ما تطلب ولو كان المدعو ذا قربة لها كأب أو ابن ، إذ كل مشغول بنفسه ، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .

ونحو الآية قوله : ( لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا( ( لقمان : 33 ) وقوله : ( يوم يفر المرء من أخيه34 وأمه وأبيه 35وصاحبته وبنيه 36لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه( ( عبس : 34-37 ) .

قال عكرمة : إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بني : أي والد كنت لك ؟ فيثني خيرا فيقول له يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك ألجو بها مما ترى ، فيقول له ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته فيقول يا فلانة : أي زوج كنت لك ؟ فنثني خيرا فيقول لها إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها مما ترين ، فتقول ما أيسر ما طلبت . ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إني أتخوف مثل الذي تتخوف .

ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على عدم قبولهم دعوته وإصرارهم على عنادهم فقال : ( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة( أي إنما يجدي النصح والإنذار لدى من يخشون الله ويخافون شديد عقابه يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك ، بل إيمانهم بما أتيت به وتصديقهم لك فيما أنبأت به عن ربك ، فهؤلاء هم الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك ، لا من طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون- إلى أنهم يؤدون الصلاة المفروضة عليهم ويقيمونها على ما رسمه الدين ، فهي التي تطهر قلوبهم وتقربهم من ربهم حين مناجاتهم له كما جاء في الحديث : " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

والخلاصة : إنه إنما ينفع إنذارك وتخويفك من يخشى بأس الله وشديد عقابه ، دون من عداهم من أهل التمرد والعتاد .

ثم حث على الأعمال الصالحة وأبان أن فائدتها عائدة إليهم فقال : ( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير( أي ومن يتطهر من أدناس الشرك وأوضار الذنوب والمعاصي فنفع ذلك عائد إليه كما أن من يتدسى بالذنوب والآثام فضر ذلك راجع إليه ، وإلى الله مصير كل عامل وهو مجازيه بما قدم من خير أو شر على ما جنى وأتل لنفسه .

صفحة 437

وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ١٩

الإيضاح :

( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور( أي وما يستوي الأعمى عن دين الله الذي ابتعت به نبيه صلى الله عليه وسلم والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدا صلى الله عليه وسلم وصدقه وقبل عن الله ما ابتعثه به ، وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان ولا الثواب والعقاب .

ثم ضرب مثلا آخر لهما فقال : ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات( .( وما يستوي الأعمى والبصير19 ولا الظلمات ولا النور20 ولا الظل ولا الحرور21 وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور22 إن أنت إلا نذير23 إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير24 وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير25 ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير( ( فاطر : 19-26 ) .

المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه طريق الهدى وطريق الضلالة وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير والجاحد المعاند قسا قلبه ولم يستفد من هديه- ضرب مثلا به تنجلي حاليهماّ ، ثم ذكر أن الهداية بيد الله يمنحها من يشاء ، وأن هؤلاء المشركين كالموتى لا يسمعون نصيحة ولا يهتدون بعظة ، وأن الله لم يترك أمة سدى ، بل أرسل الرسل ، فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا ، ومنهم من استكبر وعصى ، وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا والنار في العقبى .

وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ٢٠