تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

صفحة 283

عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا ٨

و( عسى )حرف يدل على الرجاء ، وكأن في الآية إشارة إلى أنهم سيظلون في مذلة ومسكنة ، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظل حبل من الله وعهد منه ، وحبل من الناس الذين يعاهدونهم على النصرة والتأييد والحماية . وقوله : { ربكم . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : انظر فيه إلى العظمة الإلهية ، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله ، وهو آخر رسول يأتي من السماء ، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله : { ربكم . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : لأن الرب هو المتولي للتربية والمتكفل بضمان مقومات الحياة لا يضن بها حتى وإن كان العبد كافراً ، فالكل أمام عطاء الربوبية سواء : المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي . الجميع يتمتع بنعم الله : الشمس والهواء والطعام والشراب ، فهو سبحانه لا يزال ربهم مع كل ما حدث منهم . وقوله تعالى : { أن يرحمكم . . " 8 " }

( سورة الإسراء ) : والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة واليهود لن تكون لهم دولة ، ولن يكون لهم كيان ، بل يعيشون في حضن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة ، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله ، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم .

وقد وصلت هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يقترض لا يقترض من مسلم ، بل كان يقترض من اليهود ، وفي هذا حكمة يجب أن نعيها ، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً ، أما اليهودي فسوف يلح في طلب حقه وإذا نسى رسول الله سيذكره .

لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغالطونه مراراً ، وقد حدث أن وفى رسول الله لأحدهم دينه ، لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد ، وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول : ابغني شاهداً .

ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد ، وهكذا تأزم الموقف في حضور أحد الصحابة ، واسمه خزيمة ، فهب خزيمة قائلاً : أنا يا رسول الله كنت شاهداً ، وقد أخذ هذا اليهودي دينه ، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل ، فدل ذلك على كذبه . ويكاد المريب أن يقول : خذوني .

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال : يا خزيمة ما حملك على هذا القول ، ولم يكن أحد معنا ، وأنا أقضي لليهودي دينه ؟ فضحك خزيمة وقال : يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء ، وأكذبك في عدة دراهم ؟

فسر رسول الله من اجتهاد الرجل ، وقال : " من شهد له خزيمة فحسبه " . ثم يهدد الحق سبحانه بني إسرائيل ، فيقول : { وإن عدتم عدنا . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : إن عدتم للفساد ، عدنا ، وهذا جزاء الدنيا ، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة ، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يبرئهم من عذاب الآخرة . فالعقوبة على الذنب التي تبرئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حضن الإسلام ، وإلا لاستوى من أقيم عليه الحد مع من لم يقم عليه الحد .

فلو سرق إنسان وقطعت يده ، وسرق آخر ولم تقطع يده ، فلو استووا في عقوبة الآخرة ، فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة ، وكيف يستوي الذي قطعت يده . وعاش بذلتها طوال عمره مع من أفلت من العقوبة ؟

هذا إن كان المذنب مؤمناً .

أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجود له ، وعقوبة الدنيا هنا لا تعفي صاحبها من عقوبة الآخرة ؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " 8 " } ( سورة الإسراء ) ( جعلنا )فعل يفيد التحويل ، كأن تقول : جعلت العجين خبزاً ، وجعلت القطن ثوباً ، أي : صيرته وحولته . فماذا كانت جهنم أولاً فيحولها الحق سبحانه حصيراً ؟

قوله تعالى : ( جعلنا )في هذه الآية لا تفيد التحويل ، إنما هي بمعنى خلقنا ، أي : خلقناها هكذا ، كما نقول : سبحان الذي جعل اللبن أبيض ، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوله الله تعالى إلى البياض ، بل خلقه هكذا بداية .

ومعنى : { حصيراً . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : الحصير فراش معروف يصنع من القش أو من نبات يسمى السمر ، والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك ، وسمي حصيراً ، لأن كلمة حصير مأخوذة من الحصر ، وهو التضييق في المكان للمكين ، وفي صناعة الحصير يضمون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أن تتماسك ، ولا توجد مسافة بين العود والآخر .

لكن لماذا نفرض الحصير ؟ نفرش الحصير ؛ لأنه يحبس عنا القذر والأوساخ ، فلا تصيب ثيابنا . إذن : الحصر معناه المنع والحبس والتضييق . والمتتبع لمادة ( حصر )في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني ، يقول تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم " 5 " }

( سورة التوبة ) : أي : ضيقوا عليهم . وقال تعالى في فريضة الحج : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى . . " 196 " }( سورة البقرة ) : أي : حسبتم ومنعتم من أداء الفريضة . إذن : فقوله تعالى : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " 8 " } ( سورة الإسراء ) : أي : تحبسهم فيها وتحصرهم ، وتمنعهم الخروج منها ، فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه ؛ لأنها تحيط بهم من كل ناحية ، كما قال تعالى : { إنا أعتدناللظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها . . " 29 " } ( سورة الكهف ) : فلا يستطيعون الخروج ، فإن حاولوا الخروج ردوا إليها ، كما قال تعالى : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها . . " 20 " }( سورة السجدة ) .

وفي قوله تعالى : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " 8 " }( سورة الإسراء ) : إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء ، ويدخلون في حضانة أهل الباطل ، أما في الآخرة فلن يجدوا ناصراً أو مدافعاً .

يقول تعالى : { ما لكم لا تناصرون " 25 " بل هم اليوم مستسلمون " 26 " } ( سورة الإسراء ) .

وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة ، وجعله آية يمكن إقامة الدليل عليها ، حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه ، فإذا جاءت آية المعراج وخرق له الناموس فيها لا يعلمه القوم كان أدعى إلى تصديقه .

ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى الله عليه وسلم لربه هي التي أعطته هذه المنزلة ، وكذلك كان نوح عليه السلام عبداً شكوراً ، فهناك فرق بين عبودية الخلق للخالق ، وعبودية الخلق للخلق ؛ لأن العبودية للخلق مذمومة ، حيث يأخذ السيد خير عبده ، أما العبودية لله فالعبد يأخذ خير سيده .

ثم تحدث الحق سبحانه عن بني إسرائيل ، وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض ، فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن احسن ولمن أساء ، وكل له عمله دون ظلم أو جور .

لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج الإلهي المنزل من السماء ليوضح عبودية الإنسان لربه ، وكيف يكون عبداً مخلصاً لله تعالى ،