البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة

ابن عجيبة القرن الثالث عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 577

لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ١

سورة القيامة

مكية . وهي أربعون آية . ومناسبتها : قوله : { بل لا يخافون الآخرة } [ المدثر : 53 ] فإنها القيامة التي أقسم بها ، حيث قال :

بسم الله الرحمان الرحيم :

{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }*{ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ }*{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }*{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ }*{ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }*{ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ }*{ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ }*{ وَخَسَفَ الْقَمَرُ }*{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }*{ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ }*{ كَلاَّ لاَ وَزَرَ }*{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ }*{ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ }*{ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ }*{ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } .

يقول الحق جلّ جلاله : { لا أُقسم } أي : أُقسم . وإدخال " لا " النافية على فعل القسم شائع ، كإدخاله على المقسم به في " لا وربك " و " لا والله " ، وفائدتها : توكيد القسم ، وقيل : صلة ، كقوله : { لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [ الحديد : 25 ] وقيل : هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم ، كأنهم أنكروا البعث ، فقيل : لا ، أي : ليس الأمر كذلك ، ثم قال : أُقسم { بيوم القيامة } إنَّ البعث لواقع . وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى . وقيل : أصله : لأُقسم ، كقراءة ابن كثير ، على أنَّ اللام للابتداء ، و " أقسم " : خبر مبتدأ مضمر ، أي : لأنا أُقسم ، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ٢

{ ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة } ، الجمهور على أنه قسم آخر ، وقال الحسن : الثانية نفي ، أي : أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة ، فيكون ذمًّا لها ، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها ، أي : أقسم بالنفس المتقية ، التي تلوم صاحبها على التقصير ، وإن اجتهدت في الطاعة . أو : بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة ، وقيل : المراد الجنس ، لِما رُوي أنه عليه السلام قال : " مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة ، إنْ عَملت خَيْراً ، قالت : كيف لم أزدْ ؟ ! وإِنْ عملت شرًّا ، قالت : ليتني كُنتُ قصرتُ " [1330] . وذكره الثعلبي من كلام البراء : قال أبو السعود : ولا يخفى ضعفه ؛ لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام ، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة ، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس ، وقيل : بنفس آدم عليه السلام ، فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ٣

وجواب القسم : لتُبعثنّ ، دليله : { أيَحْسَبُ الإِنسانُ } أي : الكافر المنكرِ للبعث { ألَّن نجمعَ عِظامه } بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب ، أو : نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض ، أو : ألقتها في البحار . وقيل : إنَّ عَدِيّ بن ربيعة ، خَتنَ الأخنس بن شريق ، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اكفني جارَيْ السوء ، عَدياً والأخنس " قال عَدِيّ : يا محمد ، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون ، وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره عليه السلام ، فقال : يا محمد ؛ لو عاينتُ ذلك لم أصدقك ، ولم أُومِنْ بك ، أَوَ يجمعُ الله هذه العظام ؟ فنزلت .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ٤
بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ٥

{ بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه } : عطف على { أيحسب } إمّا على أنه استفهام توبيخي ، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا ، أو : على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام ، أي : بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات ، وما يستقبله من الزمان ، لا يرعوي عنه .

قال القشيري : { لِيفجُر أمامه } أي : يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته ، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه ، فلا تصحّ توبتُه ؛ لأنّ التوبة من شرطها : العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل ، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه ، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه . ه . وقيل : { ليفجُرَ أَمامَه } أي : يكفر بما قُدامه ، ويدل على هذا قوله : { يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ } .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

يَسۡـَٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ٦
فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ٧
وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ٩

{ وجُمعَ الشمسُ والقمرُ } أي : جُمع بينهما ، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار ، أو يُجمعان أسودين مكورين ، كأنهما ثوران عقِيران . وفي قراءة عبد الله : " وجمع بين الشمس والقمر " . وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ، ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى ، أو : جمع بينهما في الطلوع من المغرب .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ١٠

{ يقول الإِنسانُ يومَئذٍ } أي : حين تقع هذه الأمور العظام : { أين المفَرُّ } أي : الفرار من النار ، يائساً منه ، والمراد بالإنسان : الكافر ، أو : الجنس ، لشدة الهول . قال القشيري : وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة ، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك ، فيقول الإنسان : أين المفر ؟ فيقال : لا مهرب من قضاء الله ، " إلى ربك يومئذ المستقر " ، أي : لا محيد عن حكمه . ه . والمفر : مصدر ، وقرأ الحسن بكسر الفاء ، فيحتمل المكان أو المصدر .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

كَلَّا لَا وَزَرَ١١

{ كلاَّ } ؛ ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه ، { لا وَزرَ } ؛ لا ملجأ ولا حصن ، وأصل الوَزر : الجبل الذي يمتنع فيه . قال السدي : كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال ، فقال تعالى : لا جبل يعصمكم يومئذ مني .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ١٢

{ إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ } أي : إليه خاصة استقرار العباد ، ومنتهى سيرهم ، أو : إلى حُكمه استقرار أمرهم ، أو : إلى مشيئته موضع قرارهم ، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۭ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ١٣

{ يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ } أي : يُخبر كل امرئ ، برًّا كان أو فاجراً ، عند وزن الأعمال { بما قَدَّم } من عمله خيراً كان أو شرًّا ، فيُثاب على الأول ، ويُعَاقب على الثاني ، { وما أخَّرَ } أي : لم يعمله خيراً كان أو شرًّا ، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني ، أو : بما قدّم من حسنة أو سيئة قبل موته ، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته ، أو : بما قدّم في أول عمره ، وأخَّرَ عمله في آخر عمره ، أو : بما قَدَّم من أمواله أمامه ، وأخَّرَ آخره لورثته ، نظيره . { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [ الانفطار : 5 ] .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ١٤

{ بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ } أي : شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة ، كما يُعرب عنه التعبير ب " على " وما سيأتي من الجملة الحالية ، والتاء للمبالغة ، كعلاّمة ، أو : أنّثه لأنه أراد به جوارحه ؛ إذ هي التي تشهد عليه ، أو : هو حُجّة على نفسه ، والبصيرة : الحُجة ، قال الله تعالى : { قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِكُمْ } [ الأنعام : 104 ] وتقول لغيرك : أنت حُجّة على نفسك . ومعنى " بل " : الترقي ، أي : يُنبأ الإنسان بأعماله ، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله ، شاهد على نفسه ، لأنّ جوارحه تنطق بذلك . و " بصيرة " : مبتدأ ، و " على نفسه " : خبر مقدّم ، والجملة : خبر " الإنسان " .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 15

وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ١٥

{ ولو أَلْقَى معاذِيرَه } : حال من الضمير في " بصيرة " ، أو : من مرفوع ( ينبأ ) أي : ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي : هو بصيرة على نفسه ، تشهد عليه جوارحُه ، ويُعمل بشهادتها ، ولو اعتذر بكل معذرة ، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر . . الخ . والمعاذير : اسم جمع للمعذرة ، كالمناكير اسم جمع للمنكَر ، لا جمع ؛ لأنّ جمعها معاذِر بالقصر ، وقيل : جمع " مِعْذار " وهو : الستر ، أي : ولو أرخى ستوره . وقيل : الجملة استئنافية ، أي : لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه ، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره ، وهي جوارحه . والله تعالى أعلم .

الإشارة : قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة ، لمشاركتها له في التعظيم ، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله ، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح ، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية ، ثم تكون مطمئنة ، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة ، بل تستدل بالله على غيره ، فلا ترى سواه ، فحينئذ ترجع إلى أصلها ، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها ، وهو القِدَم والأبد ، فيتلاشى الحادث ويبقى القديم وحده ، كما كان وحده . فالنفوس أربعة : أمّارة ، ولوّامة ، ولهّامة ، ومطمئنة ، وهي في الحقيقة نفس واحدة ، تتطور وتتقلب من حال إلى حال ، باعتبار التخلية والتحلية ، والترقية والتردية ، فأصلها الروح ، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة ، ثم لوّامة ، ثم لهّامة ، ثم مطمئنة .

قال القشيري : أيحسب الإنسان ، أي : الإنسان المحجوب بنفسه وهواه ، ألَّن نجمع عِظامه ؛ أعماله الحسنة والسيئة ، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه ، أي : صغار أفعاله الحسنة والسيئة ، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه ، بحسب الاعتقاد والنية ، قبل الإتيان بالفعل ، أي : يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل ، يسأل أيَّان يوم القيامة ؟ لطول أمله ، ونسيان آخرته ، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة ، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء . فإذا بَرِقَ البصرُ : تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي ، وخسَف القمر ، أي : ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح ، وجُمع الشمس والقمر ، أي : جُمع شمس الروح وقمر القلب ، بالتجلِّي الأحدي الجمعي ، يعني : فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ؟ من خوف الاضمحلال والاستهلاك ، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام ، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين ، بعد الفرار إلى الله ، قال تعالى : { فَفِرُّوا إِلَى اللهِ } [ الذاريات : 50 ] . هـ . بالمعنى .

يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة ، حيث يرى ثمرتها ، وما أَخَّرَ ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها ، فالمشاهدة على قدر المجاهدة ، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته ، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ . بل الإنسان على نفسه بصيرة ، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه ، ويشعر بضعفه وقوته ، إن صحّت بصيرته ، وطهرت سريرته ، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره ، ولو ألقى معاذيره . وبالله التوفيق .

لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ١٦

ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل الوحي يتلقاه من جبريل قبل أن يقضي نزوله ، فإذا قرأ عليه جبريل لم يفرغ من الآية حتى يقرأها النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن يتفلت من صدره ، فنزل قوله تعالى[1331] :

{ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }*{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }*{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }*{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } .

قلت : اختلف المفسرون في وجه المناسبة في هذه الآية ، فقال بعضهم : ما تضمنه من الاقتدار على حفظه وإبقائه في قلبه ، بإخراجه عن كسبه وإمساكه وحفظه ، فالقادر على ذلك قادر على إحياء الموتى وجمع عظامها ، وتسوية بنانها . ونَقَل الطيبي عن الإمام الفخر : أنه تعالى لمّا أخبر عن الكفار أنهم يُحبون العاجلة ، وذلك قوله : { بل يُريد الإنسان لِيفجُر أَمامه } بيَّن أنَّ العَجَلة مذمومة ، ولو فيما هو أهم الأمور وأصل الدين ، بقوله : { لا تُحرِّكْ به لسانَك } فاعترض به ، ليؤكد التوبيخ على حب العاجلة بالطريق الأولى . ه . وقيل : اعترض نزولُها في وسطِ السورة قبل أن تكمل ، فوُضعت في ذلك المحل ، كمَن كان يسرد كتاباً ثم جاء سائل يسأل عن نازلةٍ ، فيطوي الكتابَ حتى يُجيبه ، ثم يرجع إلى تمام سرده . انظر الإتقان .

يقول الحق جلّ جلاله : { لا تُحرِّكْ به } ؛ بالقرآن { لسانَكَ لِتعجَلَ به } ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل ، كراهة أن يتفلّت منه ، فقيل له : لا تُحرك لسانك بقراءة الوحي ، ما دام جبريل يقرأ ، { لِتعجَلَ به } ؛ لتأخذه على عجلة ، لئلا يتفلّت منك ، ثم ضَمِنَه له بقوله : { إِنَّ علينا جَمْعَه } .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 19

إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ١٧

في صدرك ، { وقرآنه } ؛ وإثبات قراءته في لسانك ، فالمراد بالقرآن هنا : القراءة ، وهذا كقوله : { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 19

فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ١٩

{ ثم إِنَّ علينا بيانَهُ } إذا أشكل عليك شيء مِن معانيه وأحكامه .

الإشارة : لا تُحرِّكْ بالواردات الإلهية لسانك لِتَعْجَل به حين الإلقاء ، بل تمهّل في إلقائه ليُفهم عنك ، إنَّ علينا جمعه وقرآنه ، أي : حفظه وقراءته ، فإذا قرأناه على لسانك في حال الفيض فاتبع قرآنه ، ثم إنَّ علينا بيانه . وفي الحِكم : " الحقائق ترد في حال التجلي جملة ، وبعد الوعي يكون البيان ، { فإذا قرأناه فاتبعْ قرآنه ثم إنَّ علينا بيانه } " . ولا شك أنَّ الواردات في حال الفيض تبرز مجملةً ، لا يقدر على حصرها ولا تَفَهُّمِها ، فإذا فَرَغَ منها قولاً وكتابة فتَدَبرها وجدها صحيحةَ المعنى ، واضحةَ المبنى ، لا نقص فيها ولا خلل ، لأنها من وحي الإلهام ، وكان بعض المشايخ يقول لأصحابه : إني لأستفيد مني كما تستفيدون أنتم ، وكان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا فاض بالمواهب يقول : هلاَّ مَن يكتب عنا هذه الأسرار . إلى غير ذلك مما هو مُدوَّن عند أهل الفن . والله تعالى أعلم .

page 578

كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ٢٠

ثم رجع الحق تعالى إلى الزجر عن إنكار البعث وحب العاجلة ، فقال :

{ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ }*{ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ }*{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ }*{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }*{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ }*{ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }*{ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ }*{ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ }*{ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ }*{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ }*{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ }*{ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى }*{ وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى }*{ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى }*{ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى }*{ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى }*{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى }*{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى }*{ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى }*{ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى }*{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } .

يقول الحق جلّ جلاله : { كلاَّ } أي : انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور ، { بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة } أي : بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل ، وجُبلتم عليه ، تَعْجلون في كل شيء ، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 40