قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } .
أسند الفلاح هنا إلى من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ، وفي غير هذه الآية أسند التزكية لمشيئة الله في قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } ، وفي آية أخرى ، نهى عن تزكية النفس .
وقد تقدم للشيخ بيان ذلك في سورة النور عند الكلام على قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ } على أن زكى بمعنى تطهر من الشكر والمعاصي ، لا على أنه أَخرج الزكاة ، والذي يظهر أن آية النجم إنما نهى فيها عن تزكية النفس لما فيه من امتداحها ، وقد لا يكون صحيحاً كما في سورة الحجرات قوله تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } واللَّه تعالى أعلم .
قوله تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .
قرئ : تؤثرون بالتاء وبالياء راجعاً إلى { الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } ، وعلى أنها بالتاء للخطاب أعم ، وحيث إن هذا الأمر عام في الأمم الماضية ، ويذكر في الصحف الأولى كلها عامة ، وفي صحف إبراهيم وموسى ، مما يدل على خطورته ، وأنه أمر غالب على الناس .
وقد جاءت آيات دالة على أسباب ذلك منها الجهل وعدم العلم بالحقائق ، كما في قوله تعالى : { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، أي الحياة الدائمة .
وقد روى القرطبي عن مالك بن دينار قوله : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى ، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى ؟
ومن أسباب ذلك أن الدنيا زينت للناس وعجلت لهم كما في قوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ } .
ثم قال : { ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ 14 } .
وبين تعالى هذا المآب الحسن وهو في وصفه يقابل { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى 17 } ، فقال : { * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } .
تأمل هذا البديل ، ففي الدنيا ذهب وخيل ونساء والأنعام والحرث ، وقد قابل ذلك كله بالجنة فعمت وشملت ، ولكن نص على أزواج مطهرة ليعرف الفرق بين نساء الدنيا ونساء الآخرة ، كما تقدم في : { وأنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين } { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } ، وغير ذلك مما ينص على الخيرية في الآخرة .
ولا شك أن من آثر الآخرة غالب على من آثر الدنيا ، وظاهر عليه ، كما صرَّح تعالى بذلك في قوله : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
فمن هذا يظهر أن أسباب إيثار الناس للحياة الدنيا هو تزيينها وزخرفتها في أعينهم بالمال والبنين والخيل والأنعام { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً } .
وقد سيق هذا ، لا على سبيل الإخبار بالواقع فحسب ، بل إن من ورائه ما يسمى لازم الفائدة ، وهو ذم من كان هذا حاله ، فوجب البحث عن العلاج لهذه الحالة .
وإذا ذهبنا نتطلب العلاج فإننا في الواقع نواجه أخطر موضوع على الإنسان ، لأنه يشمل حياته الدنيا ومآله في الآخرة ، ويتحكم في سعادته وفوزه أو شقاوته وحرمانه ، وإن أقرب مأخذ لنا لهو هذا الموطن بالذات من هذه السورة ، وهو بضميمة ما قبلها إليها من قوله تعالى : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى 10 وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } ، وبعدها { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } ، فقد قسمت هذه الآيات الأمة كلها أمة الدعوة إلى قسمين .
أما التذكير والإنذار ، إذ قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، فهذا موقف النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء تقسيم الأمة إلى القسمين الآيتين : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } : فينتفع بالذكرى وتنفعه ، { وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى } ، فلا تنفعه ولا ينتفع بها ، ثم جاء الحكم بالفلاح : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 } ، أي من يخشى { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } ، ولم يغفل عن ذكر الله تعالى ، وهذا الموقف بنفسه هو المفصل في سورة الحديد ، وفي معرض التوجيه لنا والتوبيخ للأمم الماضية أيضاً { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
فقسوة القلب وطول الأمد والتسويف : هي العوامل الأساسية للغفلة وإيثار الدنيا . والخشية والذكر : هي العوامل الأساسية لإيثار الآخرة ثم عرض الدنيا في حقيقتها بقوله : { اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ } إلى قوله { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
فوصف الداء والدواء معاً في هذا السياق . فالداء : هو الغرور ، والدواء : هو المسابقة إلى مغفرة من الله ورضوانه .