سورة الفاتحة
معنى الفاتحة في الأصل أول ما من شأنه أن يفتتح به ، ثم أطلقت على أول كل شيء كالكلام ، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، فسميت هذه السورة " فاتحة الكتاب " لكونه افتتح بها ، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف ، وأول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز ، وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن . وقد اشتهرت هذه السورة الشريفة بهذا الاسم في أيام النبوة . قيل هي مكية ، وقيل مدنية .
وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول ، والثعلبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة ، والثعلبي والواحدي من حديث عمر بن شرحبيل " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي ، فذهبت به إلى ورقة فأخبره فقال له : إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي : يا محمد يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض ، فقال : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني ، فلما خلا ناداه يا محمد قل : بسم الله الرحمن الرحيم ، حتى بلغ ولا الضالين " الحديث . وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن رجل من بني سلمة قال : لما أسلمت فتيان بني سلمة وأسلم ولد عمرو بن الجموح قالت امرأة عمرو له : هل لك أن تسمع من أبيك ما روي عنه ؟ فسأله فقرأ عليه : الحمد لله رب العالمين ، وكان ذلك قبل الهجرة . وأخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال : فاتحة الكتاب نزلت بمكة . فهذا جملة ما استدل به من قال إنها نزلت بمكة . واستدل من قال إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ، وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه ، والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد عن أبي هريرة " رن إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب " وأنزلت بالمدينة .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو نعيم في الحلية وغيرهم من طرق عن مجاهد قال : نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة ، وقيل : إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة جمعاً بين هذه الروايات .
وتسمى : " أم الكتاب " قال البخاري في أول التفسير : وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ، ويبدأ بقراءتها في الصلاة . وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن أيوب عن محمد بن سيرين كان يكره أن يقول أم الكتاب ويقول : قال الله تعالى : " وعنده أم الكتاب " ولكن يقول فاتحة الكتاب . ويقال لها الفاتحة لأنها يفتتح بها القراءة ، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام . قال ابن كثير في تفسيره : وصح تسميتها بالسبع المثاني ، قالوا : لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة . وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم القرآن : " هي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي القرآن العظيم " . وأخرج ابن جرير في تفسيره عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني " . وأخرج نحوه ابن مردويه في تفسيره والدارقطني من حديثه ، وقال : كلهم ثقات . وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى : " سبعاً من المثاني " بالفاتحة .
ومن جملة أسمائها كما حكاه في الكشاف سورة الكنز ، والوافية ، وسورة الحمد ، وسورة الصلاة . وقد أخرج الثعلبي أن سفيان بن عيينة كان يسمى فاتحة الكتاب الواقية . وأخرج الثعلبي أيضاً عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة خلف الإمام ، فقال عن الكافية تسال ؟ قال السائل : وما الكافية ! ؟ قال : الفاتحة ، أما علمت أنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها . وأخرج أيضاً عن الشعبي أن رجلاً اشتكى إليه وجع الخاصرة ، فقال : عليك بأساس القرآن ، قال : وما أساس القرآن ؟ قال : فاتحة الكتاب . وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أعطاني فيما من به علي فاتحة الكتاب ، وقال : هي من كنوز عرشي " وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده عن علي نحوه مرفوعاً . وقد ذكر الدارقطني في تفسيره للفاتحة اثني عشر اسماً وهي سبع آيات بلا خلاف كما حكاه ابن كثير في تفسيره . وقال القرطبي : أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست وهو شاذ . وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إياك نعبد آية ، فهي عنده ثمان ، وهو شاذ انتهى . وإنما اختلفوا في البسملة كما سيأتي إن شاء الله . وقد أخرج عبد بن حميد ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، وابن الأنباري في المصاحف عن محمد بن سيرين أن أبي بن كعب وعثمان بن عفان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين ، ولم يكتب ابن مسعود شيئاً منهن . وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف ، وقال : لو كتبتها لكتبت في أول كل شيء .
وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث ، منها ما أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد بن المعلى " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد " ، قال : فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ؟ قال : " نعم : { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " . وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ؟ ثم أخبره أنها الفاتحة " . وأخرجه النسائي وأخرج أحمد في المسند من حديث عبد الله بن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن ؟ " قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها " . وفي إسناده ابن عقيل ، وقد احتج به كبار الأئمة ، وبقية رجاله ثقات . وعبد الله بن جابر هذا هو العبدي كما قال ابن الجوزي ، وقيل : الأنصاري البياضي كما قال ابن عساكر . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أخبروه بأن رجلاً رقى سليماً بفاتحة الكتاب : وما كان يدريه أنها رقية " الحديث . وأخرج مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه من حديث ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته " وأخرج مسلم والنسائي والترمذي ، وصححه من حديث أبي هريرة : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً ، غير تامة " . وأخرج البزار في مسنده بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و{ قل هو الله أحد } فقد أمنت من كل شيء إلا الموت " وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن أبي زيد وكان له صحبة قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة ، فسمع رجلاً يتهجد ويقرأ بأم القرآن ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع حتى ختمها ثم قال : ما في القرآن مثلها " . وأخرج سعيد بن منصور في سننه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم " . وأخرج أبو الشيخ نحوه من حديثه ، وحديث أبي هريرة مرفوعاً . وأخرج الدارمي ، والبيهقي في شعب الإيمان بسند رجاله ثقات عن عبد الملك بن عمير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب : " شفاء من كل داء " . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة ، وابن جرير والحاكم ، وصححه عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه " أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل راجعاً من عنده ، فمر على قوم وعندهم رجل مجنون موثق بالحديد ، فقال أهله : أعندك ما تداوي به هذا ! ؟ فإن صاحبكم قد جاء بخير ، قال : فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام في كل يوم مرتين غدوة وعشية ، أجمع بزاقي ثم أتفل فبرأ ، فأعطاني مائة شاة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : كل ، فمن أكل برقية باطل ، فقد أكلت برقية حق " . وأخرج الفريابي في تفسيره عن ابن عباس قال : " فاتحة الكتاب ثلث القرآن " . وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ أم القرآن و{ قل هو الله أحد } فكأنما قرأ ثلث القرآن " وأخرج عبد بن حميد في مسنده بسند ضعيف عن ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن " . وأخرج الحاكم وصححه ، وأبو ذر الهروي في فضائله ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له ، فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أخبرك بأفضل القرآن ، فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين } . وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فاتحة الكتاب تجزئ ما لا يجزي شيء من القرآن ، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان ، وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات " . وأخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن مرسلاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " .
اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها ، أو هي بعض آية من أول كل سورة ، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها ، أو أنها ليست بآية في الجميع وإنما كتبت للفصل ؟ والأقوال وأدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك . وقد اتفقوا على أنها بعض آية في سورة النمل . وقد جزم قرّاء مكة ، والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل سورة . وخالفهم قّراء المدينة ، والبصرة ، والشام ، فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، قالوا : وإنما كتبت للفصل والتبرّك .
وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمن الرحيم } . وأخرجه الحاكم في المستدرك . وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أم سلمة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية » . وفي إسناده عمرو بن هارون البلخي ، وفيه ضعف ، وروى نحوه الدارقطني مرفوعاً عن أبي هريرة .
وكما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة . وقد أخرج النسائي في سننه ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة : «أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة ، وقال بعد أن فرغ : إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم » ، وصححه الدارقطني ، والخطيب ، والبيهقي ، وغيرهم .
وروى أبو داود ، والترمذي عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ب { بسم الله الرحمن الرحيم } قال الترمذي : وليس إسناده بذاك . وقد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ب { بسم الله الرحمن الرحيم } ، ثم قال : صحيح .
وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت قراءتُه مدّاً ، ثم قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } يمدّ بسم الله ، ويمدّ الرحمن ، ويمدّ الرحيم . وأخرج أحمد في المسند ، وأبو داود في السنن ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم في مستدركه عن أم سلمة أنها قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين } وقال الدارقطني : إسناده صحيح .
واحتجّ من قال : بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب { الحمد لله ربّ العالمين } . وفي الصحيحين عن أنس قال : «صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا يستفتحون ب { الحمد لله ربّ العالمين } .
ولمسلم لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول قراءة ، ولا في آخرها . وأخرج أهل السنن نحوه عن عبد الله بن مُغَفّل . وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة ، وجماعة من الصحابة .
وأحاديث الترك ، وإن كانت أصح ، ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجاً من مخرج صحيح ، فالأخذ به أولى ، ولا سيما مع إمكان تأويل الترك ، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي ، أعني كونها قرآناً ؛ والوصفي أعني الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة . ولتنقيح البحث ، والكلام على أطرافه استدلالاً ، وردّاً ، وتعقُّباً ، ودفعاً ، ورواية ، ودراية موضعٌ غير هذا .
ومتعلق «الباء » محذوف ، وهو : أقرأ ، أو أتلو ؛ لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له ، فمن قَدَّره متقدماً كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل ، ومن قدره متأخراً كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص ، مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم ، والإشارة إلى أن البداية به أهمّ ، لكون التبرّك حصل به ، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخراً في مثل هذا المقام ، ولا يعارضه قوله تعالى : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] لأن ذلك المقام مقام القراءة ، فكان الأمر بها أهمّ ، وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسماً أو فعلاً فلا يتعلق بذلك كثير فائدة . و«الباء » للاستعانة أو للمصاحبة ، ورجح الثاني الزمخشري .
واسم أصله : سمو ، حذفت لامه ، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة إذا نطقوا به ؛ لئلا يقع الابتداء بالساكن ، وهو اللفظ الدَّالُّ على المسمَّى ؛ ومن زعم أن الاسم هو : المسمى كما قاله أبو عبيدة ، وسيبويه ، والباقلاني ، وابن فورك ، وحكاه الرازي عن الحشوية والكرامية والأشعرية ، فقد غلط غلطاً بيَّناً ، وجاء بما لا يعقل ، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب ، ولا من السنة ، ولا من لغة العرب ، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو : أصوات مقطعة ، وحروف مؤلفة ، غير المسمى الذي هو : مدلوله ، والبحث مبسوط في علم الكلام . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة «إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » ، وقال الله عزّ وجلّ : { وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف : 180 ] وقال تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] . والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره ، وأصله : إله حذفت الهمزة ، وعُوّضت عنها أداة التعريف ، فلزمت . وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس ، يقع على كل معبود بحق ، أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق ، كالنجم ، والصعق ، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة ، وبعده من الأعلام المختصة .
{ والرحمن الرحيم } : اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من رحيم .
وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا ، ولذلك قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا . وقد تقررّ أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى . وقال ابن الأنباري ، والزجّاج : إن الرحمن عَبْرَاني ، والرحيم عربي . وخالفهما غيرهما . والرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عزّ وجل . وأما قول بني حنيفة في مسيلمة : رحمن اليمامة ، فقال في الكشاف : إنه باب من تعنتهم في كفرهم . قال أبو عليّ الفارسيّ : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو : في جهة المؤمنين ، قال الله تعالى { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ]
وقد ورد في فضلها أحاديث . منها :
ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه ، وابن خزيمة في كتاب البسملة والبيهقي عن ابن عباس ، قال : استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : { بسم الله الرحمن الرحيم } . وأخرج نحوه أبو عبيد ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً . وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كان جبريلُ إذا جاءني بالوحي أوّلُ ما يلقي عليّ { بسم الله الرحمن الرحيم } » . وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره ، والحاكم في المستدرك ، وصححه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس ؛ «أن عثمان بن عفان سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فقال : «هو اسم من أسماء الله ، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين ، وبياضها من القرب » . وأخرج ابن جرير وابن عديّ في الكامل ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ، والثعلبي بسند ضعيف جداً عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّهُ إلى الكتاب لتعلِّمه ، فقال له المعلم : اكتب { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فقال له عيسى : وما بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال المعلم : لا أدري ، فقال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين سناه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة » وفي إسناده إسماعيل بن يحيى ، وهو : كذاب . وقد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات .
وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال : لما نزلت { بسم الله الرحمن الرحيم } هرب الغَيْمُ إلى المشرق ، وسكنت الريحُ ، وهاج البحرُ ، وأصغت البهائمُ بآذانها ، ورُجِمَت الشياطينُ من السماء ، وحلفَ اللهُ بعزته وجلاله ألا تُسَمَّى على شيء إلا بارك فيه . وأخرج أبو نعيم ، والديلمي عن عائشة قالت : لما نزلت { بسم الله الرحمن الرحيم } ضجت الجبال حتى سمع أهل مكة دويَّها فقالوا : سَحَرَ محمد الجبالَ ، فبعث الله دخاناً حتى أظل على أهل مكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } موقناً سبَّحت معه الجبالُ إلا أنه لا يُسْمَع ذلك منها » وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة ، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة ، ورفع له أربعة آلاف درجة » وأخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «{ بسم الله الرحمن الرحيم } مفتاح كل كتاب » .
وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها ، والكلام عنها بما يتبين بعد البحث إن شاء الله . وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة ، قد بينها الشارع منها عند الوضوء ، وعند الذبيحة ، وعند الأكل ، وعند الجماع وغير ذلك .