تفسير القرآن للمراغي

المراغي القرن الرابع عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

صفحة 1

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥

{ إياك نعبد وإياك نستعين }

الإيضاح :

العبادة خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته ، لأنه أعلى من أن يحيط به فكره ، أو يرقى إليه إدراكه .

فمن يتذلل لملك لا يقال إنه عبده ، لأن سبب التذلل معروف ، وهو إما الخوف من جوره وظلمه ، وإما رجاء كرمه وجوده .

وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان ، وكلها شرعت لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى ، والملكوت الأسمى ، ولتقويم المعوج من الأخلاق وتهذيب النفوس ، فإن لم يحدث هذا الأثر لم تكن هي العبادة التي شرعها الدين .

هاك الصلاة تجد أن الله أمرنا بإقامتها والإتيان بها كاملة وجعل من آثارها أنها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، كما قال : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فإن لم يكن لها هذا الأثر في النفوس كانت صورا من الحركات والعبارات خالية من روح العبادة وسرها ، فاقدة جلالها وكمالها ، وقد توعد الله فاعلها بالويل والثبور فقال : { ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } فهم وإن سماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبها ، وهو توجه القلب إلى الله والإخبات إليه وهو المشعر بعظمته ، وقد جاء في الحديث : ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا . وأنها تلف كما تلف الثوب البالي ويضرب بها وجهه ) .

والاستعانة طلب المعونة والمساعدة على إتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده .

وقد أمرنا الله في هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه ، لأنه المنفرد بالسلطان ، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه ، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره ، كما أمرنا ألا نستعين بمن دونه ، ولا نطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة إلا منه ، فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها .

فبيان هذا أن الأعمال يتوقف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبباتها ، وجعلتها موصلة إليها ، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها ، وقد أوتي الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة كسب بعض الأسباب ، ودفع بعض الموانع بقدر استعداده الذي أوتيه ، وفي هذا القدر أمرنا أن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا كما قال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فنحن نحضر الدواء مثلا لشفاء المرضى ، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو ، ونضع في الأرض السماد ونرويها ونقتلع منها الحشائش الضارة للخصب وتكثير الغلة .

وفيما وراء ذلك مما حجب عنا من الأسباب يجب أن نفوض أمره إلى الله تعالى ، فنستعين به وحده ، ونفزع إليه في شفاء مريضنا ، ونصرنا على عدونا ، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا ، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه ، وهو قد وعدنا إذ نحن لجأنا إليه بإجابة سؤالنا كما قال : { ادعوني أستجب لكم } وأرشد إلى أنه قريب منا يسمع دعاءنا كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } .

فمن يستعين بقبر ناسك ، أو ضريح عابد لقضاء حاجة له ، أو تيسير أمر تعسر عليه ، أو شفاء مريض أو هلاك عدو فقد ضل سواء السبيل ، وأعرض عما شرعه الله ، وارتكب ضربا من ضروب الوثنية التي كانت فاشية قبل الإسلام وبعده ولا تزال إلى الآن كذلك ، وقد نهى عن مثلها الشارع الحكيم ، إذ حصر طلب المعونة فيه دون سواه ، وجعلها مقصد كل مخبت أواه .

وفي ذكر الاستعانة بالله إرشاد للإنسان إلى أنه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب ، فمن ترك الكسب فقد جانب الفطرة ، ونبذ هدى الشريعة ، وأصبح مذموما مدحورا ، لا متوكلا محمودا ، وكذلك فيها إيتاء إلى أن الإنسان مهما أوتي من حصافة الرأي ، وحسن التدبير ، وتقليب الأمور على وجوهها –لا يستغني عن العون الإلهي ، واللطف الخفي .

والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله ، وهي من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى ، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا ، ومع الناس حرا كريما لا سلطان لأحد عليه ، لا حي ولا ميت ، وفي هذا فك للإرادة من أسر الرؤساء والدجالين ، وإطلاق العزائم من قيود الأفاكين الكاذبين .