زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي

ابن الجوزي القرن السادس الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 583

وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا١

سورة النازعات مكية كلها بإجماعهم .

قوله تعالى : { وَالنَّازِعَاتِ } فيه سبعة أقوال :

أحدها : أنها الملائكة تنزع أرواح الكفار ، قاله علي ، وابن مسعود ، وروى عطية عن ابن عباس قال : هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم وبه قال مسروق .

والثاني : أنه الموت ينزع النفوس ، قاله مجاهد .

والثالث : أنها النفس حين تُنزع ، قاله السدي .

والرابع : أنها النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب ، قاله الحسن ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، والأخفش ، وابن كيسان .

والخامس : أنها القِسْيّ تنزع بالسهم ، قاله عطاء ، وعكرمة .

والسادس : أنها الوحوش تنزع وتنفر ، حكاه الماوردي .

والسابع : أنها الرماة ، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى : { غَرْقاً } اسم أقيم مقام الإغراق . قال ابن قتيبة : والمعنى : والنازعات إغراقا ، كما يغرق النازع في القوس ، يعني : أنه يبلغ به غاية المد .

وَٱلنَّـٰشِطَٰتِ نَشۡطٗا٢

قوله تعالى : { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } فيه خمسة أقوال :

أحدها : أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغم ، قاله علي رضي الله عنه . قال مقاتل : ينزع ملك الموت روح الكافر ، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه ، فيعذبه في حياته ، ثم ينشطها من حلقه أي : يجذبها كما ينشط السفّود من الصوف المبتل . والثاني : أنها تنشط أرواح المؤمنين بسرعة ، كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها ، قاله ابن عباس . وقال الفراء : الذي سمعته من العرب : كما أنشط من عقال بألف . تقول : إذا ربطت الحبل في يد البعير : نشطته ، فإذا حللته قلت : أنشطته .

والقول الثاني : أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا . وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك .

والثالث : أن الناشطات : الموت ينشط نفس الإنسان ، قاله مجاهد .

والرابع : النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي : تذهب ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة ، والأخفش . ويقال لبقر الوحش : نواشط لأنها تذهب من موضع إلى موضع . قال أبو عبيدة : والهموم تنشط بصاحبها . قال هميان بن قحافة :

أمست همومي تنشط المناشطا *** الشام بي طورا وطورا واسطا

والخامس : أنها النفس حين تنشط بالموت ، قاله السدي .

وَٱلسَّـٰبِحَٰتِ سَبۡحٗا٣

قوله تعالى : { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً } فيه ستة أقوال :

أحدها : أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين ، قاله علي رضي الله عنه . قال ابن السائب : يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء ، فأحيانا ينغمس ، وأحيانا يرتفع ، يسلونها سلا رفيقا ، ثم يدعونها حتى تستريح .

والثاني : أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين ، كما يقال للفرس الجواد : سابح : إذا أسرع في جريه ، قاله مجاهد ، وأبو صالح ، والفراء .

والثالث : أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم ، روي عن مجاهد أيضا .

والرابع : أنها السفن تسبح في الماء ، قاله عطاء .

والخامس : أنها النجوم ، والشمس ، والقمر ، كل في فلك يسبحون ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة .

والسادس : أنها الخيل ، حكاه الماوردي .

فَٱلسَّـٰبِقَٰتِ سَبۡقٗا٤

قوله تعالى : { فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً } فيه خمسة أقوال :

أحدها : أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، قاله علي ، ومسروق . والثاني : أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، قاله مجاهد ، وأبو روق . والثالث : أنها سبقت بني آدم إلى الإيمان ، قاله الحسن .

والقول الثاني : أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقا إلى لقاء الله ، فيقبضونها وقد عاينت السرور ، قاله ابن مسعود .

والثالث : أنه الموت يسبق إلى النفوس ، روي عن مجاهد أيضا .

والرابع : أنها الخيل ، قاله عطاء .

والخامس : أنها النجوم يسبق بعضها بعضا في السير ، قاله قتادة .

فَٱلۡمُدَبِّرَٰتِ أَمۡرٗا٥

قوله تعالى : { فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً } قال ابن عباس : هي الملائكة . قال عطاء : وُكّلت بأمور عرفهم الله العمل بها . وقال عبد الرحمن بن سابط : يدبر أمر الدنيا أربعة أملاك : جبريل ، وهو موكل بالرياح والجنود . وميكائيل : وهو موكل بالقطر والبنات . وملك الموت : وهو موكل بقبض الأنفس . وإسرافيل : وهو ينزل بالأمر عليهم . وقيل : بل جبريل للوحي وإسرافيل للصور . وقال ابن قتيبة : فالمدبرات أمرا : تنزل بالحلال والحرام .

فإن قيل : أين جواب هذه الأقسام ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن الجواب قوله تعالى { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى } قاله مقاتل .

والثاني : أن الجواب مضمر ، تقديره : لتبعثن ، ولتحاسبن ، ويدل على هذا قوله تعالى { أَئذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } قاله الفراء .

يَوۡمَ تَرۡجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ٦

قوله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } وهي النفخة الأولى التي يموت منها جميع الخلائق . و{ الراجفة } صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمحض . و{ ترجف } بمعنى : تتحرك حركة شديدة

تَتۡبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ٧

{ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } وهي : النفخة الثانية ردفت الأولى ، أي : جاءت بعدها . وكل شيء جاء بعد شيء فهو يردفه

قُلُوبٞ يَوۡمَئِذٖ وَاجِفَةٌ٨

{ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } أي : شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال القيامة

أَبۡصَٰرُهَا خَٰشِعَةٞ٩

{ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي : ذليلة لمعاينة النار . قال عطاء : وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام .

يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ١٠

ويدل على هذا أنه ذكر منكري البعث ، فقال تعالى : { يَقُولُونَ أَئنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } قرأ ابن عامر وأهل الكوفة { أئنا } بهمزتين مخففتين على الاستفهام ، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية ، وفصل بينهما بألف نافع وأبو عمرو .

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الحافرة : الحياة بعد الموت . فالمعنى : أنرجع أحياء بعد موتنا ؟ ! وهذا قول ابن عباس ، وعطية ، والسدي . قال الفراء : يعنون أنرد إلى أمرنا الأول إلى الحياة ؟ ! والعرب تقول : أتيت فلانا ، ثم رجعت على حافرتي ، أي : رجعت من حيث جئت . قال أبو عبيدة : يقال : رجع فلان في حافرته ، وعلى حافرته : إذا رجع من حيث جاء ، وهذا قول الزجاج .

والثاني : أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، فسميت حافرة ، والمعنى : محفورة ، كما يقال { مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] و{ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] وهذا قول مجاهد ، والخليل ، فيكون المعنى : أئنا لمردودون إلى الأرض خلقا جديدا ؟ !

قال ابن قتيبة : { في الحافرة } أي : إلى أول أمرنا ، ومن فسرها بالأرض ، فإلى هذا يذهب ، لأنا منها بُدئنا . قال الشاعر :

أحافرة على صلع وشيب *** معاذ الله من سفه وعار

كأنه قال : أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا " بعد ما شبت وصلعت ؟ ! " .

والثالث : أن الحافرة : النار ، قاله ابن زيد .

أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا نَّخِرَةٗ١١

قوله تعالى : { أَئذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم { نَاخِرَة } قال الفراء : وهما بمعنى واحد في اللغة . مثل طمع ، وطامع وحذر ، وحاذر . وقال الأخفش : هما لغتان . وقال الزجاج : يقال : نخر العظم ينخر ، فهو نخر . مثل عفن الشيء ، يعفن ، فهو عفن . وناخرة على معنى : عظاما فارغة ، يجيء فيها من هبوب الريح كالنخير . قال المفسرون : والمراد أنهم أنكروا البعث ، وقالوا : نرد أحياء إذا متنا وبليت عظامنا ؟ !

قَالُواْ تِلۡكَ إِذٗا كَرَّةٌ خَاسِرَةٞ١٢

{ تِلْكَ أَذِنَ كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } أي : إن رددنا بعد الموت لنحسرن بما يصيبنا مما يعدنا به محمد ، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه ،

فَإِنَّمَا هِيَ زَجۡرَةٞ وَٰحِدَةٞ١٣

فقال تعالى { فَإِنَّمَا هِي } يعني النفخة الأخيرة { زَجْرَةٌ واحِدَةٌ } أي : صيحة في الصور يسمعونها من إسرافيل وهم في الأرض فيخرجون

فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ١٤

{ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } وفيها أربعة أقوال :

أحدها : أن الساهرة : وجه الأرض ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، واللغويون . قال الفراء : كأنها سميت بهذا الاسم لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم .

والثاني : أنه جبل عند بيت المقدس قاله وهب بن منبه .

والثالث : أنها جهنم ، قاله قتادة .

والرابع : أنها أرض الشام ، قاله سفيان .

هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ١٥

قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } أي : قد جاءك . وقد بينا هذا في [ طه :9 ] وما بعده

إِذۡ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوًى١٦

قوله تعالى : { طُوًى اذْهَبْ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو { طوى اذهب } غير مجراة . وقرأ الباقون { طوى } منونة .

page 584

ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ١٧
فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ١٨

{ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى } وقرأ ابن كثير ، ونافع { تزّكّى } بتشديد الزاي ، أي : تطهر من الشرك .

وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ١٩

{ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ } أي : أدعوك إلى توحيده ، وعبادته { فَتَخْشَى } عذابه .

فَأَرَىٰهُ ٱلۡأٓيَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰ٢٠

{ فَأَرَاهُ الآيةَ الْكُبْرَى } وفيها قولان :

أحدهما : أنها اليد والعصا ، قاله جمهور المفسرين . والثاني : أنها اليد ، قاله الزجاج .