الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ، خلق له الكون كله بما فيه ، وخلق له جميع مقومات حياته ، ووالى عليه نعمه إيجاداً من عدم ، وإمداداً من عدم ، وجعل من مقومات الحياة ما ينفعل له وإن لم يطلب منه ، كالشمس والقمر والهواء والمطر . . الخ فهذه من مقومات حياتك التي تعطيك دون أن تتفاعل معها .
ومن مقومات الحياة ما لا ينفعل لك ، إلا إذا تفاعلت معه ، كالأرض مثلاً لا تعطيك إلا إذا حرثتها ، وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلت لك ، وأعطتك الإنتاج الوفير .
والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مقومات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم ، فتتفاعل معهم مقومات الحياة ، ويحدث التقدم والارتقاء .
وقد يرتقي الإنسان ارتقاء آخر ، بأن يستفيد من النوع الأول من مقومات الحياة ، والذي يعطيه دون أن يتفاعل معه ، استفادة جديدة ، ومن ذلك ما توصل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل .
إذن : فهذه نواميس في الكون ، الذي يحسن استعمالها تعطيه النتيجة المرجوة ، وبذلك يثري الإنسان حياته ويرتقي بها ، وهذا ما أسميناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي . لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { من كان يريد العاجلة . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أي : عطاء الدنيا ومتعها ورقيها وتقدمها .
{ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أجبناه لما يريد من متاع الدنيا .
ولابد لنا أن نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن والكافر ، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مقومات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها ، ويتقدم على المؤمن ، ويمتلك قوته ورغيف عيشه ، بل وجميع متطلبات حياتهم ، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر ، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة .
وهذا حال لا يليق بالمؤمن ، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده ، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة ، ونغفل أسباب الحياة ومقوماتها المادية التي لا قوام للحياة إلا بها .
في حين أن المؤمن أولى بمقومات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله .
إذن : فمن الدين ألا تمكن أعداء الله من السيطرة على مقومات حياتك ، وألا تجعلهم يتفوقون عليك . وقوله : { ما نشاء لمن نريد . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أن تفاعل الأشياء معك ليس مطلقاً ، بل للمشيئة تدخل في هذه المسألة ، فقد تفعل ، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى ، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء ، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية .
ومعنى ( ما نشاء )للمعجل و( لمن نريد )للمعجل له .
ومادام هذا يريد العاجلة ، ويتطلع إلى رقي الحياة الدنيا وزينتها ، إذن : فالآخرة ليست في باله ، وليست في حسبانه ؛ لذلك لم يعمل لها ، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صفراً لا نصيب له فيها ؛ لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدم ، وهذا قدم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقي والتقدم والتكريم .
قال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " 39 " } ( سورة النور ) : والسراب ظاهرة طبيعية يراها من يسير في الصحراء وقت الظهيرة ، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء ، حتى إذا وصل إليه لم يجده شيئاً ، كذلك إن عمل الكافر خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجد له شيئاً من عمله ؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا .
ثم تأتي المفاجأة : { ووجد الله عنده . . " 39 " }( سورة النور ) ، وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد " 18 " }( سورة إبراهيم ) : فمرة يشبه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب ، ومرة يشبهه بالرماد ؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً ، وهو مادة الخصب والنماء ، وهو مقوم من مقومات الحياة . ووصفه بقوله تعالى : { كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين " 264 " }( سورة البقرة ) : والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يجسم لنا خيبة أمل الكافر في الآخرة في صورة محسة ظاهرة ، فمثل عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر ، فماذا تنتظر منه ؟ وماذا وراءه من الخير ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أعددناها له ، وخلقناها من أجله يقاسي حرارتها ( مذموماً )أي : يذمه الناس ، والإنسان لا يذم إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصح له أن يرتكبه . و : { مدحوراً " 18 " } ( سورة الإسراء ) . وبعد أن أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة ، وما انتهى إليه من العذاب ، يعطينا صورة مقابلة ، صورة لمن كان أعقل وأكيس ، ففضل الآخرة .