جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري

الطبري القرن الرابع الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 467

حمٓ١

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { حمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذّنبِ وَقَابِلِ التّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطّوْلِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .

اختلف أهل التأويل في معنى قوله حم فقال بعضهم : هو حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم ، وهو الحاء والميم منه . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّويه المروَزي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : ثني أبي ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون ، حروف الرحمن مقطعة .

وقال آخرون : هو قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : حم : قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله حم : من حروف أسماء الله .

وقال آخرون : بل هو اسم من أسماء القرآن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حم قال : اسم من أسماء القرآن .

وقال آخرون : هو حروف هجاء .

وقال آخرون : بل هو اسم ، واحتجوا لقولهم ذلك بقول شريح بن أوفَى العبسي :

يُذَكّرُنِي حامِيمَ والرّمْحُ شاجِرٌ *** فَهَلاّ تَلا حم قَبْلَ التّقَدّمِ

وبقول الكُمَيت :

وَجَدْنا لَكُمْ فِي آلِ حامِيم آيَةً *** تَأَوّلَها مِنّا تَقِيّ وَمُعْرِبُ

وحُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال : قال يونس ، يعني الجرمي : ومن قال هذا القول فهو منكَر عليه ، لأن السورة حم ساكنة الحروف ، فخرجت مخرج التهجي ، وهذه أسماء سور خرجت متحركات ، وإذا سميت سورة بشيء من هذه الأحرف المجزومة دخلهُ الإعراب .

والقول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها ، وقد بيّنا ذلك ، في قوله : الم ، ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع ، إذ كان القول في حم ، وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه ، أعني حروف التهجي قولاً واحدا .

تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ٢

وقوله : تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ يقول الله تعالى ذكره : من الله العزيز في انتقامه من أعدائه ، العليم يما يعملون من الأعمال وغيرها تنزيل هذا الكتاب فالتنزيل مرفوع بقوله : مِنَ اللّهِ .

غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ٣

وفي قوله : غافِرِ الذّنْبِ وجهان أحدهما : أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد ، وإذا أريد هذا المعنى ، كان خفض غافر وقابل من وجهين ، أحدهما من نية تكرير «من » ، فيكون معنى الكلام حينئذ : تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، من غافر الذنب ، وقابل التوب ، لأن غافر الذنب نكرة ، وليس بالأفصح أن يكون نعتا للمعرفة ، وهو نكرة ، والاَخر أن يكون أجرى في إعرابه ، وهو نكرة على إعراب الأوّل كالنعت له ، لوقوعه بينه وبين قوله : ذِي الطّوْلِ وهو معرفة . . وقد يجوز أن يكون أتبع إعرابه وهو نكرة إعراب الأوّل ، إذا كان مدحا ، وكان المدح يتبع إعرابه ما قبله أحيانا ، ويعدل به عن إعراب الأوّل أحيانا بالنصب والرفع كما قال الشاعر :

لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الّذِينَ هُمُ *** سَمّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزُرِ

النّازِلِينَ بِكُلّ مَعُتَركٍ *** والطّيِبينَ معَاقِدَ الأُزُزُ

وكما قال جلّ ثناؤه وَهُوَ الغَفُورُ الَودُودُ ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ فرفع فعّالٌ وهو نكرة محضة ، وأتبع إعراب الغفور الودود والاَخر : أن يكون معناه : أن ذلك من صفته تعالى ، إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الاَية وفي حال نزولها ، ومن بعد ذلك ، فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة . وقال : غافِرِ الذّنْبِ ولم يقل الذنوب ، لأنه أريد به الفعل ، وأما قوله : وَقابِلِ التّوْبِ فإن التوب قد يكون جمع توبة ، كما يجمع الدّومة دَوما والعَومة عَوما من عومة السفينة ، كما قال الشاعر :

*** عَوْمَ السّفِينَ فَلَمّا حالَ دُونَهُمُ ***

وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا .

وقد :

حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، قال : جاء رجل إلى عمر ، فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة ؟ قال : نعم ، اعمل ولا تيأس ، ثم قرأ : حم تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللّهِ العَزِيرِ العَلِيمِ غافِرِ الذّنْبِ وَقابِلِ التّوْبِ .

وقوله : شَدِيد العقابِ يقول تعالى ذكره : شديد عقابه لمن عاقبه من أهل العصيان له ، فلا تتكلوا على سعة رحمته ، ولكن كونوا منه على حذر ، باجتناب معاصيه ، وأداء فرائضه ، فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والاَثام من عفوه ، وقبول توبة من تاب منهم من جرمه ، كذلك لا يؤمنهم من عقابه وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه ، وركبوا من معاصيه .

وقوله : ذِي الطّوْلِ يقول : ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه يقال منه : إن فلانا لذو طَوْل على أصحابه ، إذا كان ذا فضل عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو الصالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ذِي الطّوْلِ يقول : ذي السعة والغنى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ذِي الطّوْلِ الغنى .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذِي الطّوْلِ : أي ذي النعم .

وقال بعضهم : الطّول : القدرة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ذِي الطّوْلِ قال : الطول القدرة ، ذاك الطول .

وقوله : لا إلَهَ إلاّ هوَ إلَيْهِ المَصِيرُ يقول : لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم ، الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه ، فلا تعبدوا شيئا سواه إلَيْهِ المَصِيرُ يقول تعالى ذكره : إلى الله مصيركم ومرجعكم أيها الناس ، فإياه فاعبدوا ، فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه .

مَا يُجَٰدِلُ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَا يَغۡرُرۡكَ تَقَلُّبُهُمۡ فِي ٱلۡبِلَٰدِ٤

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ فِيَ آيَاتِ اللّهِ إِلاّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمّتْ كُلّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } .

يقول تعالى ذكره : ما يخاصم في حجج الله وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها ، إلا الذين جحدوا توحيده .

وقوله : فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ في البِلادِ يقول جلّ ثناؤه : فلا يخدعك يا محمد تصرّفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها ، مع كفرهم بربهم ، فتحسب أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا ، فتصرّفوا في البلاد مع كفرهم بالله ، ولم يعاجلوا بالنقمة والعذاب على كفرهم لأنهم على شيء من الحق فإنا لم نمهلهم لذلك ، ولكن ليبلغ الكتاب أجله ، ولتحقّ عليهم كلمة العذاب ، عذاب ربك ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي البِلاد أسفارهم فيها ، ومجيئهم وذهابهم .

ثم قصّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص الأمم المكذّبة رسلها ، وأخبره أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم ، وإنه أحلّ بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم ، وإنذارهم بأسه ما قد ذكر في كتابه إعلاما منه بذلك نبيه ، أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك في تكذيبه وجداله سنته من إحلال نقمته بهم ، وسطوته بهم ، فقال تعالى ذكره : كذبت قبل قومك المكذّبين لرسالتك إليهم رسولاً ، المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهم الأمم الذين تحزّبُوا وتجمّعوا على رسلهم بالتكذيب لها ، كعاد وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب مَدْيَن وأشباههم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ قال : الكفار .

وقوله : وَهمّتْ كُلّ أُمّةٍ برَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ يقول تعالى ذكره : وهمت كلّ أمة من هذه الأمم المكذبة رسلها ، المتحزّبة على أنبيائها ، برسولهم الذي أُرسل إليهم ليأخذوه فيقتلوه ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهَمّتْ كُلّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لَيأْخُذُوهُ : أي ليقتلوه ، وقيل برسولهم وقد قيل : كلّ أمة ، فوجّهت الهاء والميم إلى الرجل دون لفظ الأمة ، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «برسولها » ، يعني برسول الأمة .

وقوله : وجَادَلُوا بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَ يقول : وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحقّ الذي جاءهم به من عند الله ، من الدخول في طاعته ، والإقرار بتوحيده ، والبراءة من عبادة ما سواه ، كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل .

وقوله : فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ يقول تعالى ذكره : فأخذت الذين هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي ، فكيف كان عقابي إياهم ، ألم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة ، ولمن بعدهم عظة ؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم منهم خلاء ، وللوحوش ثواء . وقد :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَأَخَذَتْهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ قال : شديد والله .

كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۖ وَهَمَّتۡ كُلُّ أُمَّةِۭ بِرَسُولِهِمۡ لِيَأۡخُذُوهُۖ وَجَٰدَلُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّ فَأَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ٥

يقول تعالى ذكره : ما يخاصم في حجج الله وأدلته على وحدانيته بالإنكار لها ، إلا الذين جحدوا توحيده .

وقوله : فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ في البِلادِ يقول جلّ ثناؤه : فلا يخدعك يا محمد تصرّفهم في البلاد وبقاؤهم ومكثهم فيها ، مع كفرهم بربهم ، فتحسب أنهم إنما أمهلوا وتقلبوا ، فتصرّفوا في البلاد مع كفرهم بالله ، ولم يعاجلوا بالنقمة والعذاب على كفرهم لأنهم على شيء من الحق فإنا لم نمهلهم لذلك ، ولكن ليبلغ الكتاب أجله ، ولتحقّ عليهم كلمة العذاب ، عذاب ربك ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فلا يَغْرُرْكَ تَقَلّبُهُمْ فِي البِلاد أسفارهم فيها ، ومجيئهم وذهابهم .

ثم قصّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص الأمم المكذّبة رسلها ، وأخبره أنهم كانوا من جدالهم لرسله على مثل الذي عليه قومه الذين أرسل إليهم ، وإنه أحلّ بهم من نقمته عند بلوغهم أمدهم بعد إعذار رسله إليهم ، وإنذارهم بأسه ما قد ذكر في كتابه إعلاما منه بذلك نبيه ، أن سنته في قومه الذين سلكوا سبيل أولئك في تكذيبه وجداله سنته من إحلال نقمته بهم ، وسطوته بهم ، فقال تعالى ذكره : كذبت قبل قومك المكذّبين لرسالتك إليهم رسولاً ، المجادليك بالباطل قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهم الأمم الذين تحزّبُوا وتجمّعوا على رسلهم بالتكذيب لها ، كعاد وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب مَدْيَن وأشباههم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ قال : الكفار .

وقوله : وَهمّتْ كُلّ أُمّةٍ برَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ يقول تعالى ذكره : وهمت كلّ أمة من هذه الأمم المكذبة رسلها ، المتحزّبة على أنبيائها ، برسولهم الذي أُرسل إليهم ليأخذوه فيقتلوه ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهَمّتْ كُلّ أُمّةٍ بِرَسُولِهِمْ لَيأْخُذُوهُ : أي ليقتلوه ، وقيل برسولهم وقد قيل : كلّ أمة ، فوجّهت الهاء والميم إلى الرجل دون لفظ الأمة ، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «برسولها » ، يعني برسول الأمة .

وقوله : وجَادَلُوا بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَ يقول : وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم إياه وخصومتهم له الحقّ الذي جاءهم به من عند الله ، من الدخول في طاعته ، والإقرار بتوحيده ، والبراءة من عبادة ما سواه ، كما يخاصمك كفار قومك يا محمد بالباطل .

وقوله : فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ يقول تعالى ذكره : فأخذت الذين هموا برسولهم ليأخذوه بالعذاب من عندي ، فكيف كان عقابي إياهم ، ألم أهلكهم فأجعلهم للخلق عبرة ، ولمن بعدهم عظة ؟ وأجعل ديارهم ومساكنهم منهم خلاء ، وللوحوش ثواء . وقد :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَأَخَذَتْهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقَابِ قال : شديد والله .

وَكَذَٰلِكَ حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ٦

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ حَقّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ النّارِ } .

يقول تعالى ذكره : وكما حقّ على الأمم التي كذّبت رسلها التي قصصت عليك يا محمد قصصها عذابي ، وحلّ بها عقابي بتكذيبهم رسلهم ، وجدالهم إياهم بالباطل ، ليدحضوا به الحقّ ، كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك ، الذين يجادلون في آيات الله .

وقوله : أنّهُمْ أصحَابُ النّارِ اختلف أهل العربية في موضع قوله أنّهُمْ ، فقال بعض نحوييّ البصرة : معنى ذلك : حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار : أي لأنهم ، أو بأنهم ، وليس أنهم في موضع مفعول ليس مثل قولك : أحققت أنهم لو كان كذلك كان أيضا أحققت ، لأنهم . وكان غيره يقول : «أنهم » بدل من الكلمة ، كأنه أحقت الكلمة حقا أنهم أصحاب النار .

والصواب من القول في ذلك ، أن قوله «أنهم » ترجمة عن الكلمة ، بمعنى : وكذلك حقّ عليهم عذاب النار ، الذي وعد الله أهل الكفر به .

ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ٧

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }

يقول تعالى ذكره : الذين يحملون عرش الله من ملائكته ، ومن حول عرشه ، ممن يحفّ به من الملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول : يصلون لربهم بحمده وشكره وَيُؤْمِنُونَ بِهِ يقول : ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه ، ويشهدون بذلك ، لا يستكبرون عن عبادنه وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا يقول : ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله ، والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم ، فيعفوها عنهم ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا لأهل لا إله إلا الله .

وقوله : رَبّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما ، وفي هذا الكلام محذوف ، وهو يقولون ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون : يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما . ويعني بقوله : وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما : وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء من خلقك ، فعلمت كلّ شيء ، فلم يخف عليك شيء ، ورحمت خلقك ، ووسعتهم برحمتك .

وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم ، فقال بعض نحويي البصرة : انتصاب ذلك كانتصاب لك مثله عبدا ، لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء ، وهو مفعول له ، والفاعل التاء ، وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا ، وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت المثل بالهاء ، فلذلك نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل وقال غيره : هو من المنقول ، وهو مفسر ، وسعت رحمته وعلمه ، ووسع هو كلّ شيء رحمة ، كما تقول : طابت به نفسي ، وطبت به نفسا ، وقال : أمالك مثله عبدا ، فإن المقادير لا تكون إلا معلومة مثل عندي رطل زيتا ، والمثل غير معلوم ، ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة ، فلذلك نصب العبد ، وله أن يرفع ، واستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :

ما في مَعَدّ والقَبائِلِ كُلّها *** قَحْطانَ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدودُ

وقال : رد «الواحد » على «مثل » لأنه نكرة ، قال : ولو قلت : ما مثلك رجل ، ومثلك رجل ، ومثلك رجلاً ، جاز ، لأن مثل يكون نكرة ، وإن كان لفظها معرفة .

وقوله : فاغْفِرِ للّذِينَ تابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك ، فرجع إلى توحيدك ، واتبع أمرك ونهيك ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فاغْفِرْ للّذِينَ تابُوا من الشرك .

وقوله : واتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه ، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه ، وذلك الدخول في الإسلام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة واتّبَعُوا سَبِيلَكَ : أي طاعتك .

وقوله : وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ يقول : واصرف عن الذين تابوا من الشرك ، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة .

page 468

رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّـٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ٨

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْتّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .

يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء ملائكته لأهل الإيمان به من عبادة ، تقول : يا رَبّنا وأدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ يعني : بساتين إقامة التي وَعَدْتَهُمْ يعني التي وعدت أهل الإنابة إلى طاعتك أن تدخلهموها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وأزْوَاجِهِمْ وَذُرّياتِهِمْ يقول : وأدخل مع هؤلاء الذين تابوا واتّبَعُوا سَبِيلَكَ جنات عدن من صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم ، فعمل بما يرضيك عنه من الأعمال الصالحة في الدنيا ، وذكر أنه يدخل مع الرجل أبواه وولده وزوجته الجنة ، وإن لم يكونوا عملوا عمله بفضل رحمة الله إياه ، كما :

حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى بن يمان العجلي ، قال : حدثنا شريك ، عن سعيد ، قال : يدخل الرجل الجنة ، فيقول : أين أبي ، أين أمي ، أين ولدي ، أين زوجتي ، فيقال : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنت أعمل لي ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنة ثم قرأ جَنّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وأزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ .

فمن إذن ، إذ كان ذلك معناه ، في موضع نصب عطفا على الهاء والميم في قوله وأدْخِلْهِمْ وجائز أن يكون نصبا على العطف على الهاء والميم في وعدتهم إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يقول : إنك أنت يا ربنا العزيز في انتقامه من أعدائه ، الحكيم في تدبيره خلقه .

وَقِهِمُ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ٩

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .

يقول تعالى ذكره بقوله مخبرا عن قيل ملائكته : وقِهم : اصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا أتوها قبل توبتهم وإنابتهم ، يقولون : لا تؤاخذهم بذلك ، فتعذّبهم به وَمَنْ تَقِ السّيّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يقول : ومن تصرف عنه سوء عاقبة سيئاته بذلك يوم القيامة ، فقد رحمته ، فنجيه من عذابك وذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ لأنه من نجا من النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وذلك لا شك هو الفوز العظيم . وبنحو الذي قلنا في معنى السيئات قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقِهِمُ السّيّئاتِ : أي العذاب .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معمر بن بشير ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة ، عن مطرف ، قال : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغشّ العباد للعباد الشياطين ، وتلا : الّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ . . . الاَية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال مطرف : وجدنا أغشّ عباد الله لعباد الله الشياطين ، ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة .

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوۡنَ لَمَقۡتُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ مِن مَّقۡتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡ إِذۡ تُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلۡإِيمَٰنِ فَتَكۡفُرُونَ١٠

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللّهِ أَكْبَرُ مِن مّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُواْ رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىَ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } .

يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ينادون في النار يوم القيامة إذا دخلوها ، فمقتوا بدخولهموها أنفسهم حين عاينوا ما أعدّ الله لهم فيها من أنواع العذاب ، فيقال لهم : لَمَقْتُ الله إياكم أيها القوم في الدنيا ، إذ تدعون فيها للإيمان بالله فتكفرون ، أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم لما حلّ بكم من سخط الله عليكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَمَقْتُ الله أكْبَرُ قال : مقتوا أنفسهم حين رأوا أعمالهم ، ومقت الله إياهم في الدنيا ، إذ يدعون إلى الإيمان ، فيكفرون أكبر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعونَ إلى الإيمانِ فَتَكْفُرُونَ يقول : لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا ، فتركوه ، وأبوا أن يقبلوا ، أكبرُ مما مقتوا أنفسهم ، حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي قوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنَادُوْنَ لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنْفُسَكُمْ في النار إذْ تَدْعُونَ إلى الإيمانِ في الدنيا فَتَكْفُرُونَ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله يُنَادُونَ لَمَقْتُ اللّهِ . . . الاَية ، قال : لما دخلوا النار مقتوا أنفسهم في معاصي الله التي ركبوها ، فنُودوا : إن مقت الله إياكم حين دعاكم إلى الإسلام أشدّ من مقتكم أنفسكم اليوم حين دخلتم النار .

واختلف أهل العربية في وجه دخول هذه اللام في قوله : لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة : هي لام الابتداء ، كأن ينادون يقال لهم ، لأن في النداء قول قال : ومثله في الإعراب يقال : لزيد أفضل من عمرو . وقال بعض نحوييّ الكوفة : المعنى فيه : ينادون إن مقت الله إياكم ، ولكن اللام تكفي من أن تقول في الكلام : ناديت أنّ زيدا قائم ، قال : ومثله قوله : ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينِ اللام بمنزلة «إن » في كلّ كلام ضارع القول مثل ينادون ويخبرون ، وأشباه ذلك .

وقال آخر غيره منهم : هذه لام اليمين ، تدخل مع الحكاية ، وما ضارع الحكاية لتدلّ على أن ما بعدها ائتناف . قال : ولا يجوز في جوابات الأيمان أن تقوم مقام اليمين ، لأن اللام كانت معها النون أو لم تكن ، فاكتفى بها من اليمين ، لأنها لا تقع إلا معها .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : دخلت لتؤذن أن ما بعدها ائتناف وأنها لام اليمين .

وقوله : رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قد أتينا عليه في سورة البقرة ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، ولكنا نذكر بعض ما قال بعضم فيه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أمَتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان .

وحُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ هو قول الله كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجِعُونَ .

قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ١١

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : رَبّنا أمَتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال : هو كقوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنتُمْ أمْوَاتا . . . الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، في قوله : أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال : هي كالتي في البقرة وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ .

حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الاَية أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال : خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ، ثم أحييتنا .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قالوا : كانوا أمواتا فأحياهم الله ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم .

وقال آخرون فيه ما :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : أمتَنّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال : أميتوا في الدنيا ، ثم أحيوا في قبورهم ، فسئلوا أو خوطبوا ، ثم أميتوا في قبورهم ، ثم أحيوا في الاَخرة .

وقال آخرون في ذلك ما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ قال : خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق ، وقرأ : وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ، فقرأ حتى بلغ المُبْطِلُونَ قال : فنسّاهم الفعل ، وأخذ عليهم الميثاق ، قال : وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصري ، فخلق منه حوّاء ، ذكره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : وذلك قول الله : يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَق مِنْها زَوْجَها وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً . قال : بثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمّهاتِكُمْ خَلُقا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ قال : خلقا بعد ذلك ، قال : فلما أخذ عليهم الميثاق ، أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، فذلك قول الله : رَبّنا أمَتّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ، وقرأ قول الله : وأخَذْنا مِنْهُم مِيثاقا غَلِيظا قال : يومئذ ، وقرأ قول الله : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وأطَعْنا .

وقوله : فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا يقول : فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ يقول : فهل إلى خروج من النار لنا سبيل ، لنرجع إلى الدنيا ، فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ : فهل إلى كرّة إلى الدنيا .

ذَٰلِكُم بِأَنَّهُۥٓ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُۥ كَفَرۡتُمۡ وَإِن يُشۡرَكۡ بِهِۦ تُؤۡمِنُواْۚ فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِيِّ ٱلۡكَبِيرِ١٢

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُم بِأَنّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للّهِ الْعَلِيّ الْكَبِيرِ } .

وفي هذا الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من ذكره عليه وهو : فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك هذا الذي لكم من العذاب أيها الكافرون بأنّهُ إذا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَه كَفَرْتُمْ ، فأنكرتم أن تكون الألوهة له خالصة ، وقلتم أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحدا .

وإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُوءْمِنُوا يقول : وإن يجعل لله شريك تصدّقوا من جعل ذلك له فالحُكْمُ لِلّهِ العَلِيّ الكَبِيرِ يقول : فالقضاء لله العليّ على كل شيء ، الكبير الذي كلّ شيء دونه متصاغرا له اليوم .

هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقٗاۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ١٣

القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكّرُ إِلاّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .

يقول تعالى ذكره : الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته وَيُنَزّلُ لَكُمْ مِنَ السّمَاءِ رِزْقا يقول ينزّل لكم من أرزاقكم من السماء بإدرار الغيث الذي يخرج به أقواتكم من الأرض ، وغذاء أنعامكم عليكم وَما يَتَذَكّرُ إلاّ مَنْ يُنِيبُ يقول : وما يتذكر حجج الله التي جعلها أدلة على وحدانيته ، فيعتبر بها ويتعظ ، ويعلم حقيقة ما تدلّ عليه ، إلا من ينيب ، يقول : إلا من يرجع إلى توحيده ، ويقبل على طاعته ، كما :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إلاّ مَنْ يُنِيبُ قال : من يقبل إلى طاعة الله .

فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ١٤

وقوله : فادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به ، فاعبدوا الله أيها المؤمنون له ، مخلصين له الطاعة غير مشركين به شيئا مما دونه وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُون يقول : ولو كره عبادتكم إياه مخلصين له الطاعة الكافرون المشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأنداد .

رَفِيعُ ٱلدَّرَجَٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ يُلۡقِي ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِيُنذِرَ يَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ١٥

القول في تأويل قوله تعالى : { رَفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ } .

يقول تعالى ذكره : هو رفيع الدرجات ورفع قوله : رَفِيعُ الدّرَجاتِ على الابتداء ولو جاء نصبا على الردّ على قوله : فادعوا الله ، كان صوابا . ذُو العَرْشِ يقول : ذو السرير المحيط بما دونه .

وقوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يقول : ينزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عُني به الوحي . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ قال : الوحي من أمره .

وقال آخرون : عُني به القرآن والكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال : يعني بالروح : الكتاب ينزله على من يشاء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وقرأ : وكذَلكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا قال : هذا القرآن هو الروح ، أوحاه الله إلى جبريل ، وجبريل روح نزل به على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقرأ : نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ قال : فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه هي الروح ، ليُنذر بها ما قال الله يوم التلاق ، يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّا ، قال : الروح : القرآن ، كان أبي يقوله ، قال ابن زيد : يقومون له صفا بين السماء والأرض حين ينزل جلّ جلاله .

وقال آخرون : عُني به النبوّة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، وفي قول الله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال : النبوّة على من يشاء .

وهذه الأقوال متقاربات المعاني ، وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها .

وقوله : لِيُنْذِرَ يَوْمَ التّلاقِ يقول : لينذر من يلقي الروح عليه من عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، وهو يوم التلاق ، وذلك يوم القيامة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ التّلاقِ من أسماء يوم القيامة ، عظمه الله ، وحذّره عباده .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ التّلاقِ : يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي يَوْمَ التّلاق تلتقي أهل السماء وأهل الأرض .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد يَومْ التّلاقِ قال : يوم القيامة . قال : يوم تتلاقى العباد .

يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ١٦

وقوله : يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفَى على اللّهِ منْهُمْ شَيْءٌ يعني بقوله يَوْمَ هُمْ بارزُونَ يعني المنذرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر ، ولا يستر بعضهم عن بعض ساتر ، ولكنهم بقاعٍ صفصف لا أَمْتَ فيه ولا عوج . و «هم » من قوله : يَوْمَ هُمْ في موضع رفع بما بعده ، كقول القائل : فعلت ذلك يوم الحجاج أمير .

واختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم تخفض هم بيوم وقد أضيف إليه ؟ فقال بعض نحويي البصرة : أضاف يوم إلى هم في المعنى ، فلذلك لا ينوّن اليوم ، كما قال : يَوْمَ هُمْ عَلى النّار يُفْتَنُونَ وقال : هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ومعناه : هذا يوم فتنتهم ، ولكن لما ابتدأ بالاسم ، وبنى عليه لم يقدر على جرّه ، وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة ، وهذا إنما يكون إذا كان اليوم في معنى إذ ، وإلا فهو قبيح إلا ترى أنك تقول : ليتك زمن زيدٌ أمير : أي إذ زيد أمير ، ولو قلت : ألقاك زمن زيد أمير ، لم يحسن . وقال غيره : معنى ذلك : أن الأوقات جعلت بمعنى إذ وإذا ، فلذلك بقيت عل نصبها في الرفع والخفض والنصب ، فقال : وَمِنْ خِزْيِ يَوْمَئِذٍ فنصبوا ، والموضع خفض ، وذلك دليل على أنه جعل موضع الأداة ، ويجوز أن يعرب بوجوه الإعراب ، لأنه ظهر ظهور الأسماء ألا ترى أنه لا يعود عليه العائد كما يعود على الأسماء ، فإن عاد العائد نوّن وأعرب ولم يضف ، فقيل : أعجبني يوم فيه تقول ، لما أن خرج من معنى الأداة ، وعاد عليه الذكر صار اسما صحيحا . وقال : وجائز في إذ أن تقول : أتيتك إذ تقوم ، كما تقول : أتيتك يوم يجلس القاضي ، فيكون زمنا معلوما ، فأما أتيتك يوم تقوم فلا مؤنة فيه وهو جائز عند جميعهم ، وقال : وهذه التي تسمى إضافة غير محضة .

والصواب من القول عندي في ذلك ، أن نصب يوم وسائر الأزمنة في مثل هذا الموضع نظير نصب الأدوات لوقوعها مواقعها ، وإذا أعربت بوجوه الإعراب ، فلأنها ظهرت ظهور الأسماء ، فعوملت معاملتها .

وقوله : لا يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ أي ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا شَيْءٌ . وكان قتادة يقول في ذلك ما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لاَ يَخْفَى على الله مِنْهُمْ شَيْءٌ ولكنهم برزوا له يوم القيامة ، فلا يستترون بجبل ولا مَدَر .

وقوله : لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ يعني بذلك : يقول الربّ : لمن الملك اليوم وترك ذكر «يقول » استغناء بدلالة الكلام عليه . وقوله : لِلّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل ومعنى الكلام : يقول الربّ : لمن السلطان اليوم ؟ وذلك يوم القيامة ، فيجيب نفسه فيقول : لِلّهِ الوَاحِدِ الذي لا مثل له ولا شبيه القَهّارِ لكلّ شيء سواه بقدرته ، الغالب بعزّته .

page 469

ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ١٧

القول في تأويل قوله تعالى : { الْيَوْمَ تُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله يوم القيامة حين يبعث خلقه من قبورهم لموقف الحساب : اليَوْمَ تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يقول : اليوم يثاب كلّ عامل بعمله ، فيوفى أجر عمله ، فعامل الخير يجزى الخير ، وعامل الشر يجزى جزاءه .

وقوله : لا ظُلْمَ اليَوْمَ يقول : لا بخس على أحد فيما استوجبه من أجر عمله في الدنيا ، فينقص منه إن كان محسنا ، ولا حُمِل على مسيء إثم ذنب لم يعمله فيعاقب عليه إنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحسابِ يقول : إن اللّهَ ذو سرعة في محاسبة عباده يومئذ على أعمالهم التي عملوها في الدنيا ذُكر أن ذلك اليوم لا يَنْتَصِف حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، وقد فرغ من حسابهم ، والقضاء بينهم .

وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡأٓزِفَةِ إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَٰظِمِينَۚ مَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ١٨

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ * وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه : وأنذر يا محمد مشركي قومك يوم الاَزفة ، يعني يوم القيامة ، أن يُوافُوا الله فيه بأعمالهم الخبيثة ، فيستحقوا من الله عقابه الأليم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : يَوْمَ الاَزِفَةِ قال : يوم القيامة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الاَزِفَةِ يوم القيامة .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الاَزِفَةِ قال : يوم القيامة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الاَزِفَةِ قال : يوم القيامة ، وقرأ : آزِفَتِ الاَزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللّهِ كاشِفَةٌ .

وقوله : إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمينَ يقول تعالى ذكره : إذ قلوب العباد من مخافة عقاب الله لدى حناجرهم قد شخصت من صدورهم ، فتعلقت بحلوقهم كاظميها ، يرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع ، ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتوا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ قال : قد وقعت القلوب في الحناجر من المخافة ، فلا هي تخرج ولا تعود إلى أمكنتها .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمِينَ قال : شخصت أفئدتهم عن أمكنتها ، فنشبت في حلوقهم ، فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا ، ولم ترجع إلى أمكنتها فتستقرّ .

واختلف أهل العربية في وجه النصب كاظِمِينَ فقال بعض نحويي البصرة : انتصابه على الحال ، كأنه أراد : إذا القلوب لدى الحناجر في هذه الحال . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : الألف واللام بدل من الإضافة ، كأنه قال : إذا قلوبهم لدى حناجرهم في حال كظمهم . وقال آخر منهم : هو نصب على القطع من المعنى الذي يرجع من ذكرهم في القلوب والحناجر ، المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين . قال : فإن شئت جعلت قطعة من الهاء التي في قوله وأنْذِرهُمْ قال : والأوّل أجود في العربية ، وقد تقدم بيان وجه ذلك .

وقوله : ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يقول : جلّ ثناؤه : ما للكافرين بالله يومئذ من حميم يحم لهم ، فيدفع عنهم عظيم ما نزل بهم من عذاب الله ، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع ، ويُجاب فيما سأل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ قال : من يعنيه أمرهم ، ولا شفيع لهم .

وقوله : يُطاعُ صلة للشفيع . ومعنى الكلام : ما للظالمين من حميم ولا شفيع إذا شفع أطيع فيما شفع ، فأجيب وقبلت شفاعته له .

يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ١٩

** وقوله : يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ يقول جلّ ذكره مخبرا عن صفة نفسه : يعلم ربكم ما خانت أعين عباده ، وما أخفته صدورهم ، يعني : وما أضمرته قلوبهم يقول : لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدّث به نفسه ، ويضمره قلبه إذا نظر ماذا يريد بنظره ، وما ينوي ذلك بقلبه وَاللّهُ يَقْضِي بالحَقّ يقول : والله تعالى ذكره يقضي في الذي خانته الأعين بنظرها ، وأخفته الصدور عند نظر العيون بالحق ، فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم ، وصرفوها عن محارمه حذارَ الموقف بين يديه ، ومسألته عنه بالحُسنى ، والذين ردّدوا النظر ، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش إذا قدَرت ، جزاءها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أحمد المَرْوَزِيّ ، قال : حدثنا عليّ بن حسين بن واقد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ إذا نظرت إليها تريد الخيانة أم لا وما تُخْفِي الصّدُورُ إذا قدرت عليها أتزني بها أم لا ؟ قال : ثم سكت ، ثم قال : ألا أخبركم بالتي تليها ؟ قلت نعم ، قال : وَاللّهُ يَقْضِي بالْحَقّ قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة السيئة إنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ قال الحسن : فقلت للأعمش : حدثني الكلبيّ ، إلا أنه قال : إن الله قادر على أن يجزي بالسيئة السيئة ، وبالحسنة عشرا . وقال الأعمش : إن الذي عند الكلبيّ عندي ، ما خرج مني إلا بحقير .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ قال : نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : خائِنَةَ الأَعْيُنِ : أي يعلم همزه بعينه ، وإغماضه فيما لا يحبّ الله ولا يرضاه .

وقوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ يقول : والأوثان والاَلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله من قومك من دونه لا يقضون بشيء ، لأنها لا تعلم شيئا ، ولا تقدر على شيء ، يقول جلّ ثناؤه لهم : فاعبدوا الذي يقدر على كلّ شيء ، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجزي محسنكم بالإحسان ، والمسيء بالإساءة ، لا ما لا يقدر على شيء ولا يعلم شيئا ، فيعرف المحسن من المسيء ، فيثيب المحسن ، ويعاقب المسيء .

وقوله : إنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول : إن الله هو السميع لما تنطق به ألسنتكم أيها الناس ، البصير بما تفعلون من الأفعال ، محيط بكل ذلك محصيه عليكم ، ليجازي جميعكم جزاءه يوم الجزاء .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ » بالتاء على وجه الخطاب . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء على وجه الخبر .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وَٱللَّهُ يَقۡضِي بِٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَقۡضُونَ بِشَيۡءٍۗ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ٢٠

وقوله : يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ يقول جلّ ذكره مخبرا عن صفة نفسه : يعلم ربكم ما خانت أعين عباده ، وما أخفته صدورهم ، يعني : وما أضمرته قلوبهم يقول : لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدّث به نفسه ، ويضمره قلبه إذا نظر ماذا يريد بنظره ، وما ينوي ذلك بقلبه وَاللّهُ يَقْضِي بالحَقّ يقول : والله تعالى ذكره يقضي في الذي خانته الأعين بنظرها ، وأخفته الصدور عند نظر العيون بالحق ، فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم ، وصرفوها عن محارمه حذارَ الموقف بين يديه ، ومسألته عنه بالحُسنى ، والذين ردّدوا النظر ، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش إذا قدَرت ، جزاءها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أحمد المَرْوَزِيّ ، قال : حدثنا عليّ بن حسين بن واقد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ إذا نظرت إليها تريد الخيانة أم لا وما تُخْفِي الصّدُورُ إذا قدرت عليها أتزني بها أم لا ؟ قال : ثم سكت ، ثم قال : ألا أخبركم بالتي تليها ؟ قلت نعم ، قال : وَاللّهُ يَقْضِي بالْحَقّ قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة السيئة إنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ قال الحسن : فقلت للأعمش : حدثني الكلبيّ ، إلا أنه قال : إن الله قادر على أن يجزي بالسيئة السيئة ، وبالحسنة عشرا . وقال الأعمش : إن الذي عند الكلبيّ عندي ، ما خرج مني إلا بحقير .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ قال : نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : خائِنَةَ الأَعْيُنِ : أي يعلم همزه بعينه ، وإغماضه فيما لا يحبّ الله ولا يرضاه .

وقوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ يقول : والأوثان والاَلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله من قومك من دونه لا يقضون بشيء ، لأنها لا تعلم شيئا ، ولا تقدر على شيء ، يقول جلّ ثناؤه لهم : فاعبدوا الذي يقدر على كلّ شيء ، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجزي محسنكم بالإحسان ، والمسيء بالإساءة ، لا ما لا يقدر على شيء ولا يعلم شيئا ، فيعرف المحسن من المسيء ، فيثيب المحسن ، ويعاقب المسيء .

وقوله : إنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول : إن الله هو السميع لما تنطق به ألسنتكم أيها الناس ، البصير بما تفعلون من الأفعال ، محيط بكل ذلك محصيه عليكم ، ليجازي جميعكم جزاءه يوم الجزاء .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ » بالتاء على وجه الخطاب . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء على وجه الخبر .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .