السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني

الشربيني القرن العاشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 583

وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا١

سورة النازعات مكية ، وهي خمس أو ست وأربعون آية ومائة وسبعون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفاً

{ بسم الله } الذي أحاط علمه بالكائنات { الرحمن } الذي أنعم على سائر الموجودات { الرحيم } الذي خص أولياءه بالجنات .

{ والنازعات } أي : الملائكة تنزع أرواح الكفار { غرقاً } أي : تنزع أرواحهم من أجسادهم بشدّة كما يغرق النازع في القوس ليبلغ بها غاية المدّ بعدما نزعها ، حتى إذا كادت تخرج ردّها إلى جسده فهذا عملهم بالكفار . وقال عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما : يريد نفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعاً كالسفود ينزع من الصوف الرطب ، ثم يغرقها أي : يرجعها إلى أجسادهم ثم ينزعها ، فهذا عمله في الكفار .

وقال السدّي رضي الله عنه : والنازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور ، وقال مجاهد رضي الله عنه : هي الموت ينزع النفوس . وقال الحسن وقتادة رضي الله عنهم : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب . وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم : هي النفوس ، وقيل : الغزاة .

تنبيه : غرقاً يجوز أن يكون مصدراً على حذف الزوائد بمعنى إغراقاً ، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى ، وأن يكون على الحال أي : ذوات إغراق . يقال : أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته .

وَٱلنَّـٰشِطَٰتِ نَشۡطٗا٢

{ والناشطات نشطاً } أي : الملائكة تنشط أرواح المؤمنين أي : تسلها برفق فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنه .

وفي الحديث : «كأنما نشط من عقال » . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : «هي أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة ؛ لأنّ الجنة تعرض عليهم قبل الموت » . وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : «هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أفواههم بالكد والغم » والنشط الجذب والنزع ، يقال : نشط الدنو نشطاً انتزعها » . وقال السدّي رضي الله عنه : هي النفس تنشط من بين القدمين ، أي : تجذب ، وقال قتادة رضي الله عنه : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي : تذهب . يقال : نشط من بلد إلى بلد إذا خرج في سرعة ، ويقال حمار ناشط ينشط من بلد إلى بلد . وقال الجوهري : يعني النجوم تنشط من برج إلى برج ، كالثور الناشط من بلد إلى بلد .

وَٱلسَّـٰبِحَٰتِ سَبۡحٗا٣

{ والسابحات سبحاً } أي : الملائكة تسبح من السماء بأمره أي : ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد . يقال له : سابح إذا أسرع في جريه ، وقال عليّ رضي الله عنه : هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين . قال الكلبي : كالذي يسبح في الماء ، فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع يسلونها سلاً رفيقاً بسهولة ، ثم يدعونها حتى تستريح . وعن مجاهد رضي الله عنه : السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم . وقال قتادة والحسن رضي الله عنهم : هي النجوم تسبح في أفلاكها ، وكذا الشمس والقمر ، قال تعالى : { كل في فلك يسبحون } [ الأنبياء : 33 ] . وقال عطاء : هي السفن في الماء . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حتى تخرج ، وقيل : هي خيل الغزاة ، قال عنترة :

والخيل تعلم حين تس *** بح في حياض الموت سبحا

فَٱلسَّـٰبِقَٰتِ سَبۡقٗا٤

{ فالسابقات سبقاً } أي : الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، وقال مجاهد رضي الله عنه : هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله تعالى وكرامته ، وقد عاينت السرور . وقال قتادة رضي الله عنه : هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير . وقال عطاء : هي الخيل التي تسبق في الجهاد ، وقيل : هي ما يسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار . قال الجرجاني : ذكر السابقات بالفاء لأنها مسببة عن الذي قبلها ، أي : واللاتي يسبحن فيسبقن .

فَٱلۡمُدَبِّرَٰتِ أَمۡرٗا٥

قال الواحدي : وهذا غير مطرد في قوله تعالى : { فالمدبرات أمراً } أي : الملائكة تدبر أمر الدنيا ، أي : تنزل بتدبيره . قال الرازي : ويمكن الجواب بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره ، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المدبرات هي الملائكة وكلوا بأمور عرّفهم الله تعالى العمل بها .

قال عبد الرحمن بن سابط : يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم السلام ، فأما جبريل فوكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات ، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم ، وليس في الملائكة أقرب منه وبينه وبين العرش خمسمائة عام . وقيل : هي الكواكب السبع ، حكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه .

وفي تدبيرها بالأمور وجهان : أحدهما تدبير طلوعها وأفولها ، والثاني في تدبير ما قضى الله تعالى فيها من تقليب الأحوال أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأمور على قيام الساعة والبعث ، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه ، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ، وأما العباد فلا يصح لهم أن يقسموا بغير الله تعالى وصفاته .

يَوۡمَ تَرۡجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ٦

وقوله تعالى : { يوم ترجف } أي : تضطرب اضطراباً كثيراً مزعجاً { الراجفة } أي : الصيحة منصوب بالجواب ، أي : لتبعثنّ يا كفار مكة { يوم ترجف الراجفة } وهي النفخة الأولى بها يرجف كل شيء ، أي : يتزلزل ويتحرّك لها كل شيء ، ويموت منها جميع الخلائق فوصفت بما يحدث منها .

تَتۡبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ٧

{ تتبعها الرادفة } أي : الصيحة التابعة لها وهي النفخة الثانية ، ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة ، والجملة حال من الراجفة واليوم واسع للنفختين وغيرهما ، فصح ظرفيته للبعث الواقع عقيب الثانية . وقال قتادة رضي الله عنه : هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى ، وقال عطاء : الراجفة القيامة والرادفة البعث . روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال : يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه » .

قُلُوبٞ يَوۡمَئِذٖ وَاجِفَةٌ٨

{ قلوب يومئذ } أي : إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى { واجفة } أي : خائفة قلقة مضطربة من الوجيف وهو صفة القلوب ، وقال مجاهد رضي الله عنه : وجلة . وقال السدّي : زائلة عن أماكنها ، نظيره { إذ القلوب لدى الحناجر } [ غافر : 18 ] .

أَبۡصَٰرُهَا خَٰشِعَةٞ٩

{ أبصارها } أي : أبصار أصحابها ، فهو من الاستخدام { خاشعة } أي : ذليلة من الخوف ، ولذا أضافها إلى القلوب ، كقوله تعالى : { خاشعين من الذل } [ الشورى : 45 ] .

يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ١٠

{ يقولون } أي : أرباب القلوب والأبصار في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث { أئنا لمردودون } أي : بعد الموت { في الحافرة } أي : في الحياة التي كنا فيها قبل الموت ، وهي حالتنا الأولى ، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا ، تقول العرب : رجع فلان في حافرته ، أي : رجع من حيث جاء ، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأوّل الشيء . وقال بعضهم : الحافرة وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، سميت حافرة بمعنى المحفورة . كقوله تعالى : { عيشة راضية } [ الحاقة : 21 ] أي : مرضية ، وقيل : سميت حافرة لأنها مستقرّ الحوافر ، أي : إنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً نمشي عليها ، وقال ابن زيد : الحافرة النار .

أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا نَّخِرَةٗ١١

{ أئذا كنا } أي : كوناً صار جبلة لنا . { عظاماً نخرة } أي : بالية متفتتة نحيى بعد ذلك ، وقرأ : أئنا وإذا نافع وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني ، والباقون بالاستفهام فيهما ، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون بالتحقيق ، وأدخل بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ألفاً والباقون بغير إدخال .

وقرأ { نخرة } حمزة وشعبة والكسائي بالألف بعد النون والباقون بغير ألف ، وهما لغتان ، مثل : الطمع والطامع ، والحذر والحاذر ، معناهما البالية ، وفرق قوم بينهما فقالوا : النخرة البالية ، والنخرة المجوّفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي : تصوّت .

قَالُواْ تِلۡكَ إِذٗا كَرَّةٌ خَاسِرَةٞ١٢

{ قالوا } أي : المنكرون للبعث { تلك } أي : رجعتنا العجيبة إلى الحياة { إذاً } أي : إن صحت { كرّة } أي : رجعة { خاسرة } أي : ذات خسران أو خسار أصحابها ، والمعنى : إن صحت فنحن إذاً خاسرون بتكذيبنا وهو استهزاء منهم . وعن الحسن رضي الله عنه أن خاسرة بمعنى كاذبة ، أي : ليست كائنة .

فَإِنَّمَا هِيَ زَجۡرَةٞ وَٰحِدَةٞ١٣

قال الله تعالى : { فإنما هي } أي : الرادفة التي يتبعها البعث { زجرة } أي : صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف { واحدة } عبر بالزجرة لأنه أشدّ من النهي ، لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً فكان كأنه بلسان قال عن تلك الصيحة : أيها الأجساد البالية انتهي عن الرقاد وقومي إلى الميعاد بما حكمنا به من المعاد ، فقد انتهى زمن الحصاد ، وآن أوان الاجتناء لما قدّم من الزاد ، فيا خسارة من ليس له زاد .

فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ١٤

{ فإذا هم } أي : فتسبب عن تلك النفخة وهي الثانية أن كل الخلائق { بالساهرة } أي : صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها . والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة ، قال بعض أهل اللغة : تراهم سموها ساهرة لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم . قال سفيان رضي الله عنه : هي أرض الشام ، وقال قتادة رضي الله عنه : هي جهنم .

فإن قيل : بم يتعلق { فإنما هي زجرة واحدة } ؟ أجيب : بأنه متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها { فإنما هي زجرة واحدة } يعني : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله تعالى ، فإنها سهلة هينة في قدرته تعالى .

وقال الزمخشري : الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك ، لأنّ السراب يجري فيها من قولهم : عين ساهرة أي : جارية الماء وفي ضدها نائمة . قال الأشعث بن قيس :

وساهرة يضحى السراب مجللاً *** لأقطارها قد جبتها متلثما

أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة . وقال الراغب : هي وجه الأرض . وقيل : أرض القيامة ، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها كأنها سهرت من ذلك ، والأسهران عرقان في الأنف ، والساهور غلاف القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه . وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الساهرة أرض من فضة لم يعص الله عليها قط جعلها حينئذ ، وقيل : الساهرة اسم للأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق ، وذلك حين تبدّل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه : جبل بيت المقدس . وقال عثمان بن أبي العاتكة : إنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام ، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمدّه الله تعالى كيف شاء .

هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ١٥

ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { هل أتاك } يا أشرف الخلق { حديث موسى } أي : أليس قد أتاك حديثه ، فيسليك على تكذيب قومك ويهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم ، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود فلما أصرّ على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقناه وآله ، ولم نبقِ منهم أحداً ، وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث قيل : إنّ طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف فكيف بقومك الضعاف .

إِذۡ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوًى١٦

وقوله تعالى : { إذ } أي : حين { ناداه } منصوب بحديث لا بأتاك { ربه } أي : المحسن إليه بالرسالة وغيرها { بالواد المقدّس } أي : المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوّة المفيضة للبركات . وقوله تعالى : { طوى } اسم الوادي وهو الذي طوي فيه الشرّ عن بني إسرائيل ، ومن أراد الله تعالى من خلقه ونشر فيه بركات النبوّة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه ، فإن العلماء قالوا : إنّ عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة ، وهو واد بالطور بين إيلة ومصر ، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين .

page 584

ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ١٧

وقوله تعالى : { اذهب إلى فرعون } أي : ملك مصر الذي كان يستعبد بني إسرائيل على إرادة القول { إنه طغى } أي : تجاوز الحدّ في الكفر وعلا وتكبر .

وقال الرازي : لم يبين أنه طغى في أي شيء ، فقيل : تكبر على الله تعالى وكفر به ، وقيل : تكبر على الخلق واستعبدهم .

وروي عن الحسن رضي الله عنه قال : كان فرعون علجاً من همدان ، وقال مجاهد رضي الله عنه : كان من أهل إصطخر . وعن الحسن أيضاً : كان من أصبهان يقال له : ذو الظفر طوله أربعة أشبار .

فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ١٨

وقوله تعالى : { فقل } أي : له { هل لك } أي : هل لك سبيل { إلى أن تزكى } أي : تتطهر من الكفر والطغيان . قال ابن عباس رضي الله عنهما : بأن تشهد أن لا إله إلا الله . وقال أبو البقاء : لما كان المعنى أدعوك جاء بإلى ، وقال غيره : يقال هل لك في كذا ، وهل لك إلى كذا كما تقول : هل ترغب فيه وهل ترغب إليه . وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي ، والأصل تتزكى والباقون بتخفيفها .

وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ١٩

{ وأهديك إلى ربك } أي : وأنبهك على معرفة المحسن إليه { فتخشى } لأنّ الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أي : العلماء به ، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شرّ . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل » بدأ بمخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ، وأردفه الكلام الرفيق ليستدعيه للتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من علوه كما أمر بذلك في قوله تعالى : { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 25 ] الآية . وقال الرازي : سائر الآيات تدل على أنه تعالى لما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة { نودي يا موسى 11 إني أنا ربك } [ طه – 12 ] إلى قوله تعالى : { لنريك من آياتنا الكبرى 23 اذهب إلى فرعون إنه طغى } [ طه : 23 24 ] فدل قوله تعالى : { اذهب إلى فرعون إنه طغى } أنه من جملة ما ناداه به لا كل ما ناداه به ، وأيضاً فليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط ، بل إلى كل من كان في الطور إلا أنه خصه بالذكر لأنّ دعوته جارية مجرى كل القوم .

فَأَرَىٰهُ ٱلۡأٓيَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰ٢٠

والفاء في قوله تعالى : { فأراه } عاطفة على محذوف يعني : فذهب فأراه { الآية الكبرى } كقوله تعالى : { اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] أي : فضرب فانفجرت .

واختلفوا في الآية الكبرى أي : العلامة العظمى وهي المعجزة . فقال عطاء وابن عباس رضي الله عنهم : هي العصا . وقال مقاتل والكلبي رضي الله عنهما : هي اليد البيضاء تبرق كالشمس ، والأوّل أولى لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونها ، وهذا حاصل في العصا لأنها لما انقلبت حية لا بدّ وأن يتغير اللون الأوّل ، فإذن كل ما في اليد فهو حاصل في العصا ، وأمور أخر وهي الحياة في الجرم الجمادي وتزايد أجزائه ، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة وابتلاعها أشياء كثيرة وزوال الحياة والقدرة عنها ، وذهاب تلك الأجزاء التي عظمت ، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حية ، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه ، فعلمنا أنّ الآية الكبرى هي العصا . وقال مجاهد رضي الله عنه : هي مجموع العصا واليد ، وقيل : فلق البحر ، وقيل : جميع آياته التسع .