الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي

الثعالبي القرن التاسع الهجري

صفحة 515

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ ٢

وقوله سبحانه : { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم } الآية ، هي أيضاً في هذا الفنِّ المتقدِّم ؛ فرُويَ أَنَّ سببها ما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما والصحيح أَنَّها نزلت بسبب عادة الأَعراب من الجَفَاءِ وعُلُوِّ الصَّوْتِ ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي اللَّه عنه مِمَّنْ في صوته جهارة فلما نزلت هذه الآية اهْتَمَّ وخاف على نفسه ، وجلس في بيته لم يخرج ، وهو كئيب حزين حتى عَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خبره فبعث إليه ، فآنسه ، وقال له : " امْشِ في الأَرْضِ بَسْطاً ؛ فإنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ " ، وَقَالَ لَهُ مَرَّةً : " أَمَا ترضى أَنْ تَعِيشَ حَمِيداً ، وَتَمُوتَ شَهِيدا " فعاش كذلك ، ثم قُتِلَ شَهِيداً بِاليَمَامَةِ يَوْمَ مُسَيْلَمَةَ .

( ت ) : وحديث ثابت بن قيس وتبشيره بالجنة خَرَّجَهُ البخاريُّ ، وكذلك حديث أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما خَرَّجه البخاريُّ أيضاً ، انتهى .

وقوله : { بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ } أي : كحال أحدكم في جفائه ، فلا تنادونه باسمه : يا محمد ، يا أحمد ؛ قاله ابن عباس وغيره ، فأمرهم اللَّه بتوقيره ، وأنْ يدعوه بالنبوَّةِ والرسالة ، والكلام اللَّيِّنِ ، وكَرِهَ العلماءُ رفعَ الصوت عند قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة العَالِمِ وفي المساجد ، وفي هذه كلها آثار ؛ قال ابن العربيِّ في «أحكامه » : " وحُرْمَةُ النبي صلى الله عليه وسلم مَيِّتاً كحرمته حَيًّا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرِّفْعَةِ مِثْلُ كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قُرئ كلامُه وجب على كل حاضر أَلاَّ يرفعَ صوتَهُ عليه ، ولا يُعْرِضَ عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تَلَفُّظِهِ بِه ، وقد نَبَّهَ اللَّه تعالى على دوام الحُرْمَةِ المذكورة على مرور الأزمنة بقوله : { وَإِذَا قُرِئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } [ الأعراف : 204 ] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو من الوحي ، وله من الحُرْمَةِ مِثْلُ ما للقرآن " انتهى .

وقوله تعالى : { أَن تَحْبَطَ } مفعول من أجله ، أي : مخافةَ أَنْ تحبطَ ،