التفسير الشامل لأمير عبد العزيز

أمير عبد العزيز القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 312

طه١

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مكية . وفيها من جليل المواعظ والأخبار والعبر ما فيه مزدجر . هذه هي سورة طه . السورة العجيبة بألفاظها وأنغامها وأجراسها وحروفها ذات الإيقاع الثاقب والرنين المجلجل ، الذي يثير الوجدان ويشْدَهُ الحس والمشاعر شدْها . فلا عجب أن يتلوها عربي بليغ كعمر بن الخطاب حتى تلج في الصميم من جنانه المرهف فتهزه هزا ، وتميط عن فطرته السليمة الكريمة أغشية صفاقا من الغفلة والنسيان فيبادر الإعلان عن إسلامه والتحرر من كابوس الجاهلية وأوهامها وطغيانها . لقد أسلم عمر لما مست شغاف قلبه وعميق وجدانه أسرار هذا النظم الباهر ، بكلماته الفريدة المصطفاة ، ونفحاته الندية الخفية ، وإشراقه الساطع المؤنس ، وأسلوبه المميز العذب ، الذي يزجي بكامل الدليل على أن هذا القرآن معجز ، وأنه من لدن خالق العالمين .

ونجزم في يقين أنه لو خُلّي بين البشرية وهذا الكتاب الحكيم لاستحوذ عليها هذا أيما استحواذ ، ولملك عليها القلوب والمشاعر والألباب ، ولسيق الناس جميعا إلى منهج الله ، منهج الإسلام . لكن البشرية قد تنكب عن هذا القرآن لما حيل بينها وبينه من أغشية كثاف من المعوقات المصطنعة والحملات الخبيثة التي برعت في ترسيخها خطط الحاقدين والمتربصين من شياطين البشر أعداء القرآن .

ونمضي في تفسير هذه السورة لنبين أنها تقص علينا قصة نبي الله موسى وقيادته لبني إسرائيل ببسط وتفصيل . فتقص علينا الآيات ولادة هذا النبي الكريم وتنجيته وقومه من ظلم فرعون وجنوده في قتل الأطفال من بني إسرائيل ، ثم رحلته إلى مدين هاربا من كيد فرعون ، فلبث بضع سنين ثم كرّ راجعا إلى مصر مارا بالواد المقدس طوى حيث أنزل الله عليه الوحي وأمره وأخاه هارون أن يذهبا إلى فرعون لدعوته إلى عبادة الله وحده وإرسال بني إسرائيل من ظلمه وبطشه . لكن فرعون عصى وتولى مستكبرا .

وتقص السورة أيضا باقتضاب خبر آدم عليه السلام وتكريمه بسجود الملائكة له باستثناء إبليس . هذا الكائن اللعين الشرير الذي أضل من ذرية آدم خلْقا عظيما .

إلى غير ذلك من الأخبار والقصص والمشاهد . وذلك كله في أسلوب رباني عجيب ومؤثر ليس له في النظم كله نظير .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ طه ( 1 ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( 2 ) إلا تذكرة لمن يخشى ( 3 ) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى ( 4 ) الرحمان على العرش استوى ( 5 ) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ( 6 ) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( 7 ) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ( 8 ) } .

( طه ) ، من الحروف المقطعة التي مرّ ذكرها في كثير من السور ، مثل : ( الم ) ( المص ) ، ( الر ) . وقيل : ( طه ) ، يعني يا رجل

مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ٢

{ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } فقد ذُكر أن فريقا من رؤساء المشركين كأبي جهل والنضر بن الحارث وغيرهما قالوا لرسول الله ( ص ) : إنك لتشقى بترك ديننا ، فنزلت الآية . والمعنى : ليس الأمر كما زعم هؤلاء المشركون المبطلون . فما يكون القرآن سببا لتعب رسول الله ( ص ) وشقائه ؛ بل أنزله الله إليه ليطمئن به قلبه وتسعد به روحه سعادة لا يدركها الجاهلون والغافلون والمفرطون . فما يعبأ رسول الله ( ص ) بعد أن يبلغ الناس رسالة ربه ولا يبخعُ نفسه من فرط التأسف على كفرهم أو شدة التحسر من إعراضهم وعتوهم .

إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ٣

فما أنزل الله إليه القرآن { إلا تذكرة لمن يخشى } ( تذكرة ) منصوب على الاستثناء المنقطع ؛ أي ما أنزلنا القرآن لشقائك لكن تذكيرا لمن يخشى الله فيتأثر بالموعظة ويستجيب لنداء الحق ، وينصت مدّكرا لكلام الله النافذ إلى القلوب .

تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى٤

قوله : { تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى } ( تنزيلا ) مصدر لفعل محذوف وتقديره : نزل تنزيلا ممن خلق . وقيل : ( تنزيلا ) ، بدل من تذكرة إذا جعل حالا ؛ وقيل غير ذلك ؛ فقد أنزل القرآن ( ممن خلق الأرض والسماوات العلى ) وذكر هذه الصفة من الخلق يراد به تعظيم القرآن وتفخيم شأنه ؛ إذ هو منسوب لله الكبير المتعال الذي خلق كل شيء . وفي ذلك تنبيه للعقول لكي تتفكر ، وزجر للنفوس عن التشبث بالباطل بكل صوره وأشكاله .

ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ٥

قوله : { الرحمان على العرش استوى } ( الرحمان ) ، خبر لمبتدأ محذوف ، وتقديره : هو الرحمان . والعرش بناء كوني هائل ورفيع تحمله الملائكة ، ولا يدري بحقيقته ومدى اتساعه وامتداده سوى الله ؛ فقد استوى سبحانه على هذا الخلق العظيم ، أي استولى . ونبه بذكر العرش وهو أعظم المخلوقات في هذا الكون ، دلالة على عظمة الخالق في بالغ قدرته ومطلق إحاطته . وقيل : العرض معناه الملك والسلطان ؛ فالله له ملكوت كل شيء . وما من شيء من ملكوته إلا هو في قبضة قدرته وإحاطته .

لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ٦

قوله : { له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } الله جل جلاله مالك كل شيء . فما من شيء ، عظيم أو صغير في هذا الوجود ، الواسع إلا هو مملوك لله سبحانه . وما من شيء حوته السموات والأرض وما بينهما من الخلائق إلا هو مندرج في ملكوت . وكذلك ما ( تحت الثرى ) توكيد لقوله : ( وما في الأرض ) أي ما هو في باطن الأرض .

وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى٧

قوله : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } ( السر ) ، ما يسرّه المرء إلى غيره ، أو ما حدّث به الإنسان غيره في خفاء . هكذا عرفه ابن عباس . ( وأخفى ) ، منه ما حدث به المرء نفسه ولم يعلمه . وقيل : ما أضمره الإنسان في نفسه مما لم يحدث به غيره . وقيل غير ذلك . فذلك كله في علم الله سواء ؛ أي يستوي عند الله في إحاطته بكل شيء ، كل من الجهر وهو الظاهر من منظور أو مسموع ، أو السر ، أو ما كان أخفى منه .

ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ٨

قوله : { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } ليس لله شريك بل الله وحده الخالق ، وإن اختلفت أسماؤه ، وذلك ردّ لقول المشركين : إن محمدا ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمان . والمراد : اعبدوا الله وحده دون ما سواه من الآلهة ، ولله الأسماء الحسنى . والحسنى تأنيث الحسن[2944] .

وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ٩

قوله تعالى : { وهل أتاك حديث موسى ( 9 ) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ( 10 ) فلما أتاها نودي يا موسى ( 11 ) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ( 12 ) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ( 13 ) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى ( 14 ) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ( 15 ) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ( 16 ) } .

الاستفهام في قوله : ( وهل أتاك ) استفهام إثبات وإيجاب ، المقصود منه تقرير الجواب في قلبه ، والمعنى : أليس قد أتاك . وقيل : معناه وقد أتاك ، وهو قول ابن عباس .

شرع الرحمان جل وعلا في بيان قصة موسى عليه السلام لما ابتدأه الوحي بعد ما قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره شعيب ثم سار بأهله ميمما شطر مصر عقب غياب استمر عشر سنوات ، فضل وزوجته الطريق وكان ذلك في ليلة مظلمة شاتية حتى رأى من جانب الجبل نارا فاستأنس بها وذلك هو قوله سبحانه :

إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى١٠

( إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا ) إذ ، ظرف . أي حين رأى نارا قال لأهله : أقيموا في مكانكم فقد ( آنست نارا ) من الإيناس ، والاستئناس وهو رؤية شيء يستأنس به في مثل هذا الظرف الموحش حيث الظلمة والانقطاع والشتاء المنهمر . فقد استأنس موسى بوجدان هذه النار . فرجا أن يأتي أهله بجذوة منها . وهو قوله : ( لعلي آتاكم منها بقبس ) القبس ، شعلة من نار ؛ فقد بنى موسى الأمر على الرجاء وليس القطع ؛ فقد رجا أن يأتي أهله بشعلة من نار ( أو أجد على النار هدى ) وقد رجا كذلك أن يجد هاديا أو قوما يهدونه الطريق .

فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ١١

قوله : { فلما أتاها نودي يا موسى ( 11 ) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ( 12 ) } لما أتى موسى النار ووجدها تتوقد في شجرة ولم يجد عندها أحد ، حينئذ ناداه ربه من جهة الشجرة المتوقدة المضيئة . وما نريد هنا أن نطيل في الحديث عن ماهية النداء الذي سمعه موسى أو حقيقته وكيفية حصوله . فإن الطمع في مثل هذه المعلومات غير ذي جدوى . لكن المهم في مثل هذه المسألة أن موسى قد سمع الصوت الرباني الكريم المذهل . الصوت الذي يفيض جلالا ومهابة ورحمة .

إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى١٢

إذ يناديه ربه ليبين له أنه الله وليخلع نعليه في هذه البقعة المباركة الطهور . وهو قوله : { فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى } أي الواد المطهر . و ( طوى ) ، اسم علم للوادي وهو بدل منه[2945] ؛ أي انزعهما فإنك في بقعة مباركة طاهرة ، فما ينبغي أن تطأها بنعلين فانزعهما . أو أمره بنزعهما على سبيل التواضع لله والمبالغة في الخضوع له والإحساس بالذل أمام عظمته وجبروته .

صفحة 313

وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ١٣

قوله : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } بمعنى اصطفيتك للرسالة وتبليغ الناس دعوة الحق ، فاستمع لما أوحيه إليك . ومن مقتضى الاستماع سكون الجوارح وحسن الإصغاء بالسمع في اهتمام ووعي وحضور للقلب والعزم على الطاعة والعمل .

إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ١٤

قوله : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) وهذا بيان من الله لكليمه موسى عليه السلام عن أعظم حقيقة يجب عليه أن يقف عليها ويعمل بمقتضاها وهي أن الله واحد لا شريك له ، وأنه لا إله غيره ، فعليه أن يعبده وحده ، وذلك بالخضوع لجلاله والاستسلام لأمره .

قوله : ( وأقم الصلاة لذكرى ) أي صل لكي تذكرني ؛ فإن الصلاة تشمل على الأذكار . أو لأجل أن أذكر بالثناء ، وقيل : إذا نسيت الصلاة فتذكرت ، صل ، وهذا الراجح ، لما روي في الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله ( ص ) : " من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا لك " وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ( ص ) قال : " من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها " والأمر هنا للوجوب . وهذا دليل على وجوب القضاء على كل من النائم أو الساهي ، والغافل ، سواء كانت الصلاة الفائتة كثيرة أو قليلة . وقد ذهب إلى ذلك عامة العلماء . وحكي خلاف ذلك مما هو شاذ لا يُعتد به ؛ فقد ذكر أن ما زاد على خمس صلوات لا يجب أن يقضى . وهو قول بغير دليل فلا ينظر إليه .

وعلى هذا لو فاتته صلاة يجب أن يقضيها . وقيل : يقضيها على الترتيب فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الإمام الشافعي . ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة ؛ فإن كان ثمة سعة في الوقت استحب أن يبدأ بالصلاة الفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز ، أما إن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة ؛ فإنه يفوته الوقت ، وجب أن يبدأ بصلاة الوقت كيلا تفوت . ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت ؛ أتمها ثم قضى الفائتة ، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها من غير وجوب . هذا جمله مذهب الشافعية في المسألة[2946] .

أما المالكية : فجملة مذهبهم أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى ؛ فإنه يبدأ بالتي نسيها إذا كان خمس صلوات فأدنى . وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها . ويشبه هذا مذهب الحنفية والثوري والليث ، إلا الحنفية قالوا : الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت فإن خشي فوات الوقت بدأ بها . أما إن زاد على صلاة يوم وليلة ؛ لم يجب الترتيب .

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : ( وأقم الصلاة لذكرى ) أي لتذكرها . واللام بمعنى عند . فيكون المعنى : أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها . وذلك يقتضي رعاية الترتيب . واستدلوا كذلك بالخبر : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " والفاء للترتيب ، واستدلوا من الأثر بما رواه جابر بن عبد الله قال : " جاء عمر بن الخطاب ( رضي الله عنهما ) إلى النبي ( ص ) يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس ، فقال النبي ( ص ) : " وأنا والله ما صليتها بعد " قال : فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ، ثم صلى المغرب بعدها . وهذا يدل على لزوم البداءة بالفائتة قبل الحاضرة .

أما ترك الصلاة عمدا ، فيجب فيه القضاء على التارك وإن كان عاصيا وعليه التوبة والاستغفار عند كل قضاء وهو قول الجمهور .

والفرق بين المتعمد والناسي والنائم ، وهو حطّ الإثم عن الأخيرين ، أما الأول وهو المتعمد فهو آثم فلزمه الاستغفار . لكن الجميع يلزمهم القضاء لقوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة ) وذلك من غير فرق بين أن يكون ذلك في وقتها أو بعدها . ولئن ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي وكان ذلك في حقهما واجبا مع أنهما غير آثمين ؛ فإن العامد أولى بوجوب القضاء . [2947]

إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ١٥

قوله : { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } أي أن الساعة جائية أو قائمة لا محالة ( أكاد أخفيها ) أي لا أظهر عليها أحدا غيري ؛ فقد أخفاه الله من الملائكة الأطهار والنبيين المقربين . وقيل : أخفيها ، من الأضداد ؛ أي أظهرها أو أسترها عن العباد لما في تعمية وقتها عنهم من الحكمة . فعند المجهول يشيع الوجل ويزداد السعي من أجل النجاة . وذلك ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) أي لتثاب كل نفس بما قدمته من خير وشر أو طاعة ومعصية .

فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ١٦

قوله : ( فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه ) أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة من يكذب بها واتبع هوى نفسه وخالف أمر ربه ( فتردى ) في موضع نصب على أنه جواب النهي بالفاء . أي فتهلك[2948] .

وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ١٧

قوله تعالى : { وما تلك بيمينك يا موسى ( 17 ) قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ( 18 ) } ما ، في موضع رفع ، مبتدأ . و ( تلك ) ، خبره . ( بيمينك ) ، في موضع نصب على الحال[2949] والسؤال ، للتنبيه على وقع المعجزة أو لتوطين نفسه كيلا يتزعزع من هول المنظر لدى انقلاب العصا حية .

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ١٨

فأجاب موسى عليه السلام في أدب بالغ وخضوع جم ( هي عصاي أتوكؤا عليها ) أي أعتمد عليها ، وأتحامل عليها في المشي والوقوف ، ومنه الاتكاء[2950] .

قوله : ( وأهش بها على غنمي ) أهش بها أي أخبط الورق بالعصا ليتحات[2951] والمراد " أن موسى عليه السلام كان يضرب بعصاه أغصان الشجر ليسقط منها الورق فتأكله الغنم .

قوله : ( ولى فيها مآرب أخرى ) ( مآرب ) ، جمع ومفرده مأربة وهي الحاجة ؛ أي كانت لموسى في عصاه منافع وحوائج أخرى غير الاعتماد عليها . ومن منافعه وحوائجه المستفادة من العصا : أن يصلها بالرشا فيخرج بها الماء من البئر . وإذا أصابته شمس غرزها في الأرض وألقى عليها شيئا فاستظل به . وكذلك فإنه يقتل بها ما يجده من هوام الأرض ، أو يقاتل بها السباع عن الغنم وغير ذلك من الحاجات والفوائد التي أجملها القول الرباني العذب بإيقاعه المستلذ ونغمه الذي تشتهيه النفس وهو قوله : ( ولي فيها مآرب أخرى ) .

قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ١٩

قوله تعالى : { قال ألقها يا موسى ( 19 ) فألقاها فإذا هي حية تسعى ( 20 ) قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ( 21 ) واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ( 22 ) لنريك من آياتنا الكبرى ( 23 ) اذهب إلى فرعون إنه طغى ( 24 ) قال رب اشرح لي صدري ( 25 ) ويسر لي أمري ( 26 ) واحلل عقدة من لساني ( 27 ) يفقهوا قولي ( 28 ) واجعل لي وزيرا من أهلي ( 29 ) هارون أخي ( 30 ) اشدد به أزري ( 31 ) وأشركه في أمري ( 32 ) كي نسبحك كثيرا ( 33 ) ونذكرك كثيرا ( 34 ) إنك كنت بنا بصيرا ( 35 ) } .

قال الله لكليمه موسى : ( ألقها ) أي اطرحها ، والمراد العصا .

فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ٢٠

{ فإذا هي حية تسعى } انقلبت العصا في الحال حية عظيمة تمشي بسرعة وتضطرب كالجان . قال ابن عباس : انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآه موسى يبتلع كل شيء خافه وولى منه مدبرا . ثم نودي موسى بعد ذلك ليأخذها فلا تؤذيه بأمر الله . وهو قوله : { خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى }