تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 282

سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ١

لو تأملنا خواتيم سورة النحل لوجدناها مقدمة طبيعية لأحداث سورة الإسراء ، ولوجدنا توافقاً وتناسباً في ترتيب هاتين السورتين ، فقد ختمت النحل ببيان حكم رد العقوبة بمثلها ، ثم أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر وبينت جزاء الصابرين ، ونهت رسول الله عن الضيق من مكر الكفار .

نستشف من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيستقبل أحداثاً تحتاج إلى صبر وشدائد ، تحتاج إلى سعة صدر ، وكأن هذه التوجيهات جاءت بمثابة مناعات إيمانية ، تحصن رسول الله ، وتعده لما هو مقبل عليه من أحداث في سورة الإسراء ، وكأنها إشارات لما سيحدث من شدائد حتى لا يفاجأ رسول الله بها ، ولا تأتيه على غرة .

هذه المناعات التي جاءت في نهاية سورة النحل أشبه بما نلجأ إليه في حفظ سلامة البنية وسلامة القالب ، حينما نخاف من الأمراض ، إنه ما نسميه بالتطعيم ضد المرض ، فيأخذ الجسم من هذا الطعم حصانة تحميه إذا هاجمه المرض . كذلك الحق سبحانه وتعالى يعطي رسوله هذه التحصينات ، حتى يواجه الأحداث والشدائد القادمة بصبر وجلد ، ويعلم أن الله تعالى لن يخذله ، ولن يتخلى عنه ، فما أرسل الله رسولاً وخذله أبداً ، فإن خذله الناس ، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت ، وجد الملجأ في معيته سبحانه وتعالى .

وفعلاً ، نزلت الشدائد برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت قمة هذه الأحداث عند فقد عمه أبي طالب ، وزوجه خديجة في عام واحد ، ولقسوة هذا عليه سماه " عام الحزن " .

ففقد صلى الله عليه وسلم بموت عمه الحماية الخارجية التي كانت تدفع عنه أذى المشركين ، وتصد عنه صناديد قريش ، وفقد بموت زوجته الحماية الداخلية ، والملجأ الذي كان يأوي إليه ، حيث كانت تواسيه ، وتهدئ من روعه في أول نزول الوحي عليه ، وتبين له بفقه أن ما يجده في الغار من علامات النبوة ، وأن الله لن يتخلى عنه ، وتقول له : " والله إنك لتصل الرحم ، وتغيث الملهوف ، وتحمل الكل ، وتعين على نوائب الدهر " . نعم ، لقد كان عام حزن فعلاً ، فقد فيه السكن الخارجي والداخلي معاً ، فأين يذهب صلى الله عليه وسلم . فما عاد يشعر بأمن في مكة ، ففكر في أهل الطائف ، عساه يجد الأمن والأمان بينهم ، ولكنه كان كالمستجير من الرمضاء بالنار ، فقد آذوه أشد الإيذاء ، وقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدمه الشريفة ، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم ، وعاد منها حزيناً منكسراً إلى مكة مرة أخرى ، فلم يجد من يجيره إلا مُطعِم بنَ عَدي .

ومن هنا نعلم أن نهايات سورة النحل جاءت في موقعها المناسب ، وكأن الحق سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : لقد ضاقت عليك الأرض بما رحبت ، وضاقت عليك نفسك ، ولكن ملجؤك إلى الله ، سيريك أن قسوة الأرض ، وتجهم الحياة لك ، سأبدلك به تحية مباركة ، في أن أريك حفاوة السماء بك ، فبعد ما حدث لك في مكة والطائف : { ولا تك في ضيق مما يمكرون " 127 " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . . " 128 " }( سورة النحل ) . وجاء حادث الإسراء والمعراج ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاوة الملأ الأعلى ، بعد ما أصابه من أذى البشر ، وقبل أن يرى رسول الله حفاوة السماء غير الله له نظام الكون .

استهل الحق سبحانه هذه السورة بقوله ( سبحان ) ؛ لأنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة ، ومعنى سبحانه : أي تنزيهاً لله تعالى تنزيهاً مطلقاً ، أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق ، لا في الذات ، فلا ذات كذاته ، ولا في الصفات فلا صفات كصفاته ، ولا في الأفعال ، فليس في أفعال خلقه ما يشبه أفعاله تعالى . فإن قيل لك : الله موجود وأنت موجود ، فنزه الله أن يكون وجوده كوجودك ؛ لأن وجودك من عدم ، وليس ذاتياً فيك ، ووجوده سبحانه ليس من عدم ، وهو ذاتي فيه سبحانه .

فذاته سبحانه لا مثيل لها ، ولا شبيه في ذوات خلقه . وكذلك إن قيل : سمع والله سمع . فنزه الله أن يشابه سمعه سمعك ، وإن قيل : لك فعل ، ولله فعل فنزه الله أن يكون فعله كفعلك . ومن معاني ( سبحانه )أي : أتعجب من قدرة الله . إذن : كلمة ( سبحان )جاءت هنا لتشير إلى أن ما بعدها أمر خارج عن نطاق قدرات البشر ، فإذا ما سمعته إياك أن تعترض أو تقول : كيف يحدث هذا ؟ بل نزه الله أن يشابه فعله فعل البشر ، فإن قال لك : إنه أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في ليلة ، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً ، فإياك أن تنكر .

فربك لم يقل : سرى محمد ، بل أسرى به . فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله ، ومادام الفعل لله فلا تخضعه لمقاييس الزمن لديك ، ففعل الله ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر . ولو تأملنا كلمة ( سبحانه )نجدها في الأشياء التي ضاقت فيها العقول ، وتحيرت في إدراكها وفي الأشياء العجيبة ، مثل قوله تعالى : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " 36 " }

( سورة يس ) : فالأزواج أي : الزوجين الذكر والأنثى ، ومنهما يتم التكاثر في النبات ، وفي الإنسان وقد فسر لنا العلم الحديث قوله : ( ومما لا يعلمون )بما توصل إليه من اكتشاف الذرة والكهرباء ، وأن فيهما السالب والموجب الذي يساوي الذكر والأنثى ؛ لذلك قال تعالى } : ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " 49 " }( سورة الذاريات ) . ومنها قوله تعالى } : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . . " 17 " } ( سورة الروم ) . فمن يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها ويرى كيف يحل الظلام محل الضياء ، أو الضياء محل الظلام ، لا يملك أمام هذه الآية إلا أن يقول : سبحان الله . ومنها قوله تعالى } : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " 13 " } ( سورة الزخرف ) : هذه كلها أمور عجيبة ، لا يقدر عليها إلا الله ، وردت فيها كلمة ( سبحان )في خلال السور وفي طيات الآيات . و( سبحان )اسم يدل على الثبوت والدوام ، فكأن تنزيه الله موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد المنزه ، كما نقول في الخلق ، فالله خالق ومتصف بهذه الصفة قبل أن يخلق شيئاً .

وكما تقول : فلان شاعر ، فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة ، فلو لم يكن شاعراً ما قالها . إذن : تنزيه الله ثابت له قبل أن يوجد من ينزهه سبحانه ، فإذا وجد المنزه تحول الأسلوب من الاسم إلى الفعل ، فقال سبحانه } : سبح لله ما في السماوات وما في الأرض " 1 " } ( سورة الحشر ) : وهل سبح وسكت وانتهى التسبيح ؟ لا ، بل } : يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض . . " 1 " } ( سورة الجمعة ) : على سبيل الدوام والاستمرار ، ومادام الأمر كذلك والتسبيح ثابت له ، وتسبح له الكائنات في الماضي والحاضر ، فلا تتقاعس أنت أيها المكلف عن تسبيح ربك ، يقول تعالى } : سبح اسم ربك الأعلى " 1 " }

( سورة الأعلى ) ، وقوله : ( أسرى )من السري ، وهو السير ليلاً ، وفي الحكم : ( عند الصباح يحمد القوم السري ) . فالحق سبحانه أسرى بعبد ، فالفعل لله تعالى ، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تقس الفعل بمقياس البشر ، ونزه فعل الله عن فعلك ، وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذب . فقالوا : كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ، وهم كاذبون في قولهم ؛ لأن رسول الله لم يدع أنه سرى بل قال : أسرى بي . ومعلوم أن قطع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة . أي : أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة ، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية سيختلف الزمن لو سرنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة ، فكلما زادت القوة قل الزمن ، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى ، إذا كان الفعل من الله فلا زمن .

فإن قال قائل : مادام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن ، لماذا لم يأت الإسراء لمحة فحسب ، ولماذا

استغرق ليلة ؟ نقول : لأن هناك فرقاً بين قطع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مراء عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق ، فرأى مواقف ، وتكلم مع أشخاص ، ورأى آيات وعجائب ، هذه هي التي استغرقت الزمن . وقلنا : إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قدر قوة الفاعل . هب أن قائلاً قال لك : أنا صعدت بابني الرضيع قمة جبل " إفرست " ، هل تقول له : كيف صعد ابنك الرضيع قمة " إفرست " ؟ هذا سؤال إذن في غير محله ، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى : أنا أسريت بعبدي ، فمن أراد أن يحيل المسألة وينكرها ، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد . لكن كيف فاتت هذه القضية على كفار مكة ؟

ومن تكذيب كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رداً جميلاً على هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا الحاضر ، فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان .

ونسمع منهم من يقول : إن الإسراء كان مناماً ، أو كان بالروح دون الجسد . ونقول لهؤلاء : لو قال محمد لقومه : أنا رأيت في الرؤيا بيت المقدس ، هل كانوا يكذبون ؟ ولو قال لهم : لقد سبحت روحي الليلة حتى أتت بيت المقدس ، أكانوا يكذبونه ؟ أتكذب الرؤى أو حركة الأرواح ؟ !

إذن : في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده ، وكأن الحق سبحانه ادخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس ، ليرد به على مكذبي اليوم . وقوله سبحانه : { بعبده . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) .

العبد كلمة تطلق على الروح والجسد معاً ، هذا مدلولها ، لا يمكن أن تطلق على الروح فقط . لكن ، لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بالذات ؟

نقول : لأن الله تعالى جعل في الكون قانوناً عاماً للناس ، وقد يخرق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزة للخاصة الذين ميزهم الله عن سائر الخلق ، فكأن كلمة ( عبده )هي حيثية الإسراء .

أي : أسرى به ؛ لأنه صادق العبودية لله ، ومادام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه ، فاستحق أن يكون له ميزة وخصوصية عن غيره ، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقه رسوله بما حقق من عبودية لله . وفرق بين العبودية لله والعبودية للبشر ، فالعبودية لله عز وشرف يأخذ بها العبد خير

سيده ، وقال الشاعر :

ومما زادني شرفاً وعزاً**** وكدت بأخصمي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي**** وأن صيرت أحمد لي نبياً

أما عبودية البشر للبشر فنقص ومذلة وهوان ، حيث يأخذ السيد خير عبده ، ويحرمه ثمره كده . لذلك ، فالمتتبع لآيات القرآن يجد أن العبودية لا تأتي إلا في المواقف العظيمة مثل :

{ سبحان الذي أسرىبعبده . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) ، وقوله : { وإنه لما قام عبد الله يدعوه . . " 19 " }

( سورة الجن ) . ويكفيك عزاً وكرامة أنك إذا أردت مقابلة سيدك أن يكون الأمر في يدك ، فما عليك إلا أن تتوضأ وتنوي المقابلة قائلاً : الله اكبر ، فتكون في معية الله عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه وموعده ومدته ، وتختار أنت موضوع المقابلة ، وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردت . وما احسن ما قال الشاعر :

حسب نفسي عزاً بأني عبد ****يحتفي بي بلا مواعيد رب

هو في قدسه الأعز ولكني**** أنا ألقي متى وأين احب

فما بالك لو حاولت لقاء عظيم من عظماء الدنيا ؟ وكم أنت ملاق من المشقة والعنت ؟ وكم دونه من الحجاب والحراس ؟ ثم بعد ذلك ليس لك أن تختار لا الزمان ولا المكان ، ولا الموضوع ولا غيره .

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المتخلق بأخلاق الله إذا سلم على أحد لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده . وقوله : { ليلاً . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) : سبق أن قلنا : إن السري هو السير ليلاً ، فكانت هذه كافية للدلالة على وقوع الحدث ليلاً ، ولكن الحق سبحانه أراد أن يؤكد ذلك ، فقد يقول قائل : لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً ؟

نقول : حدث الإسراء ليلاً ، لتظل المعجزة غيباً يؤمن به من يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة ، فتكون المسألة إذن حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان بالغيب . لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال : إن صاحبكم يزعم أنه أسرى به الليلة من مكة إلى بيت المقدس ، فمنهم من قلب كفيه تعجباً ، ومنهم من أنكر ، ومنهم من ارتد . أما الصديق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبال المؤمن المصدق ، ومن هذا الموقف سمي الصديق ، وقال قولته المشهورة : " إن كان قال فقد صدق " . إذن : عمدته أن يقول رسول الله ، وطالما قال فهو صادق ، هذه قضية مسلم بها عند الصديق رضي الله عنه .

ثم قال : " إنا لنصدقه في أبعد من هذا ، نصدقه في خبر السماء ( الوحي ) ، فكيف لا نصدقه في هذا " ؟

إذن : الحق سبحانه جعل هذا الحادث محكاً للإيمان ، وممحصاً ليقين الناس ، حين يغربل من حول رسول الله ، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع . لذلك قال تعالى في آية أخرى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس . . " 60 " } ( سورة الإسراء( : وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكن مناماً ، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً ، فالمنام لا يكذبه أحد ولا يختلف فيه الناس . لكن لماذا قال عن الإسراء ( رؤيا )يعني المنامية ، ولم يقل " رؤية " يعني البصرية ؟

قالوا : لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية ، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة .

وورد في الإسراء أحاديث كثيرة تكلم فيها العلماء : أكان بالروح والجسد ؟ أكان يقظة أم مناماً ؟ أكان من المسجد الحرام أم من بيت أم هانئ ؟ ونحن لا نختلف مع هذه الآراء ، ونوضح ما فيها من تقارب .

فمن حيث : أكان الإسراء بالروح فقط أم بالروح والجسد ؟ فقد أوضحنا وجه الصواب فيه ، وأنه كان بالروح والجسد جميعاً ، فهذا مجال الإعجاز ، ولو كان بالروح فقط ما كان عجيباً ، وما كذبه كفار مكة .

أما من ذهب إلى أن الإسراء كان رؤيا منام ، فيجب أن نلاحظ أن أول الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرؤيا الصادقة ، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا وجاءت كفلق الصبح ، فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ليست كرؤيانا ، بل هي صدق لابد أن يتحقق . ومثال ذلك ما حدث ، من إرادة الله له رؤيا الفتح .

قال تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . . " 27 " } ( سورة الفتح ) : وقد أخبر صلى الله عليه وسلم صحابته هذا الخبر ، فلما ردهم الكفار عند الحديبية ، فقال الصحابة لرسول الله : ألم تبشرنا بدخول المسجد الحرام ؟ فقال : ولكن لم أقل هذا العام . لذلك يسمون هذه الرؤى رؤى الإيناس ، وهي أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم الشيء مناماً ، حتى إذا ما تحقق لم يفاجأ به ، وكان له أنس به . ومادام لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح فلابد أن هذه الرؤيا ستأتي واقعاً وحقيقة ، وقد يرى هذه الرؤيا مرة أخرى على سبيل التذكرة بذلك الإيناس . إذن : من قال : إن الإسراء كان مناماً نقول له : نعم كان رؤيا إيناس تحققت في الواقع ، فلدينا رؤى الإيناس أولاً ، ورؤى التذكير بالنعمة ثانياً ، وواقع الحادث في الحقيقة ثالثاً ، وبذلك نخرج من الخلاف حول : أكان الإسراء يقظة أم مناماً ؟

وحتى بعد انتهاء حادث الإسراء كانت الرؤيا الصادقة نوعاً من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان كلما اشتدت به الأهوال يريه الله تعالى ما حدث له ليبين له حفاوة السماء والكون به صلى الله عليه وسلم ؛ ليكون جلداً يتحمل ما يلاقي من التعنت والإيذاء .

أما من قال : إن الإسراء كان من بيت أم هانئ ، فهذا أيضاً ليس محلاً للخلاف ؛ لأن بيت أم هانئ كان ملاصقاً للمطاف من المسجد الحرام ، والمطاف من المسجد . إذن : لا داعي لإثارة الشكوك والخلافات حول هذه المعجزة ؛ لأن الفعل فعل الحق سبحانه وتعالى ، والذي يحكيه لنا هو الحق سبحانه وتعالى ، فلا مجال للخلاف فيه . وقوله تعالى : { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) : المسجد الحرام هو بيت الله : الكعبة المشرفة ، وسمي حراماً ؛ لأنه حرم فيه ما لم يحرم في غيره من المساجد . وكل مكان يخصص لعبادة الله نسميه مسجداً ، قال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر . . " 18 " } ( سورة التوبة ) : ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد ، أنه بيت لله باختيار الله تعالى ، وغيره من المساجد بيوت لله باختيار خلق الله ؛ لذلك كان بيت الله باختيار الله قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله .

وقد يراد بالمسجد المكان الذي نسجد فيه ، أو المكان الذي يصلح للصلاة ، كما جاء في الحديث الشريف : " . . وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " . أي : صالحة للصلاة فيها .

ولابد أن نفرق بين المسجد الذي حيز وخصص كمسجد مستقل ، وبين أرض تصلح للصلاة فيها ومباشرة حركة الحياة ، فالعامل يمكن أن يصلي في مصنعه ، والفلاح يمكن أن يصلي في مزرعته ، فهذه أرض تصلح للصلاة ولمباشرة حركة الحياة .

أما المسجد فللصلاة ، أو ما يتعلق بها من أمور الدين كتفسير آية ، أو بيان حكم ، أو تلاوة قرآن . . الخ ولا يجوز في المسجد مباشرة عمل من أعمال الدنيا .

لذلك حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالته في المسجد ، قال له : " لا ردها الله عليك " وقال لمن جلس يعقد صفقة في المسجد : " لا بارك الله لك في صفقتك " . ذلك لأن المسجد خصص للعبادة والطاعة ، وفيه يكون لقاء العبد بربه عز وجل ، فإياك أن تشغل نفسك فيه بأمور الدنيا ، ويكفي ما أخذته منك ، وما أنفقته في سبيلها من وقت .

والمسجد لا يسمى مسجداً إلا إذا كان بناءً مستقلاً من الأرض إلى السماء ، فأرضه مسجد ، وسماؤه مسجد ، لا يعلوه شيء من منافع الدنيا ، كمن يبني مسجداً تحت عمارة سكنية ، ودعك من نيته عندما خصص هذا المكان للصلاة : أكانت نيته لله خالصة ؟ أم لمأرب دنيوي ؟ وقد قال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " 18 " } ( سورة الجن ) : فمثل هذا المكان لا يسمى مسجداً ؛ لأنه لا تنطبق عليه شروط المسجد ، ويعلوه أماكن سكنية يحدث فيها ما يتنافى وقدسية المسجد ، وما لا يليق بحرمة الصلاة ، فالصلاة في مثل هذا المكان كالصلاة في أي مكان آخر من البيت . لذلك يحرم على الطيار غير المسلم أن يحلق فوق مكة ؛ لأن جو الحرم حرم . وقوله تعالى : { إلى المسجد الأقصى . . " 1 " }

( سورة الإسراء( : في بعد المسافة نقول : هذا قصي . أي : بعيد . وهذا أقصى أي : أبعد ، فالحق تبارك وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجد آخر قصي ، وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالمسجد الأقصى : أي : الأبعد ، وهو مسجد بيت المقدس . وقوله سبحانه : { باركنا حوله . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) : البركة : أن يؤتي الشيء من ثمره فوق المأمول منه ، وأكثر مما يظن فيه ، كأن تعد طعاماً لشخصين ، فيكفي خمسة أشخاص فتقول : طعام مبارك . وقول الحق سبحانه : { باركنا حوله . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) : دليل على المبالغة في البركة ، فإن كان سبحانه قد بارك ما حول الأقصى ، فالبركة فيه من باب أولى ، كأن تقول : من يعيشون حول فلان في نعمة ، فمعنى ذلك أنه في نعمة أعظم . لكن بأي شيء بارك الله حوله ؟

لقد بارك الله حول المسجد الأقصى ببركة دنيوية ، وبركة دينية : بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض خصبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي مختلف الثمار ، وهذا من عطاء الربوبية الذي يناله المؤمن والكافر . وبركة دينية خاصة بالمؤمنين ، هذه البركة الدينية تتمثل في أن الأقصى مهد الرسالات ومهبط الأنبياء ، تعطرت أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى ، وفيه هبط الوحي وتنزلت الملائكة ، وقوله : { لنريه من آياتنا . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) : اللام هنا للتعليل . كأن مهمة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس أن نرى رسول الله الآيات ، وكلمة : الآيات لا تطلق على مطلق موجود ، إنما تطلق على الموجود العجيب ، كما نقول : هذا آية في الحسن ، آية في الشجاعة ، فالآية هي الشيء العجيب . ولله عز وجل آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس ، كما قال تعالى : { ومن آياته الليل والنهار . . " 37 " } .

( سورة فصلت ) ، { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام " 32 " }( سورة الشورى ) : والله سبحانه يريد أن يجعل لرسوله صلى الله عليه وسلم خصوصية ، وأن يريه من آيات الغيب الذي لم يره أحد ، ليرى صلى الله عليه وسلم حفاوة السماء به ، ويرى مكانته عند ربه الذي قال له : { ولا تك في ضيقٍ مما يمكرون " 127 " } ( سورة النحل ) : لأنك في سعة من عطاء الله ، فإن أهانك أهل الأرض فسوق يحتفل بك أهل السماء في الملأ الأعلى ، وإن كنت في ضيق من الخلق فأنت في سعة من الخالق .

وقوله : { إنه هو السميع البصير " 1 " } ( سورة الإسراء ) : أي : الحق سبحانه وتعالى . السمع : إدراك يدرك الكلام . والبصر : إدراك يدرك الأفعال والمرائي ، فلكل منهما ما يتعلق به . لكن سميع وبصير لمن ؟

جاء هذا في ختام آية الإسراء التي بينت أن الحق سبحانه جعل الإسراء تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما لاقاه من أذى المشركين وعنتهم ، وكأن معركة دارت بين رسول الله والكفار حدثت فيها أقوال وأفعال من الجانبين . ومن هنا يمكن أن يكون المعنى : ( سميع )لأقوال الرسول ( بصير )بأفعاله ، حيث آذاه قومه وكذبوه وألجوؤه إلى الطائف ، فكان أهلها أشد قسوة من إخوانهم في مكة ، فعاد منكراً دامياً ، وكان من دعائه : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .

فالله سميع لقول نبيه صلى الله عليه وسلم . وبصير لفعله .

فقد كان صلى الله عليه وسلم في أشد ظروفه حريصاً على دعوته ، فقد قابل في طريق عودته من الطائف عبداً ، فأعطاه عنقوداً من العنب ، وأخذ يحاوره في النبوات ويقول : أنت من بلد نبي الله يونس بن متى . أو يكون المعنى : سميع لأقوال المشركين ، حينما آذوا سمع رسول الله وكذبوه وتجهموا له ، وبصير بأفعالهم حينما آذوه ورموه بالحجارة .

الحق تبارك وتعالى تعرض لحادث الإسراء في هذه الآية على سبيل الإجمال ، فذكر بدايته من المسجد الحرام ، ونهايته في المسجد الأقصى ، وبين البداية والنهاية ذكر كلمة الآيات هكذا مجملة .

وجاء صلى الله عليه وسلم ففسر لنا هذا المجمل ، وذكر الآيات التي رآها ، فلو لم يذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من آيات الله لقلنا : وأين هذه الآيات ؟ فالقرآن يعطينا اللقطة الملزمة لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم : { إن علينا جمعه وقرآنه " 17 " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " 18 " ثم إن علينا بيانه " 19 " } ( سورة القيامة( : إذن : كان لابد لتكتمل صورة الإسراء في نفوس المؤمنين أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال من أحاديث الإسراء .

لكن يأتي المشككون وضعاف الإيمان يبحثون في أحاديث الإسراء عن مأخذ ، فيعترضون على المرائي التي رآها رسول الله ، وسأل عنها جبريل عليه السلام . فكان اعتراضهم أن هذه الأحداث في الآخرة ، فكيف رآها محمد صلى الله عليه وسلم ؟

ونقول لهؤلاء : لقد قصرت أفهامكم عن إدراك قدرة الله في خلق الكون ، فالكون لم يخلق هكذا ، بل خلق بتقدير أزلي له ، ولتوضح هذه المسألة نضرب هذا المثل :

هب أنك أردت بناء بيت ، فسوف تذهب إلى المهندس المختص وتطلب منه رسماً تفصيلياً له ، ولو كنت ميسور الحال تقول له : اعمل لي ( ماكيت )للبيت ، فيصنع لك نموذجاً مصغراً للبيت الذي تريده .

فالحق سبحانه خلق هذا الكون أزلاً ، فالأشياء مخلوقة عند الله ( كالماكيت ) ، ثم يبرزها سبحانه على وفق ما قدره . وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " 82 " } ( سورة يس ) : انظر : ( أن يقول له )كأن الشيء موجود والله تعالى يظهره فحسب ، لا يخلقه بداية ، بل هو مخلوق جاهز ينتظر الأمر ليظهر في عالم الواقع ؛ لذلك قال أهل المعرفة : أمور يبديها ولا يبتديها . وإن كان الحق تبارك وتعالى قد ذكر الإسراء صراحة في هذه الآية ، فقد ذكر المعراج بالالتزام في سورة النجم ، في قوله تعالى : { ولقد رآه نزلة أخرى " 13 " عند سدرة المنتهى " 14 " عندها جنة المأوى " 15 " إذ يغشى السدرة ما يغشى " 16 " ما زاغ البصر وما طغى " 17 " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " 18 " } ( سورة النجم ) .

ففي الإسراء قال تعالى : { لنريه من آياتنا . . " 1 " } ( سورة الإسراء ) . وفي المعراج قال : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى " 18 " } ( سورة النجم ) : ذلك لأن الإسراء آية أرضية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من الإلهام أن يدلل على صدقه في الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ؛ لأن قومه على علم بتاريخه ، وأنه لم يسبق له أن رأى بيت المقدس أو سافر إليه ، فقالوا له : صفه لنا وهذه شهادة منهم أنه لم يره ، فتحدوه أن يصفه .

والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأتي بمثل هذه العملية ، هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة بيت المقدس ، خاصة وقد ذهب إليه ليلاً ؟

إذن : صورته لم تكن واضحة أمام النبي صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها ، وهنا تدخلت قدرة الله فجلاه الله له ، فأخذ يصفه لهم كأنه يراه الآن .

كما أن الطريق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى طريق مسلوك للعرب ، فهو طريق تجارتهم إلى الشام ، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن عيراً لهم في الطريق ، ووصفها لهم وصفاً دقيقاً ، وأنها سوف تصلهم مع شروق الشمس يوم معين . وفعلاً تجمعوا في صبيحة هذا اليوم ينتظرون العير . وعند الشروق قال أحدهم : هاهي الشمس أشرقت . فرد الآخر : وهاهي العير قد ظهرت .

إذن : استطاع صلى الله عليه وسلم أن يدلل على صدق الإسراء ؛ لأنه آية أرضية يمكن التدليل عليها ، بما يعلمه الناس عن بيت المقدس ، وبما يعلمونه من عيرهم في الطريق .

أما ما حدث في المعراج ، فآيات كبرى سماوية لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم التدليل عليها أمام قومه ، فأراد الحق سبحانه أن يجعل ما يمكن الدليل عليه من آيات الأرض وسيلة لتصديق ما لا يوجد دليل عليه من آيات الصعود إلى السماء ، وإلا فهل صعد أحد إلى سدرة المنتهى ، فيصفها له رسول الله ؟ إذن : آية الأرض أمكن أن يدلل عليها ، فإذا ما قام عليها الدليل ، وثبت للرسول خرق نواميس الكون في الزمن والمسافة ، فإن حدثكم عن شيء آخر فيه خرق للنواميس فصدقوه ، فكأن آية الإسراء جاءت عن شيء آخر فيه خرق للنواميس فصدقوه ، فكأن آية الإسراء جاءت لتقرب للناس آية المعراج . فالذي خرق له النواميس في آيات الأرض من الممكن أن يخرق له النواميس في آيات السماء ، فالله تعالى يقرب الغيبيات ، التي لا تدركها العقول بالمحسات التي تدركها .

ومن ذلك ما ضربه إليه مثلاً محسوساً لمضاعفة النفقة في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف ، فأراد الحق سبحانه أن يبين ذلك ويقربه للعقول ، فقال : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " 261 " } ( سورة البقرة ) : ومن لطف الله سبحانه بعقول خلقه أن جعل آيات الإسراء بالنص الملزم الصريح ، لكن آيات المعراج جاءت بالالتزام في سورة النجم ؛ لذلك قال العلماء : إن الذي يكذب بالإسراء يكفر ، أما من يكذب بالمعراج فهو فاسق . لكن أهل التحقيق يذهبون إلى تكفير من يكذب المعراج أيضاً ؛ لأن المعراج وإن جاء بالالتزام فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف ، والحق سبحانه يقول : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . . " 7 " } ( سورة الحشر( :

والمتأمل في الإسراء والمعراج يجده إلى جانب أنه تسلية لرسول الله وتخفيف عنه ، إلا أن لهم هدفاً آخر أبعد أثراً ، وهو بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد من الله ، وله معجزات ، وتخرق له القوانين والنواميس العامة ؛ ليكون ذلك كله تكريماً ودليلاً على صدق رسالته .

فالمعجزة : أمر خارق للعادة الكونية يجريه الله على يد رسوله ؛ ليكون دليلاً على صدقه ، ومن ذلك ما حدث لإبراهيم الخليل عليه السلام حيث ألقاه قومه في النار ، ومن خواص النار الإحراق ، فهل كان المراد نجاة إبراهيم من النار ؟

لو كان القصد نجاته من النار ما كان الله مكنهم من الإمساك به ، ولو أمسكوا فيمكن أن ينزل الله المطر فيطفئ النار .

إذن : المسألة ليست نجاة إبراهيم ، المسألة إثبات خرق النواميس لإبراهيم عليه السلام ، فشاء الله أن تظل النار مشتعلة ، وأن يمسكوا به ويرموه في النار ، وتتوفر كل الأسباب لحرقه عليه السلام .

وهنا تتدخل عناية الله لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين ، فمن خواص النار الإحراق ، وهي خلق من خلق الله ، يأتمر بأمره ، فأمر الله النار ألا تحرق ، سلبها هذه الخاصية ، فقال تعالى : { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " 69 " } ( سورة الأنبياء ) . وربما يجد المشككون في الإسراء والمعراج ما يقرب هذه المعجزة لأفهامهم بما نشاهده الآن من تقدم علمي يقرب لنا المسافات ، فقد تمكن الإنسان بسلطان العلم أن يغزو الفضاء ، ويصعد إلى كواكب أخرى في أزمنة قياسية ، فإذا كان في مقدور البشر الهبوط على سطح القمر ، أتستبعدون الإسراء والمعراج ، وهو فعل لله سبحانه ؟ !

وكذلك من الأمور التي وقفت أمام المعترضين على الإسراء والمعراج حادثة شق الصدر التي حكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمتأمل فيه يجده عملاً طبيعياً لإعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مقبل عليه من أجواء ومواقف جديدة تختلف في طبيعتها عن الطبيعة البشرية .

كيف ونحن نفعل مثل هذا الإعداد حينما نسافر من بلد إلى آخر ، فيقولون لك : البس ملابس كذا . وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد ، وتتأقلم معه ، فما بالك ومحمد صلى الله عليه وسلم سيلتقي بالملائكة وبجبريل وهم ذوو طبيعة غير طبيعة البشر ، وسيلتقي بإخوانه من الأنبياء ، وهم في حال الموت ، وسيكون قاب قوسين أو أدنى من ربه عز وجل ؟

إذن : لا غرابة في أن يحدث له تغيير ما في تكوينه صلى الله عليه وسلم ليستطيع مباشرة هذه المواقف . وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدل على صدق رسول الله فيما أخبر به من لقائه بالأنبياء في هذه الرحلة ، قال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا . . " 45 " } ( سورة الزخرف ) : والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمره ربه أمراً نفذه ، فكيف السبيل إلى تنفيذ هذا الأمر : واسأل من سبقك من الرسل ؟

لا سبيل إلى تنفيذه إلا في لقاء مباشر ومواجهة ، فإذا حدثنا بذلك رسول الله في رحلة الإسراء والمعراج نقول له : صدقت ، ولا يتسلل الشك إلا إلى قلوب ضعاف الإيمان واليقين .

فالفكرة في هذه القضية الإسراء والمعراج دائرة بين يقين المؤمن بصدق رسول الله ، وبين تحكيم العقل ، وهل استطاع عقلك أن يفهم كل قضايا الكون من حولك ؟

فما أكثر الأمور التي وقف فيها العقل ولم يفهم كنهها ، ومع مرور الزمن وتقدم العلوم رآها تتكشف له تدريجياً ، فما شاء الله أن يظهره لنا من قضايا الكون يسر لنا أسبابه باكتشاف أو اختراع ، وربما بالمصادفة . وما العقل إلا وسيلة إدراك ، كالعين والأذن ، وله قوانين محددة لا يستطيع أن يتعداها ، وإياك أن تظن أن عقلك يستطيع إدراك كل شيء ، بل هو محكوم بقانون .

ولتوضيح ذلك ، نأخذ مثلاً العين ، وهي وسيلة إدراك يحكمها قانون الرؤية ، فإذا رأيت شخصاً مثلاً تراه واضح الملامح ، فإذا ما ابتعد عنك تراه يصغر تدريجياً حتى يختفي عن نظرك ، كذلك السمع تستطيع بأذنك أن تسمع صوتاً ، فإذا ما ابتعد عنك قل سمعك له ، حتى يتوقف إدراك الأذن فلا تسمع شيئاً . كذلك العقل كوسيلة إدراك له قانون ، وليس الإدراك فيه مطلقاً .

ومن هنا لما أراد العلماء التغلب على قانون العين وقانون الأذن حينما تضعف هذه الحاسة وتعجز عن أداء وظيفتها صنعوا للعين النظارة والميكروسكوب والمجهر ، وهذه وسائل حديثة تمكن العين من رؤية ما لا تستطيع رؤيته . وكذلك صنعوا سماعة الأذن لتساعدها على السمع إذا ضعفت عن أداء وظيفتها . إذن : فكل وسيلة إدراك لها قانونها ، وكذلك العقل ، وإياك أن تظن أن عقلك يستطيع أن يدرس كل شيء ، ولكن إذا حدثت بشيء فعقلك ينظر فيه ، فإذا ثقته صادقاً فقد انتهت المسألة ، وخذ ما حدثت به على أنه صدق . وهذا ما حدث مع الصديق أبي بكر رضي الله عنه حينما حدثوه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم ، وأنه أسرى به من مكة إلى بيت المقدس ، فما كان منه إلا أن قال : " إن كان قال فقد صدق " . فالحجة عنده إذن قول الرسول ، ومادام الرسول قد قال ذلك فهو صادق ، ولا مجال لعمل العقل في هذه القضية ، ثم قال " كيف لا أصدقه في هذا الخبر ، وأنا أصدقه في أكثر من هذا ، أصدقه في خبر الوحي يأتيه من السماء " .

فآية الإسراء إذن كانت آية أرضية ، يمكن أن يقام عليها الدليل ، ويمكن أن يفهم الناس عنها أن القانون قد خرق لمحمد في الإسراء ، فإذا ما أتى المعراج وخرق له القانون فيما لا يعلم الناس كان أدعى لتصديقه .

والمتأمل في هذه السورة يجدها تسمى سورة الإسراء ، وتسمى سورة بني إسرائيل ، وليس فيها عن الإسراء إلا الآية الأولى فقط ، وأغلبها يتحدث عن بني إسرائيل ، فما الحكمة من ذكر بني إسرائيل بعد الإسراء ؟

سبق أن قلنا : إن الحكمة من الكلام عن الإسراء بعد آخر النحل أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان في ضيق مما يمكرون ، فأراد الحق سبحانه أن يخفف عنه ويسليه ، فكان حادث الإسراء ، ولما ألف بنو إسرائيل أن الرسول يبعث إلى قومه فحسب ، كما رأوا موسى عليه السلام .

فعندما يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويقول : أنا رسول للناس كافة سيعترض عليه هؤلاء وسيقولون : إن كنت رسولاً فعلاً وسلمنا بذلك ، فأنت رسول للعرب دون غيرهم ، ولا دخل لك ببني إسرائيل ، فلنا رسالتنا وبيت المقدس علم لنا .

لذلك أراد الحق سبحانه أن يلفت إسرائيل إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا جعل بيت المقدس قبلة للمسلمين في بداية الأمر ، ثم أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم إليه : ليدلل بذلك على أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات الإسلام ، وأصبح منذ هذا الحدث في حوزة المسلمين .

وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلٗا٢

قوله : ( وآتينا )أي : أوحينا إليه معانيه ، كما قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . " 51 " } ( سورة الشورى ) : فليس في هذا الأمر مباشرة . و( الكتاب )هو التوراة ، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل ، وإن أطلق دون أن يقترن بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم .

والوحي قد يكون بمعاني الأشياء ، ثم يعبر عنها الرسول بألفاظه ، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم .

ومثال ذلك : الحديث النبوي الشريف ، فالمعنى فيه من الحق سبحانه ، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل .

فإن قال قائل : ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه ، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط ؟ نقول : لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل ، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ، فلا دخل لأحد فيه ، ولابد أن يظل لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى .

فالرسول صلى الله عليه وسلم أوحى إليه لفظ ومعنى القرآن الكريم ، وأوحى إليه معنى الحديث النبوي الشريف . والحق سبحانه يقول : { وجعلناه هدىً لبني إسرائيل . . " 2 " } ( سورة الإسراء ) : وقال تعالى في آية أخرى : { ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل " 23 " }

( سورة السجدة ) : والهدى : هو الطريق الموصل للغاية من أقصر وجه ، وبأقل تكلفة ، وهو الطريق المستقيم ، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين . ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب ، وخلاصة هذا الهدى لبني إسرائيل في قوله تعالى : { ألا تتخذوا من دوني وكيلا " 2 " } ( سورة الإسراء ) : ففي هذه العبارة خلاصة الهدى ، وتركيز المنهج وجماعه .

والوكيل : هو الذي يتولى أمرك ، وأنت لا تولي أحداً أمرك إلا إذا كنت عاجزاً عن القيام به ، وكان من توكله أحكم منك وأقوى ، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم ، فالغني يصير فقيراً ، والقوي يصير ضعيفاً ، والصحيح يصير سقيماً .

وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تلو الآخر ، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لتولي أمرك والقيام بشأنك ، فربما وكلت واحداً منهم ففاجأك خبر موته .

إذن : إذا كنت لبيباً فوكل من لا تنتابه الأغيار ، ولا يدركه الموت ؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور ، يقول : { وتوكل على الحي الذي لا يموت " 58 " } ( سورة الفرقان ) : ومادام الأمر كذلك ، فإياك أن تتخذ من دون الله وكيلاً ، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء ؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم ، بل يناولونك ويبلغونك عن الله سبحانه . ولذلك الحق سبحانه يقول : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك . . " 86 " }( سورة الإسراء )

ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً ، فمن أين تأتي بالمنهج إذن ؟ وقد تحدث العلماء طويلاً في ( أن )في قوله :

{ ألا تتخذوا من دوني وكيلا " 2 " }( سورة الإسراء ) : فمنهم من قال : إنها ناهية . ومنهم من قال : نافية ، واحسن ما يقال فيها : إنها مفسرة لما قبلها من قوله تعالى : { وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى . . " 2 " ( سورة الإسراء ) ، { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " 120 " } ( سورة طه ) : فقوله : ( قال يا آدم )تفسر لنا مضمنون وسوسة الشيطان . ومثله قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه . . " 7 " } ( سورة القصص ) : ( فإن )هنا مفسرة لما قبلها . وكأن المعنى : وأوحينا إليه ألا تتخذوا من دوني وكيلاً .

أو نقول : إن فيها معنى المصدرية ، وأن المصدرية قد تجر بحرف جر كما نقول : عجبت أن تنجح ، أي : من أن تنجح ، ويكون معنى الآية هنا : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل لأن لا تتخذوا من دوني وكيلاً .

ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا٣

( ذرية )منصوبة هنا على الاختصاص لقصد المدح ، فالمعنى : أخصكم أنتم يا ذرية نوح ، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات ؟

ذلك لأننا نجينا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق ، وحافظنا على حياتهم ، وأنتم ذريتهم ، فلابد لكم أن تذكروا هذه النعمة لله تعالى ، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم .

فكأن الحق سبحانه يمتن عليهم بأن نجى إبراهيم مع نوح ، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جربه آباؤهم ، ووجدوا أن من يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله . ويقول تعالى : { إنه كان عبدا شكورا " 3 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أن الحق سبحانه أكرم ذريته ؛ لأنه كان عبداً شكوراً ، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه ؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا ، ولن نتركهم يتخبطون في متاهات الحياة ، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم ، ويجنبهم الزلل والانحراف .

ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء ، فإذا ما توفر للإنسان قوت يومه تطلع إلى قوت العام كله ، فإذا توفر له قوت عامه قال : أعمل لأولادي ، فترى خير أولاده أكثر من خيره ، وتراه ينشغل بهم ، ويؤثرهم على نفسه ، ويترقى في طلب الخير لهم ، ويود لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها .

ومع ذلك ، فالإنسان عرضة للأغيار ، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء ؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلنا على وجه الصواب الذي ينفع الأولاد ، فيقول تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " 9 " }( سورة النساء ) : والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن تقوى الله تتعدى بركتها إلى أولادك من بعدك ، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام التي حكاها لنا القرآن الكريم .

والشاهد فيها أنهما حينما مرا على قرية ، واستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ، وسؤال الطعام يدل على صدق الحاجة ، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكنزه ، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلاشك أنه صادق في سؤاله ، فهذا دليل على أنها قرية لئام لا يقومون بواجب الضيافة ، ولا يقدرون حاجة السائل . ومن هنا تعجب موسى عليه السلام من مبادرة الخضر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أن يأخذ أجره من هؤلاء اللئام : { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " 77 " }( سورة الكهف ) : وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر ، ويظهر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام ، فيقول : { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك . . " 82 " } ( سورة الكهف ) : فالجدار ملك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام ، ولأن أباهما كان صالحاً سخر الله لهما من يخدمهما ، ويحافظ على مالهما .

إذن : فعلة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً ، فأكرمهم الله من أجله ، وجعلهما في حيازته وحفظه . وهنا قد يسأل سائل : ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما ؟

والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً ، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين ، فيكونان قادرين على حمايته والدفاع عنه . والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء " 21 " }( سورة الطور ) : فكرامة للآباء نلحظ بهم الأبناء ، حتى وإن قصروا في العمل عن آبائهم ، فنزيد في أجر الأبناء ، ولا ننقص من أجر الآباء . وقوله :

{ إنه كان عبدا شكورا " 3 " } ( سورة الإسراء ) .

وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا٤

قوله تعالى : { وقضينا . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : أي : حكمنا حكماً لا رجعة فيه ، وأعلنا به المحكوم عليه ، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى .

والقضاء يعني الفصل في نزاع بين متخاصمين ، وهذا الفصل لابد له من قاضٍ مؤهل ، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به ، ويستطيع الترجيح بين الأدلة .

إذن : لابد أن يكون القاضي مؤهلاً ، ولو عرف المتنازعين ، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميين لا يعرفون عن القانون شيئاً ، ولكنهم واثقون من شخص ما ، ويعرفون عنه قول الحق والعدل في حكومته ، فيرتضونه قاضياً ويحكمونه فيما بينهم .

ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب ، بل لابد له من بينة على المدعي أن يقدمها أو اليمين على من أنكر ، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود ، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه ، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه ، ثم هو في أثناء ذلك عرضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة .

وقد يستطيع الظالم أن يعمي عليه الأمر ، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي ، فيحول الحكم لصالحه ، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا . فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى ؟

إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بينة ولا شهود ، ولا يقدر أحد أن يعمي عليه أو يخدعه ، وهو سبحانه صاحب كل السلطات ، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به ، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه .

وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهل القضاة أفضل من رسول الله ؟ !

ففي الحديث الشريف : " إنما أنا بشر مثلكم ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً ، فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار " .

فرد صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له ، ونصحه أن يراجع نفسه وينظر فيما يستحق ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر ، ولكن إن عميت على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء .

ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمن يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب :

" استفت قلبك ، وإن أفتوك ، وإن أفتوك ، وإن أفتوك " .

قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مميزاً بقلبه بين الحلال والحرام ، وعليه أن يراجع نفسه ويتدبر أمره . وقوله : { في الكتاب . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : أي : في التوراة ، كتابهم الذي نزل على نبيهم ، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر ، فالحق سبحانه قضى عليهم . أي : حكم عليهم حكماً وأعلمهم به ، حيث أوحاه إلى موسى ، فبلغهم به في التوراة ، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل ، أينفذونه وينصاعون له ، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض ؟

إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم ، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون ، فكان عليهم أن يخجلوا من ربهم عز وجل ، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه ، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به ، وأن يطيعوا أمره .

وقوله تعالى : { لتفسدن في الأرض مرتين . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : جاءت هذه العبارة هكذا مؤكدة باللام ، وهذا يعني أن في الآية قسماً دل عليه جوابه ، فكأن الحق سبحانه يقول : ونفسي لتفسدن في الأرض ، لأن القسم لا يكون إلا بالله . أو نقول : إن المعنى : مادمنا قد قضينا وحكمنا حكماً مؤكداً لا يستطيع أحد الفكاك منه ، ففي هذا معنى القسم ، وتكون هذه العبارة جواباً ل " قضينا " ؛ لأن القسم يجيء للتأكيد ، والتأكيد حاصل في قوله تعالى : { وقضينا . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) .

فما هو الإفساد ؟ الإفساد : أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتخرجه عن صلاحه ، فكل شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية ، فإذا تركته ليؤدي غايته فقد أبقيته على صلاحه ، وإذا أخللت به يفقد صلاحه ومهمته ، والغاية التي خلقه الله من أجلها .

والحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مقومات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء . . الخ وليس مقومات حياتنا فحسب ، بل وأعد لنا في كونه ما يمكن الإنسان بعقله وطاقته أن يزيد الصالح صلاحاً ، فعلى الأقل إن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبق الصالح على صلاحه .

فمثلاً ، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء ، فإما أن تحتفظ بها على حالها فلا تطمسها ، وإما أن تزيد في صلاحها بأن تبني حولها ما يحميها من زحف الرمال ، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخه في مواسير لتسهل على الناس استعمال ، وغير ذلك من أوجه الصلاح . ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول :

{ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . . " 61 " }( سورة هود ) : أي : أنشأكم من الأرض ، وجعل لكم فيها مقومات حياتكم ، فإن أحببت أن تثري حياتك فأعمل عقلك المخلوق لله ليفكر ، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون ، فأنت لا تأتي بشيء من عندك ، فقد تعمل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله ، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله ، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يثري حياتك ، ويوفر لك الرفاهية والترقي .

فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملوا عقولهم ، وزادوا الصالح صلاحاً ، وكم فيها من ميزات وفرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا ، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون ، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان ، فأخذوا هذه الفكرة ، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية .

وكما يكون الإفساد في الماديات كمن أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوثات ، كذلك يكون في المعنويات ، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه ، فكونك لا تنفذ هذا المنهج ، أو تكتمه ، أو تحرف فيه ، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى .

ويقول تعالى لبني إسرائيل : { لتفسدن في الأرض مرتين . . " 4 " }( سورة الإسراء ) : وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط ؟

والله إن كانوا كذلك فقد خلاهم ذم ، والأمر إذن هين ، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً ، فلماذا قال تعالى : مرتين ؟

تحدث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين ، وفي أي فترات التاريخ حدثتا ، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام ، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام ، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداث حدثت منهم في حضن الإسلام .

فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل ، فدل ذلك على أن الإسلام تعدى إلى مناطق مقدساتهم ، فأصبح بيت المقدس قبلة للمسلمين ، ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، وبذلك دخل في حوزة الإسلام ؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة ، وجاء للناس كافة .

إذن : كان من الأولى أن يفسروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام ؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام ، ولا دخل للإسلام في إفسادهم السابق ؛ لأن الحق سبحانه يقول : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا " 4 " } ( سورة الإسراء ) : فاك كان الفساد مطلقاً . أي : قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدد فسادهم ، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل ، فقالوا لموسى عليه السلام : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " 138 " } ( سورة الأعراف ) : هل هناك فساد أكثر من أن قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مثلاً تكوينية وأسوة سلوكية ، وحرفوا كتاب الله ؟

والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة ، فمن التوراة ما نسوه ، كما قال تعالى : { ونسوا حظا مما ذكروا به . . " 13 " }( سورة المائدة ) : والذي لم ينسوه لم يتركوه على حاله ، بل كتموا بعضه ، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله ، بل حرفوه ، كما قال تعالى : { يحرفون الكلم عن مواضعه . . " 13 " } ( سورة المائدة ) : ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف ، بل تعدى إلى أن أتوا بكلام من عند أنفسهم ، وقالوا هو من عند الله ، قال تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا . . " 79 " } ( سورة البقرة : فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد ؟ ومن العلماء من يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا . . " 346 " } ( سورة البقرة ) : فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضوه وحكموا به ، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصلوا منه ولم يقاتلوا . ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قوت دولتهم ، واتسعت رقعتها من الشمال إلى الجنوب ، فأغار عليهم بختنصر وهزمهم ، وفعل بهم ما فعل .

وهذه التفسيرات على أن الفسادين سابقان للإسلام ، والأولى أن نقول : إنهما بعد الإسلام ، وسوف نجد في هذا ربطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء .

كيف ذلك ؟

قالوا : لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم : لقد أظل زمان نبي يأتي فتتبعه ، ونقتلكم به قتل عاد وإرم .

لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومن عنده علم الكتاب ، فمن عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك ، وأنك صادق ، ويعرف علامتك ، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

ويقول أحدهم : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ، ومعرفتي لمحمد أشد ، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه ، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأه في كتبهم ، وما يعلمه من أوصافه ، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

إذن : كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا ، وكانوا مستشرقين لمجيئه ، وعندهم مقدمات لبعثه صلى الله عليه وسلم . ومع ذلك : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . . " 89 " }( سورة البقرة ) : فلما كفروا به ، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة ؟

في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها ، ووفى بهم رسول الله ما وفوا ، فلما غدروا هم ، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم ، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم ، وقتل منهم من قتل ، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر ؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار " 2 " } ( سورة الحشر ) : وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير ، وبني قينقاع ، وبني قريظة ، الذين خانوا العهد مع رسول الله ، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، ونص الآية القادمة يؤيد ما نذهب إليه من أن الإفسادتين كانتا بعد الإسلام .

فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا٥

معلوم أن ( إذا )ظرف لما يستقبل من الزمان ، كما تقول : إذا جاء فلان أكرمته ، فهذا دليل على أن أولى الإفسادتين لم تحدث بعد ، فلا يستقيم القول بأن الفساد الأول جاء في قصة طالوت وجالوت ، وأن الإفساد الثاني جاء في قصة بختنصر .

وقوله : ( وعد ) . والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى ، وإنما بشيء مستقبل . و( أولاهما )أي : الإفساد الأول . وقوله : { بعثنا عليكم عباداً لنا . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) : وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام ؛ لأن كلمة ( عباداً )لا تطلق إلا على المؤمنين ، أما جالوت الذي قتله طالوت ، وبختنصر فهما كافران . وقد تحدث العلماء في قوله تعالى : { عباداً لنا . . " 5 " }( سورةالإسراء )

فمنهم من رأى أن العباد والعبيد سواء ، وأن قوله ( عباداً )تقال للمؤمن وللكافر ، وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حسب زعمهم . ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " 116 " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " 117 " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " 118 " } ( سورة المائدة ) .

والشاهر في قوله تعالى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك . . " 118 " } ( سورة المائدة ) : فأطلق كلمة " عبادي " على الكافرين ، وعلى هذا القول لا مانع يكون جالوت وبختنصر ، وهما كافران قد سلطا على بني إسرائيل . ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفاً من مواقف يوم القيامة ، يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله : { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء . . " 17 " } ( سورة الفرقان ) : فأطلق كلمة ( عباد )على الكافرين أيضاً .

إذن : قوله تعالى : { بعثنا عليكم عباداً لنا . . " 5 " }( سورة الإسراء ) : ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين ، فقد يكونون من الكفار ، وهنا نستطيع أن نقول : إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم ، ويسلط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين ، فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلط عليه من هو أكثر منه ظلماً ، وأشد منه بطشاً ، كما قال سبحانه : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون " 129 " } ( سورة الأنعام ) : وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة عباد تطلق على المؤمنين وعلى الكافرين ، فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تطلق إلا على المؤمنين . ومن ذلك قوله تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " 63 " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " 64 " والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما " 65 " إنها ساءت مستقرا ومقاما " 66 " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " 67 " }( سورة الفرقان )إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفا المؤمنين الصادقين ، فأطلق عليهم " عباد الرحمن " . دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لإبليس : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . . " 42 " } ( سورة الحجر ) : والمراد هنا المؤمنون . . وقد قال إبليس : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين " 82 " إلا عبادك منهم المخلصين " 83 " } ( سورة ص ) : إذن : هنا إشكال ، حيث أتى كل بأدلته وما يؤيد قوله ، وللخروج من هذا الإشكال نقول : كلمة " عباد " و " عبيد " كلاهما جمع ومفردهما واحد ( عبد ) . فما الفرق بينهما ؟

لو نظرت إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعاً لهم اختيارات في أشياء ، ومقهورين في أشياء أخرى ، فهم جميعاً عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر ، إذن : كل الخلق عبيد فيما لا اختيار لهم فيه .

ثم بعد ذلك نستطيع أن نقسمهم إلى قسمين : عبيد يظلون عبيداً لا يدخلون في مظلة العباد ، وعبيد تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لأمر الله فيدخلون في مظلة عباد الله . كيف ذلك ؟

لقد جعل الله تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار ، فجعلك قادراً على الفعل ومقابله ، وخلقك صالحاً للإيمان وصالحاً للكفر ، لكنه سبحانه وتعالى يأمرك بالإيمان تكليفاً . ففي منطقة الاختيار هذه يتمايز العبيد والعباد ، فالمؤمنون بالله يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار ربهم ، ويتنازلون عن مرادهم إلى مراد ربهم في المباحات ، فتراهم ينفذون ما أمرهم الله به ، ويجعلون الاختيار كالقهر . ولسان حالهم يقول لربهم : سمعاً وطاعة .

وهؤلاء هم العباد الذين سلموا جميع أمرهم لله في منطقة الاختيار ، فليس لهم إرادة أمام إرادة الله عز وجل . إذن : كلمة عباد تطلق على من تنازل عن منطقة الاختيار ، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات .

أما الكفار الذين اختاروا مرادهم وتركوا مراد الله ، واستعملوا اختيارهم ، ونسوا اختيار ربهم ، حيث خيرهم : تؤمن أو تكفر قال : أكفر ، تشرب الخمر أو لا تشرب قال : أشرب ، تسرق أو لا تسرق ، قال : أسرق . وهؤلاء هم العبيد ، ولا يقال لهم " عباد " أبداً ؛ لأنهم لا يستحقون شرف هذه الكلمة .

ولكي نستكمل حل ما أشكل في هذه المسألة لابد لنا أن نعلم أن منطقة الاختيار هذه لا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف ؛ لأنها محل الاختيار ، وفيها نستطيع أن نميز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه ، وبين العبيد الذين تمردوا واختاروا غير مراد الله عز وجل في الاختياريات ، أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها .

فإذا جاءت الآخرة فلا محل للاختيار والتكليف ، فالجميع مقهور لله تعالى ، ولا مجال فيها للتقسيم السابق ، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته . إذن : نستطيع أن نقول : إن الكل عباد في الآخرة ، وليس الكل عباداً في الدنيا . وعلى هذا نستطيع فهم معنى ( عباد )في الآيتين : { إن تعذبهم فإنهم عبادك . . " 118 " } ( سورة المائدة ) . { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء . . " 17 " } ( سورة الفرقان ) : فسماهم الحق سبحانه عباداً ؛ لأنه لم يعد لهم اختيار يتمردون فيه ، فاستووا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عز وجل . إذن : فقول الحق سبحانه : { فإذا جاء وعد أولادهما بعثنا عليكم عباداً لنا . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) : المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظل الإسلام ، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جاسوا خلال ديارهم ، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم من قتلوه ، وسبوا من سبوه .

وقوله : { أولى بأسٍ شديدٍ . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) : أي : قوة ومنعة ، وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة ، بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون بها أهل الباطل ، وليس حال ضعفهم في مكة . وقوله سبحانه : { فجاسوا خلال الديار . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) : جاسوا من جاس أي : بحث واستقصى المكان ، وطلب من فيه ، وهذا المعنى هو الذي يسميه رجال الأمن " تمشيط المكان " .

وهو اصطلاح يعني دقة البحث عن المجرمين في هذا المكان ، وفيه تشبيه لتمشيط الشعر ، حيث يتخلل المشط جميع الشعر ، وفي هذا ما يدل على دقة البحث ، فقد يتخلل المشط تخللاً سطحياً ، وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها .

إذن : جاسوا أي : تتبعوهم تتبعاً بحيث لا يخفي عليهم أحد منهم ، وهذا ما حدث مع يهود المدينة : بني قينقاع ، وبني قريظة ، وبني النضير ، ويهود خيبر .

ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله : { بعثنا . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) : والبعث يدل على الخير والرحمة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء ، بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام من خانوا العهد ونقضوا الميثاق . وكلمة : ( عليكم )تفيد العلو والسيطرة .

وقوله : { وكان وعداً مفعولاً " 5 " } ( سورة الإسراء ) : أي : وعد صدق لابد أن يتحقق ؛ لأنه وعد من قادر على الإنفاذ ، ولا توجد قوة تحول بينه وبين إنفاذ ما وعد به ، وإياك أن تظن أنه كأي وعد يمكن أن يفي به صاحبه أو لا يفي به ؛ لأن الإنسان إذا وعد وعداً : سألقاك غداً مثلاً .

فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة الإنفاذ ، لكن قد يطرأ عليك من العواريض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به ، إنما إذا كان الوعد ممن يقدر على الإنفاذ ، ولا تجري عليه مثل هذه العوارض ، فوعده متحقق النفاذ . فإذا قال قائل : الوعد لا تقال إلا في الخير ، فكيف سمى القرآن هذه الأحداث : { بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأسٍ شديدٍ . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) :

قالوا : الوعيد يطلق على الشر ، والوعد يطلق على الخير وعلى الشر ، ذلك لأن الشيء قد يكون شراً في ظاهره ، وهو خير في باطنه ، وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده ، إذا أراد الحق سبحانه أن يؤدب هؤلاء الذين انحرفوا عن منهجه ، فقد نرى أن هذا شر في ظاهره ، لكنه في الحقيقة خير بالنسبة لهم ، إن حاولوا هم الاستفادة منه .

ونضرب لذلك مثلاً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره ، فيقسو عليه حرصاً على ما يصلحه ، وصدق الشاعر حين قال :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً**** فليقس أحياناً على من يرحم

ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا٦

الخطاب في هذه الآية موجه لبني إسرائيل ، والآية تمثل نقطة تحول وانقلاب للأوضاع ، فبعد أن تحدثنا عنه من غلبة المسلمين ، وأن الله سلطهم لتأديب بني إسرائيل ، نرى هنا أن هذا الوضع لم يستمر ؛ لأن المسلمين تخلوا عن منهج الله الذي ارتفعوا به ، وتنصلوا من كونهم عباداً لله ، فدارت عليهم الدائرة ، وتسلط عليهم اليهود ، وتبادلوا الدور معهم ؛ لأن اليهود أفاقوا لأنفسهم بعد أن أدبهم رسول الله والمسلمون في المدينة ، فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات .

ولابد أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله ، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكب للطريق المستقيم ، فانحلت الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين ، وانقسموا دولاً ، لكل منها جغرافياً ، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام ، فانحلت عنهم صفة عباد الله .

فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله ، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كفتهم وتخلوا عن منهج ربهم ، وتحاكموا إلى قوانين وضعية ، فسلط عليهم عدوهم ليؤدبهم ، فأصبحت الغلبة لليهود ؛ لذلك يقول تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة عليهم . . " 6 " } ( سورة الإسراء ) : و( ثم )حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي ، على خلاف الفاء مثلاً التي تفيد الترتيب مع التعقيب ، ومن ذلك قوله تعالى : { ثم أماته فأقبره " 21 " ثم إذا شاء أنشره " 22 " } ( سورة عبس ) : فلم يقل الحق سبحانه : فرددنا ، بل ( ثم رددنا ) . ذلك لأن بين الكرة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله ، وبين هذه الكرة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً .

فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون ، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وعد بلفور ، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين ، وكانت الكرة لهم علينا في عام 1967 ، فناسب العطف ب " ثم " التي تفيد التراخي . والحق سبحانه يقول : { ثم رددنا لكم الكرة . . " 6 " } ( سورة الإسراء ) : أي : جعلنا لبني إسرائيل الغلبة والقوة والنصر على المسلمين وسلطناهم عليهم ؛ لأنهم تخلوا عن منهج ربهم ، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتهم عباداً لله .

و( الكرة )أي : الغلبة من الكر والفر الذي يقوم به الجندي في القتال ، حيث يقدم مرة ، ويتراجع أخرى . وقوله تعالى : { وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً " 6 " }( سورة الإسراء ) : وفعلاً أمدهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله ، وأمدهم بالبنين الذين يعلمونهم ويثقفونهم على أعلى المستويات ، وفي كل المجالات .

ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كرة على المسلمين ، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين ، ولابد لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى ، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين ، وهذا معنى قوله تعالى : { وجعلناكم أكثر نفيراً " 6 " } ( سورة الإسراء ) : فالنفير من يستنفره الإنسان لينصره ، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين .

إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا٧

ومازال الخطاب موجهاً إلى بني إسرائيل ، هاكم سنة من سنين الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر ، وهي أن من احسن فله إحسانه ، ومن أساء فعليه إساءته .

فهاهم اليهود لهم الغلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج ، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله ؛ لأن هذه سنة كونية ، من استحق الغلبة فهي له ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى منزه عن الظلم ، حتى مع أعداء دينه ومنهجه . والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله .

وقوله تعالى : { إن أحسنتم . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : فيه إشارة إلى أنهم في شك أن يحسنوا ، وكأن أحدهم يقول للآخر : دعك من قضية الإحسان هذه . فإذا كانت الكرة الآن لليهود ، فهل ستظل لهم على طول الطريق ؟ لا . . لن تظل لهم الغلبة ، ولن تدوم لهم الكرة على المسلمين ، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : أي : إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم ، وقد سبق أن قال الحق سبحانه عنهم : { لتفسدن في الأرض مرتين . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : وبينا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة . وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا ، وستكون لنا يقظة وصحوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم ، وعندها ستكون لنا الغلبة والقوة ، وستعود لنا الكرة على اليهود .

وقوله تعالى : { ليسوءوا وجوهكم . . " 7 " }( سورة الإسراء ) : أي : نلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم ؛ لأن الوجه هو السمة المعبرة عن نوازع النفس الإنسانية ، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر ، وهو أشرف ما في المرء ، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة . وقوله تعالى : { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصىوسينقذونه من أيدي اليهود . { دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " }( سورة الإسراء ) : المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخول المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود ، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين .

فدخوله الأول لم يكن إساءة لليهود ، وإنما كان إساءة للمسيحيين ، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى ، وهو في حوزة اليهود ، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى ، ونطهره من رجسهم . ونلحظ كذلك في قوله تعالى : { كما دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : أن القرآن لم يقل ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج . إذن : فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لنبوءة القرآن ، وكأن الحق سبحانه يريد أن يلفتنا : إن أردتم أن تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى ، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه . وقوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : كلمة الآخرة تدل على أنها المرة التي لن تتكرر ، ولكن يكون لليهود غلبة بعدها . وقوله تعالى : { وليتبروا ما علوا تتبيراً " 7 " } ( سورة الإسراء ) : يتبروا : أي : يهلكوا ويدمروا ، ويخربوا ما أقامه اليهود وما بنوه وشيدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم .

لكن نلاحظ أن القرآن لم يقل : ما علوتم ، إنما قال ( ما علوا )ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم ، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم ، فاليهود بذاتهم ضعفاء ، لا تقوم لهم قائمة ، وهذا واضح في قوله الحق سبحانه عنهم : { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس . . " 112 " } ( سورة آل عمران ) : فهم أذلاء أينما وجدوا ، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظله ، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويعاونونهم .

واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهوية لا تذوب في غيرهم من الأمم ، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها ؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى " حارة اليهود " ، ولم يكن لهم ميل للبناء والتشييد ؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم : { وقطعناهم في الأرض أمماً . . " 168 " }( سورة الأعراف ) : كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية ، أما الآن ، وبعد أن أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حد زعمهم ، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد .

ونحن الآن ننتظر وعد الله سبحانه ، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا ، ونعود إلى ساحة ربنا ، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى ، وتكون لنا الكرة الأخيرة عليهم ، سيتحقق لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلامية وإيمانية ، لا على عروبة وعصبية سياسية ، لتعود لنا صفة العباد ، ونكون أهلاً لنصرة الله إذن : طالما أن الحق سبحانه قال : . { فإذا جاء وعد الآخرة . . 7( سورة الإسراء ) : فهو وعد آلا لاشك فيه ، بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصها في آخر السورة في قوله تعالى : { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " 104 " } ( سورة الإسراء ) : والمتأمل لهذه الآية يجد بها بشارة بتحقق وعد الله ، ويجد أن ما يحدث الآن أننا قلنا لبني إسرائيل من بعد موسى : اسكنوا الأرض وإذا قال لك واحد : اسكن فلابد أن يحدد لك مكاناً من الأرض تسكن فيه فيقول لك : اسكن بورسعيد . . اسكن القاهرة . . اسكن الأردن .

أما أن يقول لك : اسكن الأرض ! ! فمعنى هذا أن الله تعالى أراد لهم أن يظلوا مبعثرين في جميع الأنحاء ، مفرقين في كل البلاد ، كما قال عنهم : { وقطعناهم في الأرض أمما . . " 168 " } ( سورة

الأعراف ) : فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم ، كثيراً ما تثار بسببهم المشاكل ، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم ، وقد قال تعالى : { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . . " 167 " } ( سورة الأعراف ) : وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكد بين سكان الأرض إلى يوم القيامة ، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير ؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يهاج الإسلام ، فساعة أن يهاج تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبه في الناس .

إذن : فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة ، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس ، فلو لم تثر الحيوية الإيمانية لبهت الإسلام .

وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل ، فلوجودهما حكمة ؛ لأن الكفر الذي يشقي الناس به يلفت الناس إلى الإيمان ، فلا يرون راحة لهم إلا في الإيمان بالله ، ولو لم يكن الكفر الذي يؤذي الناس ويقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان . وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويزعجهم ، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه .

وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها ، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل ، فأوحوا إليهم بفكرة الوطن القومي ، وزينوا لهم أولى خطوات نهايتهم ، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد .

وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين ، ولكن الحقيقة غير هذا ، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم : { عباداً لنا . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) : يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مفرقون مبعثرون في كل أنحاء العالم ، فلن نحارب في العالم كله ، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي ، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون ، في كل بلد شرذمة منهم ؟

إذن : ففكرة التجمع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيدتها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام ، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام ، وتسهل علينا تتبعهم وتمكننا من القضاء عليهم ؛ لذلك يقول تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " 104 " }( سورة الإسراء )

أي : أتينا بكم جميعاً ، نضم بعضكم إلى بعض ، فهذه إذن بشرى لنا معشر المسلمين بأن الكرة ستعود لنا ، وأن الغلبة ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين ، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله ، ونتجه إليه كما قال سبحانه : { فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا . . " 43 " } ( سورة الأنعام ) .

والمراد بقوله هنا : { وعد الآخرة . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : هو الوعد الذي قال الله عنه : { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " }( سورة الإسراء ) .

صفحة 283

عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا٨

و( عسى )حرف يدل على الرجاء ، وكأن في الآية إشارة إلى أنهم سيظلون في مذلة ومسكنة ، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظل حبل من الله وعهد منه ، وحبل من الناس الذين يعاهدونهم على النصرة والتأييد والحماية . وقوله : { ربكم . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : انظر فيه إلى العظمة الإلهية ، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله ، وهو آخر رسول يأتي من السماء ، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله : { ربكم . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : لأن الرب هو المتولي للتربية والمتكفل بضمان مقومات الحياة لا يضن بها حتى وإن كان العبد كافراً ، فالكل أمام عطاء الربوبية سواء : المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي . الجميع يتمتع بنعم الله : الشمس والهواء والطعام والشراب ، فهو سبحانه لا يزال ربهم مع كل ما حدث منهم . وقوله تعالى : { أن يرحمكم . . " 8 " }

( سورة الإسراء ) : والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة واليهود لن تكون لهم دولة ، ولن يكون لهم كيان ، بل يعيشون في حضن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة ، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله ، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم .

وقد وصلت هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يقترض لا يقترض من مسلم ، بل كان يقترض من اليهود ، وفي هذا حكمة يجب أن نعيها ، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً ، أما اليهودي فسوف يلح في طلب حقه وإذا نسى رسول الله سيذكره .

لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغالطونه مراراً ، وقد حدث أن وفى رسول الله لأحدهم دينه ، لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد ، وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول : ابغني شاهداً .

ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد ، وهكذا تأزم الموقف في حضور أحد الصحابة ، واسمه خزيمة ، فهب خزيمة قائلاً : أنا يا رسول الله كنت شاهداً ، وقد أخذ هذا اليهودي دينه ، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل ، فدل ذلك على كذبه . ويكاد المريب أن يقول : خذوني .

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال : يا خزيمة ما حملك على هذا القول ، ولم يكن أحد معنا ، وأنا أقضي لليهودي دينه ؟ فضحك خزيمة وقال : يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء ، وأكذبك في عدة دراهم ؟

فسر رسول الله من اجتهاد الرجل ، وقال : " من شهد له خزيمة فحسبه " . ثم يهدد الحق سبحانه بني إسرائيل ، فيقول : { وإن عدتم عدنا . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : إن عدتم للفساد ، عدنا ، وهذا جزاء الدنيا ، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة ، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يبرئهم من عذاب الآخرة . فالعقوبة على الذنب التي تبرئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حضن الإسلام ، وإلا لاستوى من أقيم عليه الحد مع من لم يقم عليه الحد .

فلو سرق إنسان وقطعت يده ، وسرق آخر ولم تقطع يده ، فلو استووا في عقوبة الآخرة ، فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة ، وكيف يستوي الذي قطعت يده . وعاش بذلتها طوال عمره مع من أفلت من العقوبة ؟

هذا إن كان المذنب مؤمناً .

أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجود له ، وعقوبة الدنيا هنا لا تعفي صاحبها من عقوبة الآخرة ؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " 8 " } ( سورة الإسراء ) ( جعلنا )فعل يفيد التحويل ، كأن تقول : جعلت العجين خبزاً ، وجعلت القطن ثوباً ، أي : صيرته وحولته . فماذا كانت جهنم أولاً فيحولها الحق سبحانه حصيراً ؟

قوله تعالى : ( جعلنا )في هذه الآية لا تفيد التحويل ، إنما هي بمعنى خلقنا ، أي : خلقناها هكذا ، كما نقول : سبحان الذي جعل اللبن أبيض ، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوله الله تعالى إلى البياض ، بل خلقه هكذا بداية .

ومعنى : { حصيراً . . " 8 " } ( سورة الإسراء ) : الحصير فراش معروف يصنع من القش أو من نبات يسمى السمر ، والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك ، وسمي حصيراً ، لأن كلمة حصير مأخوذة من الحصر ، وهو التضييق في المكان للمكين ، وفي صناعة الحصير يضمون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أن تتماسك ، ولا توجد مسافة بين العود والآخر .

لكن لماذا نفرض الحصير ؟ نفرش الحصير ؛ لأنه يحبس عنا القذر والأوساخ ، فلا تصيب ثيابنا . إذن : الحصر معناه المنع والحبس والتضييق . والمتتبع لمادة ( حصر )في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني ، يقول تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم " 5 " }

( سورة التوبة ) : أي : ضيقوا عليهم . وقال تعالى في فريضة الحج : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى . . " 196 " }( سورة البقرة ) : أي : حسبتم ومنعتم من أداء الفريضة . إذن : فقوله تعالى : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " 8 " } ( سورة الإسراء ) : أي : تحبسهم فيها وتحصرهم ، وتمنعهم الخروج منها ، فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه ؛ لأنها تحيط بهم من كل ناحية ، كما قال تعالى : { إنا أعتدناللظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها . . " 29 " } ( سورة الكهف ) : فلا يستطيعون الخروج ، فإن حاولوا الخروج ردوا إليها ، كما قال تعالى : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها . . " 20 " }( سورة السجدة ) .

وفي قوله تعالى : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " 8 " }( سورة الإسراء ) : إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء ، ويدخلون في حضانة أهل الباطل ، أما في الآخرة فلن يجدوا ناصراً أو مدافعاً .

يقول تعالى : { ما لكم لا تناصرون " 25 " بل هم اليوم مستسلمون " 26 " } ( سورة الإسراء ) .

وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة ، وجعله آية يمكن إقامة الدليل عليها ، حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه ، فإذا جاءت آية المعراج وخرق له الناموس فيها لا يعلمه القوم كان أدعى إلى تصديقه .

ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى الله عليه وسلم لربه هي التي أعطته هذه المنزلة ، وكذلك كان نوح عليه السلام عبداً شكوراً ، فهناك فرق بين عبودية الخلق للخالق ، وعبودية الخلق للخلق ؛ لأن العبودية للخلق مذمومة ، حيث يأخذ السيد خير عبده ، أما العبودية لله فالعبد يأخذ خير سيده .

ثم تحدث الحق سبحانه عن بني إسرائيل ، وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض ، فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن احسن ولمن أساء ، وكل له عمله دون ظلم أو جور .

لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج الإلهي المنزل من السماء ليوضح عبودية الإنسان لربه ، وكيف يكون عبداً مخلصاً لله تعالى ،

إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا٩

فمن كان يريد الأسوة الطيبة في عبودية الرسول لربه ، هذه العبودية التي جعلته يسري به إلى بيت المقدس ، ثم يصعد به إلى السماء ، ومن كان يريد أن يكون مثل نوح في عبوديته لربه فأكرم ذريته من أجله ، فعليه أن يسير على دربهم ، وأن يقتدي بهم في عبوديتهم لله تعالى ، وليحذر أن يكون مثل اليهود الذين أفسدوا في الأرض مرتين .

والذي يرسم لنا الطريق ويوضح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) .

قول الحق تبارك وتعالى : { إن هذا القرآن . . " 9 " }( سورة الإسراء ) : هل عند نزول هذه الآية كان القرآن كله قد نزل ، ليقول : إن هذا القرآن ؟ نقول : لم يكن القرآن كله قد نزل ، ولكن كل آية في القرآن تسمى قرآناً ، كما قال تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " 18 " } ( سورة القيامة ) : فليس المراد القرآن كله ، بل الآية من القرآن قرآن . ثم لما اكتمل نزول القرآن ، واكتملت كل المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة ، قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا . . " 3 " } ( سورة المائدة ) : فإن استشرف مستشرف أن يستزيد على كتاب الله ، أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج الله منزه عن النقص ، وفي غنى عن زيادتك ، وما عليك إلا أن تبحث في كتاب الله ، وسوف تجد فيه ما تصبو إليه من الخير .

قوله : { يهدي . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : الهداية هي الطريق الموصل للغاية من أقرب وجه ، وبأقل تكلفة وهو الطريق المستقيم الذي لا التواء فيه ، وقلنا : إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق ، فمن اهتدى زاده هدى ، كما قال سبحانه : { والذي اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم " 17 " }

( سورة محمد ) : ومعنى : { أقوم . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أكثر استقامة وسلاماً . هذه الصيغة تسمى افعل التفضيل ، إذن : فعندنا ( أقوم )وعندنا أقل منه منزلة ( قيم )كأن نقول : عالم وأعلم . فقوله سبحانه : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " }( سورة الإسراء ) : يدل على وجود ( القيم )في نظم الناس وقوانينهم الوضعية ، فالحق سبحانه لا يحرم البشر من أن يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضهم المظالم ويشقون بها ، فيقننون تقنيات تمنع هذا الظلم . ولا مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء ، فما وضعوه وإن كان قيماً فما وضعه الله أقوم ، وأنت لا تضع القيم إلا بعد أن تعض بشيء معوج غير قيم ، وإلا فماذا يلفتك للقيم ؟

أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية ، ويمنع المرض من أساسه ، فهناك فرق بين الوقاية من المرض وبين العلاج للمرض ، فأصحاب القوانين الوضعية يعدلون نظمهم لعلاج الأمراض التي يشقون بها .

أما الإسلام فيضع لنا الوقاية ، فإن حدثت غفلة من المسلمين ، وأصابتهم بعض الداءات نتيجة انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم : عودوا إلى المنهج : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : ولتوضيح أن منهج الحق سبحانه أقوم نرى ما حدث معنا في مدينة " سان فرانسيسكو " فقد سألنا أحد المستشرقين عن قول الحق تبارك وتعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " 32 " }( سورة التوبة ) .

وفي آية أخرى يقول : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " 33 " } ( سورة التوبة ) .

فكيف يقول القرآن : { ليظهره على الدين كله . . " 33 " } ( سورة التوبة ) .

في حين أن الإسلام محصور ، وتظهر عليه الديانات الأخرى ؟ فقلت له : لو تأملت الآية لوجدت فيها الرد على سؤالك ، فالحق سبحانه يقول : { ولو كره الكافرون " 32 " } ( سورة التوبة ) .

ويقول : { ولو كره المشركون " 33 " } ( سورة التوبة ) : إذن : فالكافرون والمشركون موجودون ، فالظهور هنا ليس ظهور اتباع ، ولم يقل القرآن : إن الناس جميعاً سيؤمنون .

ومعنى الظهور هنا ظهور حجة وظهور حاجة ، ظهور نظم وقوانين ، ستضرهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى التخلي عن قوانينهم والأخذ بقوانين الإسلام ؛ لأنهم وجدوا فيها ضالتهم .

فنظام الطلاق في الإسلام الذي كثيراً ما هاجموه وانتقدوه ، ورأوا فيه ما لا يليق بالعلاقة الزوجية ، ولكن بمرور الزمن تكتشف لهم حقائق مؤلمة ، وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود هذا الحل في قوانينهم ، وهكذا ألجاتهم مشاكل الحياة الزوجية لأن يقننوا للطلاق .

ومعلوم أن تقنينهم للطلاق ليس حباً في الإسلام أو اقتناعاً به ، بل لأن لديهم مشاكل لا حل لها إلا بالطلاق ، وهذا هو الظهور المراد في الآيتين الكريمتين ، وهو ظهور بشهادتكم أنتم ؛ لأنكم ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين الإسلام ، أو قريباً منها .

ومن هذه القضايا أيضاً قضية تحريم الربا في الإسلام ، فعارضوه وأنكروا هذا التحريم ، إلى أن جاء " كنز " وهو زعيم اقتصادي عندهم ، يقول لهم : انتبهوا ، لأن المال لا يؤدي وظيفته كاملة في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى صفر .

سبحان الله ، ما أعجب لجج هؤلاء في خصومتهم مع الإسلام ، وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن تنخفض الفائدة إلى صفر ؟ إنهم يعودون لمنهج الله تعالى رغماً عنهم ، ومع ذلك لا يعترفون به .

ولا يخفي ما في التعامل الربوي من سلبيات ، وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى ، واستطاعت على مر الزمن أن تسدد حتى أقساط الفائدة ؟ ثم نراهم يغالطوننا يقولون : ألمانيا واليابان أخذت قروضاً بعد الحروب العالمية الثانية ، ومع ذلك تقدمت ونهضت .

نقول لهم : كفاكم خداعاً ، فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضاً ، وإنما أخذت معونة لا فائدة عليها ، تسمى معونة ( مارشال ) . وأيضاً من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة ، فلما عضتهم قننوا لها .

فظهور دين الله هنا يعني ظهور نظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الأخذ بها ، وليس المقصود به ظهور اتباع .

إذن : فمنهج الله أقوم ، وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأهدى ، وفي القرآن الكريم ما يوضح أن حكم الله وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم .

وهذا في قصة مولاه " زيد بن حارثة " ، وزيد لم يكن عبداً إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق وباعوه ، وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة رضي الله عنها التي وهبته بدورها لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فكان زيد في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا ليأخذوه ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن خيره بين البقاء معه وبين الذهاب إلى أهله ، فاختار زيد البقاء في خدمة رسول الله وآثره على أهله . فقال صلى الله عليه وسلم : " فما كنت لأختار على من اختارني شيئاً " .

وفي هذه القصة دليل على أن الرق كان مباحاً في هذا العصر ، وكان الرق حضانة حنانٍ ورحمة ، يعيش فيها العبد كما يعيش سيده ، يأكل من طعامه ، ويشرب من شرابه ، يكسوه إذا اكتسى ، ولا يكلفه ما لا يطيق ، وإن كلفه أعانه ، فكانت يده بيده .

وهكذا كانت العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين زيد ؛ لذلك آثره على أهله ، وأحب البقاء في خدمته ، فرأى رسول الله أن يكافئ زيداً على إخلاصه له وتفضيله له على أهله ، فقال : " لا تقولوا زيد بن حارثة ، قولوا زيد بن محمد " .

وكان التبني شائعاً في ذلك الوقت . فلما أراد الحق سبحانه أن يحرم التبني ، وأن يحرم نسبة الولد إلى غير أبيه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . . " 5 " } ( سورة الأحزاب ) : والشاهد هنا : { هو أقسط عند الله . . " 5 " }( سورة الأحزاب ) ؛ فكأن الحكم الذي أنهى التبني ، وأعاد زيداً إلى زيد بن حارثة هو الأقسط والأعدل ، إذن : حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن جوزاً ، بل كان قسطاً وعدلاً ، لكنه قسط بشري يفضله ما كان من عند الحق سبحانه وتعالى .

وهكذا عاد زيد إلى نسبة الأصلي ، وأصبح الناس يقولون " زيد ابن حارثة " ، فيحزن لذلك زيد ، لأنه حرم من شرف الانتساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعوضه الله تعالى عن ذلك وساماً لم ينله صحابي غيره ، هذا الوسام هو أن ذكر اسمه في القرآن الكريم ، وجعل الناس يتلونه ، ويتعبدون به في قوله تعالى : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها . . " 37 " }( سورة الأحزاب ) : إذن : عمل الرسول قسط ، وعمل الله أقسط . قوله تعالى : { يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " }( سورة الإسراء ) : لأن المتتبع للمنهج القرآني يجده يقدم لنا الأقوم والأعدل والأوسط في كل شيء . في العقائد ، وفي الأحكام ، وفي القصص .

ففي العقائد مثلاً ، جاء الإسلام ليجابه مجتمعاً متناقضاً بين من ينكر وجود إله في الكون ، وبين من يقول بتعدد الآلهة ، فجاء الإسلام وسطاً بين الطرفين ، جاء بالأقوم في هذه المسألة ، جاء ليقول بإله واحد لا شريك له .

فإذا ما تحدث عن صفات هذا الإله سبحانه اختار أيضاً ما هو أقوم وأوسط ، فللحق سبحانه صفات تشبه صفات البشر ، فله يد وسمع وبصر ، لكن ليست يده كيدنا ، وليس سمعه كسمعنا ، وليس بصره كبصرنا : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " 11 " }( سورة الشورى ) : وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع فيه المشبهة الذين شبهوا صفات الله بصفات البشر ، وخرجنا مما وقع فيه المعطلة الذين أنكروا أن يكون لله تعالى هذه الصفات وأولوها على غير حقيقتها .

وكذلك في الخلق الاجتماعي العام ، يلفتنا المنهج القرآني في قوله تعالى : { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " 105 " } ( سورة يوسف ) : يلفتنا إلى ما في الكون من عجائب نغفل عنها ، ونعرض عن تدبرها والانتفاع بها ، ولو نظرنا إلى هذه الآيات بعين المتأمل لوجدنا فيها منافع شتى منها : أنها تذكرنا بعظمة الخالق سبحانه ، ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب الذي يثري حياتنا ، ويوفر لنا ترف الحياة ومتعتها .

فالحق سبحانه أعطانا مقومات الحياة ، وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء ، فمن أراد الكماليات فعليه أن يعمل عقله فيما أعطاه الله ليصل إلى ما يريد .

والأمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون ، اهتدى بها أصحاب إلى اكتشافات واختراعات خدمت البشرية ، وسهلت عليها كثيراً من المعاناة . فالذي اخترع العجلة في نقل الأثقال بنى فكرتها على ثقل وجده يتحرك بسهولة إذا وضع تحته شيء قابل للدوران ، فتوصل إلى استخدام العجلات التي مكنته من نقل أضعاف ما كان يحمله .

والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط فكرة البخار ، وأنه يمكن أن يكون قوة محركة عندما شاهد القدر وهو يغلي ، ولاحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى ، فاهتدى إلى استخدام البخار في تسيير القطارات والعربات .

والعالم الذي اكتشف دواء " البنسلين " اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها " الريم " تتكون في أماكن استخدام الماء ، وكان يشتكي عينه ، فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما مصادفة ، لاحظ أن عينه قد برئت ، فبحث في هذه المسألة حتى توصل إلى هذا الدواء . إلى غير ذلك من الآيات والعجائب في كون الله ، التي يغفل عنها الخلق ، ويمرون عليها وهم معرضون .

أما هؤلاء العلماء الذين أثروا حياة البشرية بنظرتهم الثاقبة ، فقد استخدموا عقولهم في المادة التي خلقها الله ، ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم ؛ لأن الحق سبحانه حينما استخلف الإنسان في الأرض أعد له كل متطلبات حياته ، وضمن له في الكون جنوداً إن أعمل عقله وطاقته يستطيع أن يستفيد منها ، وبعد ذلك طلب منه أن يعمر الأرض : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . . " 61 " }( سورة هود ) : والاستعمار أن تجعلها عامرة ، وهذا الإعمار يحتاج إلى مجهود ، وإلى مواهب متعددة تتكاتف ، فلا تستقيم الأمور إن كان هذا يبني وهذا يهدم ، إذن : لابد أن تنظم حركة الحياة تنظيماً يجعل المواهب في الكون تتساند ولا تتعاند ، وتتعاضد ولا تتعارض .

ولا يضمن لنا هذا التنظيم إلا منهج من السماء ينزل بالتي هي أقوم ، وأحكم ، وأعدل ، كما قال تعالى في آية أخرى : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . . " 17 " } ( سورة الشورى ) .

وإن كان الحق سبحانه وتعالى قد دعانا إلى النظر في ظواهر الكون ، والتدبر في آيات الله في كونه ، والبحث فيها لنصل إلى أسرار ما غيب عنا ، فإنه سبحانه نهانا أن نفعل هذا مع بعضنا البعض ، فقد حرم علينا التجسس وتتبع العورات ، والبحث في أسرار الآخرين وغيبهم .

وفي هذا الأدب الإلهي رحمة بالخلق جميعاً ؛ لأن الله تعالى يريد أن يثري حياة الناس في الكون ، وهب أن إنساناً له حسنات كثيرة ، وعنده مواهب متعددة ، ولكن له سيئة واحدة لا يستطيع التخلي عنها ، فلو تتبعت هذه السيئة الواحد فربما أزهدتك في كل حسناته ، حرمتك الانتفاع به ، والاستفادة من مواهبه ، أما لو تغاضيت عن هذه السيئة فيه لأمكنك الانتفاع به . وهب أن صانعاً بارعاً في صنعته وقد احتجته ليؤدي لك عملاً ، فإذا عرفت عنه ارتكاب معصية ما ، أو اشتهر عنه سيئة ما لأزهدك هذا في صنعته ومهارته ، ولرغبت عنه إلى غيره ، وإن كان أقل منه مهارة .

وهذا قانون عام للحق سبحانه وتعالى ، فالذي نهاك عن تتبع غيب الناس ، والبحث عن أسرارهم نهاهم أيضاً عن تتبع غيبك والبحث عن أسرارك ؛ ولذلك ما أنعم الله على عبيده نعمة أعظم من حفظ الغيب عنده هو ؛ لأنه رب ، أما البشر فليس فيهم ربوبية ، أمر البشر قائم على العبودية ، فإذا انكشف لأحدهم غيب أخيه أو عيب من عيوبه أذاعه وفضحه به .

إذن : فالحق تبارك وتعالى يدعونا إلى أن نكون طلعة في استنباط أسرار الكون والبحث عن غيبه ، وفي الوقت نفسه ينهانا أن نكون طلعة في تتبع أسرار الناس والبحث عن غيبهم ؛ لأنك إن تتبعت غيب الناس والتمست عيوبهم حرمت نفسك من مصادر يمكن أن تنتفع بها .

فالحق سبحانه يريد في الكون حركة متبادلة ، وهذه الحركة المتبادلة لا تنشأ إلا بوجود نوع من التنافس الشريف البناء ، التنافس الذي يثري الحياة ، ولا يثير شراسة الاحتكاك ، كما قال تعالى :

{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " 26 " } ( سورة المطففين ) . كما يتنافس طالب العلم مع زميله المجد ليكون مثله أو افضل منه ، وكأن الحق سبحانه يعطينا حافزاً للعمل والرقي ، فالتنافس المقصود ليس تنافس الغل والحقد والكراهية ، بل تنافس من يحب للناس ما يحب لنفسه ، تنافس من لا يشمت لفشل الآخرين .

وقد يجد الإنسان هذا الحافز للمنافسة حتى في عدوه ، ونحن نرى الكثير منا يغضب وتثار حفيظته إن كان له عدو ، ويراه مصدر شر وأذى ، ويتوقع منه المكروه باستمرار . وهو مع ذلك لو استغل حكمة الله في إيجاد هذا العدو لا تنفع به انتفاعاً لا يجده في الصديق ، لأن صديقك قد ينافقك أو يداهنك أو يخدعك .

أما عدوك فهو لك بالمرصاد ، يتتبع سقطاتك ، ويبحث عن عيوبك ، وينتظر منك كبوة ليذيعها ويسمع بك ، فيحملك هذا من عدوك على الاستقامة والبعد عما يشين . ومن ناحية أخرى تخاف أن يسبقك إلى الخير ، فتجتهد أنت في الخير حتى لا يسبقك إليه .

وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى :

عداي لهم فضل علي ومنة**** فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها**** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

وهكذا نجد لكل شيء في منهج الله فائدة ، حتى في الأعداء ، ونجد في هذا التنافس المثمر الذي يثري حركة الحياة دليلاً على أن منهج السماء هو الأقوم والأنسب لتنظيم حركة الحياة .

أيضاً لكي يعيش المجتمع آمناً سالماً لابد له من قانون يحفظ توازنه ، قانون يحمي الضعيف من بطش القوي ، فجاء منهج الله تعالى ليقنن لكل جريمة عقوبتها ، ويضمن لصاحب الحق حقه ، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً للعفو والتسامح بين الناس .

ثم حذر القوي أن تطغيه قوته ، وتدعوه إلى ظلم الضعيف ، وذكره أن قوته ليست ذاتية فيه ، بل هي عرض سوف يزول وسوف تتبدل قوته في يوم ما إلى ضعف يحتاج معه إلى العون والمساعدة والحماية .

وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا : أنا أحمي الضعيف من قوتك الآن ، لأحمي ضعفك من قوة غيرك غداً . أليس في هذا كله ما هو أقوم ؟

ونقف على جانب آخر من جوانب هذه القوامة لمنهج الله في مجال الإنفاق ، وتصرف المرء في ماله ، والمتأمل في هذا المنهج الأقوم يجده يختار لنا طريقاً وسطاً قاصداً لا تبذير فيه ولا تقتير .

ولاشك أن الإنسان بطبعه يحب أن يثري حياته ، وأن يرتقي بها ، ويتمتع بترفها ، ولا يتاح له ذلك إن كان مبذراً لا يبقي من دخله على شيء ، بل لابد له من الاعتدال في الإنفاق حتى يجد في جعبته ما يمكنه أن يثري حياته ويرتقي بها ويوفر لأسرته كماليات الحياة ، فضلاً عن ضرورياتها .

جاء هذا المنهج الأقوم في قول الحق تبارك وتعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " 67 " }( سورة الفرقان ) .

وفي قوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " 29 " } ( سورة الإسراء ) : فللإنسان في حياته طموحات تتتابع ولا تنتهي ، خاصة في عصر كثرت فيه المغريات ، فإن وصل إلى هدف تطلع لما هو اكبر منه ، فعليه إذن ألا يبدد كل طاقته ، وينفق جميع دخله .

وكما نهى الإسلام عن التبذير نهى أيضاً عن البخل والإمساك ؛ لأن البخل مذموم ، والبخيل مكروه من أهله وأولاده ، كما أن البخل سبب من أسباب الركود والبطالة والكساد التي تصيب المجتمع ، فالممسك لا يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء ، فيسهم ببخله في تفاقم هذه المشاكل ، ويكون عنصراً خاملاً يشقى به مجتمع .

إذن : فالتبذير والإمساك كلاهما طرف مذموم ، والخير في أوسط الأمور ، وهذا هو الأقوم الذي ارتضاته لنا المنهج الإلهي .

وكذلك في مجال المأكل والمشرب ، يرسم لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلامته وصحته ، ويحميه من أمراض الطعام والتخمة ، قال تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " 31 " } ( سورة الأعراف ) : فقد علمنا الإسلام أن الإنسان إذا أكل وشرب على قدر طاقته الوقود الذي يحتاجه جسمه لا يشتكي ما يشتكيه أصحاب الإسراف في المأكل والمشرب .

والمتأمل في حال هؤلاء الذين يأكلون كل ما لذل وطاب ، ولا يحرمون أنفسهم مما تشتهيه ، حتى وإن كان ضاراً ، نرى هؤلاء عند كبرهم وتقدم السن بهم يحرمون بأمر الطبيب من تناول هذه الملذات ، فترى في بيوت الأعيان الخادم يأكل أطيب الطعام ويتمتع بخير سيده ، في حين يأكل سيده أنواعاً محددة لا يتجاوزها ، ونقول له : لأنك أكلتها وأسرفت فيها في بداية الأمر ، فلابد أن تحرم منها الآن .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " كلوا واشربوا ولا تصدقوا ، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " > ، وأيضاً من أسباب السلامة التي رسمها لنا المنهج القرآني ، ألا يأكل الإنسان إلا على جوع ، فالطعام على الطعام يرهق المعدة ، ويجر على صاحبه العطب والأمراض ، ونلاحظ أن الإنسان يجد لذة الطعام وحلاوته إذا أكل بعد جوع ، فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان الخبز الجاف .

وهكذا نجد المنهج الإلهي يرسم لنا الطريق الأقوم الذي يضمن لنا سلامة الحياة واستقامتها ، فلو تدبرت هذا المنهج لوجدته في أي جانب من جوانب الحياة هو الأقوم والأنسب . في العقائد ، في العبادات ، في الأخلاق الاجتماعية العامة ، في العادات والمعاملات ، إنه منهج ينتظم الحياة كلها ، كما قال الحق سبحانه : { ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ " 38 " } ( سورة الأنعام ) : هذا المنهج الإلهي هو أقوم المناهج وأصلحها ؛ لأنه منهج الخالق سبحانه الذي يعلم من خلق ، ويعلم ما يصلحهم ، كما قلنا سابقاً : إن الصانع من البشر يعلم صنعته ، ويضع لها من تعليمات التشغيل والصيانة ما يضمن لها سلامة الأداء وأمن الاستعمال .

فإذا ما استعملت الآلة حسب قانون صانعها أدت مهمتها بدقة ، وسلمت من الأعطال ، فالذي خلق الإنسان أعلم بقانون صيانته ، فيقول له : افعل كذا ولا تفعل كذا : { إن ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " 14 " } ( سورة الملك ) : فآفة الناس في الدنيا أنهم وهم صنعة الحق سبحانه يتركون قانونه ، ويأخذون قانون صيانتهم من أمثالهم ، وهي قوانين وضعية قاصرة لا تسمو بحال من الأحوال إلى قانون الحق سبحانه ، بل لا وجه للمقارنة بينهما . إذن : لا تستقيم الحياة إلا بمنهج الله عز وجل . ثم يقول تعالى : { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا " 9 " } ( سورة الإسراء ) .

فالمنفذ لهذا المنهج الإلهي يتمتع باستقامة الحياة وسلامتها ، وينعم بالأمن الإيماني ، وهذه نعمة في الدنيا ، وإن كانت وحدها لكانت كافية ، لكن الحق سبحانه وتعالى يبشرنا بما هو أعظم منها ، وبما ينتظرنا من نعيم الآخرة وجزائها ، فجمع لنا ربنا تبارك وتعالى نعيمي الدنيا والآخرة . نعيم الدنيا لأنك سرت فيها على منهج معتدل ونظام دقيق ، يضمن لك فيها الاستقامة والسلام والتعايش الآمن مع الخلق . ومن ذلك قول الحق سبحانه : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " 38 " }( سورة البقرة ) .

وقوله تعالى في آية أخرى : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " 123 " }( سورة طه ) .

ويقول تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " 97 " } ( سورة النحل ) ، وفي الجانب المقابل يقول الحق سبحانه : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " 124 " قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا " 125 " قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " 126 " } ( سورة طه ) : فكما أن الحق تبارك وتعالى جمع لعباده الصالحين السائرين على منهجه خيري الدنيا والآخرة ، ففي المقابل جمع لأعدائه المعرضين عن منهجه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، لا ظلماً منه ، فهو سبحانه منزه عن الظلم والجور ، بل عدلاً وقسطاً بما نسوا آيات الله وانصرفوا عنها . ومعنى : { يعملون الصالحات . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : وعمل الصالحات يكون بأن تزيد الصالح صلاحاً ، أو على الأقل تبقي الصالح على صلاحه ، ولا تتدخل فيه بما يفسده . وقوله : { أن لهم أجرا كبيرا " 9 " } ( سورة الإسراء ) : نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وصف الأجر بأنه كبير ، ولم يأت بصيغة افعل التفضيل منها ( اكبر ) ، فنقول : لأن كبير هنا أبلغ من اكبر ، فكبير مقابلها صغير ، فوصف الأجر بأنه كبير يدل على أن غيره أصغر منه ، وفي هذا دلالة على عظم الأجر من الله تعالى . أما لو قال : اكبر فغيره كبير ، إذن : فاختيار القرآن أبلغ وأحكم .

كما قلنا سابقاً : إن من أسماء الحق تبارك وتعالى ( الكبير ) ، وليس من أسمائه اكبر ، إنما هي وصف له سبحانه . ذلك لأن ( الكبير )كل ما عداه صغير ، أما ( اكبر )فيقابلها كبير . ومن هنا كان نداء الصلاة ( الله اكبر )معناه أن الصلاة وفرض الله علينا اكبر من أي عمل دنيوي ، وهذا يعني أن من أعمال الدنيا ما هو كبير ، كبير من حيث هو معين على الآخرة .

فعبادة الله تحتاج إلى طعام وشراب وإلى ملبس ، والمتأمل في هذه القضية يجد أن حركة الحياة كلها تخدم عمل الآخرة ، ومن هنا كان عمل الدنيا كبيراً ، لكن فرض الله اكبر من كل كبير . ولأهمية العمل الدنيوي في حياة المسلم يقول تعالى عن صلاة الجمعة : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " 9 " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " 10 " } ( سورة الجمعة ) .

والمتأمل في هذه الآيات يجد الحق تبارك وتعالى أمرنا قبل الجمعة أن نترك البيع ، واختار البيع دون غيره من الأعمال ؛ لأنه الصفقة السريعة الربح ، وهي أيضاً الصورة النهائية لمعظم الأعمال ، كما أن البائع يحب دائماً البيع ، ويحرص عليه ، بخلاف المشتري الذي ربما يشتري وهو كاره ، فتجده غير حريص على الشراء ؛ لأنه إذا لم يشتر اليوم سيشتري غداً .

إذن : فالحق سبحانه حينما يأمرنا بترك البيع ، فترك غيره من الأعمال أولى . فإن ما قضيت الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض ، فأخرجنا للقائه سبحانه في بيته من عمل ، وأمرنا بعد الصلاة بالعمل .

إذن : فالعمل وحركة الحياة ( كبير ) ، ولكن نداء ربك ( اكبر )من حركة الحياة ؛ لأن نداء ربك هو الذي سيمنحك القوة والطاقة ، ويعطيك الشحنة الإيمانية ، فتقبل على عملك بهمة وإخلاص .

وَأَنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا١٠

وهذه الآية امتداد للآية السابقة ، ومعطوفة عليها ؛ لأن الله تعالى ذكر فعلاً واحداً : { ويبشر . . " 9 " }

( سورة الإسراء ) ، ثم عطف عليه : { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة . . " 10 " } ( سورة الإسراء ) : إذن : فالآية داخلة في البشارة السابقة ، ولكن كيف ذلك ، والبشارة السابقة تبشر المؤمنين بأن لهم أجراً كبيراً ، والبشارة إخبار بخير يأتي في المستقبل ، فكيف تكون البشارة بالعذاب ؟

قالوا : نعم ، هذه بشارة على سبيل التهكم والاستهزاء بهم ، كما قال تعالى في آية أخرى : { فبشرهم بعذاب أليمٍ " 34 " } ( سورة التوبة ) .

وكما قال الحق سبحانه متهكماً : { ذق إنك أنت العزيز الكريم " 49 " }( سورة الدخان ) : وكما تقول للولد الذي أهمل فأخفق في الامتحان : مبروك عليك الفشل ، أو تقول : بشر فلاناً بالرسوب . وقد تكون البشارة للمؤمن بالجنة ، وللكافر بالعذاب ، كلاهما بشارة للمؤمن ، فبشارة المؤمن بالجنة تسره وتسعده ، وتجعله يستشرف ما ينتظره من نعيم الله في الآخرة .

وبشارة الكافر بالعذاب تسر المؤمن ؛ لأنه لم يقع في مصيدة الكفر ، وتزجر من لم يقع فيه وتخيفه ، وهذا رحمة به وإحسان إليه . وهذا المعنى واضح في قول الحق سبحانه في سورة الرحمن :

{ رب المشرقين ورب المغربين " 17 " فبأي آلاء ربكما تكذبان " 18 " مرج البحرين يلتقيان " 19 " بينهما برزخ لا يبغيان " 20 " فبأي آلاء ربكما تكذبان " 21 " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " 22 " فبأي آلاء ربكما تكذبان " 23 " وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام " 24 " فبأي آلاء ربكما تكذبان " 25 " }

( سورة الرحمن ) : فهذه كلها نعم من نعم الله تعالى علينا ، فناسب أن تذيل بقوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان " 18 " } ( سورة الرحمن ) .

أما قوله تعالى : { يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران " 35 " فبأي آلاء ربكما تكذبان " 36 " }( سورة الرحمن ) : فأي نعمة في أن يرسل الله عليهما شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران ؟ نعم ، المتأمل في هذه الآية يجد فيها نعمة من أعظم نعم الله ، ألا وهي زجر العاصي عن المعصية ، ومسرة للطائع .

وَيَدۡعُ ٱلۡإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلۡخَيۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ عَجُولٗا١١

( يدع )الدعاء : طلب ما تعجز عنه قادر عليه . وأهل النحو يقولون . إن الفعل : ماضٍ ومضارع وأمر . فالأمر : طلب من الأعلى إلى الأدنى ، فكل طلب من الله لخلقه فهو أمر ، أو من الأعلى من البشر للأدنى . أما إن كان الطلب من مساوٍ لك فهو التماس أو رجاء . فإن كان الطلب من الأدنى للأعلى ، كطلب العبد من ربه فهو دعاء .

لذلك نجد التدقيق في الإعراب يحفظ لله تعالى مكانته ويعظمه ، فنقول للطالب : أعرب : رب اغفر لي ، فيقول : اغفر ، فعل دال على الدعاء ، لأنه لا يجوز في حق المولى تبارك وتعالى أن نقول : فعل أمر ، فالله لا يأمره أحد .

فأول ما يفهم من الدعاء أنه دل على صفة العجز والضعف في العبد ، وأنه قد اندكت فيه ثورة الغرور ، فعلم أنه لا يقدر على هذا إلا الله فتوجه إليه بالدعاء .

( بالشر )بالمكروه ، والإنسان لا يدعو على نفسه ، أو على ولده ، أو على ماله بالشر إلا في حالة الحنق والغضب وضيق الأخلاق ، الذي يخرج الإنسان عن طبيعته ، ويفقده التمييز ، فيتسرع في الدعاء بالشر ، ويتمنى أن ينفذ الله له ما دعا به .

ومن رحمة الله تعالى بعباده ألا يستجيب لهم هذا الدعاء الذي إن دل فإنما يدل على حمق وغباء من العبد .

وكثيراً ما نسمع أماً تدعو على ولدها بما لو استجاب الله له لكانت قاصمة الظهر لها ، أو نسمع أباً يدعو على ولده أو على ماله ، إذن : فمن رحمة الله بنا أن يفوت لنا هذا الحمق ، ولا ينفذ لنا ما تعجلناه من دعاءٍ بالشر . قال تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم . . " 11 " } ( سورة يونس ) : أي : لو استجاب الله لهم في دعائهم بالشر لكانت نهايتهم . وإن كنت تسر وتسعد بأن ربك سبحانه وتعالى فوت لك دعوة بالشر فلم يستجب لها ، وأن لعدم استجابته سبحانه لحكمة بالغة . فاعلم أن لله حكمة أيضاً حينما لا يستجيب لك في دعوة الخير ، فلا تقل : دعوت فلم يستجب لي ، واعلم أن لله حكمة في أن يمنعك خيراً تريده ، ولعله لو أعطاك هذا الخير لكان وبالاً عليك .

إذن : عليك أن تقيس الأمرين بمقياس واحد ، وترضى بأمر الله في دعائك بالخير ، كما رضيت بأمره حين صرف عنك دعاء الشر ، ولم يستجب لك فيه . فكما أن له سبحانه حكمة في الأولى ، فله حكمة في الثانية .

وقد دعا الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم ، فقالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء . . " 32 " } ( سورة الأنفال ) ، وقالوا : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " 92 " } ( سورة الإسراء ) : ولو استجاب الله لهم هذا الدعاء لقضى عليهم ، وقطع دابرهم ، لكن لله تعالى حكمة في تفويت هذا الدعاء لهؤلاء الحمقى ، وهاهم الكفار باقون حتى اليوم ، وإلى أن تقوم الساعة .

وكان المنتظر منهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ، لكن المسألة عندهم ليست مسألة كفر وإيمان ، بل مسألة كراهية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء به ، بدليل أنهم قبلوا الموت في سبيل الكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم . ومن طبيعة الإنسان العجلة والتسرع ، كما قال تعالى : { خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون " 37 " } ( سورة الأنبياء ) : فكثيراً ما يدعو الإنسان بالخير لنفسه أو بما يراه خيراً ، فلا يجد وراءه إلا الشر والتعب والشقاء ، وفي المقابل قد ينزل الله بك ما تظنه شراً ، ويسوق الله الخير من خلاله .

إذن : أنت لا تعلم وجه الخير على حقيقته ، فدع الأمر لربك عز وجل ، واجعل حظك من دعائك لا أن تجاب إلى ما دعوت ، ولكن أن تظهر ضراعة عبوديتك لعزة ربك سبحانه وتعالى .

ومعنى : { دعاءه بالخير . . " 11 " } ( سورة الإسراء ) .

وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا١٢

الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلاً ونهاراً ظرفاً للأحداث ، وجعل لكل منهما مهمة لا تتأتى مع الآخر ، فهما متقابلان لا متضادان ، فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل ؛ لأن لكل منهما مهمة ، والتقابل يجعلهما متكاملين .

ولذلك أراد الله تعالى أن ينظر بالليل والنهار في جنس الإنسان من الذكورة والأنوثة ، فهما أيضاً متكاملان لا متضادان ، حتى لا تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة ، كما نرى البعض من الجنسين يتعصب لجنسه تعصباً أعمى خالياً من فهم طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى .

فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة ، أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به ، وإياك أن تخلط بين هذه وهذه . وتأمل قول الحق سبحانه : { والليل إذا يغشى " 1 " والنهار إذا تجلى " 2 " وما خلق الذكر والأنثى " 3 " إن سعيكم لشتى " 4 " }( سورة الليل ) : فلا تجعل الليل ضداً للنهار ، ولا النهار ضداً لليل ، وكذلك لا تجعل الذكورة ضداً للأنوثة ، ولا الأنوثة ضداً للذكورة . قوله تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آيتين . . " 12 " } ( سورة الإسراء ) : جعلنا : بمعنى خلقنا ، والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة ، ومعرفتنا هذه أوضح من أن نعرفهما ، فنقول مثلاً : الليل هو مغيب الشمس عن نصف الكرة الأرضية ، والنهار هو شروق الشمس على نصف الكرة الأرضية .

إذن : قد يكون الشي أوضح من تعريفه . والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار ، وجعل لكل منهما حكمة ومهمة ، وحينما يتحدث عنهما ، يقول تعالى : { والضحى " 1 " والليل إذا سجى " 2 " } ( سورة الضحى ) .

ويقول : { والليل إذا يغشى " 1 " والنهار إذا تجلى " 2 " } ( سورة الليل ) ، ومرة يتحدث عن اللازم لهما ، فيقول : { وجعل الظلمات والنور " 1 " }( سورة الأنعام ) : لأن الحكمة من الليل تكمن في ظلمته ، والحكمة من النهار تكمن في نوره ، فالظلمة سكن واستقرار وراحة . وفي الليل تهدأ الأعصاب من الأشعة والضوء ، ويأخذ البدن راحته ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " .

في حين نرى الكثيرين يظنون أن الأضواء المبهرة التي نراها الآن مظهر حضاري ، وهم غافلون عن الحكمة من الليل ، وهي ظلمته .

والنور للحركة والعمل والسعي ، فمن ارتاح في الليل يصبح نشيطاً للعمل ، ولا يعمل الإنسان إلا إذا أخذ طاقة جديدة ، وارتاحت أعضاؤه ، ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل . لذلك قال الحق سبحانه : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار . . " 73 " } ( سورة القصص ) : لماذا ؟ { لتسكنوا فيه . . " 73 " }

( سورة القصص ) : أي : في الليل . { ولتبتغوا من فضله . . " 73 " } ( سورة القصص ) : أي : في النهار .

إذن : لليل مهمة ، وللنهار مهمة ، وإياك أن تخلط هذه بهذه ، وإذا ما وجد عمل لا يؤدي إلا بالليل كالحراسة مثلاً ، نجد الحق سبحانه يفتح لنا باباً لنخرج من هذه القاعدة العامة . فيقول تعالى : { ومن آياته منامكم بالليل والنهار . . " 23 " }( سورة الروم ) : فجعل النهار أيضاً محلاً للنوم ، فأعطانا فسحة ورخصة ، ولكن في أضيق نطاق ، فمن لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل ، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا .

فإذا النهار أيضاً محلاً للنوم ، فأعطانا فسحة ورخصة ، ولكن في أضيق نطاق ، فمن لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل ، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا .

فإذا خرج الإنسان عن هذه القاعدة ، وتمرد على هذا النظام الإلهي ، فإن الحق سبحانه يردعه بما يكبح جماحه ، ويحميه من إسرافه على نفسه ، وهذا من لطفه تعالى ورحمته بخلقه .

هذا الردع إما ردع ذاتي اختياري ، وإما ردع قهري الردع الذاتي يحدث للإنسان حينما يسعى في حركة الحياة ويعمل ، فيحتاج إلى طاقة ، هذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه ، فإن زادت الحركة عن طاقة الإنسان يلهث وتتلاحق أنفاسه ، وتبدو عليه أمارات التعب والإرهاق ، لأن الدم المتوارد إلى رئته لا يكفي هذه الحركة .

وهذا نلاحظه مثلاً في صعود السلم ، حيث حركة الصعود مناقضة لجاذبية الأرض لك ، فتحتاج إلى قوة أكثر ، وإلى دم أكثر وتنفس فوق التنفس العادي .

فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراحة رادعاً ذاتياً في الإنسان ، إذا ما تجاوز حد الطاقة التي جعلها الله فيه .

أما الردع القهري فهو النوم ، يلقيه الله على الإنسان إذا ما كابر وغالط نفسه ، وظن أنه قادر على مزيد من العمل دون راحة ، فهنا يأتي دور الرادع القسري ، فينام رغماً عنه ولا يستطيع المقاومة ، وكأن الطبيعة التي خلقها الله فيه تقول له : ارحم نفسك ، فإنك لم تعد صالحاً للعمل .

فالحق تبارك وتعالى لا يسلم الإنسان لاختياره ، بل يلقي عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه من حماقته وإسرافه على نفسه .

لذلك نرى الواحد منا إذا ما تعرض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلاً ، لابد له بعد أن ينتهي من مهمته هذه أن ينام مثل هذه المدة التي سهرها ؛ ليأخذ الجسم حقه من الراحة التي حرم منها . وقوله تعالى : { آيتين . . " 12 " } ( سورة الإسراء ) : قلنا : إن الآية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل ، ويظهر قدرة الخالق وعظمته سبحانه ، والآية تطلق على ثلاثة أشياء :

تطلق على الآيات الكونية التي خلقها الله في كونه وأبدعها ، وهذه الآيات الكونية يلتقي بها المؤمن والكافر ، ومنها كما قال تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . . " 37 " } ( سورة فصلت ) ، { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام " 32 " } ( سورة الشورى ) : وهذه الآيات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى .

وتطلق الآيات على المعجزات التي تصاحب الرسل ، وتكون دليلاً على صدقهم ، فكل رسول يبعث ليحمل رسالة الخالق لهداية الخلق ، لابد أن يأتي بدليل على صدقه وأمارة على أنه رسول .

وهذه هي المعجزة ، وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا ؛ لتكون أوضح في إعجازهم وأدعى إلى تصديقهم . قال تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . . " 59 " } ( سورةالإسراء )

وتطلق الآيات على آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام .

إذن : هذه أنواع ثلاثة في كل منها عجائب تدعوك للتأمل ، ففي الأولى : هندسة الكون ونظامه العجيب البديع الدقيق ، وفي الثانية : آيات الإعجاز ، حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم ، ومع ذلك لم يستطيعوا الإتيان بمثله ، وفي الثالثة : آيات القرآن وحاملة الأحكام ؛ لأنها أقوم نظام لحركة الحياة .

فقول الحق سبحانه : { وجعلنا الليل والنهار آيتين . . " 12 " }( سورة الإسراء ) : أي : كونيتين ، ولا مانع أن تفسر الآيات الكونية آيات القرآن . وقوله : { فمحونا آية الليل . . " 12 " } ( سورة الإسراء ) : أي : بعد أن كان الضوء غابت الشمس فحل الظلام ، أو محوناها : أي جعلناها هكذا ، كما قلنا : سبحان من بيض اللبن . أي خلقه هكذا ، فيكون المراد : خلق الليل هكذا مظلماً .

{ وجعلنا آية النهار مبصرة . . " 12 " } ( سورة الإسراء ) : أي : خلقنا النهار مضيئاً ، ومعنى مبصرة أو مضيئة أي : نرى بها الأشياء ؛ لأن الأشياء لا ترى في الظلام ، فإذا حل الضياء والنور رأيناها ، وعلى هذا كان ينبغي أن يقول : وجعلنا آية النهار مبصراً فيها ، وليست هي مبصرة .

وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون : { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة . . " 13 " } ( سورة النمل ) : فنسب البصر إلى الآيات ، كما نسب البصر هنا إلى النهار .

وهذه مسألة حيرت الباحثين في فلسفة الكون وظواهره ، فكانوا يظنون أنك ترى الأشياء إذا انتقل الشعاع من عينك إلى المرئي فتراه . إلى أن جاء العالم الإسلامي " ابن الهيثم " الذي نور الله بصيرته ، وهداه إلى سر رؤية الأشياء ، فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ ، فلو أن الشعاع ينتقل من العين إلى المرئي لأمكنك أن ترى الأشياء في الظلمة إذا كنت في الضوء .

إذن : الشعاع لا يأتي من العين ، بل من الشيء المرئي ، ولذلك نرى الأشياء إن كانت في الضوء ، ولا نراها إن كانت في الظلام .

وعليه يكون الشيء المرئي هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك ، ويساعدك على رؤيته ، ولذلك نقول : هذا شيء يلفت النظر أي : يرسل إليك ما يجعلك تلتفت إليه .

إذن : التعبير القرآني : { وجعلنا آية النهار مبصرة . . " 12 " }( سورة الإسراء ) : على مستوى عال من الدقة والإعجاز ، وصدق الله تعالى حين قال : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . . " 53 " }( سورة فصلت ) .

وقوله تعالى : { لتبتغوا فضلاً من ربكم . . " 12 " } ( سورة الإسراء ) : وهذه هي العلة الأولى لآية الليل والنهار . أي : أن السعي وطلب الرزق لا يكون إلا في النهار ؛ لذلك أتى طلب فضل الله ورزقه بعد آية النهار ، ومعلوم أن الإنسان لا تكون له حركة نشاطية وإقبال على السعي والعمل إلا إذا كان مرتاحاً ولا تتوفر له الراحة إلا بنوم الليل .

وبهذا نجد في الآية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالى : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله . . " 73 " } ( سورة القصص ) : فالترتيب في الآية يقتضي أن نقول : { لتسكنوا فيه . . " 73 " }( سورة القصص ) : أي : في الليل .

{ ولتبتغوا من فضله . . " 73 " } ( سورة القصص ) : أي : في النهار ، وعمل النهار لا يتم إلا براحة الليل ، فهما إذن متكاملان .

والحق سبحانه وتعالى جعل النهار محلاً للحركة وابتغاء فضل الله ؛ لأن الحركة أمر مادي وتفاعل مادي بين الإنسان ومادة الكون من حوله ، كالفلاح وتفاعله مع أرضه ، والعامل تفاعله مع آلته .

هذا التفاعل المادي لا يتم إلا في ضوء ؛ لأن الظلمة تغطي الأشياء وتعميها ، وهذا يتناسب مع الليل حيث ينام الناس ، أما في السعي والحركة فلابد من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل له ، ففي الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك ، أو بما هو أضعف منك فتحطمه .

إذن : فأول خطوات ابتغاء فضل الله أن يتبين الإنسان المادة التي يتفاعل معها . لذلك ، فالحق سبحانه جعل الظلمة سابقة للضياء . فقال تعالى : { وجعل الظلمات والنور . . " 1 " } ( سورة الأنعام ) : لأن النور محل للحركة ، ولا يمكن للإنسان أن يعمل إلا بعد راحة ، والراحة لا تكون إلا في ظلمة الليل . وقوله تعالى : { ولتعلموا عدد السنين والحساب . . " 12 " } ( سورة الإسراء ) : وهذه هي العلة الأخرى لليل والنهار ، حيث بمرورهما يتم حساب السنين . وكلمة " عدد " تقتضي شيئاً له وحدات ، ونريد أن نعرف كمية هذه الوحدات ؛ لأن الشيء إن لم تكن له كميات متكررة فهو واحد . وقوله : { السنين والحساب . . " 12 " } ( سورة الإسراء ) : لأنها من لوازم حركتنا في الحياة ، فعن طريق حساب الأيام نستطيع تحديد وقت الزراعات المختلفة ، أو وقت سقوط المطر ، أو هبوب الرياح . وفي العبادات نحدد بها أيام الحج ، وشهر الصوم ، ووقت الصلاة ، ويوم الجمعة ، هذه وغيرها من لوازم حياتنا لا نعرفها إلا بمرور الليل والنهار .

ولو تأملت عظمة الخالق سبحانه لوجدت القمر في الليل ، والشمس في النهار ، ولكل منهما مهمة في حساب الأيام والشهور والسنين ، فالشمس لا تعرف بها إلا اليوم الذي أنت فيه ، حيث يبدأ اليوم بشروقها وينتهي بغروبها ، أما بالقمر فتستطيع حساب الأيام والشهور ؛ لأن الخالق سبحانه جعل فيه علامة ذاتية يتم الحساب على أساسها ، فهو في أول الشهر هلال ، ثم يكبر فيصير إلى تربيع أول ، ثم إلى تربيع ثان ، ثم إلى بدر ، ثم يأخذ في التناقص إلى أن يصل إلى المحاق آخر الشهر .

إذن : نستطيع أن نحدد اليوم بالشمس والشهور بالقمر ، ومن هنا تثبت مواقيت العبادة بالليل دون النهار ، فتثبت رؤية رمضان ليلاً أولاً ، ثم يثبت نهاراً ، فنقول : الليلة أول رمضان ، لذلك قال تعالى :

{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . . " 5 " }

( سورة يونس ) .

فقوله : { وقدره . . " 5 " } ( سورة يونس ) : أي : القمر ؛ لأن به تتبين أوائل الشهور ، وهو أدق نظام حسابي يعتمد عليه حتى الآن عند علماء الفلك وعلماء البحار وغيرهم . و : { منازل . . " 5 " } ( سورة يونس ) : هي البروج الاثنى عشر للقمر التي أقسم الله بها في قوله تعالى : { والسماء ذات البروج " 1 " واليوم الموعود " 2 " وشاهد ومشهود " 3 " }( سورة البروج ) .

ولأن حياة الخلق لا تقوم إلا بحساب الزمن ، فقد جعل الخالق سبحانه في كونه ضوابط تضبط لنا الزمن ، وهذه الضوابط لا تصلح لضبط الوقت إلا إذا كانت هي في نفسها منضبطة ، فمثلاً أنت لا تستطيع أن تضبط مواعيدك على ساعتك إذا كانت غير منضبطة ( تقدم أو تأخر ) ، لذلك يقول الخالق المبدع سبحانه عن ضوابط الوقت في كونه : { الشمس والقمر بحسبانٍ " 5 " } ( سورة الإسراء ) : أي : بحساب دقيق لا يختل ، وطالما أن الخالق سبحانه خلقها بحساب فاجعلوها ضوابط لحساباتكم . وقوله تعالى : { وكل شيءٍ فصلناه تفصيلاً " 12 " } ( سورة الإسراء ) : معنى التفصيل أن تجعل بيناً بين شيئين ، وتقول : فصلت شيئاً عن شيء ، فالحق سبحانه فصل لنا كل ما يحتاج إلى تفصيل ، حتى لا يلتبس علينا الأمر في كل نواحي الحياة .

ومثال ذلك في الوضوء مثلاً يقول سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق . . " 6 " } ( سورة المائدة ) : فأطلق غسل الوجه ؛ لأنه لا يختلف عليه أحد ، وحدد الأيدي إلى المرافق ، لأن الأيدي يختلف في تحديدها ، فاليد قد تكون إلى الرسغ ، أو إلى المرفق ، أو إلى الكتف ، لذلك حددها الله تعالى ، لأنه سبحانه يريدها على شكل مخصوص .

وكذلك في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين . . " 6 " } ( سورة المائدة ) : فالرأس يناسبها المسح لا الغسل ، والرجلان كاليد لابد أن تحدد . فإذا لم يوجد الماء أو تعذر استعماله شرع لنا سبحانه التيمم ، فقال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . . " 43 " } ( سورة النساء ) : والتيمم يقوم مقام الوضوء ، من حيث هو استعداد للصلاة ولقاء الحق سبحانه وتعالى ، وقد يظن البعض أن الحكمة من الوضوء الطهارة والنظافة ، وكذلك التيمم ؛ لذلك يقترح بعضهم أن ننظف أنفسنا بالكولونيا مثلاً .

نقول : ليس المقصود بالوضوء أو التيمم الطهارة أو النظافة ، بل المراد الاستعداد للصلاة وإظهار الطاعة والانصياع لشرع الله تعالى ، وإلا كيف تتم الطهارة أو النظافة بالتراب ؟

هذا الاستعداد للصلاة هو الذي جعل سيدنا علي زين العابدين رضي الله عنه يصفر وجهه عند الوضوء ، وعندما سئل عن ذلك قال : أتعلمون على من أنا مقبل الآن ؟

فللقاء الحق سبحانه وتعالى رهبة يجب أن يعمل لها المؤمن حساباً ، وأن يستعد للصلاة بما شرعه له ربه سبحانه وتعالى .

وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا١٣

كلمة ( طائره )أي : عمله وأصلها أن العرب كانوا في الماضي يزجرون الطير ، أي : إذا أراد أحدهم أن يمضي عملاً يأتي بطائر ثم يطلقه ، فإن مر من اليسار إلى اليمين يسمونه " السانح " ويتفاءلون به ، وإن مر من اليمين إلى اليسار يسمونه " البارح " ويتشاءمون به ، ثم يتهمون الطائر وينسبون إليه العمل ، ولا ذنب له ولا جريرة .

إذن : كانوا يتفاءلون باليمين ، ويتشاءمون باليسار ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ، ولا يحب التشاؤم ؛ لأن الفأل الطيب ينشط أجهزة الجسم انبساطاً للحركة ، أما التشاؤم فيدعو للتراجع والإحجام ، ويقضي على الحركة والتفاعل في الكون .

والحق سبحانه هنا يوضح : لا تقولوا الطائر ولا تتهموه ، بل طائرك أي : عملك في عنقك يلازمك ولا ينفك عنك أبداً ، ولا يسأل عنه غيره ، كما أنه لا يسأل عن عمل الآخرين ، كما قال تعالى : { ولا تزر وازرة أخرى . . " 15 " }( سورة الإسراء ) : فلا تلقي بتبعية أفعالك على الحيوان الذي لا ذنب له . وقوله تعالى : { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " 13 " } ( سورة الإسراء ) : وهو كتاب أعماله الذي سجلته عليه الحفظة الكاتبون ، والذي قال الله عنه : { ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " 49 " } ( سورة الكهف ) : هذا الكتاب سيلقاه يوم القيامة منشوراً . أي : مفتوحاً معداً للقراءة .

ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا١٤

الحق تبارك وتعالى يصور لنا موقفاً من مواقف يوم القيامة ، حيث يقف العبد بين يدي ربه عز وجل ، فيدعوه إلى أن يقرأ كتابه بنفسه ، ليكون هو حجة على نفسه ، ويقر بما اقترف ، والإقرار سيد الأدلة .

فهذا موقف لا مجال فيه للعناد أو المكابرة ، ولا مجال فيه للجدال أو الإنكار ، فإن حدث منه إنكار جعل الله عليه شاهداً من جوارحه ، فينطقها الحق سبحانه بقدرته : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " 24 " } ( سورة النور ) .

ويقول سبحانه : { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ . . " 21 " }

( سورة الإسراء ) : وقد جعل الخالق سبحانه للإنسان سيطرة على جوارحه في الدنيا ، وجعلها خاضعة لإرادته لا تعصيه في خير أو شر ، فبيده يضرب ويعتدي ، وبيده ينفق ويقيل عثرة المحتاج ، وبرجله يسعى إلى بيت الله أو يسعى إلى مجلس الخمر والفساد .

وجوارحه في كل هذا مسخرة طائعة لا تتأبى عليه ، حتى وإن كانت كارهة للفعل ؛ لأنها منقادة لمراداتك ، ففعلها لك ليس دليلاً على الرضى عنك ؛ لأنه قد يكون رضى انقياد .

وقد ضربنا مثلاً لذلك بقائد السرية ، فأمره نافذ على جنوده ، حتى وإن كان خطئاً ، فإذا ما فقد هذا القائد السيطرة وأصبح الجنود أمام القائد الأعلى باحوا له بكل شيء .

كذلك في الدنيا جعل الله للإنسان إرادة على جوارحه ، فلا تتخلف عنه أبداً ، لكنها قد تفعل وهي كارهة وهي لاعنة له ، وهي مبغضة له ولفعله ، فإذا كان يوم القيامة وانحلت من إرادته ، وخرجت من سجن سيطرته ، شهدت عليه بما كان منه . { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " 14 " } ( سورة الإسراء ) : أي : كفانا أن تكون أنت قارئاً وشاهداً على نفسك .

مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا١٥

قوله تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : لأن الحق سبحانه لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، وهو سبحانه الغني عن عباده ، وبصفات كماله وضع منهج الهداية للإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ، وقبل أن يخلقه أعد له مقومات الحياة كلها من أرض وسماء ، وشمس وقمر ، وهواء وجبال ومياه .

فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخلق ، إذن : فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئاً ، كما أن معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء . وهنا قد يسأل سائل : فلماذا التكليفات إذن ؟

نقول : إن التكليف من الله لعباده من أجلهم وفي صالحهم ، لكي تستمر حركة حياتهم ، وتتساند ولا تتعاند ؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجاً نسير عليه ، وهو منهج واجب التنفيذ لأنه من الله ، من الخالق الذي يعلم من خلق ، ويعلم ما يصلحهم وينظم حياتهم ، فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أن تتأبى عليه ، أما منهج الله فلا ينبغي الخروج عليه .

لذلك نسمع في الأمثال الدارجة عند أهل الريف يقولون : الأصبع الذي يقطعه الشرع لا ينزف ، والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك ، فلا اعتراض عليه ، ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا ولم تقعد .

ومن كماله سبحانه وغناه عن الخلق يتحمل عنهم ما يصدر عنهم من أحكام أو تجن أو تقصير ؛ ذلك لأن كل شيء عنده بمقدار ، ولا يقضي أمر في الأرض حتى يقضي في السماء ، فإذا كلفت واحداً بقضاء مصلحة لك ، فقصر في قضائها ، أو رفض ، أو سعى فيها ولم يوفق نجدك غاضباً عليه حانقاً .

وهنا يتحمل الخالق سبحانه عن عباده ، ويعفيهم من هذا الحرج ، ويعلمهم أن الحاجات بميعاد وبقضاء عنده سبحانه ، فلا تلوموا الناس ، فلكل شيء ميلاد ، ولا داعي لأن نسبق الأحداث ، ولننتظر الفرج وقضاء الحوائج من الله تعالى أولاً .

ومن هنا يعلمنا الإسلام قبل أن نعد بعمل شيء لابد أن نسبقه بقولنا : إن شاء الله لنحمي أنفسنا ، ونخرج من دائرة الحرج أو الكذب إذا لم نستطع الوفاء ، فأنا إذن في حماية المشيئة الإلهية إن وفقت فبها ونعمت ، وإن عجزت فإن الحق سبحانه لم يشأ ، وأخرج أنا من أوسع الأبواب .

إذن : تشريعات الله تريد أن تحمي الناس من الناس ، تريد أن تجتث أسباب الضغن على الآخر ، إذا لم تقض حاجتك على يديه ، وكأن الحق سبحانه يقول لك : تمهل فكل شيء وقته ، ولا تظلم الناس ، فإذا ما قضيت حاجتك فاعلم أن الذي كلفته بها ما قضاها لك في الحقيقة ، ولكن صادف سعيه ميلاد قضاء هذه الحاجة ، فجاءت على يديه ، فالخير في الحقيقة من الله ، والناس أسباب لا غير .

وتتضح لنا هذه القضية أكثر من مجال الطب وعلاج المرضى ، فالطبيب سبب ، والشفاء من الله ، وإذا أراد الله لأحد الأطباء التوفيق والقبول عند الناس جعل مجيئه على ميعاد الشفاء فيلتقيان .

ومن هنا نجد بعض الأطباء الواعين لحقيقة الأمر يعترفون بهذه الحقيقة ، فيقول أحدهم : ليس لنا إلا في ( الخضرة ) . والخضرة معناها : الحالة الناجحة التي حان وقت شفائها . وصدق الشاعر حين قال :

والناس يلحون الطبيب وإنما خطأ الطبيب إصابة الأقدار .

فقول الحق تبارك وتعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : أي : لصالح نفسه .

والاهتداء : يعني الالتزام بمنهج الله ، والتزامك عائد عليك ، وكذلك التزام الناس بمنهج الله عائد عليك أيضاً ، وأنت المنتفع في كل الأحوال بهذا المنهج ؛ لذلك حينما ترى شخصاً مستقيماً عليك أن تحمد الله ، وأن تفرح باستقامته ، وإياك أن تهزأ به أو تسخر منه ؛ لأن استقامته ستعود بالخير عليك في حركة حياتك .

وفي المقابل يقول الحق سبحانه : { ومن ضل فإنما يضل عليها . . " 15 " }( سورة الإسراء ) : أي : تعود عليه عاقبة انصرافه عن منهج الله ؛ لأن شر الإنسان في عدم التزامه بمنهج الله يعود عليك ويعود على الناس من حوله ، فيشقى هو بشره ، ويشقى به المجتمع .

ومن العجب أن نرى بعض الحمقى إذا رأى منحرفاً أو سيئ السلوك ينظر إليه نظرة بغض وكراهية ، ويدعو الله عليه ، وهو لا يدري أنه بهذا العمل يزيد الطين بلة ، ويوسع الخرق على الراقع كما يقولون .

فهذا المنحرف في حاجة لمن يدعو الله له بالهداية ، حتى تستريح أولاً من شره ، ثم لتتمتع بخير هدايته ثانياً . أما الدعاء عليه فسوف يزيد من شره ، ويزيد من شقاء المجتمع به .

ومن هذا المنطلق علمنا الإسلام أن من كانت لديه قضية علمية تعود بالخير ، فعليه أن يعديها إلى الناس ؛ لأنك حينما تعدي الخير إلى الناس ستنتفع بأثره فيهم ، فكما انتفعوا هم بآثار خلالك الحميدة ، فيمكنك أنت أيضاً الانتفاع بآثار خلالهم الحميدة إن نقلتها إليهم .

لذلك حرم الإسلام كتم العلم لما يسببه من أضرار على الشخص نفسه وعلى المجتمع . يقول صلى الله عليه وسلم : " من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .

وكذلك من الكمال الذي يدعونا إليه المنهج الإلهي أن يتقن كل صاحب مهنته ، وكل صاحب صنعة صنعته ، فالإنسان في حركة حياته يتقن عملاً واحداً ، لكن حاجاته في الحياة كثيرة ومتعددة .

فالخياط مثلاً الذي يخيط لنا الثياب لا يتقن غير هذه المهنة ، وهو يحتاج في حياته إلى مهن وصناعات كثيرة ، يحتاج إلى : الطبيب والمعلم والمهندس والحداد والنجار والفلاح . . الخ .

فلو أتقن عمله وأخلص فيه لسخر الله له من يتقن له حاجته ، ولو رغماً عنه ، أو عن غير قصد ، أو حتى بالمصادفة .

إذن : من كمالك أن يكون الناس في كمال ، فإن أتقنت عملك فأنت المستفيد حتى إن كان الناس من حولك أشراراً لا يتقنون شيئاً فسوف ييسر الله لهم سبيل إتقان حاجتك ، من حيث لا يريدون ولا يشعرون . وقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : أي : لا يحمل أحد ذنب أحدٍ ، ولا يؤاخذ أحد بجريرة غيره ، وكلمة : { تزر وازرة . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : من الوزر : وهو الحمل الثقيل ، ومنها كلمة الوزير : أي الذي يحمل الأعباء الثقيلة عن الرئيس ، أو الملك أو الأمير . فعدل الله يقتضي أن يحاسب الإنسان بعمله ، وأن يسأل عن نفسه ، فلا يرمي أحد ذنبه على أحد ، كما قال تعالى : { لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . . " 33 " }( سورة لقمان ) : وحول هذه القضية تحدث كثير من المستشرقين الذين يبحثون في القرآن عن مأخذ ، فوقفوا عند هذه الآية : { ولا تزر وازرة وزر أخرى . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : وقالوا : كيف نوفق بينها وبين قوله : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم . . " 13 " } ( سورة العنكبوت ) .

وقوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " 25 " }( سورة النحل ) .

ونقول : التوفيق بين الآية الأولى والآيتين الأخيرتين هين لو فهموا الفرق بين الوزر في الآية الأولى ، والوزر في الآيتين الأخيرتين .

ففي الأولى وزر ذاتي خاص بالإنسان نفسه ، حيث ضل هو في نفسه ، فيجب أن يتحمل وزر ضلاله . أما في الآية الثانية فقد أضل غيره ، فتحمل وزره الخاص به ، وتحمل وزر من أضلهم .

ويوضح لنا هذه القضية الحديث النبوي الشريف : " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " .

وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " 15 " }( سورة الإسراء ) : العذاب : عقوبة على مخالفة ، لكن قبل أن تعاقبني عليها لابد أن تعلمني أن هذه مخالفة أو جريمة ( وهي العمل الذي يكسر سلامة المجتمع ) ، فلا جريمة إلا بنص ينص عليها ويقننها ، ويحدد العقاب عليها ، ثم بعد ذلك يجب الإعلام بها في الجرائد الرسمية لكي يطلع عليها الناس ، وبذلك تقام عليهم الحجة إن خالفوا أو تعرضوا لهذه العقوبة .

لذلك حتى في القانون الوضعي نقول : لا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنص ، ولا نص إلا بإعلام .

فإذا ما اتضحت هذه الأركان في أذهان الناس كان للعقوبة معنى ، وقامت الحجة على المخالفين ، أما أن نعاقب شخصاً على جريمة هو لا يعلم بها ، فله أن يعترض عليك من منطلق هذه الآية .

أما أن يجرم هذا العمل ، ويعلن عنه في الصحف الرسمية ، فلا حجة لمن جهله بعد ذلك ؛ لأن الجهل به بعد الإعلام عنه لا يعفي من العقوبة .

فكأن قول الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " 15 " }( سورة الإسراء ) .

يجمع هذه الأركان السابقة : الجريمة ، والعقوبة ، والنص ، والإعلام ، حيث أرسل الله الرسول يعلم الناس منهج الحق سبحانه ، ويحدد لهم ما جرمه الشرع والعقوبة عليه . لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذير " 24 " } ( سورة فاطر ) . ويقول : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . " 19 " }( سورة المائدة ) .

إذن : قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير صلى الله عليه وسلم . وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا : إن كانت الحجة قد قامت على من آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج الله ؟ وكأنهم يلتمسون له العذر بكفره .

نقول : لقد عرف الإنسان ربه عز وجل أولاً بعقله ، وبما ركبه فيه خالقه سبحانه من ميزان إيماني هو الفطرة ، هذه الفطرة هي المسئولة عن الإيمان بقوة قاهرة وراء الوجود ، وإن لم يأت رسول ، والأمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية :

هب أنك قد انقطعت بك السبل في صحراء واسعة شاسعة لا تجد فيها أثراً لحياة ، وغلبك النوم فنمت ، وعندما استيقظت فوجئت بمائدة منصوبة لك عليها أطايب الطعام والشراب . بالله ألا تفكر في أمرها قبل أن تمتد يدك إليها ؟ ألا تلفت انتباهك وتثير تساؤلاتك عمن أتى بها إليك ؟

وهكذا الإنسان بعقله وفطرته لابد أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً مبدعاً ، ولا يمكن أن يكون هذا النظام العجيب المتقن وليد المصادفة ، وهل عرف آدم ربه بغير هذه الأدوات التي خلقها الله فينا ؟

لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالماً مستوفياً للمقومات والإمكانيات ، وجدنا أمام أعيننا آيات كثيرة دالة على الخالق سبحانه ، كل منها خيط لو تتبعته لأوصلك . خذ مثلاً الشمس التي تنير الكون على بعدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء ، ما تخلفت يوماً ، ولا تأخرت لحظة عن موعدها ، ألا تسترعى هذه الآية الكونية انتباهك ؟

وقد سبق أن ضربنا مثلاً ب " أديسون " الذي اكتشف الكهرباء ، وكم أخذ من الاهتمام والدراسة في حين أن الإضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال ، وهي عرضة للأعطال ومصدر للأخطار ، فما بالنا نغفل عن آية الإضاءة الربانية التي لا تحتاج إلى مجهود أو أموال أو صيانة أو خلافه ؟

والعربي القح الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى بعر البعير وآثار الأقدام استدل بالأثر على صاحبه ، فقال في بساطة العرب : البعرة تدل على البعير ، والقدم تدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟

إذن : بالفطرة التكوينية التي جعلها الله في الإنسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً ، وإن لم يعرف من هو ، مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون .

وحينما يأتي رسول من عند الله يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه ، ويدله على ربه وخالقه ، وإن هذه القوة الخفية التي حيرتك هي ( الله )خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومن فيه .

وهو سبحانه واحد لا شريك له ، شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو ولم يعارضه أحد ولم يدع أحد أنه إله مع الله ، وبذلك سلمت له سبحانه هذه الدعوى ؛ لأن صاحب الدعوة حين يدعيها تسلم له إذا لم يوجد معارض لها .

وهذه الفطرة الإيمانية في الإنسان هي التي عناها الحق سبحانه في قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى . . " 172 " }( سورة

الأعراف ) : وهذا هو العهد الإلهي الذي أخذه الله على خلقه وهم في مرحلة الذر ، حيث كانوا جميعاً في آدم عليه السلام فالأنسال كلها تعود إليه ، وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم ، هذه الذرة هي التي شهدت هذا العهد ، وأقرت أنه لا إله إلا الله ، ثم ذابت هذه الشهادة في فطرة كل إنسان ؛ لذلك نسميها الفطرة الإيمانية .

ونقول للكافر الذي أهمل فطرته الإيمانية وغفل عنها ، وهي تدعوه إلى معرفة الله : كيف تشعر بالجوع فتطلب الطعام ؟ وكيف تشعر بالعطش فتطلب الماء ؟ أرأيت الجوع أو لمسته أو شممته ؟ إنها الفطرة والغريزة التي جعلها الله فيك ، فلماذا استخدمت هذه ، وأغفلت هذه ؟

والعجيب أن ينصرف الإنسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله من حوله بكل ذراته يسبح بحمد ربه ، فذرات الكون وذرات التكوين في المؤمن وفي الكافر تسبح بحمد ربها ، كما قال تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . " 44 " }( سورة الإسراء ) : فكيف بك يا سيد الكون تغفل عن الله والذرات فيك مسبحة ، فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات تكوينه انسجام واتفاق ، وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته الإيمانية مع إيمان ذراته ، فترى المؤمن منسجماً مع نفسه مع تكوينه المادي .

ويظهر هذا الانسجام بين إرادة الإنسان وبين ذراته وأعضائه في ظاهرة النوم ، فالمؤمن ذراته وأعضائه راضية عنه تحبه وتحب البقاء معه لا تفارقه ؛ لأن إرادته في طاعة الله ، فترى المؤمن لا ينام كثيراً مجرد أن تغفل عينه ساعة من ليل أو نهار تكفيه ذلك ؛ لأن أعضاءه في انسجام مع إرادته ، وهؤلاء الذين قال الله فيهم : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " 17 " } ( سورة الذاريات ) : وكان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه ، لأنه في انسجام تام مع إرادته صلى الله عليه وسلم . وما أشبه الإنسان في هذه القضية بسيد شرس سيئ الخلق ، لديه عبيد كثيرون ، يعانون من سوء معاملته ، فيلتمسون الفرصة للابتعاد عنه والخلاص من معاملته السيئة .

على خلاف الكافر ، فذراته مؤمنة وإرادته كافرة ، فلا انسجام ولا توافق بين الإرادة والتكوين المادي له ، لذا ترى طبيعته قلقة ، ليس هناك تصالح بينه وبين ذراته ، لأنها تبغضه وتلعنه ، وتود مفارقته .

ولولا أن الخالق سبحانه جعلها منقادة له لما طاوعته ، وإنها لتنتظر يوم القيامة يوم أن تفك من إرادته ، وتخرج من سجنه ، لتنطق بلسان مبين ، وتشهد عليه بما اقترف في الدنيا من كفر وجحود ؛ لذلك ترى الكافر ينام كثيراً ، وكأن أعضاءه تريد أن ترتاح من شره .

ولابد أن نعلم أن ذرات الكون وذرات الإنسان في تسبيحها للخالق سبحانه ، أنه تسبيح فوق مدارك البشر ؛ لذلك قال تعالى : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . " 44 " } ( سورة الإسراء ) : فلا يفقهه ولا يفهمه إلا من منحه الله القدرة على هذا ، كما منح هذه الميزة لداود عليه السلام فقال : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين " 79 " } ( سورة الأنبياء ) : وهنا قد يقول قائل : ما الميزة هنا ، والجبال والطير تسبح الله بدون داود ؟

والميزة هنا لداود عليه السلام أن الله تعالى أسمعه تسبيح الجبال وتسبيح الطير ، وجعلها تتجاوب معه في تسبيحه وكأنه ( كورس )أو نشيد جماعي تتوافق فيه الأصوات ، وتتناغم بتسبيح الله تعالى ، ألم يقل الحق سبحانه في آية أخرى : { يا جبال أوبي معه والطير . . " 10 " } ( سورة سبأ ) : أي : رجعي معه ورددي التسبيح .

ومن ذلك أيضاً ما وهبه الله تعالى لنبيه سليمان عليه السلام من معرفة منطق الطير أي لغته ، فكان يسمع النملة وهي تخاطب بني جنسها ويفهم ما تريد ، وهذا فضل من الله يهبه لمن يشاء من عباده ، لذلك لما فهم سليمان عليه السلام لغة النملة ، وفهم ما تريده من تحذير غيرها تبسم ضاحكاً : { وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي . . " 19 " }( سورة النمل ) : إذن : لكل مخلوق من مخلوقات الله لغة ومنطق ، لا يعلمها ولا يفهمها إلا من ييسر الله له هذا العلم وهذا الفهم .

وحينما نقرأ عن هذه القضية نجد بعض كتاب السيرة مثلاً يقولون : سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم نقول لهم : تعبيركم هذا غير دقيق ، لأن الحصى يسبح في يده صلى الله عليه وسلم كما يسبح في يد أبي جهل ، لكن الميزة أنه صلى الله عليه وسلم سمع تسبيح الحصى في يده ، وهذه من معجزاته صلى الله عليه وسلم .

والحق سبحانه يريد أن يلفتنا إلى حقيقة من حقائق الكون ، وهي كما أن لك حياة خاصة بك ، فاعلم أن لكل شيء دونك حياة أيضاً ، لكن ليست كحياتك أنت ، بدليل قول الحق سبحانه : { كل شيءٍ هالك إلا وجهه . . " 88 " } ( سورة القصص ) : فكل ما يطلق عليه شيء مهما قل فهو هالك ، والهلاك ضد الحياة ؛ لأن الله تعالى قال : { ليهلك من هلك عن بنيةٍ ويحيى من حي عن بينةٍ . . " 42 " } ( سورة الأنفال ) : فدل على أن له حياة تناسبه . ونعود إلى قوله الحق سبحانه : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " 15 " }

( سورة الإسراء ) : فإن اهتدى الإنسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه ، فمن الذي يعلمه بمرادات الخالق سبحانه منه ، إذن : لابد من رسول يبلغ عن الله ، وينبه الفطرة الغافلة عن وجوده تعالى .

وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا١٦

الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يعطينا مثالاً لعاقبة الخروج عن منهج الله تعالى ؛ لأنه سبحانه حينما يرسل رسولاً ليبلغ منهجه إلى خلقه ، فلا عذر للخارجين عنه ؛ لأنه منهج من الخالق الرازق المنعم ، الذي يستحق منا الطاعة والانقياد . وكيف يتقلب الإنسان في نعمة ربه ثم يعصاه ؟ إنه رد غير لائق للجميل ، وإنكار للمعروف الذي يسوقه إليك ليل نهار ، بل في كل نفسٍ من أنفاسك .

ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عذر لمن خرج عنه ، ولذلك يقولون : " من يأكل لقمتي يسمع كلمتي " .

كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف ، بل كلفك في وقت مناسب ، في وقت استوت فيه ملكاتك وقدراتك ، وأصبحت بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف ، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره ، فكان الأولى بك أن تستمع إلى منهج ربك ، وتنفذه أمراً ونهياً ؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدك من عدم .

والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه بعضنا أن يكلف بعضاً ، كما قال تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها . . " 132 " }( سورة طه ) : وقد شرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية فقال : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " .

وهذا التكليف وإن كان في ظاهره من الأهل لأولادهم ، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع ، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحس أمام الطفل ، فأبوه هو صاحب النعمة المحسة حيث يوفر لولده الطعام والشراب ، وكل متطلبات حياته ، فإذا ما كلفه أبوه كان أدعى إلى الانصياع والطاعة ؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي ، وهو الله تعالى .

لذلك أمر الأب أن يعود ولده على تحمل التكليف وأن يعاقبه إن قصر ؛ لأن الآمر بالفعل هو الذي يعاقب على الإهمال فيه . حتى إذا بلغ الولد سن التكليف وتعود عليه ، وبذلك يأتي التكليف الإلهي خفيفاً على النفس مألوفاً عندها .

أما إن أخذت نعم الله وانصرفت عن منهجه فطغيت بالنعمة وبغيت فانتظر الانتقام ، انتظر أخذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا ترد عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة .

واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة ، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعون في نعم الله في أمن وسلامة ، فسوف يغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم ، وأن يتخذوهم قدوة ومثلاً ، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه .

أما إن رأوا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء ، وشاهدوهم أذلاء منكسرين ، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة ، والعاقل من اعتبر بغيره ، واستفاد من تجارب الآخرين .

فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى ، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاق بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عبرة ومثلة ومن لم يعتبر كان عبرة حتى لمن لم يؤمن ، وبذلك تعتدل حركة الحياة ، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار ، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسر لك الوقوف على هذه السنة الإلهية في بلاد بعينها ، ولاستطعت أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه .

وصدق الله حين قال : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " 112 " }( سورة النحل ) .

وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه ، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر ، وإلا لكانت أسوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة . قال تعالى :

{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " 16 " }

( سورة الإسراء ) : الآفة أن الذين يستقبلون نص القرآن يفهمون خطأ أن ( ففسقوا )مترتبة على الأمر الذي قبلها ، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق ، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة ، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين ، فتعالوا نر أوامر الله في القرآن : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين . . " 5 " } ( سورة البينة ) .

{ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة . . " 91 " } ( سورة النمل ) ، { وأمرت أن أكون من المسلمين " 72 " }

( سورة يونس ) : فأمر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير ، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء ، كما ذكر القرآن الكريم ، وعلى هذا يكون المراد من الآية : أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا ، ولكنهم خالفوا وعصوا وفسقوا ؛ لذلك حق عليهم العذاب .

والأمر : طلب من الأعلى ، وهو الله تعالى إلى الأدنى ، وهم الخلق طلب منهم الطاعة والعبادة ، فاستغلوا فرصة الاختيار ففسقوا وخالفوا أمر الله . قوله : { وإذا أردنا أن نهلك قرية . . " 16 " }( سورة الإسراء ) :

من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا ؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم . و( قرية )أي أهل القرية . وقوله : { فيها فحق عليها القول . . " 16 " } ( سورة الإسراء )

أي : وجب لها العذاب ، كما قال تعالى : { كذلك حقت كلمت . . " 33 " } ( سورة يونس ) : وقد أوجب الله لها العذاب لتسلم حركة الحياة ، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة . وقوله تعالى :

{ فدمرناها تدميرا " 16 " } ( سورة الإسراء ) : أي : خربناها ، وجعلناها أثراً بعد عين ، وليست هذه هي الأولى ، بل إذا استقرأت التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم .

وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا١٧

فأين عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح ؟ إذن : فالآية قضية قولية ، لها من الواقع ما يصدقها . وقوله :

{ من بعد نوح . . " 17 " }( سورة الإسراء ) : دل على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح ؛ لأن الناس كانوا قريبي عهد بخلق الله لآدم عليه السلام كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة ، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود ، فنزل بهم العذاب . الذي لم يسبق له مثيل . قال تعالى : { والفجر " 1 " وليال عشر " 2 " والشفع والوتر " 3 " والليل إذا يسر " 4 " هل في ذلك قسم لذي حجر " 5 " ألم تر كيف فعل ربك بعاد " 6 " إرم ذات العماد " 7 " التي لم يخلق مثلها في البلاد " 8 " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " 9 " وفرعون ذي الأوتاد " 10 " الذين طغوا في البلاد " 11 " فأكثروا فيها الفساد " 12 " فصب عليهم ربك سوط عذاب " 13 " إن ربك لبالمرصاد " 14 " }

( سورة الفجر ) : ولنا وقفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر ، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد " 6 " } ( سورة الفجر ) : و( ألم تر )بمعنى : ألم تعلم ؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد ، فلماذا عدل السياق القرآني عن : تعلم إلى تر ؟

قالوا : لأن إعلام الله لرسوله أصدق من عينه ورؤيته ، ومثلها قوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " 1 " } ( سورة الفيل ) : حيث ولد رسول الله في عام الفيل ، ولم يكن رأى شيئاً . وفي آيات سورة ( الفجر )ما يدلنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظم من حضارة الفراعنة التي لفتت أنظار العالم كله ؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد : { التي لم يخلق مثلها في البلاد " 8 " }( سورة الفجر ) : أي : لا مثيل لها في كل حضارات العالم ، في حين قال عن حضارة الفراعنة : { وفرعون ذي الأوتاد " 10 " } ( سورة الفجر ) : مجرد هذا الوصف فقط . وقوله تعالى : { وكم أهلكنا من القرون . . " 17 " } ( سورة الإسراء ) : كم : تدل على كثرة العدد .

والقرون : جمع قرن ، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام ، ويطلق على القوم المقترنين معاً في الحياة ، ولو على مبدأ من المبادئ ، وتوارثه الناس فيما بينهم .

وقد يطلق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول : قرن نوح ، قرن هود ، قرن فرعون . أي : الفترة التي عاشرها . وقوله : { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً " 17 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أنه سبحانه غني عن إخبار أحد بذنوب عباده ، فهو أعلم بها ، لأنه سبحانه لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء : { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " 19 " } ( سورة غافر ) : فلا يحتاج لمن يخبره ؛ لأنه خبير وبصير ، هكذا بصيغة المبالغة . وهنا قد يقول قائل : طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية ، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم ؟

نقول : لأن السؤال يرد لإحدى فائدتين :

الأولى : كأن يسأل الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه ، فالهدف أن يعلم ما جهل .

والأخرى : كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان ، لا ليعلم منه ، ولكن ليقرره بما علم . وهكذا الحق سبحانه ولله المثل الأعلى يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها ، وليجعله شاهداً على نفسه ، كما قال : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " 14 " }( سورة الإسراء ) .

وقوله تعالى : { وكفى بربك . . " 17 " }( سورة الإسراء ) : كما تقول : كفى بفلان كذا ، أي : أنك ترتضيه وتثق به ، فالمعنى : يكفيك ربك فلا تحتاج لغيره ، وقد سبق أن أوضحنا أن الله تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي : السلطة التشريعية ، والسلطة القضائية ، والسلطة التنفيذية ، وهو سبحانه غني عن الشهود والبينة والدليل .

إذن : كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً . ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده ، فعقابه عدل لا ظلم فيه .

صفحة 284

مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا١٨

الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ، خلق له الكون كله بما فيه ، وخلق له جميع مقومات حياته ، ووالى عليه نعمه إيجاداً من عدم ، وإمداداً من عدم ، وجعل من مقومات الحياة ما ينفعل له وإن لم يطلب منه ، كالشمس والقمر والهواء والمطر . . الخ فهذه من مقومات حياتك التي تعطيك دون أن تتفاعل معها .

ومن مقومات الحياة ما لا ينفعل لك ، إلا إذا تفاعلت معه ، كالأرض مثلاً لا تعطيك إلا إذا حرثتها ، وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلت لك ، وأعطتك الإنتاج الوفير .

والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مقومات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم ، فتتفاعل معهم مقومات الحياة ، ويحدث التقدم والارتقاء .

وقد يرتقي الإنسان ارتقاء آخر ، بأن يستفيد من النوع الأول من مقومات الحياة ، والذي يعطيه دون أن يتفاعل معه ، استفادة جديدة ، ومن ذلك ما توصل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل .

إذن : فهذه نواميس في الكون ، الذي يحسن استعمالها تعطيه النتيجة المرجوة ، وبذلك يثري الإنسان حياته ويرتقي بها ، وهذا ما أسميناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي . لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { من كان يريد العاجلة . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أي : عطاء الدنيا ومتعها ورقيها وتقدمها .

{ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أجبناه لما يريد من متاع الدنيا .

ولابد لنا أن نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن والكافر ، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مقومات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها ، ويتقدم على المؤمن ، ويمتلك قوته ورغيف عيشه ، بل وجميع متطلبات حياتهم ، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر ، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة .

وهذا حال لا يليق بالمؤمن ، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده ، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة ، ونغفل أسباب الحياة ومقوماتها المادية التي لا قوام للحياة إلا بها .

في حين أن المؤمن أولى بمقومات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله .

إذن : فمن الدين ألا تمكن أعداء الله من السيطرة على مقومات حياتك ، وألا تجعلهم يتفوقون عليك . وقوله : { ما نشاء لمن نريد . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أن تفاعل الأشياء معك ليس مطلقاً ، بل للمشيئة تدخل في هذه المسألة ، فقد تفعل ، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى ، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء ، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية .

ومعنى ( ما نشاء )للمعجل و( لمن نريد )للمعجل له .

ومادام هذا يريد العاجلة ، ويتطلع إلى رقي الحياة الدنيا وزينتها ، إذن : فالآخرة ليست في باله ، وليست في حسبانه ؛ لذلك لم يعمل لها ، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صفراً لا نصيب له فيها ؛ لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدم ، وهذا قدم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقي والتقدم والتكريم .

قال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " 39 " } ( سورة النور ) : والسراب ظاهرة طبيعية يراها من يسير في الصحراء وقت الظهيرة ، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء ، حتى إذا وصل إليه لم يجده شيئاً ، كذلك إن عمل الكافر خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجد له شيئاً من عمله ؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا .

ثم تأتي المفاجأة : { ووجد الله عنده . . " 39 " }( سورة النور ) ، وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد " 18 " }( سورة إبراهيم ) : فمرة يشبه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب ، ومرة يشبهه بالرماد ؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً ، وهو مادة الخصب والنماء ، وهو مقوم من مقومات الحياة . ووصفه بقوله تعالى : { كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين " 264 " }( سورة البقرة ) : والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يجسم لنا خيبة أمل الكافر في الآخرة في صورة محسة ظاهرة ، فمثل عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر ، فماذا تنتظر منه ؟ وماذا وراءه من الخير ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً " 18 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أعددناها له ، وخلقناها من أجله يقاسي حرارتها ( مذموماً )أي : يذمه الناس ، والإنسان لا يذم إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصح له أن يرتكبه . و : { مدحوراً " 18 " } ( سورة الإسراء ) . وبعد أن أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة ، وما انتهى إليه من العذاب ، يعطينا صورة مقابلة ، صورة لمن كان أعقل وأكيس ، ففضل الآخرة .

وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا١٩

المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يعطي الصورة ومقابلها ؛ لأن الشيء يزداد وضوحاً بمقابله ، والضد يظهر حسنه الضد ، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في : { إن الأبرار لفي نعيم " 13 " وإن الفجار لفي جحيم " 14 " } ( سورة الانفطار ) .

وهنا يقول تعالى : { ومن أراد الآخرة . . " 19 " }( سورة الإسراء ) ، في مقابل : { من كان يريد العاجلة . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) .

قوله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها . . " 19 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أراد ثوابها وعمل لها : { وهو مؤمن . . " 19 " } ( سورة الإسراء ) : لأن الإيمان شرط في قبول العمل ، وكل سعي للإنسان في حركة الحياة لابد فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يقبل العمل ، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة ، فالعامل يأخذ أجره ممن عمل له .

فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم ، حينما قدموا هذا الإنجازات لم يكن في بالهم أبداً العمل لله ، بل للبشرية وتقدمها ؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة ، فأقاموا لهم التماثيل ، وألفوا فيها الكتب . . الخ .

إذن : انتهت المسألة : عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم .

وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً ، وهذا عمل عظيم يمكن أن يدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من بني لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة " .

ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول : أنشأه فلان ، وافتتحه فلان . . الخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة ! ! وهكذا يفسد الإنسان على نفسه العمل ، ويقدم بنفسه ما يحبطه ، إذن : فقد فعل ليقال وقد قيل . وانتهت القضية .

وقوله تعالى : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً " 19 " }( سورة الإسراء ) : وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها ، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نعمه ، كما قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : فما بالك إن كان الشاكر هو الله تعالى ، يشكر عبده على طاعته ؟

وهذا يدل على أن العمل الإيماني يصادف شكراً حتى من المخالف له ، فاللص مثلاً إن كان لديه شيء نفيس يخاف عليه ، فهل يضعه أمانة عند لص مثله ، أم عند الأمين الذي يحفظه ؟ فاللص لا يحترم اللص ، ولا يثق فيه ، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له ، وكذلك الكذاب يحترم الصادق ، والخائن يحترم الأمين .

ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم ؛ لأنهم واثقون من أمانته ، ويلقبونه " بالأمين " ، رغم ما بينهما من خلاف عقدي جوهري ، فهم فعلاً يكذبونه ، أما عند حفظ الأمانات فلن يغشوا أنفسهم ، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم .

وقد ضربنا لذلك مثلاً بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليخرجك من ورطة ، أو قضية ، فرغم أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك ، إلا أنه قد سقط من نظرك ، ولم يعد أهلاً لثقتك فيما بعد .

لذلك قالوا : من استعان بك في نقيصة فقد سقطت من نظره ، وإن أعنته على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته .

كُلّٗا نُّمِدُّ هَـٰٓؤُلَآءِ وَهَـٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا٢٠

( كلاً )أي : كلا الفريقين السابقين : من أراد العاجلة ، ومن أراد الآخرة : { نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . . " 20 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أن الله تعالى يمد الجميع بمقومات الحياة ، فمنهم من يستخدم هذه المقومات في الطاعة ، ومنهم من يستخدمها في المعصية ، كما لو أعطيت لرجلين مالاً ، فالأول تصدق بماله ، والآخر شرب بماله خمراً .

إذن : فعطاء الربوبية مدد ينال المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي ، أما عطاء الألوهية المتمثل في منهج الله : افعل ولا تفعل ، فهو عطاء خاص للمؤمنين دون غيرهم .

وقوله تعالى : { وما كان عطاء ربك محظوراً " 20 " }( سورة الإسراء ) : أي : ممنوعاً عن أحد ؛ لأن الجميع خلقه تعالى ، المؤمن والكافر ، وهو الذي استدعاهم إلى الحياة ، وهو سبحانه المتكفل لهم بمقومات حياتهم ، كما تستدعي ضيفاً إلى بيتك فعليك أن تقوم له بواجب الضيافة .

ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه اختار التعبير بقوله : { من عطاء ربك . . " 20 " }( سورة الإسراء ) : لأن العطاء المراد هنا عطاء ربوبية ، وهو سبحانه رب كل شيء . أي : مربيه ومتكفل به ، وشرف كبير أن ينسب العطاء إلى الرب تبارك وتعالى .