الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب

مكي ابن أبي طالب القرن الخامس الهجري

صفحة 518

قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ١

بسم الله الرحمان الرحيم

سورة ق

مكية

سورة مكية[1] :

قوله تعالى : { ق والقرآن المجيد } إلى قوله : { فحق وعيد } الآيات [ 1- 14 ] .

روى عطاء والضحاك عن ابن عباس : أن ق اسم جبل محيط بالدنيا من زبر جدة خضراء وأن السماء عليه مقبية[64583] أقسم الله جل ذكره به[64584] .

وقال ابن عباس : " ق " و " ن " وأشباه هذا قسم أقسم الله به ، وهو اسم من أسماء الله[64585] .

وقال قتادة : اسم من أسماء القرآن[64586] ، وعنه : أنه اسم من أسماء السور[64587] ، والوقف على ق[64588] ، في هذه الثلاثة تقديرات ، حسن[64589] .

وقال الفراء : معنى ق ، " قفي الأمر والله " ، فاكتفى[64590] بالقاف عن الجملة كما قال : " قلت لها قفي لنا ، فقالت قاف " [64591] ، أي : قد وقفت[64592] ، أي : فاكتفى بالقاف عن الجملة[64593] ، وتقف على " قاف " في هذا القول إلا أن تجعله جوابا[64594] للقسم بعده فلا تقف عليه ، فإن أضمرت الجواب وقفت على قاف ، وكذلك التقدير في القول الذي بعده ، وهو قول مجاهد[64595] .

وقال مجاهد : قَ[64596] جبل محيط بالأرض[64597] ، وقيل : إنه من زمردة[64598] خضراء وإن خضرة[64599] السماء والبحر[64600] منه .

وقوله : { والقرآن المجيد } قسم ، والمجيد : الكريم .

وقيل : الرفيع القدر .

واختلف في جواب القسم ، فقيل[64601] : الجواب { بل عجبوا } لأن " بل " [64602] تؤكد وتوجب وقوع ما بعدها[64603] . مثل " أن " و " اللام " ، وقولك " لقد عجبوا و " بل عجبوا " واحد[64604] .

وقال الأعمش[64605] سعيد ، الجواب : قد علمنا ما تنقص الأرض ، أي : قد علمنا ذلك ، وهو قول الكسائي[64606] .

وقال الزجاج : الجواب محذوف ، والتقدير : والقرآن المجيد لتبعثن[64607] .

وقيل التقدير : والقرآن المجيد لتعلمن عاقبة تكذيبكم بالبعث[64608] ، ودل على ذلك ما حكى الله عنهم من قولهم { أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد }[64609] .

وقيل الجواب ( ق[64610] لأنه ) بمعنى قفي الأمر والقرآن المجيد[64611] .

وقيل الجواب ( ق ) : وعلى تقدير هو " ق " [64612] وهذا على قول ابن زيد ووهب[64613] بن منبه لأنهما قالا " قاف " اسم للجبل المحيط بالأرض[64614] .

وقيل الجواب { إن في ذلك لذكرى }[64615] .

بَلۡ عَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ٢

ثم قال تعالى : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ 2 ] .

أي : لم يكذبك[64616] قريش يا محمد لأنهم لا يعرفونك بل لتعجبهم وإنكارهم من بشر/مثلهم ينذرهم بأمر الله عز وجل[64617] .

{ فقال الكافرون هذا شيء عجيب } .

قال بعض أهل المعاني[64618] : ( العجب وقع من المؤمنين )[64619] والكافرين فقيل[64620] بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم .

ثم ميز[64621] الله الكافرين من المؤمنين [ فقال تعالى ][64622] : { فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا } الآية فوصفهم بإنكار البعث ، ولم يقل : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقالوا هذا شيء عجيب .

ثم بين قول الكافرين[64623] من جميع من تعجب من إرسال منذر ، فآمن المؤمنون مما[64624] تعجبوا منه ، وكفر الكافرون به .

أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗاۖ ذَٰلِكَ رَجۡعُۢ بَعِيدٞ٣

ثم قال تعالى[64625] حكاية عن قولهم[64626] أنهم قالوا : { أئذا متنا }[64627] ، وإنما هو جواب منهم لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم[64628] ، أنهم يبعثون ،

فأنكروا ذلك فقالوا :

{ أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد } أي : أنبعث إذا كنا في قبورنا ترابا ؟ وقوله : { أئذا متنا } : إنما هو جواب منهم لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم[64629] لهم أنهم يبعثون ويجازون بأعمالهم . .

ودل على ذلك قوله : { أن جاءهم منذر منهم } لأن المنذر أعلمهم أنهم يبعثون فأنكروا ذلك ، فقالوا[64630] : أئذا متنا وكنا ترابا[64631] ، واكتفى[64632] بدلالة الكلام على حكاية ما قال لهم المنذر وهو النبي صلى الله عليه وسلم[64633] .

وقيل : إنما أتى هذا الإنكار ولم يتقدم قبله شيء للجواب المضمر المحذوف ، والتقدير : والقرآن المجيد لتبعثن ، ففهموا ذلك فقالوا جزابا[64634] : أنبعث إذا كنا ترابا ، إنكارا للبعث[64635] .

وقيل : أن " أئذا متنا " جواب لما قيل لهم ، إذ أنكروا إتيان منذر منهم ، وقالوا هذا شيء عجيب ، فقيل لهم ستعلمون عاقبة إنكاركم إذا بعثتم بعد موتكم ، فقالوا منكرين : أئذا متنا وكنا ترابا نبعث[64636] .

ومعنى : { ذلك رجع بعيد } أي : ذلك بعث لا يكون[64637] .

قَدۡ عَلِمۡنَا مَا تَنقُصُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۡهُمۡۖ وَعِندَنَا كِتَٰبٌ حَفِيظُۢ٤

{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ 4 ] [64638] .

أي : قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم [ بعد موتهم ، وعندنا كتاب محفوظ بما تأكل الأرض منهم .

قال مجاهد : ما تأكل الأرض منهم أي : عظامهم [64639] ] [64640] .

وقال ابن عباس : من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم [64641] ، وما يبقى ، فالذي يبقى من الإنسان هو عجب الذنب [64642] ومنه يتركب عند النشور .

وروى أبو سعيد الخدري : أن النبي صلى الله عليه وسلم [64643] قال : يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب ، فقيل : وما هو يا رسول الله ، فقال مثل حبة خدرل منه تنشرون [64644] [64645] .

وقيل معناه : وقد علمنا ما يدخل ( في الإسلام من بلدان المشركين ) [64646] .

بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ فَهُمۡ فِيٓ أَمۡرٖ مَّرِيجٍ٥

ثم قال : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم } [ 5 ] يعني بالقرآن [64647] .

{ فهم في أمر مريج } أي : مختلط ملتبس لا يعرفون حقه من باطله [64648] .

وقال [64649] ابن عباس : المريج الشيء المنكر ، وعنه مريج : مختلف ، وعنه في أمر ضلالة [64650] . [64651]

وقال ( ابن جبير ومجاهد ) [64652] مريج : ملتبس [64653] .

وقال ابن زيد في المختلط [64654] : يقال [64655] مرج الخاتم في أصبعه : إذا اضطرب من الهزال [64656] ، فتقديره : فهم في أمر مختلط مختلف ، لا يثبتون على رأي : واحد ولا على قول ، يقولون مرة ساحر ، ومرة معلم ، ومرة كاهن ، ومرة مجنون/ ، ثم دلهم جل ذكره على وحدانيته وآياته فقال :

أَفَلَمۡ يَنظُرُوٓاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوۡقَهُمۡ كَيۡفَ بَنَيۡنَٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٖ٦

{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها } [ 6 ] .

أي : أفلم ينظر هؤلاء المنكرون للبعث بعد الموت كيف خلقنا السماء فوقهم بغير عمد يرونها ، وكيف زيناها بالنجوم وليس فيها فتوق ولا شقوق فيعلمون أن من قدر على[64657] هذا الأمر العظيم الجليل وأحدثه لا يتعذر عليه إحياء الموتى على صغر خلقهم وقد نبه على هذا بقوله تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس }[64658] .

وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ٧

ثم قال : { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي }[64659] .

أي : وينظرون إلى الأرض كيف مددناها مسطحة لا اعوجاج فيها وجعلنا على جوانبها[64660] جبالا تمسكها لئلا تميد بأهلها ، وكيف أنبتنا فيها من كل جنس من النبات فيبهج من رآه ويسره ، فمن قدر على اختراع هذا كله كيف يعجز عن إحياء الموتى بعد موتهم .

وقيل بهيج : حسن ، قاله ابن عباس[64661] .

تَبۡصِرَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِكُلِّ عَبۡدٖ مُّنِيبٖ٨

ثم قال : { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } [ 8 ] .

أي : فعل ذلك نعمة منه يبصرها/ العباد فيستدلون على عظيم قدرته ، وأنه لا يعجزه شيء أراده ، ويتذكرون به فيتعظون ويزدجرون عن مخالفة أمره ونهيه .

والمنيب : التائب ، قاله قتادة . وقيل منيب : مخبت ، قاله مجاهد[64662] .

و{ تبصرة وذكرى } : مصدران أو مفعولان من أجلهما[64663] ؛ أي : فعلنا ذلك " ليبصركم الله " [64664] القدرة ، ولتتذكروا عظمة[64665] الله فتعلموا أنه قادر على ما يشاء من إحياء الموتى وغير ذلك .

وَنَزَّلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ مُّبَٰرَكٗا فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ جَنَّـٰتٖ وَحَبَّ ٱلۡحَصِيدِ٩

ثم قال : { ونزلنا من السماء ماء مباركا } [ 9 ] أي : مطرا مباركا فأنبتا به جنات ، أي : بساتين ، و " حب [64666] الحصيد " يعني الزرع من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب .

قال الفراء : الحصيد : هو إضافة [64667] الشيء إلى نفسه ، لأن الحب هو الحصيد [64668] .

والتقدير عند البصريين ، وحب النبت الحصيد [64669] .

وَٱلنَّخۡلَ بَاسِقَٰتٖ لَّهَا طَلۡعٞ نَّضِيدٞ١٠

ثم قال : { والنحل باسقات لها طلع نضيد } [ 10 ] أي : وأنبتنا النخل طوالا[64670] ، و هي حال[64671] مقدرة ، ونضيد بمعنى منضود أي : مكتنز منضم متراكب[64672] .

رِّزۡقٗا لِّلۡعِبَادِۖ وَأَحۡيَيۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ ٱلۡخُرُوجُ١١

ثم قال : { رزقا للعباد } [ 11 ] " رزقا " مصدر أو مفعول من أجله[64673] .

ثم قال : { وأحيينا به بلدة ميتا } أي : أحيينا بالمطر بلدة قد أجذبت وقحطت فلا نبات فيها .

ثم قال : { كذلك الخروج } أي : كذلك تخرجون من قبوركم يبعث الله جل ذكره ماء ينبت به الناس كما [ ينبت به الزرع ، أي : كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها فأخرجنا فيها النبات والزرع بالمطر ][64674] . كذلك يبعث[64675] عليكم مطرا فتحيون للبعث يوم القيامة .

كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَأَصۡحَٰبُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ١٢

ثم قال [64676] : { كذبت قبلهم قوم نوح } [ 12 ] [64677] أي : كذبت قبل قومك يا محمد قوم نوح .

{ وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد }

أصحاب الأيكة : قوم شعيب .

والرس : بير قتل فيها صاحب يس ، قاله الضحاك [64678] .

وقال كعب : أصحاب الأخدود ، وهم الذين أرسل إليهم اثنان وعزز بثالث ، قال : والرس : الأخدود [64679] .

قال قتادة : الأيكة : الشجر الملتف [64680] . [64681]

قال عبد الله بن سلام : كان تبع رجل من العرب ظهر على الناس فاختار فتية [64682] من الأحبار فاستبطنهم واستبطنهم واستدخلهم حتى أخذ منهم وتابعهم فاستنكر ذلك قومه وقالوا قد ترك دينكم وتابع الفتية [64683] فلما فشا [64684] ذلك قام الفتية [64685] فقالوا بيننا وبينهم النار تحرق الكاذب وينجو منها الصادق ففعلوا فعلق [64686] الفتية مصاحفهم في أعناقهم ثم غدوا إلى النار فدخلوها فانفرجت عنهم ثم دخلت [64687] الفرقة الأخرى فأحرقتهم فأسلم تبع ، وكان رجلا صالحا [64688] .

وقوله : { كل كذب الرسل } أي : كلهم كذب الرسل فوجب عليهم وعيد الله عز وجل [64689] وهو النقمة بالعذاب ، وهو تخويف من الله عز وجل [64690] لقريش أنهم إن تمادوا على كفرهم حتى عليهم الوعيد أيضا .

وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ وَإِخۡوَٰنُ لُوطٖ١٣
وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ وَقَوۡمُ تُبَّعٖۚ كُلّٞ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ١٤
أَفَعَيِينَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ١٥

قوله : { أفعيينا بالخلق الأول } إلى قوله : { فبصرك اليوم حديد } الآيات [ 15-22 ] .

هذا توبيخ وتقريع لمن أنكر البعث بعد الموت ، والمعنى : أفعيينا بابتداع الخلق الذي خلقناه ولم يكن شيئا ، فنعيا[64691] بإعادتهم خلقا كما كانوا بعد فنائهم . أي : ليس يعيينا ذلك ، بل نحن قادرون عليه .

ثم قال : { بل هم في لبس من خلق جديد } .

أي : بل هم في شك من إعادة الخلق بعد فنائهم[64692] فلذلك أنكروا البعث بعد الموت[64693] .

صفحة 519

وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ١٦

ثم قال : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } [ 16 ] أي : ما تحدثه به نفسه لا تخفى[64694] عليه سرائره .

وقيل : هو مخصوص بآدم عليه السلام[64695] وما وحرمت به[64696] نفسه من أكل الشجرة التي نهي عنها ، ثم هي عامة في جميع الخلق لا يخفى[64697] عليه[64698] شيء من وسواس[64699] أنفسهم إليهم[64700] .

ثم قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }/أي : ونحن أقرب إلى الإنسان من فتل[64701] العاتق .

وقيل معناه : ونحن أملك[64702] به وأقرب إليه[64703] .

وقيل معناه : ونحن أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد[64704] .

وهنا من الله جل ذكره زجر للإنسان عن إضمار[64705] المعصية .

قال الفراء : الوريد : عرق بين الحلقوم والعلباوين[64706] .

وقال ابن عباس : " من حبل الوريد " أي : من عرق العنق[64707] .

وقال أبو عبيدة : حبل الوريد : حبل العاتق[64708] ، والوريد عرق في العنق متصل بالقلب ، وهو نياط القلب ، والوريد[64709] والوتين ما في القلب[64710] .

قال الأقرع[64711] : هو نهر الجسد يمتد من الخنصر أو الإبهام ، فإذا كان في الفخذ أو الساق فهو الساق وإذا كان في البطن فهو الحالب وإذا كان في القلب فهو الأبهر وإذا كان في اليد فهو الأكحل وإذا في العنق فهو الوريد وإذا كان في العين فهو الناظر/وإذا كان في القلب فهو الوتين .

إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ١٧

ثم قال : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ 17 ] .

العامل في " إذ أقرب " ، أي : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ، وهما المكان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي : قاعد ، وتقديره عند سيبويه : " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد " . ثم حذف الأول [64712] لدلالة الثاني عليه [64713] .

فلذلك لم يقل ، قعيدان ، وهو قول الكسائي [64714] .

ومذهب الأخفش والفراء : أن قعيدا [64715] يؤدى عن [64716] اثنين وأكثر منهما كقوله : { يخرجكم طفلا } [64717] . [64718] ومذهب المبرد : أن " قعيدا " ينوي به التقديم والتأخير ، والتقدير عنده : " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد " [64719] فاكتفى بالأول عن الثاني ومثله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [64720] . [64721]

وقيل : قعيد بمعنى الجماعة ، كما قال : { والملائكة بعد ذلك ظهير } [64722] . [64723]

قال قتادة وغيره : المتلقيان [64724] الملكان الحافظان على الإنسان جميع أعماله وألفاظه [64725] .

قال مجاهد : الذي عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات [64726] .

مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ١٨

ثم قال : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ 18 ] .

أي : ما يلفظ بكلام من خير أو شر إلا كتب عليه ، قاله عكرمة وغيره [64727] .

قال الحسن وقتادة : يكتب الملكان ما يلفظ به من جميع الأشياء [64728] .

قال سفيان : بلغني أن [64729] كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب قال لا تعجل لعله يستغفر [64730] .

وروي [64731] : أن الله جل ذكره جعل لصاحب اليمين على صاحب الشمال سلطانا يطيعه به ، فإذا كان الليل قال : صاحب اليمين لصاحب الشمال ألاقيك ، أطرح أنا حسنة واطرح أنت عشر سيئات ، حتى يصعد صاحب الحسنات لا سيئات [64732] معه .

ويروى أن مجلس الملك على باب [64733] الإنسان وكل به ، وقلم الملك لسان الإنسان ، ومداده [64734] ريق الإنسان ، وهذا تمثيل في القرب ، والله أعلم ( بكيفية ذلك ) [64735] .

ويروى أن رجلا قال لبعيره : حل ، فقال صاحب الحسنات ، ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب السيئات : ما هي بسيئة فاكتبها ، فأوحى الله عز وجل [64736] إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحب اليمين فاكتب .

( وروت أم حبيبة [64737] : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلام ابن آدم عليه السلام عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أو ذكر الله عز وجل ) [64738] .

وقال [ عمرو بن الحارث [64739] ] [64740] : بلغني أن رجلا إذا عمل سيئة قال كاتب اليمين لصاحب الشمال أكتب فيقول لا بل أنت [64741] فيمتنعان فينادي مناديا صاحب الشمال : اكتب ما ترك صاحب اليمين [64742] .

وقال أبو صالح [64743] : في قول الله جل ذكره : { يمحوا الله ما يشاء ويثبت } [64744] أن الملائكة تكتب [64745] كل ما تكلم به الإنسان فيمحو الله عز وجل [64746] منه ما ليس له [64747] وما ليس عليه ويثبت ما له وما عليه ، وهذا القول موافق لقول الحسن وقتادة أن الملكين يكتبان كل ما [64748] يقول الإنسان [64749] ويعمل من جميع الأشياء .

وقوله : { رقيب عتيد } معناه حافظ حاضر يكتب عليه ويحفظه .

وقيل : عتيد معناه معد [64750] ، وفعيل يأتي بمعنى فاعل نحو قدير بمعنى قادر [64751] وهو كثير ، ويأتي بمعنى مفعول نحو سميع بمعنى مسمع .

وأليم [64752] بمعنى مؤلم ، ويأتي بمعنى مفعول ، نحو قتيل بمعنى مقتول وهو كثير ، ويأتي بمعنى الجمع نحو ما ذكرنا من قعيد وله نظائر [64753] .

( وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل وكل بعبده ملكين يكتبان عمله ، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به : ربنا قد مات عبدك فلان بن فلان فتأذن لنا فنصعد إلى السماء فيقول سمائي مملوءة من ملائكتي ، فيقولان ربنا فنقيم في الأرض ، فيقول الله عز وجل أرضي مملوءة من خلقي فيقولان ربنا فأين ، فيقول قوما عند قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني وهللالي واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم يبعثون [64754] ) [64755] .

وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ١٩

ثم قال : { وجاءت سكرة الموت } [ 19 ] .

أي : وجاءت شدة الموت وغلبته على فهم الإنسان بالحق من أمر الآخرة [64756] .

وقيل المعنى [64757] : ( وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت ) [64758] [64759] .

وفي قراءة عبد الله : " وجاءت سكرة الحق بالموت " [64760] ، وكذلك [ قال [64761] ] أبو بكر رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه لعائشة رضي الله عنها [64762] .

ومعنى هذه القراءة : أن الحق هو الله ، فالمعنى وجاءته سكرة الله بالموت .

وقيل : الحق هنا الموت ، فالتقدير وجاءت سكرة الموت بالموت فالحق هو الموت الذي/حتمه الله على جميع خلقه [64763] .

ثم قال : { ذلك ما كنت منه تحيد } أي : السكرة التي جاءتك أيها الإنسان ، والموت الذي أتاك هو الذي كنت منه تهرب ، وعنه تروع .

وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِۚ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡوَعِيدِ٢٠

ثم قال : { ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد } [ 20 ] .

قد تقدم صفة النفخ في الصور ، ومعنى الصور ، والاختلاف فيه في غير موضع .

فالمعنى ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في الصور ، وهو اليوم الذي وعدكم الله عز وجل[64764] فيه أن يبعثكم ويجازيكم بأعمالكم .