غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري

النيسابوري- الحسن بن محمد القرن التاسع الهجري

صفحة 151

الٓمٓصٓ١

سورة الأعراف مكية إلا خمس آيات { واسألهم عن القرية } إلى قوله : { وقطعناهم } حروفها 14210 كلماتها 3325 ، آياتها مائتان وست .

التفسير : قد تقدم في أول الكتاب مباحث هذه المقطعة على سبيل العموم . وعن ابن عباس معنى المص أنا الله أعلم وأفصل . وقال السدي : معناه أنا المصوّر . وقيل : معناه ألم نشرح لك صدرك بدليل { فلا يكن في صدرك حرج منه } كما زاد في الرعد راء لقوله بعده { رفع السموات } [ الآية : 2 ] .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 10القراءات : { يتذكرون } بياء الغيبة ثم تاء التفعل : ابن عامر . والباقون كما مر في آخر الأنعام .

الوقوف : { المص } ه كوفي { للمؤمنين } ه { أولياء } ط { تذكرون } ه { قائلون } ه { ظالمين } ه { المرسلين } ه لا للعطف { غائبين } ه { الحق } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { المفلحون } ه { يظلمون } ه { معايش } ط { تشكرون } ه .

كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ٢

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1

ثم إن جعلنا هذه الحروف بدل جملة فلا محل لها من الإعراب ، وإن كانت اسماً للسورة جاز أن يكون { المص } مبتدأ و{ كتاب } يعني به السورة خبره والجملة بعده صفة له ، وجاز أن يكون { المص } خبر مبتدأ محذوف وكذا { كتاب } أي هذه المص هو كتاب أنزل إليك . والدليل على أنه منزل من الله تعالى هو أنه ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتاباً ولم يخالط أهل الأخبار والأشعار وقد مضى على ذلك أربعون سنة ثم ظهر عليه هذا الكتاب المشتمل على علوم الأولين والآخرين فلن تبقى شبهة في أنه مستفاد بطريق الوحي . القائلون بخلق القرآن زعموا أن الإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وهذا من سمات المحدثات . وأجيب بأن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو الحروف والألفاظ ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة . فإن قيل : الحروف أعراض غير باقية بدليل أنه لا يمكن الإتيان بها إلا على سبيل التوالي وعدم الاستقرار فكيف يعقل وصفها بالنزول ؟ أجيب بأنه تعالى أحدث هذه الرقوم في اللوح المحفوظ ثم إن الملك طالع تلك النقوش وحفظها ونزل فعلمها محمداً صلى الله عليه وآله . ثم قال : { فلا يكن في صدرك حرج } أي شك . وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج كما أن المتيقن منفسح الصدر منشرح ، ومعنى { منه } أي من شأن الكتاب أي لا تشك في أنه منزل من عند الله أو من تبليغه أي لا يضق صدرك من الأداء وتوجه النهي إلى الحرج كقولهم لا أرينك هاهنا والمراد نهيه عن الكون بحضرته فإن ذلك سبب رؤيته ومثله قوله تعالى

{ وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] ظاهره أمر للمشركين وإنه في الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يغلظوا على المشركين . وفي متعلق قوله { لتنذر } أقوال . قال الفراء : إنه متعلق ب { أنزل } وفي الكلام تقديم وتأخير أي أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج . وفائدة التقديم والتأخير أن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر . وقال ابن الأنباري : إنه متعلق بالنهي واللام بمعنى كي والتقدير : فلا يكن في صدرك شك كي تقدر على إنذار غيرك لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور لتوكله على ربه وثقته بعصمته . وقال صاحب النظم : اللام بمعنى «أن » كقوله : { يريدون أن يطفئوا } [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر { ليطفئوا } [ الصف : 8 ] والتقدير لا يضق صدرك ولا تضعف عن أن تنذر به . وقيل : إن تقدير الكلام هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله له حافظاً وناصراً لم يخف أحداً ، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإبلاغ والإنذار اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الضلال والإبطال . ثم قال : { وذكرى للمؤمنين } قال ابن عباس : يريد مواعظ للمصدقين . وقال الزجاج : هو اسم في موضع المصدر . قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة . وقال صاحب الكشاف : محل ذكرى يحتمل النصب بإضمار فعلها كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيراً ، والرفع عطفاً على كتاب ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف والجر للعطف على محل { أن تنذر } أي للإنذار وللذكرى . وإنما لم نقل على محل لتنذر لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً ولو صح ذلك لكان محله النصب لا الجر . وخص الذكرى بالمؤمنين كقوله :

{ هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] والتحقيق فيه أن النفوس البشرية منها بليدة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في بحر اللذات الجسمانية فتحتاج إلى زاجر قويّ ، ومنها مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس إلا أنها غشيتها غواش من عالم الجسم فعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فالصنف الأول يحتاج إلى إنذار وتخويف وأما الصنف الثاني فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت معدنها وأبصرت مركزها واشتاقت إلى ما هنالك من الروح والراحة والريحان فلم تحتج إلا إلى تذكرة وتنبيه ، فثبت أنه سبحانه أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في شأن طائفة .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 10

ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ٣

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1

ثم كما أمر الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليهم وهم الأمة بالمتابعة فقال : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } ومعنى كونه منزلاً إليهم أنهم مخاطبون بذلك مكلفون به وإلا فهو بالحقيقة منزل على الرسول ، قالت العلماء : المنزل متناول للقرآن والسنة جميعاً . عن الحسن : يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله . وفي الآية دلالة على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس غير جائز لأن متابعة المنزل واجبة فلو عمل بالقياس لزم التناقض . فإن قيل : العمل بالقياس لكونه مستفاداً من القرآن وهو قوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] عمل بالقرآن أيضاً . قلنا : بعد التسليم إن الترجيح معنا لأن العمل بالمنزل ابتداء أولى من العمل بالمنزل بواسطة ، ثم أكد الأمر المذكور بقوله : { ولا تتبعوا من دونه } أي لا تتخذوا من دون الله { أولياء } من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع . ويجوز أن يكون الضمير في { من دونه } لما أنزل أي لا تتبعوا من دون الله أولياء . احتج نفاة القياس بأن الآية دلت على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس . متابعة غير ما أنزل فلا يجوز . لا يقال العمل بالقياس عمل بالمنزل لقوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ الكافرون : 44 ] وقد أجمعت الأمة على عدم تكفيره . أجاب مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وظاهر العموم دليل مظنون فلا يعارض القاطع . وزيف بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] وبعموم قوله صلى الله عليه وآله «لا تجتمع أمتي على الضلالة » والفرع لا يكون أقوى من الأصل . أجاب المثبتون بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قوي الظن وحصل الترجيح . ومن الحشوية من أنكر النظر في البراهين العقلية تمسكاً بالآية . وأجيب بأن العلم بكون القرآن لحجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فكيف تنكر . ثم ختم المخاطبة بنوع معاتبة فقال : { قليلاً ما تذكرون } أي تذكرون تذكراً قليلا . و«ما » مزيدة لتوكيد القلة .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 10

وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ٤

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1

ثم ذكر ما في ترك المتابعة من الوعيد فقال : { وكم من قرية } فموضع «كم » رفع بالابتداء و «من » مزيدة للتأكيد والبيان أي كثير من القرى { أهلكناها } مثل زيد ضربته وتقدم النصب أيضاً عربي جيد وفي الآية حذف لا لقرينة الإهلاك فقط فإن القرية تهلك بالهدم والخسف كما يهلك أهلها ولكنه يقال التقدير : وكم من أهل قرية لقوله { فجاءها بأسنا } والبأس بالأهل أنسب ولقوله : { أوهم قائلون } ولأن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بهلاكهم ولأن معنى البيات والقيلولة لا يصح إلا فيهم . وإنما قال : { فجاءها } رداً بالكلام على اللفظ أو كما يقال الرجال فعلت . وهنا سؤال وهو أن قوله : { فجاءها بأسنا } يقتضي أن يكون الهلاك مقدماً على مجيء البأس ولكن الأمر بالعكس . والعلماء أجابوا بوجوه منها : أن المراد حكمنا بهلاكها أو أردنا أهلاكها فجاءها كقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] ومنها أن معنى الإهلاك ومعنى مجيء البأس واحد فكأنه قيل : وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا وهذا كلام صحيح . فإن قيل : كيف يصح والعطف يوجب المغايرة ؟ فالجواب أن الفاء قد تجيء للتفسير كقوله صلى الله عليه وآله «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه » فإن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذا هاهنا مجيء البأس جار مجرى التفسير للإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم وقريب منه قول الفراء : لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال : أعطيتني فأحسنت . وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معاً . ومنها أن ذلك محمول على حذف المعطوف والتقدير : أهلكناهم فحكم بمجيء البأس لأن الإهلاك أمارة للحكم بوصول مجيء البأس . ومنها أنه من باب القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس كقوله : عرضت الناقة على الحوض . وقوله { بياتاً } قال الجوهري : بيت العدوّ أي أوقع بهم ليلاً والاسم البيات . وفي الكشاف أنه مصدر بات الرجل بياتاً حسناً . وعلى القولين فإنه وقع موضع الحال بمعنى بائتين أو مبيتين . ثم قال : { أو هم قائلون } والجملة حال معطوفة على { بياتاً } كأنه قيل : فجاءها بأسنا مبيتين أو بائتين أو قائلين . وإنما حسن ترك الواو هاهنا من الجملة الاسمية الواقعة حالاً لأن واو الحال قريب من واو العطف لأنها استعيرت منها للوصل فالجمع بين حرف العطف وبينه جمع بين المثلين وذلك مستثقل . فقولك : جائني زيد راجلاً أو هو فارس . كلام فصيح ، ولو قلت : جاءني زيد هو فارس كان ضعيفاً . وقال بعض النحويين : الواو محذوفة مقدرة ورده الزجاج لما قلنا . أما معنى القيلولة فالمشهور أنها نومة الظهيرة . وقال الأزهري : هي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن نوم لقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [ الفرقان : 24 ] والجنة لا نوم فيها وإنما خص وقتا البيات والقيلولة لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع . وكأنه قيل للكفار لا تغتروا بالفراغ والرفاه والأمن والسكون فإن عذاب الله إنما يجيء دفعة من غير سبق أمارة .

أيا راقد الليل مسوراً بأوّله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

فقوم لوط أهلكوا وقت السحر ، وقوم شعيب وقت القيلولة .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 10

فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ٥

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1

ثم قرر حالهم عند مجيء البأس فقال : { فما كان دعواهم } أي ما كانوا يدعونه من قبل دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده والإقرار بالإساءة والظلم على أنفسهم . وقال ابن عباس : فما كان تضرعهم واستغاثتهم إلا قولهم هذا وذلك إقرار منهم على أنفسهم بالشرك . وقال أهل اللغة : الدعوى اسم يقوم مقام الدعاء . حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين أي فما كان دعاؤهم ربهم إلا اعترافهم بعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم فلا يزيدون على ذم أنفسهم وتحسرهم على ما فرط منهم وفرطوا فيه . ومحل { دعواهم } وعلى عكسه محل { إن قالوا } يجوز أن يكون نصباً أو رفعاً كما سبق في إعراب قوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } [ الأنعام : 23 ] .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 10

فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٦

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1

ثم ذكر على ترك القبول والمتابعة وعيداً آجلاً فقال : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } نسأل المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم كقوله : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } [ القصص : 65 ] { ولنسئلن المرسلين } عما أجيبوا به قال : { ويوم يجمع الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] .

فإن قيل : ما الفائدة في سؤال المرسل إليهم بعدما أخبر عنهم أنهم اعترفوا بذنوبهم ؟ فالجواب أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب الظلم أو التقصير تقريعاً وتوبيخاً . فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير البتة ؟ قلنا : ليلتحق كل التقصير بالأمة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع مواجب التقصير ، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار . فإن قلت : كيف الجمع بين قوله : { فلنسئلن } وبين قوله : { فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39 ] فالجواب بعد تسليم اتحاد الزمان والمكان أن القوم لعلهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إليها وعن الصوارف التي صرفتهم عنها . أو المراد نفي سؤال الاستفادة والاسترشاد وإثبات سؤال التوبيخ والإهانة فلا تناقض . وفي الآية إبطال قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء ولا على الكفار ، وفيها أنه سبحانه عالم بالكليات وبالجزئيات ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات ، فالإلهية لا تكمل إلا بذلك . وفيها أنه غير مختص بشيء من الأحياز والجهات وإلا كان غائباً من غيره .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 10

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيۡهِم بِعِلۡمٖۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ٧

ثم قال : { فلنقصن عليهم } أي على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بعلم } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم { وما كنا غائبين } عنهم وعما وجد منهم .

وَٱلۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّۚ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ٨

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1

ثم بيّن أن من جملة أحوال يوم القيامة وزن الأعمال فقال : { والوزن } وهو مبتدأ خبره { يومئذ } وقوله { الحق } صفة المبتدأ أي الوزن العدل يوم يسأل الله الأمم ورسلهم . وقيل : لا يجوز الإخبار عن شيء وقد بقيت منه بقية فيجب على هذا أن يكون { الحق } خبراً و{ يومئذٍ } ظرفاً للوزن ومعنى الحق أنه كائن لا محالة . وفي كيفية الميزان قولان : الأول ما جاء في الخبر «إنه تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها » . وكيف توزن فيه وجهان : أحدهما أن المؤمن تتصوّر أعماله بصور حسنة وأعمال الكافر بصور قبيحة فتوزن تلك الصور ذكره ابن عباس . وثانيهما أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد . «يروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عما يوزن يوم القيامة فقال : الصحف » . وعن عبد الله بن سلام أن ميزان العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في إحداهما لوسعتهن ، وجبريل آخذ بعموده ناظر إلى لسانه ، وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله فيوضع في الآخرة فترجح » قال القاضي : يجب أن يحمل هذا على أنه يأتي بالشهادتين بحقهما من العبادات وإلا كان إغراء على المعصية . ورد بأنه خلاف الظاهر وبأنه لا يبعد أن يكون ثواب كلمة الشهادة أوفى وأوفر من سائر الأعمال لأن معرفة الله تعالى أشرف العقائد والأعمال . وروى الواحدي في البسيط أنه إذا خف حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجزته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وخلقك فمن أنت ؟ فيقول : أنا نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصليها عليّ قد وافتك أحوج ما تكون إليها القول الثاني قول مجاهد والضحاك والأعمش وكثير من المتأخرين أن المراد من الميزان العدل لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالوزن والكيل فلا يبعد جعل الوزن مجازاً عن العدل . ومما يؤكد ذلك أن أعمال العباد أعراض وأنها قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وكذا لو قدر بقاؤها . وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول : المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقراً بأنه تعالى عادل حكيم وحينئذٍ يكفيه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب ، وإما أن لا يكون مقراً فلا نعرف من رجحات الحسنات على السيئات وبالعكس حقية الرجحان . أجاب الأولون بأن جميع المكلفين يعترفون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور لكن الفائدة في وضع الميزان ظهور الرجحان لأهل الموقف وازدياد الفرح والسرور للمؤمن وبالضدّ للكافر . واختلف العلماء أيضاً في كيفية الرجحان فقال بعضهم : يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات . وقال آخرون : بل يظهر الرجحان في الكفة . واختلف أيضاً في الموازين فقيل : إنها جمع موزون وأراد الأعمال الموزونة والميزان المنصوب واحد . ولئن سلم أنها جمع الميزان فالعرب قد توقع لفظاً لجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى مكة على الأفراس والبغال . قاله الزجاج . وقال الأكثرون : كما لا يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل قال عز من قائل : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] وأيضاً لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر . ثم إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان قالوا : إن الله حصر أهل الموقف في قسمين منهم من تزيد حسناته على سيئاته ومنهم على العكس ولا ريب أن هذا القسم أهل الكفر لأنه حكم عليهم بأنهم الذين خسروا أنفسهم بسبب الظلم بآيات الله أي التكذيب بها وهذا لا يليق إلا بالكافر . ولئن سلم أن العاصي معاقب لكنه يعاقب أياماً ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو بالحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال ولا انقطاع . قيل : في الآية دلالة على أن الذي تكون حسنات وسيئاته متعادلتين متساويتين غير موجود والله أعلم .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 10

وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَظۡلِمُونَ٩
وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ١٠

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1

ثم لما فرغ من التخويف بالعذاب الآجل رغب الخلائق في قبول دعوة الأنبياء بطريق آخر وهو تذكير النعم فإن ذلك يوجب الطاعة فقال : { ولقد مكناكم في الأرض } أقدرناكم على التصرف فيها { وجعلنا لكم فيها معايش } هي جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك وبالجملة وجوه المنافع التي تحصل بتخليق الله تعالى ابتداء كالأثمار ، أو بواسطة كالاكتساب ولوجه في معايش تصريح الياء لأنها أصلية لا زائدة كصحائف بالهمز في صحيفة . وعن ابن عامر أو نافع في بعض الروايات الهمز تشبيهاً بصحائف واستبعده النحويون البصريون . ثم عاتب المكلفين بأنهم لا يقومون بشكر نعمه كما ينبغي فقال : { قليلاً ما تشكرون } وفيه إشارة إلى أنهم قد يشكرون { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] .

التأويل : { المص } هو إله من لطفه أفرد عباده للمحبة وللمعرفة وأنعم عليهم بالصدق والصبر لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة { كتاب أنزل على قلبك } فانفسح له صدرك وانشرح فلم يبق فيه ضيق وحرج بخلاف ما أنزل من الكتب في الألواح والصحف فقد عرض لبعضهم ضيق عطن فألقى الألواح . وكما شرف نبيه بالكتاب المنزل على قلبه حتى صار خلقه القرآن شرف أمته بأن أمرهم باتباع ما أنزل إليهم ليتخلقوا بأخلاق الله . { وكم من قرية } قبل أفسدنا استعدادها { فجاءها بأسنا } أي إزاغة قلوبهم بإصبع القهارية وأهلها نائمون على فراش الحسبان { قائلون } في نهار الخذلان فما كان ادّعاؤهم إلا أن قالوا من قصر نظرهم لا من طريق الأدب { إنا كنا ظالمين } فنسبوا التصرف إلى أنفسهم ولم يعلموا أن الله تعالى مقلب أفئدتهم وأبصارهم { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } وهم عامة الخلائق هل قبلتم الدعوة وعملتم بما أمرتم أم لا فيكون السؤال سؤال تعنيف وتعذيب أو هم الذين قبلوا الدعوة فيكون السؤال سؤال تشريف وتقريب { ولنسئلن المرسلين } سؤال إنعام وإكرام هل بلغتم وهل وجدتم أمماً قابِلِي الدعوة { فلنقصن عليهم بعلم } فليعلمن أنا ما أرسلنا الرسل إليهم عبثاً وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وخطب جسيم { وما كنا غائبين } عن الرسل بالنصر والمعونة وعن المرسل إليهم بالتوفيق والعناية { والوزن يومئذ } لأهل الحق لا الباطل لا نقيم لهم يوم القيامة وزناً . روي أنه يوم القيامة يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة . { فمن ثقلت موازينه } بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأحوال الكاملة { فأولئك هم المفلحون } من شر أنانيتهم وإنما جمع الموازين لأن لبدن كل مكلفٍ ميزاناً يوزن به أعماله ولنفسه ميزاناً يوزن به صفاتها ولقلبه ميزاناً يوزن به أوصافه ولروحه ميزاناً يوزن به نعوته ولسره ميزاناً يوزن به أحواله ولخفيه ميزاناً يوزن به أخلاقه . والخفي لطيفة روحانيّة قابلة لفيض الأخلاق الربانية ولهذا قال صلى الله عليه وآله : «ما وضع في الميزان شيء أقل من حسن الخلق» وذلك أنه ليس من نعوت المخلوقين وإنما هو خلق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه { خسروا أنفسهم } أفسدوا استعدادها { ولقد مكناكم } هيأنا لكم خلافة الأرض دون غيركم من الحيوانات والملك { وجعلنا لكم } خاصة { معايش } ولكل صنف من الملك والحيوانات معيشة واحدة وذلك أن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية . فمعيشة الملك هي معيشة روحه ، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه ، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء ، وقد حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية وإنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي القلب والسر والخفي ، فمعيشة قلبه هي الشهود ، ومعيشة سره هي الكشوف ، ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول .

وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ١١

التفسير : من جملة نعم الله تعالى علينا أن خلق أبانا آدم فجعله مسجوداً للملائكة فلذلك ذكر تلك القصة عقيب تذكير النعم ، ونظير هذه الآيات ما سبق في سورة البقرة

{ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] منع من المعصية بقوله : { كيف تكفرون } ثم علل ذلك المنع بكثرة نعمه على المكلفين وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع ، ثم ختم ذلك بقصة جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة ، والغرض من الكل أن التمرد والجحود لا يليق بإزاء هذه النعم الجسام . وقصة آدم وما جرى له مع إبليس ذكرها الله في سبعة مواضع : في «البقرة » وهاهنا وفي «الحجر » وفي «سبحان » وفي «الكهف » وفي «طه » وفي «ص » وسنبين بعض حكمة اختلاف العبارات بقدر الفهم إن شاء الله تعالى . وهاهنا سؤال وهو أن قوله : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا } يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا والأمر في الواقع بالعكس . وأجاب المفسرون بوجوه منها : أن المضاف محذوف أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا . وإنما حسن هذه الكناية لأن آدم عليه السلام أصل البشر نظير قوله لبني إسرائيل المعاصرين { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } [ البقرة : 63 ] أي ميثاق أسلافكم . وقال صلى الله عليه وسلم : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل . وإنما قتله أحدهم . ومنها أن المراد من خلقناكم آدم ثم صورناكم أي صورنا ذرية آدم في ظهره في صورة الذر ثم قلنا للملائكة وهذا قول مجاهد . ومنها خلقناكم ثم صورناكم ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة . ومنها أن الخلق في اللغة التقدير وتقدير الله تعالى عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كل شيء بمقداره المعين له . فقوله : { خلقناكم } إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم . وقوله : { صورناكم } إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورهم كما أنه أثبت صور كل كائن كما جاء في الخبر «اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة » . ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له . قال الإمام فخر الدين رضي الله عنه . وهذا التأويل عندي أقرب الوجوه في تأويل هذه الآية . وأما أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا فقد تقدم في أوائل سورة البقرة فلا وجه لإعادته .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25القراءات : { لأملأن } بتليين الهمزة الثانية حيث كان : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف : { تخرجون } من الخروج : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن ذكوان الباقون : مبنياً للمفعول من الإخراج والله أعلم .

الوقوف : { إلا إبليس } ط لأنه معرفة فلا تصلح الجملة صفة له . { الساجدين } ه { إذ أمرتك } ط { منه } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول . { طين } ه { الصاغرين } ه . { يبعثون } ه { المنظرين } ه { المستقيم } ه لا للعطف { شمائلهم } ط { شاكرين } ه { مدحوراً } ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف . { أجمعين } ه { الظالمين } ه { الخالدين } ه { الناصحين } ه { بغرور } ج لأن جواب «لما» منتظر مع الفاء { ورق الجنة } ط لأن الواو للاستئناف { مبين } ه { أنفسنا } سكتة للأدب إعلاماً بانقطاع الحجة قبل ابتداء الحاجة . { الخاسرين } ه { عدو } ط لعطف المختلفين { إلى حين } ه { تخرجون } ه .

صفحة 152

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ١٢

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

أما قوله سبحانه : { ما منعك أن لا تسجد } فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر : أن «لا صلة » زائدة كما في { لا أقسم } [ القيامة : 1 ] وكما في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين . قال في الكشاف : وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في { لئلا يعلم } ليتحقق علم أهل الكتاب ، وفي { ما منعك أن لا تسجد } ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك . قلت : لعله أراد أن زيادة «لا » إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور . وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلماً : ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك ؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي . وثالثها قال القاضي : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال : ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها . وقيل : الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه . وقيل : معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي ؟ وقيل : معناه من قال لك لا تسجد . وأقول : يمكن أن لا يعلق قوله : { أن لا تسجد } بقوله : { ما منعك } وإنما يكون متعلقه محذوفاً التقدير : ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليك هذا السؤال . والحاصل أن عدم سجودك ما سببه ؟ { إذ أمرتك } أمر إيجاب . وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده . واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه ، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال . ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعماً منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال : { أنا خير منه } ثم بين هذه المقدمة بقوله { خلقتني من نار وخلقته من طين } والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها ، وأيضاً النار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال . وأيضاً النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت . وأيضاً فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع . وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة ، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره ، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل . ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جداً . ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به رداً لكلامه ، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل . فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه وقد قال صلى الله عليه وسلم : «ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم » { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وفي كلام الحكماء : العاقل من يفتخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية . فثبت أن دعوى اللعين في قوله : { أنا خير منه } باطلة . ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعاً وإسقاطاً لحق النفس ؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره ؟ قالت العلماء هاهنا : إن قوله تعالى للملائكة { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة : ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس . وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس . ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلاً للنص بالكلية لا مخصصاً . وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بسجوده لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بسجوده لما هو مخلوق من الأرض أولى . ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذٍ لا يقبح أمره بذلك . ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس ، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود ، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25

قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ١٣

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

{ قال } أي الله تعالى كلام تعنيف وتعذيب لا إكرام وتشريف أو قال على لسان بعض ملائكته { فاهبط } يعني إذ لم تمثل أمري فاهبط { منها } . قال ابن عباس : يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم . وقال بعض المعتزلة : أمر بالهبوط من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين { فما يكون } فما يصح { لك أن تتكبر فيها } وتعصي { فاخرج إنك من الصاغرين } من أهل الصغار والهوان . يقال للرجل قم صاغراً إذا أهين . وفي ضده قم راشداً ، قال الزجاج : إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله بالذلة والصغار كما قال النبي صلى الله عليه وآله : «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله » .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25

قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ١٤
قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ١٥

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

{ قال } مطلقاً { إنك من المنظرين } قيل : إن هذا المطلق مقيد بقوله في موضع آخر

{ إلى يوم الوقت المعلوم } [ ص : 81 ] أي اليوم الذي يموت الأحياء كلهم فيه وهو وقت النفخة الأولى ، وقال آخرون : لم يوقت الله تعالى له أجلاً . والمراد الوقت المعلوم في علم الله تعالى والدليل على ذلك أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فيقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحاً . أجاب الأولون بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء أو على الكفر والمعاصي كإبليس فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25

قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ١٦

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

{ قال فبما أغويتني } الإغواء ضد الإرشاد وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد يعرض في جوفه من كثرة شرب اللبن . ولا يمكن أن يتعلق الباء بقوله : { لأقعدن } لأن لام القسم تأبى ذلك . لا يقال : والله يريد لأمرنّ . لأن حكم القسم وما يتلوه حكم همزة الاستفهام وحرف النفي الذي هو ما وهي تعمل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فكأنها عوامل ضعيفة فلم يتقدم عليها شيء من معمولاتها لضعفها . وإنما يتعلق بفعل القسم المحذوف و «ما » مصدرية تقديره : فبما أغويتني أي فبسبب إغوائك إياي أقسم . ويجوز أن تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن . ومعنى القسم بالإغواء أنه من جملة آثار القدرة أي بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن . وقال في الكشاف : إن الأمر بالسجود كان سبب إغوائه وهو تكليف والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً بأن يقسم به وهذا يناسب أصول الاعتزال . قال مشايخ العراق : الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والجلال والعزة يمين ، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يميناً . ويعني بصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده فيقال : رحم فلاناً ولم يرحم فلاناً وغضب ولم يغضب . وقال بعضهم : ما للاستفهام كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال : { لأقعدن } ويرد على هذا القول أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما » الاستفهامية قليل . قيل : إن إبليس أضاف الإغواء هاهنا إلى الله وفي قوله :

{ فبعزتك لأغوينهم } [ ص : 82 ] أضاف الإغواء إلى نفسه والأول يدل على الجبر والثاني على القدر ، وهذا دليل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة . أجابت المعتزلة عن قوله : { فبما أغويتني } بأن قول إبليس واعتقاده ليس بحجة أو المراد أنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر منه كفر فلهذا المعنى أضاف الغي إلى الله . وقد يقال : لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضربك عنده ، أو المراد بالإغواء الإهلاك واللعن . وقالت الأشاعرة : نحن لا نبالغ في أن المراد بالإغواء هاهنا هو الإضلال لأن حاصله كيفما كان يرجع إلى حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة إلا أنا نقطع بأن الغاوي لا بد له من مغوٍ وليس ذلك نفسه لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والدور أو التسلسل محال فلا بد أن ينتهي إلى خالق الكل وهو المقصود . أما قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } فانتصابه على الظرف كقوله :

لدن بهز الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب

قال الزجاج : هو كقولهم ضرب زيداً الظهر والبطن أي على الظهر والبطن . والمراد لأعترضن لهم أي لبني آدم المذكورين في قوله : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم } على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة ، والحاصل أنه يواظب على الإفساد بالوسوسة مواظبة لا يفتر عنه ولهذا ذكر العقود لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود .

واعلم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل . فمن قائل بالأول لقوله : { صراطك المستقيم } وصراط الله المستقيم هو دينه الحق . ومن قائل بالثاني لقوله : { فبما أغويتني } فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية ، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد ، ويمكن أن يجاب بأنه أراد بالإغواء أيضاً الإغواء بزعم الخصم ، قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دنيه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك ، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك . قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض . إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً بدليل قوله تعالى : { فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم } [ الصافات : 162 ] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة . وقال أبو هاشم : يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من المشقة توجب الزيادة في الثواب . وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنوا في عينه أمراً من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق . وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنه تعالى لا يراعي المصلحة ، وتقرير الحجة أن خلق تلك الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأب ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب . فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25

ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ١٧

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها { من بين أيديهم } أي أشككهم في صحة البعث والقيامة { ومن خلفهم } ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية . وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة ، ومن خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها ؛ فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها ، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها ، وثالثها قول الحكم والسدي { من بين أيديهم } يعني الدنيا لأنهم بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها { ومن خلفهم } الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك . وأما قوله : { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } فقيل : { عن أيمانهم } في الكفر والبدعة { وعن شمائلهم } في أنواع المعاصي . وقيل : { عن أيمانهم } في الصرف عن الحق { وعن شمائلهم } في الترغيب في الباطل . وقيل : { عن أيمانهم } افترهم عن الحسنات { وعن شمائلهم } أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري : وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين . وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس . وقال حكماء الإسلام : إن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية : إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله : { من بين أيديهم } وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله : { ومن خلفهم } وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن . ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر . فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة . وقيل : { من بين أيديهم } الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد { ومن خلفهم } شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى ، { وعن إيمانهم } الترغيب في ترك المأمورات { وعن شمائلهم } الترغيب في فعل المنهيات . وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [ طه : 82 ] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ

{ وحيل بينهم وبين ما يشتهون } [ سبأ : 54 ] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام . فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل » وعلى هذا فالقعود في الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } [ الإسراء : 64 ] وبقي هاهنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال : { من بين أيديهم ومن خلفهم } بحرف الابتداء { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } بحرف المجاورة ؟ قال في الكشاف : وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع . يقال : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، فمعنى «على » أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى «عن » أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به «رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس » لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدئ الرمي منها ، وكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئته من الليل تريد بعض الليل . وقال بعض المفسرين : خص اليمين والشمال بكلمة «عن » لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف . وقالت الحكماء { من بين أيديهم ومن خلفهم } هما الوهم والخيال كما مر والناشئ منهما العقائد الباطلة والكفر { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } الشهوة والغضب والناشئ منهما الأفعال الشهوية والغضبية . وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة «عن » تنبيهاً على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول . وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموضوعة في الجوانب الأربعة من البدن ، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات ؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريقة الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة . قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على أن لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق . قلت : هذا منافٍ لما في الحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » . أما قوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } فسئل أنه من باب الغيب فكيف عرف ؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين . وقال آخرون : إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله ، ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال :

{ ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ : 20 ] { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] . وقيل : إن للنفس تسع عشرة قوة : الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم . وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل ، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لاسيما وهي في أول الخلقة تكون قوية ، والعقل يكون ضعيفاً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25

قَالَ ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ١٨

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

{ قال } الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك { اخرج منها مذءوماً مدحوراً } الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز ، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل : لا تعدم الحسناء ذاماً . واللام في { لمن تبعك } موطئة للقسم و{ لأملأن } جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط . وعن عاصم { لمن تبعك } بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله : { لأملأن جهنم } فغلب ضمير المخاطب كما في قوله : { إنكم قوم تجهلون } [ الأعراف : 138 ] أي إنكم وإنهم على هذا . فقوله : { لأملأن } في محل الابتداء { ولمن تبعك } خبره . قال القاضي : كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار . وأجيب بشرط عدم العفو .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25

وَيَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ١٩

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

قوله : { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } الآية . فيها من المسائل أن قوله : { اسكن } أمر تعبد أو أمر إباحة من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف . وأن زوج آدم هي حواء وأن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض . وأن قوله { وكلا } أمر إباحة لا أمر تكليف . وأن قوله : { ولا تقربا } نهي تنزيه أو نهي تحريم وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت . وأن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً . وأن الظلم في قوله : { فتكونا من الظالمين } بأي معنى هو ؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها ؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25

فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ٢٠

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 11

{ فوسوس لهما الشيطان } الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضاً بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم كالزلزال . ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى . فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلاماً خفياً يكرره { ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما } قيل : اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهر عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك ، وقيل : لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه ، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته . وقوله : { ووري } مجهول وارى أي ستر والسوءة فرج الرجل والمرأة . ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه { قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله : { إني لكما لمن الناصحين } . سؤال : كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله ؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له ، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا البتة لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسداً . وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله : { أو تكونا من الخالدين } . قال الواحدي : كان ابن عباس يقرأ { ملكين } بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 120 ] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة . ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهراً نورانياً مقره العرش والكرسي . نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن : إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله ؟ فقال الحسن : معاذ الله لو صدّقاه لكانا من الكافرين . أراد الحسن أن تصديق الخلود يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر . ويمكن أن يقال : لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير ، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذٍ . ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعاً ولا ظناً وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال . ثم إن بعضهم زعم أن الترغيب كان في مجموع الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 25