الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي

الثعالبي القرن التاسع الهجري

صفحة 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

فاتحة الكتاب بحول الله تعالى وقوته

ابن عباس وغيره أنها مكية ، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر ( آتيناك سبعا من المثاني ) والحجر مكية بإجماع . وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني .

ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة . وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة بغير ( الحمد لله رب العالمين ) .

وروي عن عطاء بن يسار وغيره أنها مدينة .

وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب ، واختلف هل يقال لها أم الكتاب ؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن ، وأجازه ابن عباس وغيره . وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة .

واختلف هل يقال لها أم القرآن ؟ فكره ذلك ابن سيرين ، وجوزه جمهور العلماء . وسميت المثاني لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل لأنها استثنيت لهذه الأمة .

وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها . وروي أنها تعدل ثلثي القرآن ، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل . وكذلك يجئ عدل قل هو الله أحد وعدل إذا زلزلت وغيره ت . ونحو حديث أبي حديث أبي سعيد بن المعلى إذ قال له صلى الله عليه وسلم " ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن ( الحمد الله رب العالمين ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه انتهى من سلاح المؤمن تأليف الشيخ المحدث أبي الفتح تقي الدين محمد بن علي بن همام رحمه الله .

تفسير بسم الله الرحمن الرحيم روي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم : تعس الشيطان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقل ذلك ، فإنه يتعاظم عنده ، ولكن قل : بسم الله الرحمن الرحيم ، فإنه يصغر حتى يصير أقل من الذباب " ، والبسملة تسعة عشر حرفا ، قال بعض الناس إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم عليها تسعة عشر ، إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم ، لكل حرف ملك ، وهم يقولون في كل أفعالهم بسم الله الرحمن الرحيم ، فمن هنالك هي قوتهم ، وباسم الله استضلعوا .

قال ( ع ) : وهذا من ملح التفسير ، وليس من متين العلم ، ( ت ) ولا يخفى عليك لين ما بلغ هؤلاء . ولقد أغنى الله تعالى بصحيح الأحاديث ، وحسنها ، عن موضوعات الوراقين . فجزى الله نقاد الأمة عنا خيرا . وما جاء من الأثر عن جابر وأبي هريرة مما يقتضي بظاهره أن البسملة آية من الفاتحة يرده صحيح الأحاديث ، كحديث أنس ، وأبي بن كعب ، وحديث ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ) ونحوها ، ولم يحفظ قط عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء بعده أنهم يبسملون في الصلاة .

( ع ) ، والباء له في بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسم ، تقديره ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله ، وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره ابتدأت بسم الله ، واسم أصله سمو بكسر السين ، أو سمو بضمها وهو عند البصريين مشتق من السمو . ( ت ) وهو العلو والارتفاع .

قال ( ص ) : والاسم هو الدال بالوضع على موجود في العيان ، إن كان محسوسا ، وفي الأذهان إن كان معقولا ، من غير تعرض ببنيته للزمان . ومدلوله هو المسمى ، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلا على المعنى . فهي أمور ثلاثة متباينة ، فإذا أسندت حكما إلى لفظ اسم ، فتارة يكون حقيقة نحو زيد اسم ابنك ، وتارة يكون مجازا ، وهو حيث يطلق الاسم ، ويراد به المسمى ، كقوله تعالى : { تبارك اسم ربك } [ الرحمن :78 ] { وسبح اسم ربك } [ الأعلى :1 ] وتأول السهيلي ( سبح اسم ربك ) على إقحام الاسم أي سبح ربك وإنما ذكر الاسم حتى لا يخلو التسبيح من اللفظ باللسان ، لأن الذكر بالقلب متعلقه المسمى ، والذكر باللسان متعلقه اللفظ ، وتأول قوله تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء } [ يوسف :40 ] بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على الحقيقة ، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها . انتهى .

وقال الكوفيون : أصل اسم وسم من السمة ، وهي العلامة لأن الاسم علامة لمن وضع له ، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسمائه تعالى ، وأكثرها استعمالا ، وهو المتقدم لسائرها في الأغلب ، وإنما تجئ الأخر أوصافا ، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللات ، وقيل طرحت تخفيفا ، والرحمن صفة مبالغة من الرحمة . معناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة . وهي صفة تختص بالله تعالى ، ولا تطلق على البشر . وهي أبلغ من فعيل . وفعيل أبلغ من فاعل ، لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة ، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك ، والرحمن النهاية في الرحمة .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[ الفاتحة :2 ] .

الحَمْدُ : معناه الثناء الكاملُ ، والألف واللام فيه لاِستغراقِ الجنس ، من المحامد ، وهو أعم من الشكر ، لأنَّ الشكر إنما يكون على فِعْلٍ جميل يسدى إِلى الشاكر ، والحمد المجرَّد هو ثناء بصفات المحمود .

قال : ( ص ) : وهل الحمدُ بمعنى الشكْر أو الحمدُ أَعمُّ أو الشكر ثناءٌ على اللَّه بأفعاله ، والحمد ثناء عليه بأوصافه ؟ ثلاثةُ أقوال انتهى .

قال الطبريُّ : الحمدُ لِلَّهِ ثناءٌ أثنى به على نفسه تعالى ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ، فكأنه قال قولوا : { الحمد للَّه }[ الفاتحة :2 ] ، وعلى هذا يجيء قولوا : { إِيَّاكَ } ، وَ{ اهدنا }[ الفاتحة :5و6 ] .

قال : وهذا من حذف العربِ ، ما يدلُّ ظاهر الكلام عليه ، وهو كثيرٌ .

( والرب ) في اللغة المعبود ، والسيدُ المالكُ ، والقائمُ بالأمور المُصْلِحُ لما يفسد منها ، فالرب على الإِطلاق هو ربُّ الأرباب على كل جهة ، وهو اللَّه تعالى .

( والعَالَمُونَ ) : جمع عَالَمٍ ، وهو كل موجود سوى اللَّه تعالى ، يقال لجملته عَالَمٌ ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عَالَمٌ ، عَالَمٌ ، وبحسب ذلك يجمع على العَالَمِينَ . ومن حيثُ عالَمُ الزمانِ متبدِّلٌ في زمان آخر ، حَسُنَ جمعها ، ولفظة العالَمِ جمع لا واحد له من لفظه ، وهو مأخوذ من العَلَمِ ، والعلامة لأنه يدل على موجده ؛ كذا قال الزَّجَّاج ، قال أبو حَيَّان : الألف واللام في العَالَمِينَ لِلاستغراقِ ، وهو جمع سلامة ، مفرده عَالَمٌ ، اسم جمع ، وقياسه ألا يجمع ، وشذَّ جمعه أيضاً جمع سلامة لأنه ليس بعَلَمٍ ولا صفةٍ .

( م ) ، وذهب ابنُ مالك في " شَرْحِ التَّسْهِيلِ " إلى أن ( عَالَمِين ) اسم جمعٍ ، لمن يعقل ، وليس جمع عالمٍ ، لأن العَالَمَ عامٌّ ، و«عالَمِينَ » خاصٌّ ، قلت : وفيه نظر انتهى .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

وقد تقدَّم القول في الرحمن الرحيم .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

{ مالك يَوْمِ الدين } : الدِّينُ في كلام العربِ على أنحاء ، وهو هنا الجزاءُ يوم الدين ، أي يوم الجزاء على الأعمال ، والحساب بها ، قاله ابن عباس ، وغيره ، ( مَدِينِينَ ) : محاسَبِينَ ، وحكى أهل اللغة : دِنْتُهُ بِفِعْلِهِ دَيْنا بفتح الدال وَدِيناً بكسرها ، جزيتُهُ ، ومنه قول الشاعر : ( الكامل )

واعلم يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ *** واعلم بِأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ }[ الفاتحة :5 ] نطق المؤمن به إِقرار بالربوبية ، وتذلُّلا وتحقيقا لعبادة اللَّه ، وقدَّم إِيَّاكَ على الفعل اهتماما ، وشأن العرب تقديم الأَهَمِّ ، واختلف النحويُّون في «إِياك » ، فقال الخليلُ : «إيَّا » ، اسم مضمر أضيف إِلى ما بعده للبيان ، لا للتعريف ، وحكي عن العرب : «إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّينَ ، فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابِّ » ، وقال المبرِّد : إِيَّا : اسمٌ مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف ، وحكى ابن كَيْسَانَ عن بعض الكوفيِّين أنَّ «إِيَّاكَ » بكماله اسم مضمر ، ولا يعرف اسم مضمر يتغيَّر آخره غيره ، وحكي عن بعضهم أنه قال : الكاف والهاء والياء هو الاسم المضمر ، لكنها لا تقوم بأنفسها ، ولا تكون إِلا متصلات ، فإذا تقدَّمت الأفعال جعل «إِيَّا » عماداً لها ، فيقال : إِيَّاكَ وإِيَّاهُ وإِيَّايَ ، فإِذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن «إِيَّا » .

و{ نَعْبُدُ } : معناه : نقيم الشرع والأوامر ، مع تذلُّل واستكانةٍ ، والطريقْ المذلَّل ، يقال له معبَّدٌ وكذلك البعير .

و{ نَسْتَعِينُ } معناه نطلب العون منك ، في جميع أمورنا ، وهذا كله تَبَرٍّ من الأصنام .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) }[ الفاتحة :6 ] .

وقوله تعالى : { اهدنا }[ الفاتحة :6 ] .

رغبة لأنها من المربوب إلى الرب ، وهكذا صيغ الأمر كلها ، فإِذا كانت من الأعلى ، فهي أَمْرٌ .

والهِدَايَةُ في اللغة الإرشادُ ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسِّرون بغير لفظ الإِرشاد . وكلها إِذا تأملت راجِعةٌ إلى الإرشاد ، فالهدى يجيء بمعنى خَلْقِ الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] و{ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] ، و { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] { فَمَن يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ } [ الأنعام : 125 ] الآية . قال أبو المعالي : فهذه الآيات لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب ، وهو محض الإرشاد ، وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء ؛ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] أي : داع ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] .

وقد جاء الهدى بمعنى الإِلهام ، من ذلك قوله تعالى : { أعطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .

قال المفسِّرون : ألهم الحيواناتِ كلَّها إِلى منافعها .

وقد جاء الهدى بمعنى البيان ، من ذلك ، قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم } [ فصلت : 17 ] قال المفسِّرون : معناه : بيَّنَّا لهم .

قال أبو المعالي : معناه : دعوناهُمْ ، وقوله تعالى : { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] ، أي : علينا أنْ نبيِّن ،

وفي هذا كله معنى الإِرشاد .

قال أبو المعالي : وقد ترد الهدايةُ ، والمراد بها إِرشاد المؤمنين إِلى مسالك الجِنَانِ ، والطرقِ المفضيةِ إِلَيْهَا كقوله تعالى في صفة المجاهدين { فَلَنْ يُضِلَّ أعمالهم } { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [ محمد : 4-5 ] ومنه قوله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] ، معناه : فاسلكوهم إِليها .

قال : ( ع ) : وهذه الهدايةُ بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا ، وهي ضدُّ الضلالِ ، وهي الواقعة في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم }[ الفاتحة :6 ] ؛ على صحيح التأويلات ، وذلك بيِّن من لفظ «الصِّرَاط » والصراط ؛ في اللغة : الطريقُ الواضِحُ ، ومن ذلك قول جَرِيرٍ : ( الوافر )

أَمِيرُ المُؤْمِنيِنَ على صِرَاطٍ *** إِذَا اعوج المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

واختلف المفسِّرون في المعنى الذي استعير له «الصِّراط » في هذا الموضع : فقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه : { الصراط المستقيم } [ الفاتحة :6 ] . هنا القرآنُ ، وقال جابرٌ : هو الإِسلام ، يعني الحنيفيَّة .

وقال محمَّد بن الحنفيَّة : هو دينُ اللَّه الذي لا يَقْبَلُ مِن العِبَادِ غيره .

وقال أبو العالية : هو رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه أبو بَكْر وعمر ، أي : الصراط المستقيم طريقُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وهذا قويٌّ في المعنى إلاَّ أنَّ تسمية أشخاصهم طريقاً فيه تجوُّز ، ويجتمع من هذه الأقوال كلِّها أنَّ الدعوة هي أنْ يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته ، وفي التزامه لأحكام شرعه ، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام ، وهو حالُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ( 7 ) }

وهذا الدعاء إِنما أمر به المؤمنون ، وعندهم المعتقدات ، وعند كل واحد بعض الأعمال ، فمعنى قوله : { اهدنا } فيما هو حاصل عندهم التثبيتُ ، والدوام ، وفيما ليس بحاصل ، إِما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه ، طلب الإِرشاد إِليه ، فكلُّ داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله ، وأفعاله ، ومعتقداته . واختلف في المشار إِليهم بأنه سبحانه أنعم عليهم ، وقول ابن عبَّاس ، وجمهور من المفسِّرين ، أنه أراد صراط النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالِحِين ، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى :

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } الآية [ النساء : 66 ] إلى قوله : { رَفِيقاً } [ النساء :69 ] .

وقوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين }[ الفاتحة :7 ] .

اعلم أنَّ حكم كل مضافٍ إلى معرفة أنْ يكون معرفة ، وإنما تنكَّرت «غَيْرٌ » و «مِثْلٌ » مع إضافتهما إلى المعارف ، من أجل معناهما ، وذلك إِذا قلْتَ : رأيتُ غَيْرَكَ ، فكلُّ شيء سوى المخاطَبِ فهو غيره . وكذلك إِنْ قُلْتَ رأيْتُ مثْلَكَ ، فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة .

و{ المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة :7 ] ، اليهودُ ، والضالُّون : النصارى . قاله ابن مسعود ، وابن عَبَّاس ، ومجاهد ، والسُّدِّيُّ ، وابن زيد .

وروى ذلك عديُّ بن حاتم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وذلك بيِّن من كتاب اللَّه ، لأنَّ ذِكْرَ غضَبِ اللَّه على اليهود متكرِّر فيه ، كقوله : { وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ البقرة :61 ] { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّنْ ذلك مَثُوبَةً عِنْدَ الله . . . } الآية [ المائدة : 60 ] وغضب اللَّه تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محناً وعقوباتٍ وذِلَّةً ، ونحو ذلك ممَّا يدلُّ على أنه قد أبعدهم عن رحمته بُعْداً مؤكَّداً مبالغاً فيه ، والنصارى كان محقِّقوهم على شِرْعَةٍ قبل ورود شرعِ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فلما ورد ضلُّوا ، وأما غير متحقِّقيهم فضلالتهم متقرِّرة منذ تفرَّقت أقوالهم في عيسى عليه السلام . وقد قال اللَّه تعالى فيهم : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَنْ سَوَاءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] .

وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبْعُ آيات : العالمين آية ، الرحيم آية ، الدين آية ، نستعين آية ، المستقيم آية ، أنعمت عليهم آية ، ولا الضالين آية . وقد ذكرنا عند تفسير { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم } أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيفٌ .

القَوْلُ فِي «آمِينَ » :

روى أبو هريرة وغيره عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِذَا قَالَ الإِمَامُ : { وَلاَ الضالين } ؛ فَقُولُوا «آمِينَ » ، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ فِي السَّماءِ تَقُولُ : «آميِنَ » ، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .

( ت ) : وخرج مسلم ، وأبو داود ، والنسائيُّ ، من طريق أبي موسى رضي اللَّه عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ، ثُمَّ ليُؤمَّكُمْ أَحَدُكُمْ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَالَ : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين } فَقُولُوا : «آمِينَ » ، يُجِبْكُمُ اللَّهُ " الحديثَ . انتهى .

ومعنى «آمِينَ » ؛ عند أكثر أهل العلم : اللَّهُمَّ استجب ، أو أجبْ يَا رَبِّ .

ومقتضى الآثار أنَّ كل داع ينبغي له في آخر دعائه أنْ يقول : «آمِينَ » ، وكذلك كل قارئ للحمدِ في غير صلاة . وأما في الصلاة فيقولها المأموم والفَذُّ . وفي الإمام في الجهر اختلاف .

واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ " ، فقيل : في الإجابة ، وقيل : في خلوص النية ، وقيل : في الوقت . والذي يترجَّح أنَّ المعنى : فمن وافق في الوقْتِ مع خلوصِ النيةِ والإِقبالِ على الرغبة إِلى اللَّه بقلْبٍ سليمٍ ، والإِجابة تتبع حينئذ ، لأِنَّ من هذه حاله فهو على الصراط المستقيم .

وفي «صحيح مُسْلِمٍ » وغيره عن أبي هريرة قال : سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي ، وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، فَنِصْفُهَا لِي ، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ : الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي ، فَإِذَا قَالَ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ : أثنى عَلَيَّ عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ، فَإذَا قَالَ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ : اهدنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ، قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ " انتهى ، وعند مالك : «فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي » .

وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ ، فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ " انتهى من «تَارِيخِ بَغْدَاد » . ولم يذكر في سنده مَطْعَناً .

وقال ابن العربيِّ في «أحكامه » : والصحيحُ عندي وجوبُ قراءتها على المأمومِ فيما أسر فيه ، وتحريمها فيما جهر فيه ، إذا سمع الإِمام ، لِمَا عليه من وجوب الإِنصاتِ والاِستماعِ ، فإِنْ بَعُدَ عن الإِمام ، فهو بمنزلة صلاة السرِّ . انتهى .

نجز تفسير سورة الحَمْدِ ، والحَمْدُ للَّه بجميع محامده كلِّها ؛ ما علمْتُ منها ، وما لم أَعْلَمْ .