{ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }
( قال الأستاذ ) الصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الحق ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر[2] وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الأنعام { فبهداهم اقتده } وقد قلنا إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الأخبار ، التي هي مثل الذكرى والاعتبار ، وينبوع العظة والاستبصار ، وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية .
( قال ) فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين والمغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى . ونحن نقول إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الإمام علي رضي الله عنه وهو أعلم بهذا من غيره ، لأنه تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به ، وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور ( كما مر في المقدمة ) ولم يكن المسلمون في أول نزول الوحي بحيث يطلب الاهتداء بهداهم وما هداهم إلا من الوحي ، ثم هم المأمورون بأن يسألوا أن يهديهم هذه السبيل سبيل من أنعم الله عليهم من قبلهم ، فأولئك غيرهم ، وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى { فبهداهم اقتده } وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة . فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن بقدر الحاجة . فثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص : وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم ، في كفرهم وإيمانهم ، وشقاوتهم وسعادتهم ، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع . فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد ، ونظرنا في أحوال الأمم السابقة ، وأسباب علمهم وجهلهم ، وقوتهم وضعفهم ، وعزهم وذلهم ؛ وغير ذلك مما يعرض للأمم – كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض ، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار . ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات ، وتأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ، ويرغبون عنه ، ويقولون إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له . وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هنا الدين ؟ { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات } .
وهاهنا سؤال وهو : كيف يأمرنا الله تعالى باتباع صراط من تقدمنا وعندنا أحكام وإرشادات لم تكن عندهم ، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم ، وأصلح لزماننا وما بعده ؟ والقرآن يبين لنا الجواب وهو أنه يصرح بأن دين الله في جميع الأمم واحد ، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف باختلاف الزمان ، وأما الأصول فلا خلاف فيها . قال تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } الآية وقال تعالى { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } الآية . فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر ، وترك الشر وعمل البر ، والتخلق بالأخلاق الفاضلة ، مستو في الجميع . وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه ، والاعتبار بما صاروا إليه ، لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير . وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة . على حسب طريقة القرآن في قرن الدليل بالمدلول والعلة بالمعلول ، والجمع بين السبب والمسبب . وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإجمال نعرفه من شرعنا وهدى نبينا عليه الصلاة والسلام ا ه بتفصيل وإيضاح .
وأزيد هنا أن في الإسلام من ضروب الهداية ما قد يعد من الأصول الخاصة بالإسلام ، ويرى أنه مما يستدرك على ما قرره الأستاذ الإمام ، كبناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية ، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد المصالح والمنافع ودفع المضار والمفاسد ، وكبيان أن للكون سننا مطردة تجري عليها عوالمه العاقلة وغير العاقلة ، وكالحث على النظر في الأكوان ، للعلم والمعرفة بما فيها من الحكم والأسرار ، التي يرتقي بها العقل وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان ، وكل ذلك مما امتاز به القرآن . والجواب عن هذا أنه تكميل لأصول الدين الثلاث التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإنسان . وأما تلك الأصول وهي الإيمان الصحيح وعبادة الله تعالى وحده وحسن المعاملة مع الناس فهي التي لا خلاف فيها .
وأما وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به ، والذين بلغهم شرع الله تعالى ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه ، انصرافا عن الدليل ، ورضاه بما ورثوه من القيل ، ووقوفا عند التقليد ، وعكوفا على هوى غير رشيد ، وغضب الله يفسرونه بلازمه وهو العقاب ، ووافقهم الأستاذ الإمام ، والذي ينطق على مذهب السلف أن يقال أنه شأن من شؤونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه – وأن الضالين هم الذين لم يعرفوا الحق البتة ، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل كما سيأتي تفصيله . وقرن المعطوف في قوله { ولا الضالين } بلا لما في " غير " من معنى النفي أي وغير الضالين ففيه تأكيد للنفي . وهو يدل على أن الطوائف ثلاث . المنعم عليهم ، والمغضوب عليهم والضالون . ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها فلا يصلون منها إلى مطلوب ، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب ، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم ، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها ، وهم من لم تبلغهم الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق ، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين ، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية لا يهتدي معها إلى المطلوب ، والعماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ .
الأستاذ الإمام : الضالون على أقسام ( الأول ) من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر ، فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل ، وحرموا رشد الدين ، فإن لم يضلوا في شؤونهم الدنيوية ضلوا لا محالة فيما تطلب به نجاة الأرواح وسعادتها في الحياة الأخرى .
على أن من شأن الدين الصحيح أن يفيض على أهله من روح الحياة ما به يسعدون في الدنيا والآخرة معا ، فمن حرم الدين حرم السعادتين ، وظهر أثر التخبط والاضطراب في أعماله المعاشية ، وحل به من الرزايا ما يتبع الضلال والخبط عادة ، سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا . أما أمرهم في الآخرة فعلى أنهم لن يساووا المهتدين في منازلهم ، وقد يعفو الله عنهم وهو الفعال لما يريد .
وأزيد في إيضاح كلام الأستاذ أن الذين حرموا هداية الدين لا يعقل أن يؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يعرف إلا بهذه الهداية . وهذا هو معنى كونهم غير مكلفين ، وعليه جمهور المتكلمين ، لقوله تعالى في سورة الإسراء { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ومن قال إنهم مكلفون بالعقل لا يظهر وجه لقوله إلا إذا أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتقاء أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة إذ لا شك أن من لم يبعث فيهم رسول يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم بتفاوت استعدادهم الفطري وما يصادفون من حسن التربية وقبحها . وبهذا يجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو يفصل بينها . وما يعطيهم الله تعالى إياه في الآخرة على حسب حالهم في الخير والشر والفضيلة والرذيلة – يكون جزاء عادلا على أعمالهم الاختيارية ويزيدهم من فضله إن شاء . وسأفصل في هذا المعنى في تفسير الآيات المنزلة فيه إن شاء الله تعالى . وأعود الآن إلى إتمام سياق الأستاذ ، قال :
( القسم الثاني ) من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر ، فساق همته إليه ، واستفرغ جهده فيه ، ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه ، وانقضى عمره وهو في الطلب ، وهذا القسم لا يكون إلا أفراد متفرقة في الأمم ولا يعم حاله شعبا من الشعوب ، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة ، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتها الدنيا . أما صاحب هذه الحالة فقد ذهب بعض الأشاعرة إلى أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى ، وينقل صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري .
وأما على رأي الجمهور فلا ريب في أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد الذي أنكر التنزيل ، واستعصى على الدليل ، وكفر بنعمة العقل ، ورضى بحظه من الجهل ،
( القسم الثالث ) من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها ، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها ، فاتبعوا أهوائهم في فهم ما جاءت به من أصول العقائد ، وهؤلاء هم المبتدعة في كل دين ، ومنهم المبتدعون في دين الإسلام ، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن وما كان عليه السلف الصالح وأهل الصدر الأول ، ففرقوا الأمة إلى مشارب ، يغص بمائها الوارد ، ولا يرتوي منها الشارب ، ( قال ) وإني أشير إلى طرف من آثارهم في الناس : يأتي الرجل إلى دوائر القضاء فيستحلف بالله تعالى العظيم ، أو بالمصحف الكريم ، وهو كلام الله القديم ، أنه ما فعل كذا فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه ، فيأتيه المستحلف من طريق آخر ويحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية ، فيتغير لونه ، وتضطرب أركانه ، ثم يرجع في أليته ، ويقول الحق ، ويقر بأنه فعل ما حلف أولا أنه لم يفعله ، تكريما لاسم ذلك الشيخ وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو يحل به نقمة ، إذا حلف باسمه كاذبا . فهذا ضلال في أصول العقيدة يرجع إلى الضلال في الإيمان بالله تعالى وما يجب له من الوحدانية في الأفعال ، ولو أردنا أن نسرد ما وقع فيه المسلمون من الضلال في العقائد الأصلية بسبب البدع التي عرضت على دين الإسلام لطال المقال ، واحتيج إلى وضع مجلدات في وجوه الضلال ، ومن أشنعها أثرا ، وأشهدها ضررا ، خوض رؤساء الفرق منه في مسائل القضاء والقدر ، والاختيار والجبر ، وتحقيق الوعد والوعيد ، وتهوين مخالفة الله على نفوس العبيد .
إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقادات بكتاب الله تعالى من غير أن ندخلها أولا فيه يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين . وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرن وحشرناها فيه أولا فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال لاختلاط الموزون بالميزان . فلا يدري ما هو الموزون من الموزون به – أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين ، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها ، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها ، كما جرى عليه المخذولون ، وتاه فيه الضالون .
( القسم الرابع ) ضلال في الأعمال ، وتحريف للأحكام عما وضعت له ، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات ، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات ، ولنضرب لذلك مثلا : الاحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي قليل من الحول الثاني ، حتى لا تجب الزكاة فيه ، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ، ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية ، ولا يعلم أنه بذلك قد هدم ركنا من أهم أركان دينه ، وجاء بعمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره ، وهو محال عليه جل لشأنه –
ثلاثة أقسام من هذا الضلال أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم فتختل قوى الإدراك فيها ، وتفسد الأخلاق ، وتضطرب الأعمال ، ويحل بها الشقاء ، عقوبة من الله لا بد من نزولها بهم ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا . ويعد حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم من العلامات والدلائل على غضب الله تعالى عليها لما أحدثته في عقائدها وأعمالها مما يخالف سُننه ، ولا يتبع فيه سَننه .
لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم بالوقوف عند حدوده ، وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه ، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه بالانحراف عن شرائعه سواء كان ذلك عمدا وعنادا ، أو غواية وجهلا .
إذا ضلت الأمة سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها ، ففسدت أخلاقها واعتلت أعمالها ، وقعت في الشقاء لا محالة ، وسلط الله عليه من يستذلها ويستأثر بشؤونها ، ولا يؤخر لهذا العذاب إلى يوم الحساب ، وإن كانت ستلاقي نصيبها منه أيضا ، فإذا تمادى بها الغي وصل بها إلى الهلاك ، ومحي أثرها من الوجود ، لهذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا ، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم لنعتبر ونميز بين ما به تسعد الأقوام وما به تشقى . أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا ، فقد يستدرج الضال من حيث لا يعلم ، ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه ، وإنما يلقى جزاءه { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } ا ه
فوائد في تفسير الفاتحة
كان غرضنا من كتابة تفسير الفاتحة ونشره في المنار هو بيان ما نستفيده من دروس شيخنا الأستاذ الإمام ، مع شيء مما يفتح الله به علينا بالاختصار . فلذلك اختصرنا فيما كتبناه أولا ، ثم لما طبعنا تفسير الفاتحة على حدته مرة ثانية زدنا فيه بعض زيادات . وكان بدا لنا أن نجعل هذا التفسير مطولا مستوفى . ولهذا زدنا في تفسير الفاتحة هنا زيادات كثيرة كما نبهنا على ذلك في المقدمة . وبعد الفراغ من طبعه رأينا أن نعززه بالفوائد الآتية :
( حكمة إيثار ذكر الربوبية والرحمة في أول الفاتحة على سائر الصفات )
قد علمت أن اسم الجلالة ( الله ) هو اسم الذات الجامع لمعاني الصفات العليا ، وسائر الأسماء الحسنى ، والأصول من هذه الأسماء والصفات التي يرجع إليها غيرها وتعود إليها معانيها ولو بطريق اللزوم أربعة : اثنان منها ذاتيان وهما ( الحي القيوم ) والاثنان الآخران فعليان وهما الرب والرحمان والرحيم ، وبتعبير أظهر أو أصح : اثنان منهما لا يتعلقان بتدبير الخلق واثنان يتعلقان به ، فالحي ذو الحياة وهي بأعم معانيها الصفة الوجودية التي هي الأصل في معقولنا لجميع صفات الكمال في الوجود من صفات ذات وصفات أفعال كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وهي الصفات التي يسميها علماء الكلام صفات المعاني ويجعلون عليها مدار معرفة الله تعالى مع الصفات السلبية التي يراد بها تنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق من النقص ومشابهة الخلق ، وكالرحمة والحلم والغضب والعدل والعزة والخالقية والرازقية الخ وكمال الحياة يستلزم الاتصاف بهذه الصفات وبغيرها من صفات الكمال .
والحياة في الخلق قسمان : حسية ومعنوية ، فالأولى الحياة النباتية ، والحياة الحيوانية ، ولكل منهما صفات لازمة لها أعلاها في الحياة الثانية حياة الإنسان التي من خواصها العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك مما يفقده بالموت . والثانية الحياة العقلية والعلمية والروحية الدينية . ومن الشواهد القرآنية على هذه الحياة قوله تعالى { لينذر من كان حيّا } وقوله { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } وكمال هذه الحياة للبشر لا يكون إلا في الآخرة وإنما يكون الاستعداد في الدنيا بتزكية النفس بالعلم والعمل .
وحياة الخالق تعالى أعلى وأكمل من حياة جميع خلقه من الجن والإنس والملائكة وهي لا تشبهها { ليس كمثله شيء } وإنما نفهم من إطلاقها اللغوي مع التنزيه أنها الصفة الذاتية الواجبة الأزلية الأبدية التي يلزمها اتصافه بما وصف به نفسه من صفات الكمال بدونها فهي لا يتوقف تعقلها على غيرها من الصفات ويتوقف تعقل جميع الصفات عليها وعبر عنها بعضهم بأنها تصحح له الاتصاف بصفات المعاني .
وأما القيوم فأحسن ما قيل في تفسيره ما في معجم ( لسان العرب ) وهو القائم ( أي الثابت المتحقق ) بنفسه مطلقا لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به ا ه . وسبقه على مثله غيره . وقولهم " القائم بنفسه " بمعنى قول المتكلمين " واجب الوجود " أي الذي وجوده ثابت لذاته غير مستمد من وجود آخر فهو يستلزم القدم الذي لا أول له والبقاء الذي لا آخر له { هو الأول والآخر } وقولهم الذي يقوم به كل موجود معناه أنه لا وجود لشيء غيره ابتداء ولا بقاء إلا به ، فكل وجود سواه مستمد منه وباق بإبقائه إياه { 35 : 41 إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } ومن كان هذا وصفه كان بالضرورة قادرا مريدا عليما حكيما ، فإذا كانت الحياة تصحح لصاحبها الاتصاف بهذه الصفات وغيرها وتدل عليها بقيد الكمال دلالة التزام ، فالقيومية تدل عليها دلالة تضمن بغير قيد .
ولجمع هذين الاسمين الكريمين هذه المعاني وغيرها من معاني الكمال الأعلى كان القول بأنهما مع اسم الجلالة – ما يعبر عنه بالاسم الأعظم هو القول الراجح المختار عندنا . وإنما فسرنا الاسمين الكريمين هنا وذكرهما استطرادي لا يدخل في تفسير الفاتحة لأن أكثر الفراء لا يفهم معانيهما التي يدل عليها لفظهما بطرق الدلالة الثلاث . المطابقة والتضمن والالتزام .
وأما صفتا الربوبية والرحمة فهما الصفتان الدالتان على أن الله تعالى هو المالك المدبر لأمور العالم كلها ، وعلى أن رحمته تعالى تغلب غضبه وإحسانه الذي هو أثر رحمته يغلب انتقامه ، ومعنى الانتقام لغة الجزاء على السيئات ، فإن كان جزاء على السيئة بمثلها كان انتقام حق وعدل ، وإن كان بأكثر من ذلك كان انتقام باطل وجور ، والله تعالى منزه عن الباطل والجور { ولا يظلم ربك أحدا } بل يتجاوز عن بعض السيئات ، ويضاعف جزاء الحسنات { 42 : 25 وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * 30 وما أصابكم من مصيبة فبما كسبتم أيديكم ويعفو عن كثير * 4 : 40 إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } والآيات في الجزاء على السيئة بمثلها وعلى الحسنة بعشر أمثالهما معروفة ، وكذا آية المضاعفة سبعمائة ضعف وما شاء الله تعالى .
فمن شأن الرب المالك للعباد المدبر لأمورهم المربي لهم أن يجازي كل عامل بعمله ، وينتقم للمظلوم من ظالمه . والجزاء بالعدل مخيف لأكثر الناس بل لجميع الناس ، فإنه ما من أحد إلا ويقصر فيما يجب عليه لربه ولنفسه ولأهله وولده بله من دونهم حقا عليه ومكانة عنده ، ومن حقهم أن يغلب الخوف على الرجاء في قلوبهم ، ولذلك قرن سبحانه صفة الربوبية بصفة الرحمة وعبر عنها باسمين لا باسم واحد : اسم الرحمان الدال على منتهى الكمال في اتصافه بها ، واسم الرحيم الدال على أنها من الصفات النفسية المعنوية مع تعلقها بالخلق تعلقا تنجيزيا كقوله تعالى { 4 : 28 إن الله كان بكم رحيما * 33 : 43 وكان بالمؤمنين رحيما } وبهذا التفسير ضممنا في التفرقة بين الاسمين ما قاله المحقق ابن القيم إلى ما قاله شيخنا رحمهما الله .
وأما دلالة صفتي الربوبية والرحمة على جميع معاني صفات الأفعال الإلهية فظاهر ؛ فإن رب العباد هو الذي يسدي إليهم كل ما يتعلق بخلقهم ورزقهم وتدبير شؤونهم من فعل دلت عليه أسماؤه الحسنى كالخلق البارئ المصور القهار الوهاب الرزاق الفتاح القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم الرقيب المقيت الباعث الشهيد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت المقدم المؤخر المغني المانع الضار النافع وأمثالها . والرحمان في ذاته الرحيم بعباده لا بد أن يكون توابا غفورا عفوا رؤوفا شكورا حليما وهابا .
إذا علمنا هذا تجلت لنا حكمة وصف الله تعالى في أول فاتحة الكتاب العزيز بالربوبية والرحمة الدالتين على جميع صفات الأفعال دون الحياة والقيومية الدالتين على صفات الذات وغيرها – وهي والله أعلم بمراده أن الفاتحة ينظر فيها من وجهين ( أحدهما ) ما دل عليه اسمها هذا أعني كونها فاتحة ومبدأ للقرآن ( وثانيهما ) أنها قد شرعت للقراءة في الصلوات كل يوم ، وكل منهما يناسبه البدء بذكر ربوبية الله ورحمته .
ذلك بأن القرآن كما قال الله في أول سورة البقرة { هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } الخ الآيات . فهم الذين يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يتدبرونه ويتعظون به ، وهم { الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون } فالمناسب في حقهم أن تكون السورة الأولى وهي المثاني التي يثنونها دائما في صلاتهم وفي بدء أورادهم القرآنية المسماة بالختمات مبدوءة بذكر الصفتين الجامعتين لمعاني الصفات التي تتعلق بتدبير الله سبحانه لشؤونهم ، وبعدله في الحكم بينهم فيما يختصمون فيه ، وبمجازاتهم على أعمالهم ، وبرحمته لهم وإحسانه إليهم ، الدالتين على ما يجب عليهم من شكره وتخصيصه بالعبادة والاستعانة ، والتوجه إليه في طلب كمال الهداية ، وهاتان الصفتان هما الربوبية والرحمة . فبدء فاتحة القرآن بذكرهما في البسملة في أثناء السورة مرشد لما ذكر ، مذكر للمصلي وللتالي به . وكذا بدء كل سورة منه بالبسملة التي لم يوصف اسم الذات ( الله ) فيها بغير الرحمة الكاملة الشاملة . هو إعلام منه سبحانه بأنه أنزله رحمة للعالمين ، كما قال مخاطبا لمن أنزله عليه { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ولذلك لم تنزل البسملة في أول سورة التوبة التي فضحت آياتها النافقين ، وبدئت بنبذ عهود المشركين ، وشرع فيها القتال بصفة أعم مما أنزل فيها قبلها من أحكامه .
وهذا الذي شرحناه يفند زعم بعض المتعصبين الغلاة في ذم الإسلام بالهوى الباطل أن رب المسلمين رب غضوب منتقم قهار ، ودينهم دين رعب وخوف ، بخلاف دين النصرانية الذي يسمى الرب أبا للإعلام بأنه يعامل عباده كمعاملة الأب لأولاده . وقد أشار شيخنا إلى هذا الزعم وفنده في تفسير اسم الرب . وسنذكر في فائدة أخرى المقابلة بين صلاة المسلمين بقراءة الفاتحة وصلاة النصارى بالصيغة المعروفة عندهم بالصلاة الربانية ، وثبت في الحديث الصحيح إن الرب أرحم بعباده من الأم بولدها الرضيع ، وإن جميع ما أودعه في قلوب خلقه من الرحمة جزء من مائة جزء من رحمته تبارك وتعالى ويجد القارئ تفصيل القول في سعة الرحمة الإلهية في تفسير قوله عز وجل { 7 : 156 ورحمتي وسعت كل شيء } من سورة الأعراف .
{ تفسير صفة الرحمة على مذهب السلف }
ما نقلناه عن شيخنا في معنى الرحمة ( ص 46 ) تبع فيه متكلمي الأشاعرة والمعتزلة ومفسريهم كالزمخشري والبيضاوي ذهولا . ومحصله أن الرحمة ليست من صفات الذات أو صفات المعاني القائمة بذاته تعالى لاستحالة معناها اللغوي عليه فيجب تأوليها بلازمها وهو الإحسان فتكون من صفات الأفعال كالخالق الرازق .
وقال بعضهم يمكن تأويلها بإرادة الإحسان فترجع إلى صفة الإرادة فلا تكون صفة مستقلة . وهذا القول من فلسفة المتكلمين الباطلة المخالفة لهدى السلف الصالح .
والتحقيق أن صفه الرحمة كصفة العلم والإرادة والقدرة وسائر ما يسميه الأشاعرة صفات المعاني ويقولون إنها صفات قائمة بذاته تعالى خلافا للمعتزلة . فإن معاني هذه الصفات كلها بحسب مدلولها اللغوي واستعمالها في البشر محال على الله تعالى إذ العلم بحسب مدلوله اللغوي هو صورة المعلومات في الذهن ، التي استفادها من إدراك الحواس أو من الفكر ، وهي بهذا المعنى محال على الله تعالى ، فإن علمه تعالى قديم بقدمه غير عرض منتزع ممن صور المعلومات . وكذلك يقال في سمعه تعالى وبصره وقد عدوها من صفات المعاني القائمة بنفسه ، والرحمة مثلها في هذا .
فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق الثابت عقلا ونقلا بقوله عز وجل { ليس كمثله شيء } فنقول إن لله علما حقيقيا هو وصف له ولكنه لا يشبه علمنا ، وإن له سمعا حقيقيا هو وصف له لا يشبه سمعنا ، وإن له رحمة حقيقية هي صفة له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى فنجمع بذلك بين النقل والعقل . وأما التحكم بتأويل بعض الصفات وجعل إطلاقها من المجاز المرسل أو الاستعارة التمثيلية كما قالوا في الرحمة والغضب وأمثالها دون العلم والسمع والبصر وأمثالهما فهو محكم في صفات الله وإلحاد فيها ، فأما أن تجعل كلها من باب الحقيقة مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه هذه الحقيقة والاكتفاء بالإيمان بمعنى الصفة العام مع التنزيه عن التشبيه وإما أن تجعل كلها من باب المجاز اللغوي باعتبار أن واضع اللغة وضع هذه الألفاظ لصفات المخلوقين فاستعملها الشرع في الصفات الإلهية المناسبة لها مع العلم بعدم شبهها بها من باب التجوز .
وقد عبر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى عن هذا المعنى أفصح تعبير فقال في كتاب الشكر من الإحياء : إن لله عز وجل في جلاله وكبريائه صفة يصدر عنها الخلق والاختراع ، وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادئ إشراقها ، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس ، لا لغموض في نور الشمس ولكن لضعف الخفافيش ، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادئ حقائقها شيئا ضعيفا جدا ، فاستعاروا لها اسم القدرة ، فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا إن لله تعالى صفة هي القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع ا ه
وقد رجع الإمام أبو الحسن الأشعري شيخ المتكلمين والنظار إلى مذهب السلف في نهاية أمره وصرح في آخر كتبه وهو ( الإبانة ) بذلك وأنه متبع للإمام أحمد بن حنبل شيخ السنة والمدافع عنها ، رحمهم الله أجمعين .
( معارضة نصرانية سخيفة ، للفاتحة الشريفة )
عرف كل من ذاق طعم البلاغة العربية من مؤمن وكافر أن القرآن أبلغ الكلام وأفصحه ، لم يكابر في ذلك مكابر ، ولم يجادل فيه مجادل ، وأن الفاتحة من أعلاه فصاحة وبلاغة وجمعا للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ، واشتمالا على مهمات الدين من صفات الله التي تجذب قلب من تدبرها إلى حبه ، وتنطق لسانه بحمده ، وتعلي همته بتوحيده ، وتهذب نفسه بمعاني أسمائه وصفاته ، وإحاطة ربوبيته وملكه ، وتذكره يوم الدين الذي يجزى فيه على عمله ، وتوجه وجهه إلى السير على الصراط المستقيم في خاصة نفسه ، وفي معاملة الله ومعاملة خلقه ، وتذكره بالقدرة الصالحة في ذلك بإضافة الصراط الذي يتحرى الاستقامة عليه ، ويسأل الله توفيقه دائما له ، إلى من أسبغ الله عليهم نعمه ، ومنحهم رضوانه ، وجعلهم هداة خلقه بأقوالهم ، وأسوتهم الحسنة في أفعالهم ، ومثل الكمال في آدابهم وأخلاقهم ، من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، وتحذره من شرار الخلق الذين يؤثرون الباطل على الحق ، ويفضلون الشر على الخير ، على علم منهم بذلك ، وهم المغضوب عليهم ، - أو على جهل به كالذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهم الضالون . وهذا التحذير يتضمن حث المسلم المتعبد بالفاتحة المكرر لها في صلاته على العناية بتكميل نفسه بتحري التزام الحق وعمل الخير ، بأحكام العلم وتربية النفس والتمرن على العمل الصالح .
هذه السورة الجليلة التي ذكرناك أيها القارئ بمجمل مما فصناه في تفسيرها يزعم أحد دعاة النصرانية في هذا العصر أنها بمعزل من البلاغة بأن كل ما بعد الصراط المستقيم فيها " حشو وتحصيل حاصل " وما قبله يمكن اختصاره بما لا يضيع شيئا من معناه ، كما فعله بعضهم – قال هذا القول داعية من المبشرين المأجورين من قبل جمعيات التبشير الإنكليزية والأميركانية في كتاب لفقه في إبطال إعجاز القرآن بزعمه ، بل أنكر بلاغته من أصلها قال :
" وما أحسن قول بعضهم أنه لو قال : الحمد للرحمان ، رب الأكوان ، الملك الديان ، لك العبادة وبك المستعان ، اهدنا صراط الإيمان . لأوجز وجمع كل المعنى وتخلص من ضعف التأليف والحشو والخروج عن الرديء كما بين الرحيم ونستعين " ا ه
أقول لقد كان خيرا لهذا المتعصب المأجور لإضلال عوام المسلمين على شرط أن لا يذكر اسمه في كتيبه ، ولا يفضح نفسه بين قومه ، أن يختصر لمستأجريه آلهتهم وكتبهم التي صدت جميع مستقلي الفكر من أقوامهم وشعوبهم عن دينهم بل صدت بعضهم عن كل دين ، فإن اختصار الدراري السبع في السماء ، أهون من اختصار آيات الفاتحة السبع في الأرض . وحسب العالم من فضيحته إيراد سخافته هذه وتشهيره بها لو كان حيا يمشي بين الناس .
وأما العامي الجاهل ، الذي قد يغتر بقول كل قائل ، ولا سيما إذا كان في الطعن بغير دينه ، فربما يحتاج إلى التنبيه لبعض فضائح هذا الاختصار ، وإن كانت لا تخفى على أولي الأبصار ، ونكتفي منه بما يلي :
( 1 ) إن أول شيء اختصره هذا الجاهل المتعصب وجعل ذكره مطعنا في فاتحة القرآن اسم الجلالة الأعظم ( الله ) الذي لا يغني عنه سرد جميع أسماء الله الحسنى ! فإنه هو اسم الذات ، الملاحظ معه اتصاف تلك الذات بجميع صفات الكمال إجمالا .
( 2 ) إنه اختصر اسم الرحيم وقد بينا فائدته وأن اسم الرحمان لا يغني عنه ، وأنى لمثله أن يعلمه ؟ ويراجع الفرق بينهما فيما تقدم .
( 3 ) إنه استبدل الأكوان بالعالمين وليس في هذا اختصار ، وإنما فيه استبدال الذي هو أدنى ؛ بالذي هو خير وأولى ، فإن الأكوان جمع كون وهو في الأصل مصدر لا يجمع ، وله معاني لا يصح إضافة اسم الرب إليها منها الحدث والصيرورة والكفالة ، ويطلقه عرب الجزيرة على الحرب لعلهم لا يستعلمونه في غيرها ، وأما العالمون فجمع عالم وفي اشتقاقه التذكير بكونه علامة ودليلا على وجود خالقه ، وفي جمعه جمع العقلاء تذكير للقارئ بما في كلمة الرب من معنى تربيته جل جلاله وعم نواله للأحياء ولا سيما الناس ، وكونهم يشكرونه عليها بقدر استعمال عقولهم : ولذلك قال بعض الأعلام إن لفظ العالمين عام مستعمل هنا في الخاص وهو عالم البشر ، وراجع سائر تفسيره المتقدم .
( 4 ) أنه استبدل " كلمة " الديان بكلمة ( يوم الدين ) وهي لا تقوم مقامها ، ولا تفيد ما فيها من المعاني المطلوبة لذاتها ، فإن للديان في اللغة معاني منها القاضي والحاسب أو المحاسب والقاهر . وغاية ما يفيده وصف الرب بأنه حاكم يدين عباده ويجزيهم . وأما يوم الدين فإنه اسم ليوم معين موصوف في كتاب الله بأوصاف عظيمة هائلة ، يحاسب الله فيه الخلائق ويحكم بينهم ويجزيهم ، والإيمان بهذا اليوم ركن من أركان الدين ، وإضافة ملك ومالك إليه تفيد أن الأمر كله في ذلك اليوم له وحده فلا يملك أحد لأحد فيه شيئا من نفع ولا من كشف ضر كما تقدم تفصيله في تفسير الآية – فاستحضار هذه المعاني في النفس له من التأثير المقوى لعقيدة التوحيد المرغب في العمل الصالح المرهب الزاجر عن الشر ، ما ليس لاسم الديان وحده ، ويكفى الإنسان في الجزم بهذا مشاورة فكره ، ومراجعة وجدانه ، وإن لم يكن يعلم من فنون البلاغة شيئا ، وهل لهذا المبشر المتعصب فكر ووجدان ، يهديه إلى ما يجهل من بلاغة القرآن ؟
( 5و6 ) أنه اختصر قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } بقوله هو : لك العبادة وبك المستعان وهو أغرب ما جاء به وسماه إيجازا ، فإنه استبدل أربعا بأربع ، ولكنها أطول منها بزيادة حرف ، وتنقص عنها في المعنى ، فأين الإيجاز ؟ إنه مفقود لفظا ومعنى إذا أراد بقوله : لك العبادة – أنها كلها له تعالى في الواقع ونفس الأمر ، فالجملة غير صحيحة ، لأن الذين لا يعبدونه وحده من البشر هم الأكثرون ، ومنهم النصارى قوم الطاعن في دين التوحيد وكتاب التوحيد الأعظم ( القرآن ) المبدلين لآية التوحيد البليغة . وإن أراد أن العبادة مستحقة لله تعالى وحده فالمعنى صحيح ، ولكنه لا يدل على أن القارئ ، ولا واضع الجملة من القائمين بهذا الحق له تعالى . وأما { إياك نعبد } فإنها تفيد عرض عبادة القارئ مع عبادة جميع المؤمنين الموحدين عليه جل جلاله ، وتقربهم إليه بأنهم يعبدونه ولا يعبدون غيره .
وأحيلك في الفرق بين تأثير هذا وذاك على الوجدان الذي ذكرتك به في النقد الذي قبله . دع ما في عرض المؤمن عبادته واستعانة على ربه في ضمن عبادة جميع المؤمنين واستعانتهم ، من ملاحظة أخوة الإيمان وتكافل أهله ، ومن هضم الفرد لنفسه ، ورجاء القبول في ضمن الجماعة ، وغير ذلك مما يعلم من تفسير الآية .
ومثل هذا يقال في مسألة الاستعانة ، ويمكن الزيادة عليه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، ومنه اختياره المصدر الميمي الذي هو صيغة اسم المفعول ( المستعان ) على المصدر الأصلي وهو الاستعانة المناسب للفظ العبادة ، ومن جهة ارتباطه بما بعده ، فإن طلبنا للهداية من الاستعانة التي أسندناها إلى أنفسنا .
( 7 ) استبداله " صراط الإيمان " بالصراط المستقيم ؛ وهذا أعم منه وأشمل ، لأنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان ، من العقائد والعبادات والآداب ، مع وصفه بالمستقيم الذي لا عوج فيه ، فإن بعض الطرق الموصلة إلى المقاصد التي يسمى سالكها مهتديا إلى مقصده في الجملة ، قد يكون فيها عوج يعوق هذا السالك ، والمستقيم هو أقرب موصل بين طرفين ، فسالكه يصل إلى مقصده في أسرع وقت ، كذلك الطرق المعنوية ، منها الموصل إلى الغاية وغير الموصل ، ومن الموصل ما يوصل بسرعة لعدم العائق ، وما يعتري سالكه الموانع واقتحام العقبات واتقاء العثرات .
( 8 ) أن وصف الصراط المستقيم بكونه الصراط الذي سلكه خيار عباد الله المفلحين ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، مذكر لقارئه بأولئك الأئمة الوارثين ، الذين يجب التأسي بهم ، والسعي للانتظام في سلكهم ، والتصريح بكونه غير صراط المغضوب عليهم من المعاندين للحق ، وغير الضالين الزائغين عن القصد ، مذكر للقارئ بوجوب اجتناب سبلهم ، لئلا يتردى في هاويتهم .
أين من هذه المقاصد السامية ، الهادية إلى تزكية النفس وإعدادها لسعادة الدنيا والآخرة ، صيغة الصلاة في ملة هذا المختصر المستأجر ، وهي كما في إنجيل متى ( 6 : 9- 13 ) " أبانا الذي في السموات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، ولكن نجنا من الشرير أمين " ا ه زاد في نسخة الأميركان " لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد " وجعلوا هذه الزيادة بين علامتي الكلام الدخيل هكذا ( ) فمن ذا الذي زادها على كلام المسيح ؟
وقد يقول لهم من لا يؤمن بأن هذه الصيغة منقولة نقلا صحيحا عن المسيح عليه السلام ، أو من لا يؤمن به نفسه : إنها صلاة ليس فيها من الثناء على الله تعالى ما في فاتحة المسلمين ولا بعضه ، وطلب تقديس اسم الأب وإتيان ملكوته تحصيل حاصل ، فهو لغو لا يليق بالعاقل ، وذكره بصيغة الأمر باللام غير لائق ، إن لم نقل في انتقاده ما هو أشد من ذلك وأبعد من ذلك عن اللياقة والأدب مع الرب تبارك وتعالى : طلب كون مشيئته على الأرض كمشيئته في السماء ، وكونها بصيغة الأمر باللام أيضا ، فمشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه من سمائه وأرضه بالضرورة ، فلا معنى لطلبها ، وطلب المساواة بين السماء والأرض فيما إن أريد به من كل وجه ، فهو تحكم لا يخفى ما يترتب عليه .
وأما طلب الخبز الكفاف في كل يوم بصيغة الحصر فهو يفيد أن كل همهم وكل مطلبهم من ربهم ولو لدنياهم هو الخبز الذي يكفيهم ، فأين هذا من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة وعلى أكمل وجه ، لكونه نفس صراط خيار الناس دون شرارهم .
وأما طلب المغفرة – فهو على كونه يليق أن يطلب منه تعالى – ينتقد منه تشبيهها بمغفرة الطالب للمذنب المسئ إليه ممن وجهين ( أحدهما ) أن مغفرة الله لعبده أجل وأعظم وأعم من مغفرة العبد لمثله ( ثانيهما ) أن الذي يغفر لجميع المسيئين إليه نادر ؛ ومن المشاهد أن أكثر الناس يجزون على السيئة إما بمثلها ، وإما بأكثر منها ، فكيف يكلف هؤلاء بمخاطبة ربهم بالكذب عليه ، الذي حاصله أنهم يطلبون أن لا يغفر لهم ، لأنهم لا يغفرون للمسيئين إليهم .
قد يقولون : نعم نحن نلتزم هذا ، لأن ديننا يوجب علينا أن نغفر لجميع من أذنب وأساء إلينا ، ونعتقد أن ربنا لا يغفر لنا إذا لم نغفر لهم ؛ لأن من علمنا هذه الصلاة قال بعدها { متى 6 : 14 فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم ، يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي 15و إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم } .
فنقول : هذا التعبير يدل على وجوب مغفرة جميع الذنوب لجميع الناس عامة كانت أو خاصة ، فأين منكم يا معشر النصارى من يفعل ذلك ؟ وهل يوجد في الألف أو الألوف منكم واحد كذلك ؟ ألسنا نرى أكثركم ومن تعدونهم أرقاكم وتفتخرون بهم كالإفرنج لا يغفرون لأحد أدنى زلة ، بل لا يكتفون بعقاب من يسئ إلى أحد منهم إذا كان من غيرهم بمثل ذنبه ، وإنما يضاعفون له العقاب أضعافا بل ينتقمون من أمته كلها إذا كانت ضعيفة لا يمكنها أن تصدهم بالقوة ، فهم لا يمنعهم من الجزاء على السيئة بأضعافها من السيئات ولا من ابتداء الظلم والعدوان إلا العجز .
( وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، والبسملة منها )
في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة أحاديث قولية صحيحة صريحة ، وجرى عليها العمل من أول الإسلام إلى اليوم ، وإن تنازع بعض أهل الخلاف والجدل في تسمية هذا الواجب فرضا وعده شرطا ، وأصح ما ورد وأصرح ما رواه الجماعة كلهم من حديث عبادة بن الصامت ( رض ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وفي لفظ رواه الدارقطني بإسناد صحيح " لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وهو تفسير للفظ الجماعة ، فإن نفي الصلاة فيه نفي صحتها ووجهه : أن الحقيقة المؤلفة من عدة أركان ذاتية تنتفي بانتقاء ركن منها ، كقولك : لا وضوء لمن لم يغسل يديه إلى المرفقين ، وقد أجمع المسلمون على العمل بهذا ، فلم يصل صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه وأصحابه ولا التابعون ولا غيرهم من الخلفاء وأئمة العلم صلاة بدون قراءة الفاتحة فيها ، وإنما بحث الحنفية في تسمية قراءتها فرضا وعدها ركنا بناء على اصطلاحات لهم ردها الجمهور بأدلة صحيحة لا محل لتلخيصها هنا ، وأجابوا عن شبهاتهم النقلية بأجوبة سديدة وأقواها قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " قالوا في الجواب عنه : إنه ثبت في رواية أخرى أنه قال له : " ثم اقرأ بأم القرآن " فهذا مفسر لما تيسر من القرآن ، وأن الفاتحة هي التي كانت متيسرة لجميع المسلمين ، لأنهم كانوا يلقنونها كل من يدخل في الإسلام ، وقال بعضهم : المراد بما يتيسر منه هنا ما زاد عن الفاتحة ، وفي البخاري عن أبي قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة " والأحاديث المصرحة بأنه كان يقرأ في الركعة الأولى أم القرآن وسورة كذا وفي الثانية بعد أم القرآن كذا في صلاة كذا : كثيرة .
وأما كون البسملة آية من الفاتحة ، فأقوى الحجج المثبتة له : كتابتها في المصحف الإمام الرسمي الذي وزع نسخه الخليفة الثالث على الأمصار برأي الصحابة وأجمعت عليه الأمة ، وكذا جميع المصاحف المتواترة إلى اليوم ، والخط حجة علمية كما قال العلامة العضد ، وعليه جميع شعوب العلم والمدنية في هذا العصر لا حجة علمية عندهم أقوى من حجة الكتابة الرسمية ، ثم إجماع القراء على قراءتها في أول الفاتحة وإن زعم بعضهم أنها آية مستقلة ، فإن هذا رأي ، والعبرة بالعمل ، وهو إذا كان عاما مطردا من أقوى الحجج . على أن تواترها عن واحد منهم تقوم ما به الحجة على باقيهم وعلى سائر الناس ، فإنه إثبات بالتواتر لا يعارضه نفي ما وقد كنا ذكرنا هذه المسألة وآراء أهل الخلاف فيها ونزيدها إيضاحا فنقول :
قد وردت أحاديث آحادية في إثبات ذلك ونفيه ترتب عليها اختلاف الفقهاء الذين جعلوا المسألة مسألة مذاهب ، ينصر كل حزب منهم أهل المذهب الذي ينسبون إليه ( كل حزب بما لديهم فرحون ) ولولا ذلك لاتفقوا ، لأن إثبات البسملة في أول الفاتحة في جميع المصاحف المجمع عليها المتواترة حجة قطعية لا تعارض بأحاديث الآحاد وإن صح سندها .
وأصرح الأحاديث التي استدلوا بها على كون البسملة ليست آية من الفاتحة : ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " يقولها ثلاثا – أي كلمة " فهي خداج " أي ناقصة غير تامة كالناقة تلد لغير التمام – فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ؟ فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدني فإذا قال { الرحمان الرحيم } قال الله : أثنى علي عبدي . فإذا قال { مالك يوم الدين } قال : مجدني عبدي . وقال مرة : فوض إلي عبدي . وإذا قال { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .
قال النافون : إن الحديث يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة لأنها لو كانت منها لذكرت في الحديث ، وهو استدلال سلبي لا يعارض القطعي المتواتر وهو إثباتها في المصحف وإجماع القراء على قراءتها معها عند البدء بالختمات ، وثبوت التواتر بذلك ، على أن عدم ذكرها في الحديث قد يكون لسبب اقتضى ذلك . ومما يخطر في البال بداهة : أنه كان اكتفى من قسمة الصلاة بالفاتحة دون سائر التلاوة والأذكار والأفعال اكتفى من الفاتحة بما لا يشاركها فهي غيرها من السور ، إذ البسملة آية من كل سورة غير ( براءة ) على التحقيق الذي يدل عليه خط المصحف ، وثم سبب آخر لعدم ذكر البسملة في القسمة : وهو أنه ليس فيها إلا الثناء على الله تعالى بوصفه بالرحمة ، وهو معنى مكرر في الفاتحة وذكر في القسمة . والعمدة في عدم المعارضة أن دلالة الحديث ظنية سلبية وإثبات البسملة إيجابي وقطعي كما تقدم وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة : مخالفة راويه لغيره من الثقات ، فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه . على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة .
واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة المرفوع عند أحمد وأصحاب السنن . قال " إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي " تبارك الذي بيده الملك " قالوا : وإنما هي ثلاثون بدون البسملة . وأجيب بمثل ما قلناه آنفا من أن عدد آيات السور باعتبار ما هو خاص بالسورة وهو ما دون البسملة . ويؤيده ما روي عن أبي هريرة من أن سورة الكوثر ثلاث آيات . وقد روى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أنس قال " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما ، فقال : ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال : نزلت علي آنفا سورة فقرأ { بسم الله الرحمان الرحيم * إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر } وهذا الحديث ناطق بأن البسملة من سورة الكوثر مع عدم عدها من آياتها لما ذكرنا ، فكونها آية من الفاتحة أولى وهو أصح من حديث أبي هريرة في سورة الملك ، لأن البخاري أعله بأن عباسا الجشمي راويه لا يعرف سماعه من أبي هريرة .
واستدلوا بالأحاديث الواردة في عدم قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه لها في الصلاة . وأصرحها : قول عبد الله بن مغفل " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ، ومع عمر ، ومع عثمان . فلم أسمع أحدا منهم يقولها " يعني البسملة . رواه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه عن ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول ، فقد كان له سبعة أولاد وهذه علة تمنع صحة الحديث . قالوا : وقد تفرد به الجريري وقيل : إنه قد اختلط بأخرى . وقد يفسر بما ترى فيما قالوه في الحديث الذي بعده .
وفي معناه حديث أنس في إحدى الروايات قال " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ { بسم الله الرحمان الرحيم } رواه أحمد ومسلم . قال في المنتقى : وفي لفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمان الرحيم " رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح . ولأحمد ومسلم " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمان الرحيم في أول قراءة ولا آخرها " ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال " صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمان الرحيم " قال شعبة قلت لقتادة : أنت سمعته من أنس ؟ قال : نعم نحن سألناه عنه . وللنسائي عن منصور بن زازان أن أنس قال " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمان الرحيم ، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " ا ه .
قال الشوكاني في شرح الحديث : ورواية " فكانوا لا يجهرون " أخرجها أيضا ابن حبان والدارقطني ، والطحاوي والطبراني وفي لفظ لابن خزيمة " كانوا يسرون " – وقوله " كانوا يستفتحون الحمد لله رب العالمين " هذا متفق عليه .
وإنما انفرد مسلم بزيادة " لا يذكرون بسم الله الرحمان الرحيم " وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب ، وفسر بأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه به ، وجماعة رووه عنه بلفظ : فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمان الرحيم . ثم نقل عن الحافظ أن بعضهم رواه باللفظين ومن خرج كل رواية .
أقول وقد جمعوا بين الروايات بأن المراد بالاستفتاح بالحمد لله الاستفتاح بهذه السورة فقد صح التعبير عنها في حديث آخر بجملة الحمد لله . . . وبأن عدم سماعها سببه عدم الجهر بها ، وقد يكون له سبب آخر وهو البعد عن أول الصف ومن العادة أن يكون صوت القارئ خافتا في أول القراءة . وسبب ثالث وهو اشتغال المأمور عن السماع بالتحرم ودعاء الافتتاح .
وقد عورض وأعلّ حديث أنس على اضطراب متنه بما يأتي عنه من مخالفته له في صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وبما رواه الدارقطني وصححه عن أبي سلمة . قال : سألت أنس بن مالك " أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين ، أو ببسم الله رب الرحمان الرحيم ؟ فقال إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك . فقلت : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين ؟ قال نعم " قالوا : وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع ، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات – قال : وكان صيتا يملأ صوته الجامع – قال بعضهم : يجهر : وقال بعضهم : يخفت ا ه .
أقول : ولم يختلف هؤلاء المصلون في صلاة واحدة ، بل في جميع الصلوات ، وسبب ذلك الغفلة والناس عرضة لها ، ولا سيما الغفلة عن أول صلاة الإمام ، إذ يكون المأمومون مشغولين بمثل ما يشغله من الدخول فيها وقراءة دعاء الافتتاح كما تقدم آنفا .
وأما أحاديث إثبات كون البسملة من الفاتحة فمنها : ما رواه البخاري عن قتادة قال : سئل أنس " كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : كانت مدّا ، ثم قرأ بسم الله الرحمان الرحيم . ويمدّ بالرحمان ويمدّ بالرحيم وروى عنه الدارقطني من طريقين " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة " .
ومنها : حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت " كان يقطع قراءته آية آية : { بسم الله الرحمان الرحيم * الحمد لله رب العالمين ، الرحمان الرحيم ، مالك يوم الدين } رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ وغيرهما .
ومنها ما رواه النسائي وغيره عن نعيم المجمر . قال " صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمان الرحيم . ثم قرأ بأم القرآن – وفيه يقول إذا سلم : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وقال : على شرط البخاري ومسلم وأقره الحافظ الذهبي . وقال البيهقي : صحيح الإسناد وله شواهد . وقال أبو بكر الخطيب فيه : ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل ، وروي عن أبي هريرة حديثان آخران بمعناه ، وثق بعضهم جميع رجالهما وتكلم بعضهم في بعض .
ومنها : حديث علي ( رض ) سئل عن السبع المثاني فقال { الحمد لله رب العالمين } قيل إنما هي ست فقال { بسم الله الرحمان الرحيم } رواه الدارقطني وإسناده كلهم ثقات لم يطعنوا في أحد منهم . وله حديثان آخران عنه وعن عمار ابن ياسر في إثبات جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالبسملة في صلاته قد تكلموا في سندهما .
ومنها : حديث أنس " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمان الرحيم " رواه الحاكم وقال : ورواته عن آخرهم ثقات ، وأقره الحافظ الذهبي .
وقد أورد الشوكاني في نيل الأوطار هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من الروايات الضعيفة الأسانيد الصحيحة المتون ، وذكر حمل الروايات الصحيحة من أحاديث النفي المعارضة لها على عدم الجهر بالبسملة من باب حمل المطلق على المقيد وهو ترك الجهر ، ثم قال :
" وإذا كان محصل أحاديث نفي البسملة هو نفي الجهر بها ، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه . قال الحافظ – ابن حجر لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافي – أي كما هي القاعدة – لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة ، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم ، كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا ، فلم يستحضر الجهر بالبسملة ، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر ا ه .
أقول : وقد تقدم نص الرواية عنه بنسيان هذا الحكم آنفا فعد حديثه مضطربا لا يحتج به . قال الحافظ ابن عبد البر بعد سرده روايات حديثه : في الاستذكار : هذا الاضطراب لا تقوم معه حجة . . . وقد سئل عن ذلك أنس فقال : كبرت سني ونسيت . ا ه .
وقد روى الطبراني في الكبير والأوسط في سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم للجهر بالبسملة في الصلاة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " أنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمان الرحيم ، وكان المشركون يهزؤون بمكاء وتصدية ، ويقولون : محمد يذكر إله اليمامة – وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمان – فأنزل الله { ولا تجهر بصلاتك } فتسمع المشركين فيهزؤا بك { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم . وقد قال في مجمع الزوائد : إن رجاله موثقون . وقال الحكيم الترمذي : فبقى ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة . وجمع به القرطبي بين الروايات .
وقال ابن القيم في زاد المعاد " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمان الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما جهر بها الخ . وهذا القول معقول ، وإذا صح أن سببه ما رواه الطبراني واعتمده القرطبي والنيسابوري والحكيم الترمذي يكون ترك الجهر في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة والجهر فيما بعده ، وقد علمت ما في حديثي أنس وأبي قتادة المخالفين بهذا .
ولا يغرّن أحدا قول العلماء : إن منكر كون البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يكفر ، فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي ، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبهة المعارضة التي تقدمت وبينا ضعفها ، وسنزيده بيانا والشبهة تدرأ الردة .
وجملة القول أن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوي ، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جدا جدا وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإمام القطعي المتواتر والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات آحادية ، أو بنظريات جدلية ، وأصحاب الجدل يجمعون بين الغث والسمين وبين الضدين والنقيضين ، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره ، وربما يظهر عليه المبطل بخلابته ، إذا كان ألحن بحجته .
وقد ذكر الرازي في تفسيره سبع عشرة حجة على إثبات كون البسملة من الفاتحة منها القوية والضعيفة وتصدى له الألوسي محاولا دحضها تعصبا لمذهبه الذي تنحله في الكبر إذ كان شافعيا فتحول حنفيا تقربا إلى الدولة وصرح بهذا التعصب إذ قال هنا " على المرء نصرة مذهبه والذب عنه " الخ وهذه كبرى زلاته ، المثبتة لعدم استقلاله بعدم طلبه الحق لذاته حتى إنه مارى في حجة إثبات البسملة في أولها بخط المصحف المتواتر فجعلها دليلا على كونها من القرآن دون كونها من الفاتحة ، وهو من تمحل الجدل فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحته التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها ، إنه لقول واه تبطله عبادتهم وسيرتهم ، وينبذه ذوقهم ، لولا فتنة الروايات والتقليد فتعارض الروايات اغتر به أفراد مستقلون ، وبالتقليد فتن كثيرون ، ولله في خلقه شئون .
على أن الألوسي حكم وجدانه واستفتى في بعض فروعه المسألة ، فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة ، وخانه في كونها آية منها ، وأورد في حاشية تفسيره على ذلك إشكالا استكبره جد الاستكبار وما هو بكبير ، فنحن نذكر عبارتيه ، ونقفي عليهما بالرد عليه ، قال في تفسيره روح المعاني :
" وبالجملة يكاد أن يكون اعتقاد كون البسملة جزءا من سورة[1] من الفطريات ( ! ! ) كما لا يخفى على من سلم له وجدانه ( ! ! ) فهي آية من القرآن مستقلة ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها ، أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها ، فو الله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني بفضل الله توجيهه ( ! ! ) كيف وكتب الأحاديث ملأى بما يدل على خلافه . وهو الذي صح عندي عن الإمام – يعني إمامه الجديد أبا حنيفة رحمه الله تعالى – والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء ، وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو استكمالها ، ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية ، وأمور الديانات كالطلاق والحلف والعتق . وهو الإمام الأعظم ، والمجتهد الأقدم ، رضي الله عنه " ؟
وكتب في حاشيته عند قوله : فهو آية من القرآن مستقلة ما نصه :
استشكل بعضهم الإثبات والنفي ؛ فإن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى به وهو إشكال كالجبل العظيم ( ؟ ) وأجيب عنه أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة قطعية الإثبات والنفي معا ( ! ! ) ولهذا قرأ بعضهم بإثباتها وبعضهم بإسقاطها ، وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات ، فإن من القراءات ما جاء على خلاف خطها كالصراط ومصيطر فإنهما قرئا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد { و ما هو على الغيب بضنين } تقرأ بالظاء ولم تكتب إلا بالضاد ففي البسملة التخيير . وتتحتم قراءتها في الفاتحة عند الشافعي احتياطا ( ! ! ) وخروجا من عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما سماه الشرع فاتحة الكتاب . فافهم والله أعلم بالصواب " ا ه
أقول : نعم إن الله أعلم بالصواب ، وقد وفق لعلمه أولى الألباب ، وهم { الذين يستمعون القول : فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله ، وأولئك هم أولوا الألباب } دون الذين يستمعون القول فيتبعون منه ما وافق رواية فلان ، ورأي فلان ، ويوجبون على أنفسهم نصره ولو بتأويل ما مضت به السنة العملية وثبت بنص القرآن ، ولولا عصبية المذاهب عند المقلدين ، والغرور بظواهر بعض الروايات عند الأثريين ، لما اختلف أحد من الفريقين في هذه المسألة ونحمد الله تعالى أن اختلافهم فيها قولي جدلي لا عملي .
سبحان الله ! ما أعجب صنع الله في عقول البشر ! أيقول السيد محمود الألوسي العالم الذكي النزاع إلى استقلال الفكر في كثير من مسائل التفسير : بالرغم من رضائه بمهانة جهالة التقليد : إن استشكال الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين في مسألة البسملة " إشكال كالجبل العظيم " ؟ ثم يرضى بالجواب عنه بما يقرر به الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين .
سبحان الله ! إن الجمع بين النفي والإثبات هو التناقض الحقيقي الذي يعز إيراد مثال للمحال العقلي مثله ، فكيف يصدر القول به عن عالم أو عن عاقل ؟
إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم : هو نفسه صغير حقير ضئيل قميء خفي كالذرة من الهباء ، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض ، أو كالعدم المحض والجواب الحق : أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا حقيقيا برواية متواترة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم تصرح بأنها ليست من الفاتحة – كما يقول بعض الناس بشبهة عدم رواية بعض القراء لها ، وشبهة تعارض الروايات الآحادية التي ذكرنا أقواها والمخرج منها – أو ليست إلا جزء آية من سورة النمل ، كما زعم من لا شبهة لهم على النفي تستحق أن يجاب عنها .
وإنما أثبت بعض القراء بالروايات المتواترة أن البسملة آية من الفاتحة وبعضهم لم يرو ذلك بأسانيده المتواترة ، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا لذلك الشيء . لا رواية ولا دراية . وأعم من هذا : ما قاله العلماء من أن بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه بونا بعيدا كما هو معلوم بالضرورة . ولو فرضنا أن بعضهم روى التصريح بالنفي لجزمنا بأن روايته باطلة سببها أن بعض رجال سندها اشتبه عليه عدم الإثبات بإثبات النفي ، إذ يستحيل عقلا أن يكون الأمران المتناقضان قطعيين معا ، ورواية الإثبات لا يمكن الطعن فيها ، وناهيك وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من جميع الروايات القولية وأعصى على التأويل والاحتمال ، وأما القول بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة ، فما هو إلا رأي للجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة ، ويمكن الجمع بغيره مما لا إشكال فيه ، إذ لو كانت البسملة للفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة ولم تحذف من أول براءة للعل