قوله : ( وآتينا )أي : أوحينا إليه معانيه ، كما قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . " 51 " } ( سورة الشورى ) : فليس في هذا الأمر مباشرة . و( الكتاب )هو التوراة ، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل ، وإن أطلق دون أن يقترن بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم .
والوحي قد يكون بمعاني الأشياء ، ثم يعبر عنها الرسول بألفاظه ، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم .
ومثال ذلك : الحديث النبوي الشريف ، فالمعنى فيه من الحق سبحانه ، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل .
فإن قال قائل : ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه ، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط ؟ نقول : لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل ، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ، فلا دخل لأحد فيه ، ولابد أن يظل لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوحى إليه لفظ ومعنى القرآن الكريم ، وأوحى إليه معنى الحديث النبوي الشريف . والحق سبحانه يقول : { وجعلناه هدىً لبني إسرائيل . . " 2 " } ( سورة الإسراء ) : وقال تعالى في آية أخرى : { ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل " 23 " }
( سورة السجدة ) : والهدى : هو الطريق الموصل للغاية من أقصر وجه ، وبأقل تكلفة ، وهو الطريق المستقيم ، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين . ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب ، وخلاصة هذا الهدى لبني إسرائيل في قوله تعالى : { ألا تتخذوا من دوني وكيلا " 2 " } ( سورة الإسراء ) : ففي هذه العبارة خلاصة الهدى ، وتركيز المنهج وجماعه .
والوكيل : هو الذي يتولى أمرك ، وأنت لا تولي أحداً أمرك إلا إذا كنت عاجزاً عن القيام به ، وكان من توكله أحكم منك وأقوى ، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم ، فالغني يصير فقيراً ، والقوي يصير ضعيفاً ، والصحيح يصير سقيماً .
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تلو الآخر ، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لتولي أمرك والقيام بشأنك ، فربما وكلت واحداً منهم ففاجأك خبر موته .
إذن : إذا كنت لبيباً فوكل من لا تنتابه الأغيار ، ولا يدركه الموت ؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور ، يقول : { وتوكل على الحي الذي لا يموت " 58 " } ( سورة الفرقان ) : ومادام الأمر كذلك ، فإياك أن تتخذ من دون الله وكيلاً ، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء ؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم ، بل يناولونك ويبلغونك عن الله سبحانه . ولذلك الحق سبحانه يقول : { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك . . " 86 " }( سورة الإسراء )
ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً ، فمن أين تأتي بالمنهج إذن ؟ وقد تحدث العلماء طويلاً في ( أن )في قوله :
{ ألا تتخذوا من دوني وكيلا " 2 " }( سورة الإسراء ) : فمنهم من قال : إنها ناهية . ومنهم من قال : نافية ، واحسن ما يقال فيها : إنها مفسرة لما قبلها من قوله تعالى : { وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى . . " 2 " ( سورة الإسراء ) ، { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " 120 " } ( سورة طه ) : فقوله : ( قال يا آدم )تفسر لنا مضمنون وسوسة الشيطان . ومثله قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه . . " 7 " } ( سورة القصص ) : ( فإن )هنا مفسرة لما قبلها . وكأن المعنى : وأوحينا إليه ألا تتخذوا من دوني وكيلاً .
أو نقول : إن فيها معنى المصدرية ، وأن المصدرية قد تجر بحرف جر كما نقول : عجبت أن تنجح ، أي : من أن تنجح ، ويكون معنى الآية هنا : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل لأن لا تتخذوا من دوني وكيلاً .