تمهيد :
هذه السورة مكية ، وقيل أن آيتي 58 ، 71 مدنيتان ، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية . وقد ابتدأت هذه السورة الكريمة بذكر معجزات خارقة للعادة في الوجود الإنساني ، ذلك أن الفلسفة الأيونية كانت قائمة على أن الأسباب وعلاقتها بالمسببات لا تخالف قط حتى بنوا نظرية الألوهية على العلّيّة ، وقالوا : إن العالم نشأ عن الله تعالى نشوء العلة من المعلول من غير إرادة من الفاعل المختار ، فجاءت السورة في كثير من آياتها بما هو خرق لهذه النظرية . إن من أسباب الخلق أن الشيخ الكبير لا ينجب وأن المرأة العاقر لا تلد فإذا أنجب الرجل الهرم من عجوز عاقر ، فذلك خرق لنظرية الأسباب ، إذ يوجد الولد من عاقر عجوز لا تنجب ومن شيخ هرم لا ينسل .
وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر نبي الله زكريا{ ذكر رحمت ربك عبده زكريا 1 إذ نادى ربه نداء خفيا 3 قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا 4 وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا 5 يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا 6 } .
والله تعالى يجيب دعاءه فيقول سبحانه له : { يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا 7 } ولكن تأثره بمجرى الأسباب العادية يثير استغرابه فيقول : { أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيّا 8 قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تلك شيئا 9 } .
ولكن الاستغراب لا يزال يتردد في نفسه فيقول : { رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا 10 } .
أعطاه ولدا من امرأة عاقر ، وكان ذلك خرقا للأسباب في عصر الأسباب ، وقد وهبه الله تعالى حبا وحنانا ، وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيّا .
ثم جاء بالمعجزة الكبرى الخارقة لمجرد الأسباب والمسببات وبيان أنها لا تلزم الفاعل المختار وهي خلق عيسى من غير أب من عذراء بتول فقال تعالى :{ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا 16 } ونزل إليها روح القدس جبريل عليه السلام الذي شرفه الله تعالى بأن أضافه إليه { فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا 17 قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا 18 قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا 19 قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّا 20 قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا 21 } .
جاءها المخاض وألجأها إلى جذع النخلة ، وجاءت الخوارق للعادة متوالية تعلن خرق نظرية الأسباب والمسببات ، فتهز جذع النخلة فتساقط رطبا جنيا والماء يجري من تحتها { فكلي واشربي وقرّي عينا فإما ترينّ من البشر أحدا فقولي إنّي نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا 26 } ولكنهم يجابهونها بما كانت تخشى يقولون : { يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا 28 } ، ولكن يجيء سر خارق للعادة يشير له الجميع ، وهو أن يتكلم من هو في المهد بالحكمة ، { فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا 29 قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا30 وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا 31 وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا 32 والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا 33 } .
كان عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة في الحمل به وفي ولادته وفي طفولته في المهد وهو مخلوق عبد الله تعالى ، وإذا كان وجوده على غير مجرى العادات فهو بخلقه أدل على قدرة الله تعالى من غيره وإذا عبده النصارى فمن جهلهم { ما كان لله أن يتّخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 35 } ولكن من بعده اختلفت الفرق على نحل متباينة فويل لهم من مشهد يوم عظيم{ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين 38 وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون 39 } .
ويجيء في السورة أخبار الأنبياء السابقين وما اقترن برسالتهم من معجزات وما جاءوا به من شرائع ، فابتدأ بقصة أبي العرب إبراهيم عليه السلام ، وفيها تتجلى محبة الأبناء للآباء فيريد لمحبته أباه أن يجنبه عبادة الأوثان ويدعوه إلى تركها فيقول : { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا 44 يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا 45 } ويرده أبوه ردا جافيا فيضطر لاعتزاله وقلبه معلق بمحبته وطلبه الهداية له ، ويذهب به فرط محبته إلى أن يستغفر له ويقول : { سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا } ، { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا 49 } .
ثم ذكرت قصة موسى وكيف وهب الله من رحمته معه أخاه هارون نبيا ، ثم ذكر أخبار إسماعيل عليه السلام منفردا عن أولاد إبراهيم عليه السلام ، وفي هذا إشارة إلى أنه عمود نسب متفرع من إبراهيم عليه السلام وأنه سيكون منه محمد خاتم النبيين { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا 45 } وترجع السورة في التاريخ فتشير إلى إدريس عليه السلام { إنه كان صديقا نبيا 56 ورفعناه مكانا عليا 57 } ، ويشير سبحانه إلى النبيين أجمعين : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيا 58 } وقد أشار سبحانه إلى أن الخلاف جعل منهم الصالحين ، والذين أضاعوا الصلاة { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا 59 إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا 60 } وتفصل السورة الكريمة جزاء المتقين وعقاب الكافرين في بيان معجز ككل آيات القرآن وسوره .
وتجئ العبر في الآيات المختلفة الكثيرة ، فيذكر الناس بالبعث{ أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا 67 فوربّك لنحشرهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا 68 ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا 69 ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا 70 وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا 71 ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا 72 وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا 73 } .
ويضرب الأمثال للمشركين بالذين مضوا من الذين عادوا النبيين وأهلكهم الله ، وهم أحسن منهم أثاثا ورئيا .
ويبين الله اهتداء المهتدين وضلال الضالين : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يدعون إما العذاب وإما الساعة فسيعملون من هو شر مكانا وأضعف جندا 57 ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردّا 76 } .
وتشرح السورة الكريمة نفس الكافر وغروره : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا 77 أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا 78 } ، ثم بين سبحانه أن ذلك مكتوب عليه وأنه سيرث أعقاب هذا القول ، ويقول : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا 81 كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا 82 } .
ويبين سبحانه سيطرة الشياطين على الكافرين : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا 83 فلا تعجل عليهم إنما نعدّ لهم عدّا 84 } .
ويذكر الله الناس جميعا بما يكون يوم الآخرة ، { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا 85 ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا 86 لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا 87 } .
وبين مقالة الكافرين { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا 88 لقد جئتم شيئا إدا 89 تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا 90 أن دعوا للرحمن ولدا 91 وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ، 92 إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا 93 لقد أحصاهم وعدهم عدا 94 وكلهم آتيه يوم القيامة فردا 95 } .
وختم السورة الكريمة ببيان المؤمنين ، وما كتب لهم من جزاء يوم القيامة ، فقال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا 96 فإنما يسّرناه بلسانك لتبشر به التقين وتنذر به قوما لدّا 97 وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا 98 } .
وهكذا نجد السورة ابتدأت بأن الحكمة الله تعالى اقتضت أن يخلق يحيى عليه السلام من شيخ هرم امرأته عاقر ، ويخالف بذلك الأسباب والمسببات ، ثم يأتي سبحانه بخلق عيسى عليه السلام من غير أب ليكون وجوده عليه السلام معجزة ، وهو عبد من عباد الله ويختمها بالمعجزة الكبرى وهو القرآن ، { فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا 97 } .
معاني السورة الكريمة
قال الله تعالى :
{ كهيعص 1 ذكر رحمة ربك عبده زكريا 2 إذ نادى ربه نداء خفيّا 3 قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا 4 وإني خفت الموالي من وراءي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليّا 5 يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيّا 6 يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميّا 7 قال رب أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيّا 8 قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا 9 قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا 10 فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا 11 يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا 12 وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا 13 وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا 14 وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا 15 }
هذا عصر كثرت فيه خوارق العادات ، لأنها كانت تصحيحا للعقول .وإزالة لفكرة خاطئة وقعت فيها الفلسفة التي كانت سائدة في هذا العصر ، وهي نظام الأسباب العادية ، وترتيب مسبباتها عليها ، وأنه هو النظام المطرد المستقر الذي لا يمكن تغييره ، وهو النظام الموجود ، حتى زعموا أن الله خلقت عنه الأشياء ، منفعلة بالعلية ، وأنه ليس باختيار من الله تعالى وإرادة ، فكل ما في الوجود ، جاء منفعلا عن علة وهو علة لغيره ، حتى يتوالى كله بنظام العِليّة ، فالأب عِلّة لوجود ابنه ، إذا كان قويا والأم علّة لوجود ولدها إذا كانت سليمة قوية ليست عاقرا .
وكان لا بد لتصحيح هذه الفلسفة ولبيان بطلانها أن تكون أشياء بغير أسبابها التي استقرت أفهامهم على أنها أسباب طبيعية لها ، وفي هذه السورة الكريمة كان أمران فيهما نقض لنظام الأسباب والمسببات يدل على أن الوجود خلق بإرادة مختار ، وأن الله تعالى فعال لما يريد :
الأمر الأول : ولادة عاقر وزوجها بلغ من الكبر عتيا .
الأمر الثاني : ولادة ولد من غير أب وإذا كانت الأولى فيها الولادة من أم غير صالحة للإنجاب ، فالثانية ولادة من أم لم يثبت عدم صلاحيتها للإنجاب ولكن من غير أب مطلقا صالحا للإنجاب أو غير صالح .
{ كهيعص 1 } .
قلنا في الحروف التي تبدأ بها بعض السور : إن معناها قد اختص به علم الله تعالى ، ولنا أن نتعرف الحكمة في ابتداء بعض السور بها ، وأشرنا إلى أنها تنبه لإعجاز القرآن ، وأنه مؤلف من الحروف التي يتألف منها كلامكم ومع ذلك عجزتم أن تأتوا بمثلها ، وأنها تنبه الأذهان للاستماع ، وقد كان المشركون تعاهدوا على ألا يسمعوا لهذا القرآن ويلغوا فيه : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون 26 } ( فصلت ) ، فإذا تليت عليهم تلك الحروف بغِنَّها ومدها نبهتهم فيستمعون إليها ، تهجم عليهم الآيات المفهومة المدركة ، فيستمعون إليها راغمين غير مختارين وهي أسماء للسور ، وذكر الكتاب .