التفسير الحديث لدروزة

دروزة القرن الخامس عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

صفحة 350

وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٤

( 1 ) يرمون : هنا بمعنى يتهمون بالزنا .

( 2 ) المحصنات : من المفسرين من أولها بالمتزوجات ومنهم من أولها بالعفيفات .

تعليق على الآية

{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ 11 } .

والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( 18 ) ، وخبر حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما في ذلك من صور وتلقينات .

هذه الآيات تتضمن الإشارة إلى حادث قذف كاذب اتفق المفسرون والرواة على أنه في شأن عائشة أم المؤمنين وعرف في تاريخ السيرة النبوية باسم حديث الإفك اقتباسا من الآية الأولى فيما هو المتبادر وقد تضمنت تقرير ما يلي :

( 1 ) إن الذين أثاروا الحديث هم جماعة من المسلمين .

( 2 ) وهم آثمون : كل بحسب ما كان منه من أثر فيه . والإثم الأكبر والعذاب الأعظم هو لمن تزعم الحركة وقاد الحملة .

( 3 ) وعلى الذين لهم صلة به أن لا يحزنوا ولا يظنوا حينما سمعوا خبره أنه شر في حقهم بل إنه خير لهم في النتيجة .

( 4 ) ولقد كان من الواجب على مثيريه أن يقيموا البينة على صحة ما قالوا ، فيأتوا بأربعة شهداء ولكنهم إذا لم يفعلوا ذلك فهم كاذبون عند الله .

( 5 ) ولقد كان الأولى بالمؤمنين حينما سمعوا الحديث أن يغلبوا حسن الظن بالمؤمنين والمؤمنات ويستنكروه ويقرروا أنه كذب واضح .

( 6 ) ولولا أن الله قد رحمهم وشملهم بفضله في الدنيا والآخرة لنالهم عذاب عظيم فيهما عقوبة على ما كان منهم من الإفاضة في هذا الحديث والاشتغال به ؛ حيث أخذوا يتناقلونه ويتلقاه بعضهم عن بعض ويخوضون فيه بدون علم ويقين ولا ينتبهون إلى ما وقعوا فيه من الإثم وظنوه أمرا هينا مع أنه عظيم عند الله .

( 7 ) ولقد كان الأجدر بهم أن يدركوا حينما سمعوه أنه افتراء عظيم ، وأنه لا يجوز أن يخوضوا فيه ، وأن يحولوا دون ذيوعه وتوسع الكلام عنه .

( 8 ) وإن الله لينهاهم عن العودة إلى مثله أبدا إذا كانوا مؤمنين حقا ، وإنه ليبين لهم الآيات ليتذكروا ، وإنه لهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الحق والخير والمصلحة .

وهذا الحادث من الحوادث المهمة في تاريخ السيرة النبوية كان موضوع بحث وتمحيص وقيل وقال ، ورويت فيه روايات عديدة وطويلة . وفي فصل التفسير في صحيح البخاري ومسلم والترمذي حديث طويل مروي عن عائشة أم المؤمنين احتوى تفصيل المسألة تفصيلا وافيا رأينا إيراده لما فيه من صور وفوائد . قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين زوجاته فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي ، فخرجت معه بعدما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع أظفار[1479] قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني[1480] ابتغاؤه فأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوه هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني فنمت ، وكان صفوان ابن المعطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه[1481] حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ يدها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأني .

وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، فقدمنا المدينة فاشتكيت[1482]شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي . إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ثم ينصرف ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا .

فانطلقت أنا وأم مسطح ابن أثاثة وهي بنت أبي رهم ابن عبد مناف وأمها خالة أبي بكر الصديق ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا قالت : أي هنتاه ( يا هذه ) أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله ثم قال : كيف تيكم ، قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي قالت وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها ، فقلت : سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا .

قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي ، فدعا رسول الله علي ابن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله ( طلاقها ) فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال : يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله بريرة أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله ابن أبي سلول فقال وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي . فقام سعد ابن معاذ فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد ابن عبادة ( زعيم الخزرج ) وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد ابن حضير ( من زعماء الأوس ) فقال لسعد ابن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت ، قالت : فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما ، وهما يظنان أن البكاء فالق كبدي ، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها فجلست تبكي معي ، قالت : فبينا نحن كذلك دخل علينا رسول الله فسلم ثم جلس ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني فتشهد ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب عليه . فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب رسول الله فيما قال ، قال : والله ما أدري ما أقول ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله قالت : ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت ، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به . فلئن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني . والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } ( يوسف : 18 } ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا أعلم أني بريئة ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها . قالت : فوالله ما رام رسول الله ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء[1483]حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان[1484] من العرق في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه ، فلما سري عن رسول الله وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها : يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك فقالت أمي قومي إليه[1485] . فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل .

فأنزل الله { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } العشر الآيات كلها . فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعدما قال في عائشة ، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره فأنزل الله تعالى { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولوا القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم 22 } قال أبو بكر : بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه . وقال : والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة : وكان رسول الله يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال : يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟ قالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا . قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك[1486] . وقد روى الترمذي تتمة للقصة عن عائشة قالت : ( لما نزل عذري قام رسول الله على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم ) [1487] .

والحديث كما هو واضح قد صدر من عائشة بعد مدة طويلة من الحادث غير أن هذا ليس من شأنه أن يضعف من صحة جميع ما جاء فيه . وفي الروايات بعض تفصيلات لم ترد فيه ، منها أن الغزوة التي وقع الحادث أثناءها هي غزوة بني المصطلق أو المريسيع[1488] وأن الذين خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم ، وأوقع النبي عليهم الحد حسان ابن ثابت ومسطح ابن أثاثة وحمنة بنت جحش . وهناك رواية تذكر أن الذي تولى كبره هو حسان بينما هناك رواية تذكر أنه عبد الله ابن أبي ابن سلول[1489] . ومن العجيب أن الروايات لم تذكر أن النبي أقام الحد على عبد الله ابن أبي ابن سلول . وحديث عائشة الذي رواه الترمذي يذكر أن الذين أقيم عليهم الحد رجلان وامرأة ، فالظاهر أن عبد الله ابن أبي بن سلول لعب دوره بمهارة ، وأن الذين تورطوا في الحديث هم الثلاثة المذكورون . ولقد روى المفسرون أن ابن سلول كان يجمع الكلام ويستوشيه حتى دخل في أذهان الناس فتكلموا به وجوزه آخرون منهم ، وأن هذا المسلك كان مما درأ عنه الحد ؛ لأنه لم يصدر منه قذف صريح[1490] .

ولقد روي[1491] أنه وقعت ملاحاة ومشادة بين بعض المهاجرين والأنصار من الخزرج من أقارب ابن سلول في أثناء غزوة المريسيع وجعلت هذا يظهر ما في صدره من حنق وغيظ ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين ويهدد ويتوعد وكان لذلك أثر مرير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين على ما سوف نشرحه في سورة ( المنافقون ) بعد هذه السورة . ومما يخطر في البال أن يكون ابن أبي بن سلول قد أراد في ما أثاره من حديث الإفك شفاء نفسه من النبي بهذه الإثارة .

ومع أن الآيات ليست بسبيل حكاية القصة كما هو واضح . وشأنها شأن ما ورد في القرآن من قصص وإشارات إلى حوادث السيرة أي أنها استهدفت التنديد والإنذار والعتاب والتذكير والعظة والتبرئة والتسلية على ما جاء في الشرح فإنها احتوت بعض الدلالات المتسقة مع المروي إجمالا كما أن فيها دلالة على ما كان للحادث وظروفه من آثار مؤذية ومزعجة . هذا مع توقفنا فيما روي من موقف النبي من عائشة وجفائه وما يوهمه هذا من احتمال شكه فيها . فإن الآيات لا تساعد على التسليم به نصا وروحا . وفي نفسنا كذلك شيء مما ورد عن موقف علي ابن أبي طالب . فهو يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الجارية وهي تصدقه مما يدل على أنه كان يعلم منها ما يريب في حين أنه لم يكن شيء من ذلك . ولا نود أن نصدق أن عليا رضي الله عنه يبيح لنفسه أن يشك في عائشة رضي الله عنها ويحرض النبي صلى الله عليه وسلم على طلاقها بدون برهان وليس هناك برهان ، ولقد أثير هذا حين نشبت الفتنة بين المسلمين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، وكان من صفحاتها الوقعة المعروفة بحرب الجمل التي كان في طرفها الأول علي ابن أبي طالب وفي طرفها الثاني عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين حيث قال فيما قيل على هامشها : إن عائشة ظلت ناقمة على علي بسبب موقفه المذكور . ومعظم ما جاء في الروايات حول هذه الفتنة مشوب بالهوى الحزبي[1492] .

وأسلوب الآيات قوي في التنديد والإنذار والعتاب والتطمين والتسلية . ومن شأنه أن يثير الرهبة والخجل والندم في الذين تورطوا في حديث الإفك بأي شكل أو سكتوا عنه من جهة . وأن يبعث القناعة التامة في نزاهة أم المؤمنين ويهديء روعها ويطيب نفسها من جهة . وأن يعظم إثم الذين قادوا حملة الإفك أو خاضوا فيه أكثر من غيرهم من جهة .

ويتبادر لنا أن التنديد بالساكتين عن شيوع الخبر والمتورطين فيه من غير الذين قادوا الحملة أو خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم وبخاصة ما جاء في الآيتين ( 15 و16 ) ينطوي على قصد بيان في الحادث من إفك بديهي . وكونه مما لا يصح في العقل أن تقترف زوجة النبي إثما فاحشا وهي بنت أول بيت في الإسلام بعد بيت النبي وفي مرتبة سامية من الكرامة عند الله والنبي والمسلمين وزوجة النبي الذي كانت تعتقد أن وحي الله متصل به أولا وأن يجرأ مسلم على التعرض لزوجة النبي وهي أمه المعنوية بنص القرآن ، وفيه ذرة من الإيمان بالله ورسوله ثانيا . ومن العجيب الذي يبعث الاشمئزاز أن تحتوي الآيات كل هذه القوة والإحاطة في التنزيه والتنديد والتنبيه إلا ما لا يعقل ولا ينبغي ولا يصح ، ثم يظل أعداء الإسلام يخوضون في هذه القصة خوضا ليس له من قصد غير التجريح والتشنيع .

ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فقد احتوت تلقينات أخلاقية واجتماعية بليغة مستمرة المدى . في تقبيح التعرض لأعراض الناس وخاصة بالكذب والافتراء والخوض فيها بدون علم وبينة . وفي عدم جواز سكوت الجمهور على مثل هذا التصرف أو الانسياق في تياره بدون ترو وتدبر . وفي وجوب الوقوف في مثل هذه الحوادث موقفا حاسما قويا فلا يسمح بذيوع الإفك والبهتان ومس أعراض الناس ، وفي تطمين الأبرياء حتى لا ينزعجوا بمثل هذه الحوادث التي كثير ما تثيرها الأغراض والنوايا الخبيثة وحب الكيد والغفلة ، وهذه كلها تجمعت في إثارة حديث الإفك كما يفهم من تفاصيل الروايات وقرائن الآيات وحتى يقابلوها برباطة جأش وطمأنينة قلب فيكون ذلك عاملا على قتل الإفك وإحباط الكيد .{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 4 ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5 ) }

احتوت الآيتان تشريعا بحق من يقذف المحصنات بالزنا . ولم يثبتوا قولهم بأربعة شهداء حيث أوجبت عليهم حدا هو أن يجلدوا ثمانين جلدة ثم منعت قبول شهادتهم ووسمتهم بالفسق . مع استثناء الذين يندمون ويتوبون ويتلافون أمرهم بالإصلاح والصلاح فقد ينالون عفو الله الغفور الرحيم .

تعليق على الآية .

{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 4 } والآية التالية لها .

وقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا في صدد ما كان من اتهام عائشة أم المؤمنين بما عرف في السيرة النبوية بحديث الإفك وما يأتي تفصيله بعد قليل .

وقد يكون هذا صحيحا ، ومع ذلك فالمناسبة الموضوعية قائمة بين الآيتين وما سبقهما وما لحقهما ، وهما في الوقت نفسه فصل تشريعي عام مستقل بذاته .

وظاهر النص هو إيجاب إقامة الحد على من يوجه تهمة الزنا إلى النساء ، ولم يثبتها بأربعة شهداء . غير أن الجمهور على أن هذا يشمل من يوجه هذه التهمة إلى الرجال ولم يثبتها كذلك ؛ حيث روي أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أقام حد القذف على جماعة اتهموا رجلا بالزنا ولم يشهد أربعة على ذلك[1479] .

ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إنه لا فرق في جريمة القذف بين أن يكون مرتكبها رجلا أو امرأة ، فالقرآن لا يفرق بين الرجل والمرأة في هذه المسائل على ما نبهنا عليه في مختلف المناسبات[1480] .

وقد اختلف الأقوال في حد القاذف إذا كان مملوكا ، فهناك من ذهب إلى أن الحد عليه هو نفس الحد على الحر ، وهناك من ذهب إلى أن عليه نصف الحد[1481] .

ولم يورد القائلون أثرا نبويا أو راشديا ولم نطلع على ذلك . ونحن مع القول الأول ؛ لأن أثر الجريمة لا يتغير صفة مقترفها ، وهذا غير متناقض مع آية سورة النساء ( 25 ) التي تجعل حد الأمة المحصنة نصف حد الحرة . فهذه حالة أخرى كما هو المتبادر .

وبعض المفسرين قالوا : إن الحد إنما يجب على قاذف المحصن ( أي المتزوج ) وإن قاذف غير المحصن يعزر تعزيرا[1482] والظاهر أن القائلين أولوا كلمة { المحصنات } في الآية بمعنى المتزوجات . وقد فسر بعضهم الكلمة بالعفيفات[1483]فيكون الحد بذلك واجبا على القاذف سواء أكان المقذوف متزوجا أم أعزب . والكلمة تتحمل المعنيين ، فيكون القولان وجيهين ، وإن كنا نرجح وجاهة القول الأول ؛ لأن القذف في المتزوجين أشد وقعا في حياة المقذوف الأسرية والاجتماعية كما هو المتبادر مع استثناء المرأة إذا كانت هي المقذوفة ، ولا سيما إذا كانت بكرا .

ولقد قال بعضهم : إن قذف المشهورة بالزنا لا يستوجب حدا[1484] وقد يكون هذا متسقا مع قول من قال : إن كلمة المحصنات بمعنى العفيفات فيكون القول وجيها . وقال بعضهم : إن المقذوف إذا اعترف بالتهمة سقط الحد عن القاذف[1485] .

وهذا ظاهرا الوجاهة أيضا .

والمستفاد من أقوال المفسرين[1486] أن جرم القذف يتحقق سواء أبتوجيه التهمة قضائيا أي برفعها إلى ولي الأمر والحاكم أو بتوجيه الكلام في معرض الشتيمة في حضور المقذوف به أو في غيابه ، أم في معرض الإخبار . وبكلمات صريحة أو بكلمات لا تفسر إلا بتهمة الزنا ، وكل هذا وجيه ومتسق مع مضمون الآية وروحها .

والواقعة التي وقعت في عهد عمر ، والتي ذكرناها في ذيل الصفحة ( 369 ) تدل على أنه إذا شهد واحد أو اثنان أو ثلاثة فقط ، ولم يشهد رابع عد الثلاثة قاذفين أيضا ووجب عليهم الحد ، وهو ما عليه الجمهور ، وهو حق وصواب . ويظهر من أقوال المفسرين أن الشاكي أو المتهم أو القاذف يصح أن يكون شاهدا من أربعة ، وهذا وجيه أيضا ؛ لأن القضية ليست خصومة بين مدع ومدعى عليه .

وحكمة إيجاب الحد على القاذف ظاهرة كما أن الحكمة إناطة التهمة بأربعة شهداء متصلة بحكمة تعليق ثبوت الزنا على أربع شهادات كما هو المتبادر .

فأعراض الناس وكراماتهم من الأمور الجوهرية في الحياة الاجتماعية . ويترتب على القذف فيها نتائج خطيرة شخصية وأسرية واجتماعية . وفي إيجاب الحد على القاذف ردع عن التهجم على الأعراض والاستهانة بها . وفي إناطة ثبوت التهمة بأربعة شهداء وسيلة قوية لمنع الإرجاف وشيوع أخبار الفاحشة والسوء في الأوساط الاجتماعية ، أما إذا استطاع القاذف أن يقيم البينة بأربع شهادات فتكون حالة المقذوف حالة استهتار بشع . ويكون موقف القاذف محقا ووسيلة للتنكيل بمن يرتكب الفاحشة بمثل هذا الاستهتار البشع .

وقد اختلفت الأقوال في مدى الاستثناء الذي احتوته الآية الثانية . فمنها أن التوبة لا تسقط الحد عن القاذف إن كانت قبل إيقاعه ، ولا تجعل شهادته مقبولة ، وكل أمرها أنها تسقط عنه صفة الفسق . ومنها أنها تجعل شهادته مقبولة أيضا . وقال القائلون بهذا : إن كلمة ( أبدا ) هي في حالة عدم التوبة وإصرار القاذف على ما قال في حق المقذوف ، ومنها أن قبول شهادته بعد التوبة منوط بالاعتراف بأنه قال بهتانا . وهذه الأقوال معزوة إلى بعض العلماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية[1487] .

وهناك قول معزو إلى الشعبي - أحد علماء التابعين ـ وهو أن القاذف إذا تاب قبل الحد سقط عنه الحد أيضا[1488] وهناك قول معدل لهذا القول : وهو أن سقوط الحد عن القاذف التائب قبل تنفيذه منوط بعفو المقذوف قياسا على سقوط القصاص بعفو أهل القتيل[1489] ، وهو ما نراه وجيها دون قول الشعبي المطلق ؛ لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط ، وإنما فيه حق المقذوف أيضا . ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الصور .

والمتبادر الذي يلهمه نص الآية فيما نرى أن الرأي القائل : إن التوبة تجعل شهادة القاذف مقبولة بالإضافة إلى رفعها صفة الفسق عنه وهو الأوجه . ولا سيما إذا لوحظ أنه قد تكون حالة زنا صحيحة يعلمها شخص أو اثنان أو ثلاثة غير متهمين بعدالتهم وصدقهم ، وأنه قد يكون من المتعذر دائما الإتيان بأربعة شهود . وأن الرأي القائل بأن التوبة قبل إيقاع الحد إذا اقترنت بعفو المقذوف تسقط الحد قياسا على سقوط القصاص عن القاتل بعفو أهل القتيل وهو وجيه أيضا ؛ لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط ، وإنما فيه حق المقذوف أيضا .

ومن العلماء من جعل صحة توبة التائب منوطة بإعلانه ندمه ورجوعه عن القذف وكذبه فيما قال ، ومنهم من لم يربطها بمثل هذا الإعلان مكتفيا بما يظهر من صلاحه واستقامته[1490] . وكلا القولين وجيه ، وإن كنا نميل إلى ترجيح القول الأول ؛ لأن ذلك أدعى إلى حفظ كرامة المقذوف من جهة ووسيلة إلى معرفة التوبة لإفساح المجال للقاذف بأن تقبل شهادته ، ولا يظل موسوما بسمة الفسق .

ويلحظ أن الآية لم تقيد الشهداء بصفة ما ؛ حيث استنتج بعضهم من ذلك جواز قبول الشهادة من أي كان . غير أن بعضهم منع قبول شهادة المعروف بالفسق استئناسا بآية سورة الحجرات هذه { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين6 } وبعضهم جعل قيد الإسلام شرطا استئناسا بآية سورة النساء ( 15 ) ( وَاللَّاتِي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وهذا وذاك وجيهان كما هو ظاهر . والجمهور على أن شهادة الزنا والقذف محصورة بالرجال دون النساء على ما ذكرناه في سياق تفسير آية النساء المذكورة آنفا . ونكرر ما قلناه في سياق تفسير هذه الآية . وهو أن الآية لا تفيد هذا الحصر . وفرصة مشاهدة النساء لهذه الجريمة أكثر سنوحا منها بالنسبة للرجال . ولم نطلع على حديث نبوي وثيق برد شهادة النساء مطلقا في أي نوع من القضايا ، وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ترد شهادتهم وهم ( الخائن والخائنة وذو الغمر على أخيه وشهادة التابع لأهل البيت وجوازها لغيرهم ) وفي رواية ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ) [1491] ولم نر أحدا من المفسرين ذكر شيئا بشأن شهادة العبد . وليس في القرآن ما يمنع قبول شهادة العبد المسلم في كل ما تقبل به شهادة الحر المسلم .

ولم نطلع على حديث صحيح يمنع ذلك . ولقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة ، وفند قول من يقول بعكس ذلك[1492] .

ولم نر المفسرين ذكروا حالة ما إذا كان المقذوف عبدا أو أمة . وكل ما هناك أنهم قالوا في سياق تعريف { المحصنات } أنهم الحرائر العفيفات وقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة بما يفيد أنه ليس على قاذف العبد حد ، وعلل ذلك بأن الله لم يجعل العبد كالحر لا قدرا ولا شرعا وأن هذا لا يتناقض مع تسويته في الثواب والعقاب في الآخرة ؛ لأنه لا يكون هناك إلا الإنسان وعمله[14] . ونحن نتوقف في هذا بعض الشيء فما دام الزاني والزانية من العبيد والإماء يوقع عليهما حد الزنا فلا يصح أن يعفى قاذفهما إذا لم يثبت التهمة عليهما من العقاب . وهذا متسق مع نص الآية وإطلاقها ، وبخاصة مع التأويل الأكثر وجاهة لكلمة المحصنات وهو العفيفات والله تعالى أعلم .