الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يعطينا مثالاً لعاقبة الخروج عن منهج الله تعالى ؛ لأنه سبحانه حينما يرسل رسولاً ليبلغ منهجه إلى خلقه ، فلا عذر للخارجين عنه ؛ لأنه منهج من الخالق الرازق المنعم ، الذي يستحق منا الطاعة والانقياد . وكيف يتقلب الإنسان في نعمة ربه ثم يعصاه ؟ إنه رد غير لائق للجميل ، وإنكار للمعروف الذي يسوقه إليك ليل نهار ، بل في كل نفسٍ من أنفاسك .
ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عذر لمن خرج عنه ، ولذلك يقولون : " من يأكل لقمتي يسمع كلمتي " .
كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف ، بل كلفك في وقت مناسب ، في وقت استوت فيه ملكاتك وقدراتك ، وأصبحت بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف ، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره ، فكان الأولى بك أن تستمع إلى منهج ربك ، وتنفذه أمراً ونهياً ؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدك من عدم .
والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه بعضنا أن يكلف بعضاً ، كما قال تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها . . " 132 " }( سورة طه ) : وقد شرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية فقال : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " .
وهذا التكليف وإن كان في ظاهره من الأهل لأولادهم ، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع ، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحس أمام الطفل ، فأبوه هو صاحب النعمة المحسة حيث يوفر لولده الطعام والشراب ، وكل متطلبات حياته ، فإذا ما كلفه أبوه كان أدعى إلى الانصياع والطاعة ؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي ، وهو الله تعالى .
لذلك أمر الأب أن يعود ولده على تحمل التكليف وأن يعاقبه إن قصر ؛ لأن الآمر بالفعل هو الذي يعاقب على الإهمال فيه . حتى إذا بلغ الولد سن التكليف وتعود عليه ، وبذلك يأتي التكليف الإلهي خفيفاً على النفس مألوفاً عندها .
أما إن أخذت نعم الله وانصرفت عن منهجه فطغيت بالنعمة وبغيت فانتظر الانتقام ، انتظر أخذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا ترد عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة .
واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة ، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعون في نعم الله في أمن وسلامة ، فسوف يغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم ، وأن يتخذوهم قدوة ومثلاً ، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه .
أما إن رأوا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء ، وشاهدوهم أذلاء منكسرين ، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة ، والعاقل من اعتبر بغيره ، واستفاد من تجارب الآخرين .
فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى ، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاق بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عبرة ومثلة ومن لم يعتبر كان عبرة حتى لمن لم يؤمن ، وبذلك تعتدل حركة الحياة ، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار ، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسر لك الوقوف على هذه السنة الإلهية في بلاد بعينها ، ولاستطعت أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه .
وصدق الله حين قال : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " 112 " }( سورة النحل ) .
وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه ، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر ، وإلا لكانت أسوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة . قال تعالى :
{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " 16 " }
( سورة الإسراء ) : الآفة أن الذين يستقبلون نص القرآن يفهمون خطأ أن ( ففسقوا )مترتبة على الأمر الذي قبلها ، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق ، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة ، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين ، فتعالوا نر أوامر الله في القرآن : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين . . " 5 " } ( سورة البينة ) .
{ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة . . " 91 " } ( سورة النمل ) ، { وأمرت أن أكون من المسلمين " 72 " }
( سورة يونس ) : فأمر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير ، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء ، كما ذكر القرآن الكريم ، وعلى هذا يكون المراد من الآية : أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا ، ولكنهم خالفوا وعصوا وفسقوا ؛ لذلك حق عليهم العذاب .
والأمر : طلب من الأعلى ، وهو الله تعالى إلى الأدنى ، وهم الخلق طلب منهم الطاعة والعبادة ، فاستغلوا فرصة الاختيار ففسقوا وخالفوا أمر الله . قوله : { وإذا أردنا أن نهلك قرية . . " 16 " }( سورة الإسراء ) :
من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا ؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم . و( قرية )أي أهل القرية . وقوله : { فيها فحق عليها القول . . " 16 " } ( سورة الإسراء )
أي : وجب لها العذاب ، كما قال تعالى : { كذلك حقت كلمت . . " 33 " } ( سورة يونس ) : وقد أوجب الله لها العذاب لتسلم حركة الحياة ، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة . وقوله تعالى :
{ فدمرناها تدميرا " 16 " } ( سورة الإسراء ) : أي : خربناها ، وجعلناها أثراً بعد عين ، وليست هذه هي الأولى ، بل إذا استقرأت التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم .