قال الحق جل جلاله : { الحمد لله رب العالمين ( 2 ) الرحمان الرحيم ( 3 ) مالك يوم الدين ( 4 ) }
قلت : { الحمد } مبتدأ ، و{ الله } خبر ، وأصله النصب ، وقرئ به ، والأصل : أحمد الله حمداً ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته ، دون تجدده وحدوثه ، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء . أي : الحمد لله وإن لم تحمدوه . ولو قال ( أحمد الله ) لما أفاد هذا المعنى ، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها . والتعريف للجنس ؛ أي : للحقيقة من حيث هي ، من غير قيد شيوعها ، ومعناه : الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو . أو للاستغراق ؛ إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله ؛ إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة . كما قال : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النّحل : 53 ] ، وقيل : للعهد ، والمعهودُ حمدُه تعالى نَفْسَه في أزله .
وقُرِئ { الحمد لله } بإتباع الدال للام[40] ، وبالعكس[41] ، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة .
ومعناه في اللغة : الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل ، وفي العُرف : فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً . والشكر في اللغة : فعل يُشعر بتعظيم المنعم ، فهو مرادف للحمد العرفي ، وفي العرف : صرفُ العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه . وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً .
و{ الله } اسم مُرْتَجَلٌ جامد ، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف ، قال الواحدي[42] : اسم تفرِّد به الباري - سبحانه - يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام ، لا يُعرف له اشتقاق[43] ، وقال الأقْلِيشي[44] : إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات ، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات ، وليس باسمٍ مشتق من صفة ، كالعالِم والحق والخالق والرازق ، فالألف واللام على هذا في ( الله ) من نفس الكلمة ، كالزاي من زيد ، وذهب إلى هذا جماعة ، واختاره الغزالي[45] ، وقال : كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف .
وقيل : مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد ، وقيل : من الوَلَهَان ، وهو الحيرة ؛ لتحيُّر العقول في شأنه . وقيل : أصله : الإلهُ ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام ، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم ، إلا إذا كان قبلها كسر .
و{ رب } نعت { لله } ، وهو في الأصل : مصدر بمعنى التربية ، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل .
وقيل : هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ ، وأصله : رَبَبَ ثم أُدغم ، سُمي به المالكُ ؛ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه[46] ، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يُوسُف : 50 ] . قال ابن جُزَيّ[47] : ومعانيه أربعة : الإله والسيد والمالك والمصلح ، وكلها تصلح في رب العالمين ، إلا أن الأرجح في معناه ، الإله ؛ لاختصاصه بالله تعالى[48] .
و{ العالمين } جمع عالَم ، والعالَمُ : اسم لما يُعْلَمُ به ، كالخاتم لما يُختم به ، والطابع لما يطبع به . غلب فيما يُعلم به الصانع . وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته ، تدل على وجوده ، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة[49] ، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم ، فهو جمع[50] ، لا اسم جمع ، خلافاً لابن مالك[51] .
وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع ، وقيل : عني به هنا الناس ، فإن كل واحد منهم عالَمٌ ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذّاريَات : 21 ] .
{ قلت } : وإليه يشير قول الشاعر :
يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه *** انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً *** يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بِأَسْرِه
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلَّماً لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه : يا عبادي قولوا { الحمد لله رب العالمين } أي : الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل ، فلا يستحق الحمدَ سواه ، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله ، { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }
[ النّحل : 53 ] . أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله ، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله ، قبل أن يُوجِدَ خلقّه ، فلما أوجد خلقه قال لهم : الحمد لله ، أي : احْمَدُوني بذلك المعهود في الأزل .
وإنما استحق الحمد وحده لأنه { ربّ العالمين } ، وكأن سائلاً سأله : لم اختصصت بالحمد ؟ فقال : لأني ربُّ العالمين ، أنا أوجدتُهم برحمتي ، وأمددتهم بنعمتي ، فلا منعم غيري ، فاستحققت الحمد وحدي ، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد ، فأنا ربُّ العباد ، فالعوالم كلها - على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها - في قبضتي وتحت تربيتي[52] ورعايتي .
قال بعضهم : خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم ، نصفها في البر ونصفها في البحر . وقال الفخرُ الرازي[53] : رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن ، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر ، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية ، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل ، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق[54] الواحد من سُرادقات العرش ، التي عددُها : مائةُ ألف ، طول كل سرادق وعرضُه - إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً . وما من موضع شِبْرٍ ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم ، وله زَجَل[55] بالتسبيح والتهليل . ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر ، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدَّثِّر : 31 ] . ه .
وقال وَهْبُ بن مُنّبِّه[56] : ( قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة ، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء ، وفي كل صحراء ستون ألف عالم ، وكل عالم قَدْرُ الثقلين ) .
فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه ، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه ، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف ، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح ، من العرش[57] إلى الفرش[58] ، كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالُها ، محفوظة أشباحُها ، معلومات أماكنها ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .