التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي

سيد طنطاوي القرن الخامس عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

المجلد الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وحده لا شريك له ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله رحمة للعالمين ، وأنزل عليه كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون .

وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور . [ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ]( [1] ) .

وقد أنزل الله –تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ، لمقاصد عالية ، وحكم سامية ، وأغراض شريفة . . .

من أهمها أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم ، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس ، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب . . .

وقد أودع –تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة ، والعبادات القويمة ، والأحكام الجليلة ، والآداب الفاضلة ، والعظات البليغة ، والتوجيهات الحكيمة . . . ما به قوام الملة الكاملة ، والأمة الفاضلة ، والجماعة الراشدة ، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه .

فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية ، وأوفاها بحاجة البشرية ، وأجمعها للخير ، وأبقاها على الدهر ، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم .

قال –تعالى- [ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ]( [2] ) .

وقال تعالى : [ لَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ، وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهم إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ]( [3] ) .

وقال –تعالى- [ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَأَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ]( [4] ) .

كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن ، أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه .

ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقال لهم : معجزتي الدالة على صدقي هذا القرآن ، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا ، فأرخى لهم العنان وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا ، فزاد في إرخاء العنان لهم –وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله ، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين . فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .

قال الله تعالى- : [ وَإِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه ، وادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ]( [5] ) .

كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته ، وحفظه ، وتدبره ، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته . . .

ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه ، وفضل طالبه ، وقارئه ، ومستمعه ، والعامل به ، وكيفية تلاوته . . . فقال ما ملخصه :

اعلم أن هذا الباب واسع كبير . ألف فيه العلماء كتباً كثيرة ، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله ، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه ، وعملوا به . فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين . كلام من ليس كمثله شيء . . .

ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . . . " .

وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم . . . " .

وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة( [6] ) ريحها طيب وطعمها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر " .

وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه –أي يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران " .

وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا أقول الَم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " ( [7] ) .

هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي ، وهو يتحدث عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه . . . الخ .

ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم : أمته تحذيراً شديداً من نسيان القرآن ، فقد روى الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا القرآن ؛ فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً –أي : تفلتا- من الإبل في عُقُلِها " .

وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجها ثم نسيها " .

هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله –تعالى- القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يكون هداية للناس ، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم : فيما يبلغه عن ربه ، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم –عز وجل- ولقد تكفل الله –تعالى- بحفظ هذا القرآن ، وصانه من التحريف والتبديل ، والتغيير والمعارضة . قال –تعالى- : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ]( [8] ) .

وكان من مظاهر عنايته –سبحانه- بكتابه ، أن جعله محفوظاً في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع ، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وفق له في كل عصر حفاظاً متقنين جمعوه في صدورهم ، وعمروا به ليلهم ونهارهم . . .

وأن قيض لهم رجالا قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته ودراسة علومه ، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته ، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره ، ومنهم من كتب في أسباب نزوله ، ومنهم من كتب في قراءاته ورسمه ، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه ، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه ، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه ، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه . . . . . إلى غير ذلك من ألوان علومه .

وكثير منهم كتبوا في تفسيره . وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه ، وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته ، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان ، لما تدل عليه ألفاظ القرآن . وهو ما يسمى بعلم التفسير .

فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية ، والتوجيهات النافعة ، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم .

وبدون تفسير القرآن ، تفسيراً علمياً سليماً لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات ، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون .

قال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره ، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب . ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب " ( [9] ) .

ولقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان هذا المعنى " وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال : " فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله ، وتفسير ذلك ، وطلبه من مظانه ، وتعلم ذلك وتعليمه . . . .

فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك عليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له . . . . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " . يعني السنة . . . .

والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنة . . . . فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين . . . قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت . ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته " . وقال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن " .

وقال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً " . . . .

فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر ، وسعيد ابن جبير . وعكرمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري وغيرهم " ( [10] ) .

هذا ، وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير ، منها القديم والحديث ، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز ، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور ، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأي ، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية ، أو البلاغية ، أو الفلسفية ، أو الصوفية ، أو العلمية ، أو الاجتماعية ، أوالطائفية . . . . أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم . . .

وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات ، والأقوال السقيمة ، والقصص الباطلة . . . كما ترى منها ما هو محشو بذلك .

ولقد انتفعت كثيراً بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله –تعالى- ، وهاأنذا –أخي القارئ- أقدم لك تفسيراً وسيطا لسورتي الفاتحة والبقرة ، وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيراً علمياً محققاً ، محرراً من الأقوال الضعيفة ، والشبه الباطلة ، والمعاني السقيمة . .

وستلاحظ خلال قراءتك له أنني كثيراً ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغوياً مناسبا ثم أبين المراد منها –إذا كان الأمر يقتضي ذلك- .

ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات –إذا وجد وكان مقبولا- .

ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة ، عارضا( [11] ) ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان ، والعظات والآداب والأحكام . . . ، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ، ومن الأحاديث النبوية ، ومن أقوال السلف الصالح .

وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالرأي أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال . . .

وذلك لأنني توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة ، وأحكام سامية ، وتشريعات جليلة ، وآداب فاضلة ، وعظات بليغة ، وأخبار صادقة ، وتوجيهات نافعة ، وأساليب بليغة ، وألفاظ فصيحة . . .

والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وبهجة أفئدتنا ، وأن يعيننا ويوفقنا لإتمام ما بدأناه من خدمة كتابه ، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .

وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

كتبه الراجي عفو ربه

محمد سيد طنطاوي

شيخ الأزهر

{ بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ }

الاسم : اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى . وقد اختلف النحويون فى اشتقاقه على وجهين ، فقال البصريون : هو مشتق من السمو ، ، فقيل : اسم ، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به .

وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهى العلامة ، لأن الاسم علامة لمن وضع له ، فأصل اسم على هذا " وسم " .

ويرى المحققون أن رأى البصريين أرجح ، لأنه يقال فى تصغير " اسم " سُمىَ ، وفى جمعه أسماء ، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها . ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه : أوسام ، وفى تصغيره وسيم .

ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره ، ولا يشاركه فيه أحد . قال القرطبى : قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع : فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو - سبحانه -

و { الرحمن الرحيم } صفتان مشتقتان من الرحمة . والرحمة فى أصل اللغة : رقة في القلب تقتضى الإِحسان ، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفًا لله - تعالى- ، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان . وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه .

والموافق لمذهب السلف أن يقال : هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها ، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان .

وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين ، فبعضهم يرى أن { الرحمن } هو المنعم على جميع الخلق . وأن { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة . ويرى آخرون أن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم ، وأن { الرحيم } هو المنعم بدقائقها .

ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول . والذي يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد ، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر ، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران . والرحيم بمعنى دائم الرحمة ، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف . فكأنه قيل : العظيم الرحمة الدائمة .

أو أن { الرحمن } صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان . و { الرحيم } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه . ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات . قال - تعالى- : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } و { الرحمن عَلَى العرش استوى } { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } وهكذا . . .

أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفًا فعليًا ، وجاء فى الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه . قال - تعالى - { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } الخ .

قال بعض العلماء " وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء ، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه ، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال فى القرآن : إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها " .

والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره أبتدئ . والمعنى : أبتدئ قراءتي متبركًا ومتيمنًا باسم الله الذي هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، والذي رحمته وسعت كل شئ ، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون ، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة .

هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل في قوله - تعالى - { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ثم اختلفوا بعد ذلك فى كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة ، أو هي آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة الخ .

فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة ، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها فى المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه ، ولذا لم يكتبوا " آمين " . فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة . وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي ، وأحمد في أحد قوليه . ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقالوا : إنها آية فذة . من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها ، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة ، لما اختلف الناس في ذلك ، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط . وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة ، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضًا - في وجوب قراءتها في الصلاة ، وفى الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت . وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه ، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

{ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم }

{ الحمد } هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها .

{ رب العالمين } أي : مالكهم ، إذ الرب مصدر " ربه يربه " إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئًا فشيئا درجة الكمال . وهو اسم من أسماء الله - تعالى - ولا يطلق على غيره إلا مقيدًا فيقال : رب الدار ، ورب الضيعة أى : صاحبها ومالكها .

والعالمين : جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله - تعالى- . قال القرطبي : " وهو مأخوذ من العلم والعلامة ؛ لأنه يدل على موجده " . وقيل : المراد بالعالمين أولوا العلم من الإِنس والجن والملائكة .

وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } لأنه سبحانه أول كل شئ وآخر كل شئ ، ولكي يعلمنا - سبحانه - أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه ، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها ، وتجلو عن القلوب أصداءها . والمعنى - كما قال ابن جرير - " الشكر خالصًا لله - جل ثناؤه - دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه مما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد . ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، عن غير استحقاق لهم عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .

فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله - تعالى - وأنه ليس لأحد أن ينازعه إياه - سبحانه - هو رب العالمين .

وجملة { الحمد للَّهِ } مفيدة لقصر الحمد عليه - سبحانه - نحو قولهم : " الكرم في العرب " . كما أن أل في الحمد " للاستغراق . أي : أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين .

وإنما كان الحمد مقصورًا في الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم علي .

ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال : احمدوا الله ، وإنما افتتحت بصيغة الخبر { الحمد للَّهِ } ، لأن الأمر يقتضى التكليف : والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانًا ، فأراد - سبحانه – وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهد وها ، أن يؤنس نفوسهم ، ويؤلف قلوبهم ، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر ، ترفقا بهم ، حتى يديموا الإِصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف .

وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله - تعالى - { الحمد للَّهِ } ، دون قوله - تعالى - : المدح لله ، أو : الشكر لله . فقال : اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله ، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله .

أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان ، فثبت أن المدح أعم من الحمد . وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام . سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك . وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك ، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر . إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل : المدح لله ، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره . وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار . فكان قوله : " الحمد لله " تصريحًا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة . . . وإنما لم يقل : الشكر لله ، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلي له وصول النعمة إليه . وهذه درجة حقيرة . فأما إذا قال " الحمد لله " ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - سبحانه - أوصل النعمة إليه ، فيكون الإِخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت . وقد أجرى - سبحانه - على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين ، ليكون كالاستدلال على استحقاقه - تعالى - للحمد وحده ، وفى ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم ، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم ، أما إذا كان موجهًا ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم ، وفى تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم . فكأنه - سبحانه - يقول لهم : اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي . لأني أنا رب العالمين . وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

وقد أتبع - سبحانه - هذا الوصف وهو { رَبِّ العالمين } ، بوصف آخر هو { الرحمن الرحيم } لحكم سامية من أبرزها : أن وصفه - تعالى - ب { رَبِّ العالمين } أي : مالكهم ، قد يثير في النفوس شيئًا من الخوف أو الرهبة ، فإن المربي قد يكون خشنًا جبارًا متعنتًا ، وذلك مما يخدش من جميل التربية ، وينقص من فضل التعهد . لذا قرن - سبحانه - كونه مربيًا ، بكونه الرحمن الرحيم ، لينفى بذلك هذا الاحتمال ، وليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته وشمول إحسانه ، فهم برحمته يوجدون ، وبرحمته يتصرفون ويرزقون ، وبرحمته يبعثون ويسألون . ولا شك أن في هذا الإِفهام تحريضًا لهم على حمده وعبادته بقلوب مطمئنة ، ونفوس مبتهجة ، ودعوة لهم إلى أن يقيموا حياتهم على الرحمة والإِحسان ، لا على الجبروت والطغيان ، فالراحمون يرحمهم الرحمن .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

{ مالك يَوْمِ الدين }

بعد أن بين - سبحانه - لعباده موجبات حمده ، وأنه الجدير وحده بالحمد ، لأنه المربى الرحيم ، والمنعم الكريم ، أتبع ذلك ببيان أنه - سبحانه - { مالك يَوْمِ الدين } .

والمالك وصف من الملك - بكسر الميم - بمعنى حيازة الشيء مع القدرة على التصرف فيه . واليوم فى العرف : ما يكون من طلوع الشمس إلى غروبها ، وليس هذا مرادًا هنا ، وإنما المراد مطلق الزمن وهو يوم القيامة .

والدين : الجزاء والحساب ، يقال : دنته بما صنع ، أى : جازيته على صنيعه ، ومنه قولهم . كما تدين تدان . أى : كما تفعل تجازى ، وفى الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أى : حاسب نفسه : والمعنى : أنه - تعالى - يتصرف فى أمور يوم الدين من حساب وثواب وعقاب ، تصرف المالك فيما يملك ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وهناك قراءة أخرى للآية وهى { مالك يَوْمِ الدين } من الملك - بضم الميم - وعليها يكون المعنى : أنه - تعالى - هو المدبر لأمور يوم الدين ، وأن له على ذلك اليوم هيمنة الملوك وسيطرتهم ، فكل شئ فى ذلك اليوم يجرى بأمره ، وكل تصرف فيه ينفذ باسمه ، كما قال - تعالى - { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } قال الإِمام ابن كثير : " وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، لأنه قد تقدم الإِخبار بأنه رب العالمين ، وذلك عام فى الدنيا والآخرة . وإنما أضيف إلى يوم الدين ، لأنه لا يدعى أحد هنالك شيئًا ، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } والملك فى الحقيقة هو الله ، قال - تعالى - { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام } وفى الصحيحين عن أبى هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يقبض الله الأرض ، ويطوى السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ، أين المتكبرون " ثم قال : وأما تسمية غيره فى الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال - تعالى - { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } وفى هذه الأوصاف التى أجريت على الله تعالى ، من كونه ربا للعالمين وملكا للأمر كله يوم الجزاء ، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به فى قوله : { الحمد للَّهِ } فى كل ذلك دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه للحمد والثناء عليه ، بل لا يستحق ذلك على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف مشعر بعليته له " .

والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها خير وسيلة لتربية الإِنسان وغرس الإِيمان العميق فى قلبه ، لأنه إذا آمن بأن هناك يوما يظهر فيه إحسان المحسن وإساءة المسيء ، وأن زمام الحكم فى ذلك اليوم لله الواحد القهار ، فإنه في هذه الحالة سيقوى عنده خلق المراقبة لخالقه ، ويجتهد فى السير على الطريق المستقيم .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

كانت الآيات الثلاث التي تقدمت هذه الآية تقريرًا للحقيقة فى جانب الربوبية وعظمتها وعموم سلطانها وسعة رحمتها تقريرا جمع أمور الدنيا والآخرة ثم جاءت هذه الآية لتقرر أن الذي يجدر بنا أن نعبده وأن نسعتين به إنما هو الله الذى تجلت أوصافه ، ووضحت عظمته ، وثبتت هيمنته على هذا الكون .

ولفظ " إيا " ضمير منفصل ، و " الكاف " الملحقة به للخطاب . والعبارة تفيد أن الطاعة البالغة حد النهاية فى الخضوع والخشوع والتعظيم ، والعبادة الصحيحة تتأتى للمسلم بتحقق أمرين : إخلاصها لله ، وموافقتها لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم . قال ابن جرير : " لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة ، وأنها تسمى الطريق المذلل الذى وطئته الأقدام وذللته السابلة معبدًا " .

والاستعانة : طلب المعونة ، من أجل الاقتدار على الشئ والتمكن من فعله . والمعنى : لك يا ربنا وحدك نخشع ونذل ونستكين ، فقد توليتنا برعايتك وغمرتنا برحمتك ، فنحن نخصك بطلب الاستعانة على طاعتك وعلى أمورنا كلها ، ولا نتوجه بهذا الطلب إلى أحد سواك ، فأنت المستحق للعبادة ، وأنت القدير على كل شئ ، والعليم ببواطن الأمور وظواهرها ، لا تخفى عليك طوية ، ولا تتوارى عنك نية . وقدم - سبحانه - المعبود على العبادة فقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، لإِفادة قصر العبادة عليه ، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص .

وقال : " نعبد " بنون الجماعة ولم يقل أعبد ، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون فى جماعة المؤمنين ، وللإِشعار بأن المؤمنين المخلصين يكنون فى اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم فى الحديث عن شئونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم ، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " . وقدمت العبادة على الاستعانة ، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية . وتقديم الوسائل سبب فى تحصيل المطالب ، وليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات ، بل إن عون الله هو الذى ييسر لهم أداءهم .

ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال ، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإِنسان من الأعمال الصالحة . وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات ، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ؟ قلت : هذا يسمى الالتفات فى علم البيان . وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم . . . وذلك على عادة العرب فى افتنانهم فى الكلام وتصرفهم فيه . لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظًا للإِصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد : وقد تختص مواضعه بفوائد . ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن ، حقيق بالثناء وغاية للخضوع والاستعانة فى المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة والاستعانة ، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه . . . " . هذا ، وقد جاءت فى فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة ، ومن ذلك قول بعض العلماء : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالأول تبرؤ من الشرك ، والثانى تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله " .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

ثم بين - سبحانه - أن أفضل شئ يطلبه العبد من ربه ، إنما هو هدايته إلى الطريق الذى يوصل إلى أسمى الغايات ، وأعظم المقاصد ، فقال - تعالى - : { اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } ، والهداية : هى الإِرشاد والدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية ، وتسند الهداية إلى الله وإلى النبى وإلى القرآن ، وقد يراد منها الإِيصال إلى ما فيه خير ، وهى بهذا المعنى لا تضاف إلى الله - تعالى - .

قال أبو حيان فى البحر ما ملخصه : وقد تأتى بمعنى التبيين كما فى قوله - تعالى - { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أى بينا لهم طريق الخير . أو بمعنى الإِلهام كما فى قوله تعالى . { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } قال المفسرون معناه : ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها ، أو بمعنى الدعاء كما فى قوله . تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أى : داع . والأصل فى هدى أن يصل إلى ثانى معموليه باللام كما فى قوله . تعالى . { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أو بإلي كما فى قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه ومنه : { اهدنا الصراط المستقيم } .

والصراط : الجادة والطريق ، من سَرط الشئ إذا ابتلعه ، وسمى الطريق بذلك لأنه يبتلع المارين فيه ، وتبدل سينه صاد على لغة قريش .

والمسقيم : المعتدل الذى لا اعوجاج فيه .

وأنعمت عليهم : النعمة لين العيش وخفضه ، ونعم الله كثيرة لا تحصى

{ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } الغضب هيجان النفس وثورتها ، عند الميل إلى الانتقام ، وهو ضد الرضا . وإذا أسند إلى الله فسر بمعنى إرادة الانتقام أو بمعنى الانتقام نفسه .

والموافق لمذهب السلف أن يقال : هو صفة له - تعالى - لائقة بجلاله لا نعلم حقيقتها مجردة عن اللوازم البشرية وإنما نعرف أثرها وهو الانتقام من العصاة ، وإنزال العقوبة بهم . والمعنى : اهدنا يا ربنا إلى طريقك المستقيم ، الذى يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة ، ويجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من خلقك ، وجنبنا يا مولانا طريق الذين غضبت عليهم من الأمم السابقة أو الأجيال اللاحقة بسبب سوء أعمالهم وطريق الذين هاموا فى الضلالات ، فانحرفوا عن القصد ، وحق عليهم العذاب . وفى هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب ، لأن هذا الدعاء قد تضرع به المؤمنون إلى خالقهم بعد أن اعترفوا له - سبحانه - قبل ذلك بأنه هو المستحق لجميع المحامد ، وأنه هو رب العالمين ، والمتصرف فى أحوالهم يوم الدين .

قال الإِمام ابن كثير : وهذا أكمل أحوال السائل . أن يمدح مسئوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } لأنه أنجح للحاجة ، وأنجع للإِجابة ، ولهذا أرشدنا الله إليه لأنه الأكمل .

وقد تكلم المفسرون كلامًا كثيرًا عن المراد بالصراط المستقيم الذى جعل الله طلب الهداية إليه فى هذا السورة أول دعوة علمها لعباده . والذى نراه : أن أجمع الأقوال فى ذلك أن المراد بالصراط المستقيم ، هو ما جاء به الإِسلام من عقائد وآداب وأحكام ، توصل الناس متى اتبعوها إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فإن طريق السلام هو الطريق الذى ختم الله به الرسالات السماوية ، وجعل القرآن دستوره الشامل ، ووكل إلى النبى صلى الله عليه وسلم أمر تبليغه وبيانه . وقد ورد فى الأحاديث النبوية ما يؤيد هذا القول ، ومن ذلك ما أخرجه الإِمام أحمد فى مسنده ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعلى جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإِسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعى من فوق الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم " . والمراد بقوله - تعالى - { اهدنا الصراط المستقيم } أى : ثبتنا عليه ، واجعلنا من المداومين على السير فى سبيله ، فإن العبد مفتقر إلى الله فى كل وقت لكى يثبته على الهداية ، ويزيده منها ، ويعينه عليها .

وقد أمر سبحانه المؤمنين أن يقولوا : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب }

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

وجملة { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم . ولم يقل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيًا عن ذكر الصراط المستقيم ، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم .

وقال : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين ، ليدل على أن الدين فى ذاته نعمة عظيمة ، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - فى قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الدينى . فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به ، وعرفوا الخير فعملوا به . قال بعض العلماء : " وإنما اختار فى البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين : أولهما : هو إبراز نفسية المحب المخلص ، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحرى عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا فى ثقة تملأ نفسه ، وتفعم قلبه ، ولا يجد فى مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق ، بأنه الطريق الذى وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون . وثانيهما : أن من خواطر المؤمل فى نعيم ربه أن يكون تمام أنسه فى رفقة من الناس صالحين ، وصحب منهم محسنين ) .

وقوله - تعالى - { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } بدل من { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى فى وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال : { أنعمت عليهم } فى وصف الغضب باسم المفعول فقال : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } وفى ذلك تعليم لأدب جميل ، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله ، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء ، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادرًا منه ، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمنى الجن { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } وحرف ( لا ) فى قوله { وَلاَ الضآلين } جئ به لتأكيد معنى النفى المستفاد من كلمة غير . والمراد بالمغضوب عليهم اليهود . وبالضالين النصارى . وقد ورد هذا التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه . ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عنادًا وجحودا ، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون فى الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم . وقدم المغضوب عليهم على الضالين ، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم ، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين ، فكان جديرًا بأن يوضع فى مقابلته قبل الضالين .

قال العلماء : ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها ( آمين ) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت فى المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن وائل بن حجر قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } فقال : ( آمين ) مد بها صوته .

وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإِمام فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .

هذا ، وقد أفاض العلماء فى الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام ، ومن ذلك قول ابن كثير : ( اشتملت هذه السورة الكريمة ، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم ، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية ، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه ، واشتملت على الترغيب فى الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون ) . وقال بعض العلماء : سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هى مناط الدين . أحدها : علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم } ، ومعرفة النبوات وإليه الإشارة بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الإشارة بقوله { مالك يَوْمِ الدين } . وثانيها : علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . وثالثها : علم الأخلاق ، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم } . ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منه والأشقياء ، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .