الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وسورة الفاتحة كما ذكرنا مكية ، وقد أجمع العلماء على ذلك ، بل إن بعض العلماء يدعي أنها أول سورة نزلت من القرآن ، ولكن يخالفهم الأكثرون في ذلك ، ويقررون أن أول ما أنزل من القرآن : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 } [ العلق ] وقد روى البيهقي في ذلك خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد وفق العلماء بين ما رواه البيهقي وما هو مقرر من أن أول ما نزل { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } بأن الفاتحة هي الأولى نزولا ، وهي سورة نزلت دفعة واحدة ، أما الثانية فآية ، وهي قد أخبرت عن الأولى – أي عن الفاتحة – الآمر بالقراءة ، فالأمر بالقراءة يقتضي مقروءا .
والذي أميل إليه أن الفاتحة ليست أول ما نزل من القرآن ، ويرجح عندي أنها نزلت عندما فرضت الصلاة في الإسراء والمعراج .
{ الْحَمْدُ للّهِ } الحمد هو الثناء الكامل على الأفعال الاختيارية ، وعلى من تصدر عنه هذه الأفعال الاختيارية فيعم نفعها وهي مصدر الخير لهذا الوجود الكوني والإنساني .
وهناك كلمات ثلاث تتلاقى معانيها في جملتها ، وتختلف في دقتها ، وهي كلمة ( حمد ) ، وهي تكون كما ذكرنا الثناء الجميل على من يعمل أعمالا اختيارية عامة النفع ، ودافعة للضرر للوجود كله بحكمة من يفعلها ، والكلمة الثانية ( المدح ) ، وهي الثناء على الصفات الذاتية ، والشخصية الطيبة ، فيقال : مدحت الصفات الطيبة في فلان ، ولا يقال : حمدتها ، إنما يقال : حمدت الله تعالى ومدحت خصال فلان ، وقيل : إن الحمد والمدح مترادفان ، ولعل قائل هذا القول نظر إلى معنى الثناء فيهما من غير أن ينظر إلى الباعث ، فإن الباعث في الحمد أعمال الإنعام والخير ، والباعث على المدح الشخص والذات ، فيقال : مدحت الجميل في صفاته الحسنة ، وخلاله الكريمة ، ولا يقال حمدته ، ومن العلماء من قال إن المدح أعم ، ومن قال العكس ، ونميل إلى التفرقة بينهما باختلاف الموضوع .
و( الشكر ) امتلاء النفس بالإحساس بالنعمة ، واندفاع النفس إلى الطاعة والخضوع ، والقيام بحق المنعم ومقابلة الفضل والنعمة بالإحسان في الطاعة والواجبات ، وقد قال تعالى في ذلك : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ . . . 7 } [ إبراهيم ] ويقول ابن جرير الطبري : إن الحمد والشكر بمعنى واحد ، والحق أنهما يتلاقيان ويختلفان ، فيتلاقيان في معنى الإحساس بالنعمة والقيام بحقها ، وما يجب بالنسبة للمنعم ، ولكنهما يختلفان في القيام بحق المنعم ، فالقيام بحق المنعم في الشكر الطاعة والعمل وجعل الجوارح كلها في طاعة الله تعالى ، والخضوع المطلق لله تعالى في كل شأن من شئونه ، وحال من أحواله . والقيام بحق المنعم في الحمد الثناء على الله تعالى ثناء مطلقا كاملا مع تذكر نعمائه ، وتذكر ما يحيطه من الوجود كله ، لا في ناحية من نواحي شخصه ؛ ولذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الحمد رأس الشكر )[19] والحمد ذاته عبادة والشكر يكون على النعمة وبالمثابرة على الطاعة والعبادة .
ومهما يكن فالألفاظ الثلاثة متقاربة في مؤداها – وإن تخالفت في مدلولاتها و ( ل ) في قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ } للاستغراق والكمال ، أي الحمد كله وبكماله لله تعالى وحده ، فلا يستحق أحد من خلقه حمدا ؛ لأن الحمد كما ذكرنا عبادة ، والعبادة لله تعالى ، وحده وحمد غيره عبادة لغيره ، وشرك بالله تعالى ، وأصل الضلال يبتدئ من حمد غير الله ، والثناء عليه ، ثم ينقاد من بعد ذلك إلى ما يخرجه عن طاعة الله ، فلا حمد إلا لله ولا ثناء إلا لله .
وإن الحمد إنما هو ابتداء على ما أنعم الله تعالى على الوجود الكوني والإنساني من غير وجود فيكون الحمد له وحده ، وتقرأ كلمة ( الحمد لله ) برفع الدال . والمعنى : الحمد الثابت الكامل المستغرق لكل صنوف الحمد هو لله وحده ، ولا يحمد سواه ؛ لأن كل نعم هذا الوجود الكوني والإنساني لله تعالى ، فكل خير الوجود منه وإليه .
وهناك قراءة بفتح الدال على أنه مصدر ، ومنصوب بفعل محذوف ، ويكون المؤدى للقول : أحمد الحمد كله لله تعالى ، فلا تحمد سواه ، وإن حمد سواه شرك لما ذكرنا من أن الحمد ذاته عبادة ، وهذه القراءة تفيد تجدد الحمد آنا بعد آن بالتذكير بنعم الله تعالى وآلائه ، والقراءة السابقة تفيد دوام الحمد ، كما تدل على ذلك الجملة الاسمية ؛ لأنها تفيد الاستمرار .
وإني أرى أن القراءات المتواترة كلها لا تتباين ، ولا تتضارب ، بل تتلاقى ، وتكمل واحدة معنى في الأخرى ، فبالجمع بين القراءتين يكون معنى النص السامي : اجعل الحمد دائما مستمرا ومتجددا ؛ ليكون القلب دائما عامرا بذكر الله تعالى .
{ َبِّ الْعَالَمِينَ } في هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى سبب الحمد الكامل ، الدائم المستمر المتجدد ؛ لأنه هو المالك والسيد ، والمربي لهم والرقيب عليهم ، الذي ميزهم بالنعم المستمرة ، والآلاء المتكررة التي لا تنقطع أبدا .
فالرب هو المالك وهو السيد ، وهو المصلح والمدبر ، والجابر والقائم على كل شيء ، الذي يسير الوجود كله بحكمته وبقدره و إرادته .
و ( الرب ) وصف لله تعالى مأخوذ من رب الشيء يربه بمعنى قام بإصلاحه وتقويمه ، وتتبعه بالإصلاح والتنمية في كل أدواره ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هل لك عليه من نعمة تربها )[20] أي تصلحها وتنميها ، ثم أطلقت كلمة ( رب ) على الله سبحانه وتعالى ، وهذا المعنى يتلاقى مع ( ربى ) ، فإن التربية هي الإصلاح والتغذية ، والعمل على الإنماء ، ولقد جاء في الصحاح للجوهري : ( رب فلان ولده يربه ربا ، وتربية بمعنى : رباه ، والمربوب المربى ) .
وعلى ذلك يصح أن تقول إن الرب من ربه ، بمعنى نماه ، أو من التربية بمعنى الإصلاح والإنماء ، والمعنى في الحالين أن الله رب العالمين بمعنى مغذيهم ومنميهم والقائم عليهم ، والمصلح لهم ، والمدير لأمورهم ، وهو مربيهم لأنه القائم عليهم والمهذب لهم بما خلق فيهم من عقول مدركة تدرك الخير والشر ، وتختار ما تفعل وتحاسب على ما تقدم من خير فتنال به الثواب ، وما تكسب من شر فينالها العقاب .
وكلمة { الْعَالَمِينَ } يريد بها العقلاء من الملائكة والإنس والجن ، فهو رب هؤلاء جميعا ، هو الذي رباهم وأصلحهم ، ودبر أمورهم ، والعالمون جمع لعالم ، وهو كل موجود غير الله تعالى ، ولكن إذا جاءت ( عالمون ) بجمع المذكر العاقل ، أريد بها العقلاء ممن خلق الله تعالى ، وقد أيد ذلك القول ابن عباس رضي الله عنهما : ( العالمون الجن والإنس ) ، ودليله قوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا 1 } [ الفرقان ] فلا ينذر إلا الجن والإنس ؛ لا تنذر الجبال ولا الأرضون ، وإنما ينذر العقلاء الذين يتصور الشر منهم ، أو لا يتصور كالملائكة ، وقد قلنا إن لفظ العالمين يعمهم .
ويسأل سائل : لماذا جمع هنا ، والأقرب الإفراد ، ونقول ما قاله العلماء : إن المفرد هنا ( وهو عالم ) أعم من الجمع ، ولكن يبقى السؤال لم ذكر الجمع ؟ أجابوا بأن في ذلك إشارة إلى أن كل عاقل ، أو العاقلين بشكل عام فيهم العوالم كلها ، ففيهم دقة التكوين وجمال التصوير وروعة الخلق ، من عقل يدبر ، ولسان وجوارح تتحرك ، فجمع الله تعالى في عالم العقلاء كل العوالم الأخرى في إحكام الصنع وبديع التكوين كما قال تعالى في تقديم العلم بالنفس ، وجلائل الخلق والتكوين : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ 21 وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ 22 } [ الذاريات ] ففي الإنسان أكمل صورة للخلق والتكوين .