زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة

أبو زهرة القرن الرابع عشر الهجري

صفحة 1

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

كان الكلام السامي يسير على نهج الغيبة بذكر الربوبية وأسماء الذات العلية التي هي أوصافها من شمول الرحمة في كل الأحوال ولكل الوجود إلى تخصيصها بالمكلفين من عباده .

وبعد ذلك انتقل القول من الغيبة إلى الخطاب ؛ لأن الانتقال من باب إلى باب في البيان يعطي للكلام روعة تليق بأبلغ من في الوجود ، فالانتقال في القول من غيبة إلى خطاب يجدد في النفس الإقبال على الاستمتاع بالتلاوة ، والاستمتاع بالسماع ، والاعتبار بما في الكتاب ، والإقبال الذي يتولد عنه التدبر والتفكر في آيات الله تعالى .

وإن الأوصاف السابقة لذات الله تعالى توجب على العبد التفكر في أمر الله تعالى سبحانه ، فكان من بعد ذلك ذكر أحوال العباد الواجبة ، خاطبهم الله تعالى بكماله ، فخاطبوه بما يليق بهم أن يفعلوه ، وهو إفراده بالعبادة والاستعانة ، وأن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم .

وإن العباد إذ يتدبرون صفات الذات العلية ، ويستحضرون جلالها ، وإفضالها ، وإنعامها وسلطانها يصلون في مداركهم إلى مرتبة المشاهدة الروحية لله تعالى ؛ ويرتفعون إلى إدراك ملكوت الله تعالى ليخاطبوه قائلين :{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .

ولقد قال في هذا المقام العلامة أبو السعود في تفسيره ( إن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب العبودية بامتياز ذاته عما سواه بالكلية ، واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له سبحانه عن العالمين ، وافتقار الكل إليه في الذات والوجود ابتداء وبقاء منه ، أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان ، وينتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهود ، ويلاحظ نفسه حاضرا في محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه ، ماثل بين يديه ، وهو يدعو بالخضوع والإخبات ، ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا : يا من هذه شؤون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والاستعانة ، فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل عن الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان )[21] .

وإن الارتفاع إلى مقام المشاهدة ، ومخاطبة الله تعالى هو الذي من أجله كانت – أي الفاتحة – واجبة التلاوة في كل ركعة من ركعات الصلاة ؛ لأن الصلاة وقوف بين يدي الديان ، واتجاه إلى حضرته العلية ، ومشاهدة روحية .

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ( إيا ) ضمير منفصل أصله بمقتضى السياق العادي ( نعبدك ) فلما قدم الضمير المنفصل ، و( الكاف ) حرف للدلالة على الخطاب ، كما أن ( الهاء ) للدلالة على الغيبة في قوله : ( إياه ) و( الياء ) دلالة على المتكلم ، و( إيانا ) دلالة على المتكلمين ، وهكذا . وقيل إن ( الكاف ) وأخواتها أجزاء من الضمير ، وهو اختلاف إعرابي لا جدوى فيه في مقامنا هذا . والعبادة أكمل أنواع الخضوع ، والتذلل لله تعالى ، ولا تكون لغير الله تعالى ، فهو وحده المعبود بحق ، فلا يعبد سواه ، وإن دوام العبادة والاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع وخضوع لله وتذكر مقام الله العلي الأعلى ، وحضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى ، مع الإحساس بأنه – سبحانه – يراه .

إن دوام العبادة على هذا النحو تولد في نفسه صدق العبودية ، فيحس في كل أحواله بأنه لله ، ويحب الشيء لا يحبه إلا لله ، ويكون ربانيا ، مستجيبا لأمر الله : { كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ . . . 79 } [ آل عمران ] .

والاستعانة طلب العون من الله تعالى ، مستحضرا ما في الذات العلية من صفات الربوبية ، والرحمة ، والسلطان المطلق يوم الجزاء ؛ إذ لا سلطان في يوم الدين لأحد سواه ، وقد جاء { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } قبل { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ؛ لأن العبادة حق الله تعالى ، والتقدم إليه بالخضوع الذي لا خضوع مثله ، والاستعانة حق العبد أو طلبه العون له ، فما هو حق أوثق وأولى بالتقديم ، ولكن يجب أن نلاحظ أن الاستعانة والضراعة إلى الله تعالى ، وإفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا ، كما هو طلب من الله ؛ لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة في حد ذاته ، حتى روي : ( الدعاء مخ العبادة )[22] ، وكما قال تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ 205 } [ الأعراف ] وإطلاق الاستعانة من غير متعلق بذكر المستعان عليه من الأمور دال على أنه يستعين الله تعالى في كل أمور حياته . والاستعانة هي نوع من استصغار حاله بجوار عظمة الله تعالى ، وافتقاره إليه تعالى ، وأنه محتاج إليه دائما ،و لا يركبه غرور الحياة والضلال في أن يقر بنفسه الغرور ، وهو استجابة وفهم لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15 } [ فاطر ] .

وإن من أعلى أبواب الاستعانة ، الاستعانة بالله تعالى على أداء الواجبات والقيام بفروض الله تعالى ، فهو يستعين بالله تعالى على أداء واجب العبادة ليصل إلى درجة العبودية ، ويكون ربانيا .

وتقديم { إِيَّاكَ } على { نَعْبُدُ } وَ { نَسْتَعِينُ } لتعظيم الله تعالى بذكره أولا ، ولأن التقديم للاهتمام بالمعبود والمستعان ؛ وللدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو المختص بالعبادة وحده ، وأنه لا يستعان بغيره ، وفي ذلك كمال التوحيد والخضوع له وحده سبحانه وتعالى ، ولقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك .

فتقديم إياك كما في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ 40 } [ البقرة ] وقوله سبحانه : { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ 41 } [ البقرة ] وتكرار { إِيَّاكَ } في { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } ، لبيان التباين بينهما ، وأن ذلك حق الله ، وأن هذا طلب من العباد ، ولتكرار النص على تخصيص ذلك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد .

وأول الاستعانة طلب الهداية ؛ ولذلك قال تعالى :