الحق تبارك وتعالى يصور لنا موقفاً من مواقف يوم القيامة ، حيث يقف العبد بين يدي ربه عز وجل ، فيدعوه إلى أن يقرأ كتابه بنفسه ، ليكون هو حجة على نفسه ، ويقر بما اقترف ، والإقرار سيد الأدلة .
فهذا موقف لا مجال فيه للعناد أو المكابرة ، ولا مجال فيه للجدال أو الإنكار ، فإن حدث منه إنكار جعل الله عليه شاهداً من جوارحه ، فينطقها الحق سبحانه بقدرته : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " 24 " } ( سورة النور ) .
ويقول سبحانه : { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ . . " 21 " }
( سورة الإسراء ) : وقد جعل الخالق سبحانه للإنسان سيطرة على جوارحه في الدنيا ، وجعلها خاضعة لإرادته لا تعصيه في خير أو شر ، فبيده يضرب ويعتدي ، وبيده ينفق ويقيل عثرة المحتاج ، وبرجله يسعى إلى بيت الله أو يسعى إلى مجلس الخمر والفساد .
وجوارحه في كل هذا مسخرة طائعة لا تتأبى عليه ، حتى وإن كانت كارهة للفعل ؛ لأنها منقادة لمراداتك ، ففعلها لك ليس دليلاً على الرضى عنك ؛ لأنه قد يكون رضى انقياد .
وقد ضربنا مثلاً لذلك بقائد السرية ، فأمره نافذ على جنوده ، حتى وإن كان خطئاً ، فإذا ما فقد هذا القائد السيطرة وأصبح الجنود أمام القائد الأعلى باحوا له بكل شيء .
كذلك في الدنيا جعل الله للإنسان إرادة على جوارحه ، فلا تتخلف عنه أبداً ، لكنها قد تفعل وهي كارهة وهي لاعنة له ، وهي مبغضة له ولفعله ، فإذا كان يوم القيامة وانحلت من إرادته ، وخرجت من سجن سيطرته ، شهدت عليه بما كان منه . { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " 14 " } ( سورة الإسراء ) : أي : كفانا أن تكون أنت قارئاً وشاهداً على نفسك .