تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 283

وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦

الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يعطينا مثالاً لعاقبة الخروج عن منهج الله تعالى ؛ لأنه سبحانه حينما يرسل رسولاً ليبلغ منهجه إلى خلقه ، فلا عذر للخارجين عنه ؛ لأنه منهج من الخالق الرازق المنعم ، الذي يستحق منا الطاعة والانقياد . وكيف يتقلب الإنسان في نعمة ربه ثم يعصاه ؟ إنه رد غير لائق للجميل ، وإنكار للمعروف الذي يسوقه إليك ليل نهار ، بل في كل نفسٍ من أنفاسك .

ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عذر لمن خرج عنه ، ولذلك يقولون : " من يأكل لقمتي يسمع كلمتي " .

كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف ، بل كلفك في وقت مناسب ، في وقت استوت فيه ملكاتك وقدراتك ، وأصبحت بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف ، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره ، فكان الأولى بك أن تستمع إلى منهج ربك ، وتنفذه أمراً ونهياً ؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدك من عدم .

والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه بعضنا أن يكلف بعضاً ، كما قال تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها . . " 132 " }( سورة طه ) : وقد شرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية فقال : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " .

وهذا التكليف وإن كان في ظاهره من الأهل لأولادهم ، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع ، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحس أمام الطفل ، فأبوه هو صاحب النعمة المحسة حيث يوفر لولده الطعام والشراب ، وكل متطلبات حياته ، فإذا ما كلفه أبوه كان أدعى إلى الانصياع والطاعة ؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي ، وهو الله تعالى .

لذلك أمر الأب أن يعود ولده على تحمل التكليف وأن يعاقبه إن قصر ؛ لأن الآمر بالفعل هو الذي يعاقب على الإهمال فيه . حتى إذا بلغ الولد سن التكليف وتعود عليه ، وبذلك يأتي التكليف الإلهي خفيفاً على النفس مألوفاً عندها .

أما إن أخذت نعم الله وانصرفت عن منهجه فطغيت بالنعمة وبغيت فانتظر الانتقام ، انتظر أخذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا ترد عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة .

واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة ، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعون في نعم الله في أمن وسلامة ، فسوف يغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم ، وأن يتخذوهم قدوة ومثلاً ، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه .

أما إن رأوا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء ، وشاهدوهم أذلاء منكسرين ، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة ، والعاقل من اعتبر بغيره ، واستفاد من تجارب الآخرين .

فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى ، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاق بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عبرة ومثلة ومن لم يعتبر كان عبرة حتى لمن لم يؤمن ، وبذلك تعتدل حركة الحياة ، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار ، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسر لك الوقوف على هذه السنة الإلهية في بلاد بعينها ، ولاستطعت أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه .

وصدق الله حين قال : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " 112 " }( سورة النحل ) .

وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه ، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر ، وإلا لكانت أسوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة . قال تعالى :

{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " 16 " }

( سورة الإسراء ) : الآفة أن الذين يستقبلون نص القرآن يفهمون خطأ أن ( ففسقوا )مترتبة على الأمر الذي قبلها ، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق ، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة ، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين ، فتعالوا نر أوامر الله في القرآن : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين . . " 5 " } ( سورة البينة ) .

{ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة . . " 91 " } ( سورة النمل ) ، { وأمرت أن أكون من المسلمين " 72 " }

( سورة يونس ) : فأمر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير ، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء ، كما ذكر القرآن الكريم ، وعلى هذا يكون المراد من الآية : أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا ، ولكنهم خالفوا وعصوا وفسقوا ؛ لذلك حق عليهم العذاب .

والأمر : طلب من الأعلى ، وهو الله تعالى إلى الأدنى ، وهم الخلق طلب منهم الطاعة والعبادة ، فاستغلوا فرصة الاختيار ففسقوا وخالفوا أمر الله . قوله : { وإذا أردنا أن نهلك قرية . . " 16 " }( سورة الإسراء ) :

من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا ؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم . و( قرية )أي أهل القرية . وقوله : { فيها فحق عليها القول . . " 16 " } ( سورة الإسراء )

أي : وجب لها العذاب ، كما قال تعالى : { كذلك حقت كلمت . . " 33 " } ( سورة يونس ) : وقد أوجب الله لها العذاب لتسلم حركة الحياة ، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة . وقوله تعالى :

{ فدمرناها تدميرا " 16 " } ( سورة الإسراء ) : أي : خربناها ، وجعلناها أثراً بعد عين ، وليست هذه هي الأولى ، بل إذا استقرأت التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم .