المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يعطي الصورة ومقابلها ؛ لأن الشيء يزداد وضوحاً بمقابله ، والضد يظهر حسنه الضد ، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في : { إن الأبرار لفي نعيم " 13 " وإن الفجار لفي جحيم " 14 " } ( سورة الانفطار ) .
وهنا يقول تعالى : { ومن أراد الآخرة . . " 19 " }( سورة الإسراء ) ، في مقابل : { من كان يريد العاجلة . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) .
قوله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها . . " 19 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أراد ثوابها وعمل لها : { وهو مؤمن . . " 19 " } ( سورة الإسراء ) : لأن الإيمان شرط في قبول العمل ، وكل سعي للإنسان في حركة الحياة لابد فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يقبل العمل ، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة ، فالعامل يأخذ أجره ممن عمل له .
فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم ، حينما قدموا هذا الإنجازات لم يكن في بالهم أبداً العمل لله ، بل للبشرية وتقدمها ؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة ، فأقاموا لهم التماثيل ، وألفوا فيها الكتب . . الخ .
إذن : انتهت المسألة : عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم .
وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً ، وهذا عمل عظيم يمكن أن يدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من بني لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة " .
ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول : أنشأه فلان ، وافتتحه فلان . . الخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة ! ! وهكذا يفسد الإنسان على نفسه العمل ، ويقدم بنفسه ما يحبطه ، إذن : فقد فعل ليقال وقد قيل . وانتهت القضية .
وقوله تعالى : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً " 19 " }( سورة الإسراء ) : وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها ، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نعمه ، كما قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : فما بالك إن كان الشاكر هو الله تعالى ، يشكر عبده على طاعته ؟
وهذا يدل على أن العمل الإيماني يصادف شكراً حتى من المخالف له ، فاللص مثلاً إن كان لديه شيء نفيس يخاف عليه ، فهل يضعه أمانة عند لص مثله ، أم عند الأمين الذي يحفظه ؟ فاللص لا يحترم اللص ، ولا يثق فيه ، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له ، وكذلك الكذاب يحترم الصادق ، والخائن يحترم الأمين .
ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم ؛ لأنهم واثقون من أمانته ، ويلقبونه " بالأمين " ، رغم ما بينهما من خلاف عقدي جوهري ، فهم فعلاً يكذبونه ، أما عند حفظ الأمانات فلن يغشوا أنفسهم ، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد ضربنا لذلك مثلاً بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليخرجك من ورطة ، أو قضية ، فرغم أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك ، إلا أنه قد سقط من نظرك ، ولم يعد أهلاً لثقتك فيما بعد .
لذلك قالوا : من استعان بك في نقيصة فقد سقطت من نظره ، وإن أعنته على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته .