تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 1

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٣

فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى : { الرحمن الرحيم } فمن موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم . . يعطي نعمه في الدنيا لكل عباده عطاء ربوبية ، وعطاء الربوبية للمؤمن والكافر . . وعطاء الربوبية لا ينقطع إلا عندما يموت الإنسان . .

والله لا يحجب نعمه عن عبيده في الدنيا . . ونعم الله لا تعد ولا تحصى ومع كل التقدم في الآلات الحاسبة والعقول الإلكترونية وغير ذلك فإننا لم نجد أحدا يتقدم ويقول أنا سأحصي نعم الله . . لأن موجبات الإحصاء أن تكون قادرا عليه . . فأنت لا تقبل على عد شيء إلا إذا كان في قدرتك أن تحصيه . . ولكن مادام ذلك خارج قدرتك وطاقاتك فإنك لا تقبل عليه . . ولذلك لن يقبل أحد حتى يوم القيامة على إحصاء نعم الله تبارك وتعالى لأن أحدا لا يمكن أن يحصيها . ولابد أن نلتفت إلي أن الكون كله يضيق بالإنسان ، وأن العالم المقهور الذي يخدمنا بحكم القهر والتسخير يضيق حين يرى العاصين . . لأن المقهور مستقيم على منهج الله قهرا . . فحين يرى كل مقهور الإنسان الذي هو خدمته عاصيا يضيق .

وقرأ الحديث القدسي لتعرف شيئا عن رحمة الله بعباده . . يقول الله عز وجل :

ما من يوم تطلع شمسه إلا وتنادي السماء تقول يا رب إئذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم ؛ فقد طعم خيرك ومنع شكرك . وتقول البحار يا رب إئذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك . وتقول الجبال يا رب إئذن لي أن أطبق على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك . فيقول الله تعالى : دعوهم دعوهم لو خلقتموهم لرحمتموهم إنهم عبادي فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم " رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده " .

تلك تجليات صفة الرحمن وصفة الرحيم . . وكيف ضمنت لنا بقاء كل ما يخدمنا في هذا الكون مع معصية الإنسان . . أنها كلها تخدمنا بعطاء الربوبية وتبقى في خدمتنا بتسخير الله لها لأنه رحمن رحيم . . بعض الناس قد يتساءل هل تتكلم الأرض والسماء وغيرها من المخلوقات في عالم الجماد والنبات والحيوان ؟ نقول نعم إن لها لغة لا نعرفها نحن وإنما يعرفها خالقها . . بدليل أنه منذ الخلق الأول أبلغنا الحق تبارك وتعالى أن هناك لغة لكل هذه المخلوقات . . واقرأ قوله جل جلاله :

{ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين " 11 " }( سورة فصلت ) .

إذن فالأرض والسماء فهمت عن الله . . وقالت له سبحانه وتعالى { أتينا طائعين } ألم يعلم الله سليمان منطق الطير ولغة النملة ؟ ألم تسبح الجبال مع داود ؟ إذن كل خلق الله له إدراكات مناسبة له . . بل له عواطف . . فعندما تكلم الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون . . قال :

{ كم تركوا من جنات وعيون " 25 " وزروع ومقامٍ كريمٍ " 26 " ونعمة كانوا فيها فاكهين " 27 " كذلك وأورثناها قوماً آخرين " 28 " فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين " 29 " }( سورة إبراهيم ) .

إذن فالسماوات والأرض لهما انفعال . . انفعال يصل إلى مرحلة البكاء . . فهما لم تبكيا على فرعون وقومه . . ولكنهما تبكيان حزنا عندما يفارقهما الإنسان المؤمن المصلي المطبق لمنهج الله . . ولقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان . . موضع في الأرض وموضع في السماء . . أما الموضع في الأرض هو مكان مصلاه الذي أسعده وهو يصلي فيه . وأما الموضع في السماء فهو مصعد عمله الطيب ) .