نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي

البقاعي القرن التاسع الهجري

صفحة 1

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ٤

ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكاً وكانت الربوبية لا تتم إلا بالمِلك المفيد لتمام التصرف ، وكان المالك قد لا يكون ملكا[171] ولا يتم ملكه إلا بالملك المفيد للعزة المقرون بالهيبة[172] المثمرة[173] للبطش والقهر المنتج لنفوذ[174] الأمر اتبع ذلك بقوله : { مالِك يوم الدين } ترهيباً من سطوات مجده[175] . قال الحرالّي : واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر[176] ، ثم قال : و { يوم الدين } في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين ، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد ، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة[177] الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد[178] انتهائه في ظاهره ، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره[179] عن معرفة ظهوره في الظاهر ، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام : " إن العبد إذا أذنب نكت[180] في قلبه[181] نكتة سوداء " وأيضاً فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه[182] للعوائد ، كما قالوا : { مس آباءنا الضراء والسراء[183] } [ الأعراف :95 ] ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم ، وإنما هو كما قال[184] تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم[185] } [ الشورى :30 ] وكما[186] ورد عنه عليه الصلاة والسلام : " الحمى من فيح جهنم ، وإن شدة[187] الحر والقر من نفسها " وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به ، ومنهل التجهّم[188] الذي أجمعهم[189] واردوه[190] من حيث لا يشعر به أكثرهم ، قال عليه الصلاة والسلام : " المرض سوط الله في الأرض يؤدب الله به عباده " وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك ، وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه ، سواء ادعى فيه مدع أو لم يدع ، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك[191] يوم الدين ومالكه مطلقاً في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى[192] الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عوداً على بدء[193] بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا[194] عليه من الأوصاف تظهر[195] عليهم من الأفعال[196] كما قال تعالى :

( وسيجزيهم وصفهم[197] }[ الأنعام :193 ] وجزاء بما كانوا يعملون[198] }[ السجدة : 17 ] . [ الأحقاف : 4 ] ، [ الواقعة : 24 ] وبه تم انتهاء[199] الشرف العلي[200] وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى : " مجدني عبدي " انتهى ، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة " مَلِك " وقراءة " مالك " جاءت الرواية بهما ، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض ، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للمَلِك سوى هذا ، ولما لم تُفد[201] إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في

{ ملِك الناس }[ الناس : 2 ] .