{ الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون2 } .
صدر الآية الكريمة بلفظ الجلالة الذي يتضمن الخالق المدبر المتصف بكل كمال ، والمستحق وحده للعبادة ، ولا يعبد معه شيء : حجر ،أو حي ، أو نجم ، أو غير ذلك مما توهم فيه بنو الإنسان في العصور المختلفة قوة يعبد لأجلها .
وبين سبحانه فضله في خلق الكون فابتدأ بذكر الكون الأعلى مجملا عرفه بخلق الله فقال :{ الذي رفع السموات بغير عمد ترونها } ، هنا اتجاهان : نفي العمد ، ووجود العمد ونفي رؤيتها :
الاتجاه الأول : أن النفي متجه إلى وجود العمد ، وقوله تعالى :{ ترونها } دليل على نفي وجود العدم ، أي دليل على عدم وجودها عدم رؤيتكم لها ، فالله سبحانه وتعالى أنشأ السموات كالقبة المحيطة بالأرض من كل أطرافها ، من غير عمد قائمة ، ويرشح لهذا المعنى قوله تعالى :{ . . . .ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه . . . .65 }( الحج ) .
والاتجاه الثاني : أن النفي واقع على الرؤية ، وعلى هذا يكون هناك عمد ، ولكن لا ترى ، فالله سبحانه وتعالى قد أوجد تماسكا بين السماء والأرض بالجاذبية ، وكأنها عمد ولكنها لا ترى ، وبهذه الجاذبية ، وهذه الجاذبية كأنها العمد التي لا ترى . والاتجاهان يحتملهما اللفظ ، وهما صادقان ، وأميل إلى الاتجاه الثاني ، ورجح ابن كثير الاتجاه الأول ، وكلاهما فيه قدرة الله تعالى الجلية واضحة ، والعمد( بفتح العين وضمها ) جمع عماد أوعمود ، وهي الأسطوانة التي يقام عليها السقف المرفوع .
{ ثم استوى على العرش }( ثم ) هنا بيان مراتب الخلق في ستة أيام ، أي أدوار كما مضى القول في ذلك في سورة الأعراف ، فإنه بعد أدوار الخلق التي تمت بإرادة الله تعالى ، والاستواء على العرش كمال سلطانه في الكون ، كما يستوي الملك العادل على عرش ملكه ، ولله المثل الأعلى ، وما مثلنا إلا للتقريب ، فلا مساواة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
{ وسخر الشمس والقمر } أي ذللهما في حركتهما وسيرهما في مداريهما ، فكل له مدار ، وكل له خواصه ، فالشمس هذا الضياء المشرق الذي يملأ الوجود حرارة يكون بها الأحياء والأزهار والأشجار . والقمر يستمد نوره من ضوء الشمس ، ولأشعته الصافية المستمدة يكون السير ليلا ، ويؤثر في النفوس ، وفي البحار بالجزر والمد ، وفي الأحياء ، فيكون الحمل والإرضاع تابعين لأدواره .
{ كل } في قوله تعالى :{ كل يجزي لأجل مسمى }أي لأجل معين ينتهي عنده ذلك الأجل الذي حد له ، وقد قال البيضاوي في ذلك عند قوله تعالى :{ وسخر الشمس والقمر } ذللهما لما أراد منها كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع في حدوث الكائنات وبقائها .{ كل يجري لأجل مسمى } لمدة معينة يتم فيها أدواره ، أو لغاية مضروبة دونها سيرها وهي :{ إذا الشمس كورت1 وإذا النجوم انكدرت 2 } ( التكوير )[1347] ،أي أن الأجل المسمى يفسره بتفسيرين :
أولهما : الأجل الذي تتم به أدوار الشمس من حيث قربها نسبيا من الأرض وانحرافها نسبيا عنها فتبعد ، ويكون من ذلك الفصول الأربعة التي تتغير فيها حال الأرض ، وما تنبت من زرع ، وما يكون من دفء وحرارة ونوعها . وما يختلف به الليل والنهار طولا وقصرا ، وما ينتظم به الزرع والثمر ويختلف باختلاف الفصول ، إلى آخر ما هو معروف في العلم ، ويحس به الناس في أدوار الحياة وتعاقب الليل والنهار .
والثاني : أن الأجل المسمى هو أجل الدنيا ، الذي يكون بعدها زلزلة الأرض ، وفناء العالم ليجدد في حياة أخرى هي الجزاء والتعويض لما كان في الدنيا .
وإني أرى أنه لا مانع من إرادة الأمرين : فهما ليس أجلين ، بل هو أجل واحد يكون أولهما في دائرة الوجود الدنيوي وهو في الثانية الذي هو النهاية .
وإن النص القرآني يقول :{ كل يجري لأجل مسمى } ، أي أن الشمس والقمر يجريان لأجل مسمى ، فالقمر يجري حول الأرض ويدور حولها دورته الشهرية . وتكون من هذه الدورة درجاته وصوره من كونه هلالا إلى أن يكون بدرا { . . . .وكل في فلك يسبحون40 } ( يس )وإن القمر له بهذا الدوران أوقات تؤثر في الأحياء ، فالحمل والرضاع ، ونمو الأطفال ، وحياة الجنين ، وولادته ، والحياة التناسلية لها ارتباط وثيق بالقمر وأدواره ، وطمث المرأة ، وقرؤها ، له ارتباط بالقمر ، والميزان الدقيق لمعرفة ذلك وأدواره هو الشهر القمري ، بل إن القمر له أثر في الإخصاب ، حتى عبروا في بعض اللغات عن الأمراض العصبية بأنها الأمراض القمرية . وهكذا ، وإن القمر يجري لأجل مسمى في دائرة المعاني التي ذكرناها ، وإنه يستمر جاريا إلى أن تنقضي الدنيا ، والله أعلم .
وإن الله تعالى بعد بيان القدرة المشيئية{ يدبر الأمر يفصل الآيات } الأمر هو ملكوت السموات والأرض من حركات النجوم ، وأبراجها ، وإحياء الأحياء وإماتتهم( أل ) في قوله تعالى :{ الأمر } للعهد ، وهو ما يتعلق بهذا الملكوت .
{ يفصل الآيات } ينزل عليهم الآيات المبنية للقدرة من خسف وكسوف ، وزلازل وغيث يحيى الأرض ، وغيث يدمر ما عليها ، كل هذه لتكون آيات بينات تدل على القدرة ، وعلى أن الكون يسير بإرادة مختارة ، وأنه يبدئ ويعيد ، وينشئ ثم يميت ، ثم يحيي ، وهو على كل شيء قدير .
وإن الله تعالى أشار إلى هذه القدرة العظيمة رجاء أن يؤمنوا بالمعاد فقال تعالى :{ لعلكم بلقاء ربكم توقنون } .
أي : لعلكم ترجون لقاء ربكم وتوقنون به ، فالرجاء ليس من الله ، ولكن الرجاء من الخلق وهو على كل شيء قدير ، أي لعلكم إذا تأملتم ما في السموات والأرض من خلق توقنون بلقاء ربكم ولا تنكرون ولا تظنون ظنا . بل تستيقنون استيقانا ، وهنا إشارات بيانية في هذه الآية وما قبلها نذكرها إجمالا :
أولاها : أن تعريف الطرفين في قوله :{ الذي أنزل إليك من ربك الحق } للقصر ، أي لا حق سواه .
الثانية : في قوله :{ رفع السموات بغير عمد } فيها دليل على وجود الصانع المنشئ والمدبر ، وأن وراء كل جزئية من الكون سرا إلهيا ، هو الذي يدبر ، وهو الذي قوم عليه فهو الحي القيوم .
الثالثة : أن قوله عن البعث : { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } فيه إشارة إلى أن البعث لقاء الله ، وقدر{ بلقاء ربكم } على الفعل { توقنون } لمزيد الاهتمام . وبعد ذكر الله تعالى رفع السموات ، وما فيها من أجرام ذكر الأرض وما فيها من آيات بينات فقال عز من قائل : { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون3 } .