تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 282

وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا ٤

قوله تعالى : { وقضينا . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : أي : حكمنا حكماً لا رجعة فيه ، وأعلنا به المحكوم عليه ، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى .

والقضاء يعني الفصل في نزاع بين متخاصمين ، وهذا الفصل لابد له من قاضٍ مؤهل ، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به ، ويستطيع الترجيح بين الأدلة .

إذن : لابد أن يكون القاضي مؤهلاً ، ولو عرف المتنازعين ، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميين لا يعرفون عن القانون شيئاً ، ولكنهم واثقون من شخص ما ، ويعرفون عنه قول الحق والعدل في حكومته ، فيرتضونه قاضياً ويحكمونه فيما بينهم .

ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب ، بل لابد له من بينة على المدعي أن يقدمها أو اليمين على من أنكر ، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود ، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه ، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه ، ثم هو في أثناء ذلك عرضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة .

وقد يستطيع الظالم أن يعمي عليه الأمر ، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي ، فيحول الحكم لصالحه ، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا . فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى ؟

إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بينة ولا شهود ، ولا يقدر أحد أن يعمي عليه أو يخدعه ، وهو سبحانه صاحب كل السلطات ، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به ، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه .

وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهل القضاة أفضل من رسول الله ؟ !

ففي الحديث الشريف : " إنما أنا بشر مثلكم ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً ، فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار " .

فرد صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له ، ونصحه أن يراجع نفسه وينظر فيما يستحق ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر ، ولكن إن عميت على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء .

ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمن يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب :

" استفت قلبك ، وإن أفتوك ، وإن أفتوك ، وإن أفتوك " .

قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مميزاً بقلبه بين الحلال والحرام ، وعليه أن يراجع نفسه ويتدبر أمره . وقوله : { في الكتاب . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : أي : في التوراة ، كتابهم الذي نزل على نبيهم ، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر ، فالحق سبحانه قضى عليهم . أي : حكم عليهم حكماً وأعلمهم به ، حيث أوحاه إلى موسى ، فبلغهم به في التوراة ، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل ، أينفذونه وينصاعون له ، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض ؟

إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم ، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون ، فكان عليهم أن يخجلوا من ربهم عز وجل ، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه ، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به ، وأن يطيعوا أمره .

وقوله تعالى : { لتفسدن في الأرض مرتين . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : جاءت هذه العبارة هكذا مؤكدة باللام ، وهذا يعني أن في الآية قسماً دل عليه جوابه ، فكأن الحق سبحانه يقول : ونفسي لتفسدن في الأرض ، لأن القسم لا يكون إلا بالله . أو نقول : إن المعنى : مادمنا قد قضينا وحكمنا حكماً مؤكداً لا يستطيع أحد الفكاك منه ، ففي هذا معنى القسم ، وتكون هذه العبارة جواباً ل " قضينا " ؛ لأن القسم يجيء للتأكيد ، والتأكيد حاصل في قوله تعالى : { وقضينا . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) .

فما هو الإفساد ؟ الإفساد : أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتخرجه عن صلاحه ، فكل شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية ، فإذا تركته ليؤدي غايته فقد أبقيته على صلاحه ، وإذا أخللت به يفقد صلاحه ومهمته ، والغاية التي خلقه الله من أجلها .

والحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مقومات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء . . الخ وليس مقومات حياتنا فحسب ، بل وأعد لنا في كونه ما يمكن الإنسان بعقله وطاقته أن يزيد الصالح صلاحاً ، فعلى الأقل إن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبق الصالح على صلاحه .

فمثلاً ، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء ، فإما أن تحتفظ بها على حالها فلا تطمسها ، وإما أن تزيد في صلاحها بأن تبني حولها ما يحميها من زحف الرمال ، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخه في مواسير لتسهل على الناس استعمال ، وغير ذلك من أوجه الصلاح . ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول :

{ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . . " 61 " }( سورة هود ) : أي : أنشأكم من الأرض ، وجعل لكم فيها مقومات حياتكم ، فإن أحببت أن تثري حياتك فأعمل عقلك المخلوق لله ليفكر ، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون ، فأنت لا تأتي بشيء من عندك ، فقد تعمل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله ، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله ، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يثري حياتك ، ويوفر لك الرفاهية والترقي .

فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملوا عقولهم ، وزادوا الصالح صلاحاً ، وكم فيها من ميزات وفرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا ، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون ، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان ، فأخذوا هذه الفكرة ، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية .

وكما يكون الإفساد في الماديات كمن أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوثات ، كذلك يكون في المعنويات ، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه ، فكونك لا تنفذ هذا المنهج ، أو تكتمه ، أو تحرف فيه ، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى .

ويقول تعالى لبني إسرائيل : { لتفسدن في الأرض مرتين . . " 4 " }( سورة الإسراء ) : وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط ؟

والله إن كانوا كذلك فقد خلاهم ذم ، والأمر إذن هين ، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً ، فلماذا قال تعالى : مرتين ؟

تحدث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين ، وفي أي فترات التاريخ حدثتا ، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام ، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام ، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداث حدثت منهم في حضن الإسلام .

فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل ، فدل ذلك على أن الإسلام تعدى إلى مناطق مقدساتهم ، فأصبح بيت المقدس قبلة للمسلمين ، ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، وبذلك دخل في حوزة الإسلام ؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة ، وجاء للناس كافة .

إذن : كان من الأولى أن يفسروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام ؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام ، ولا دخل للإسلام في إفسادهم السابق ؛ لأن الحق سبحانه يقول : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا " 4 " } ( سورة الإسراء ) : فاك كان الفساد مطلقاً . أي : قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدد فسادهم ، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل ، فقالوا لموسى عليه السلام : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " 138 " } ( سورة الأعراف ) : هل هناك فساد أكثر من أن قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مثلاً تكوينية وأسوة سلوكية ، وحرفوا كتاب الله ؟

والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة ، فمن التوراة ما نسوه ، كما قال تعالى : { ونسوا حظا مما ذكروا به . . " 13 " }( سورة المائدة ) : والذي لم ينسوه لم يتركوه على حاله ، بل كتموا بعضه ، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله ، بل حرفوه ، كما قال تعالى : { يحرفون الكلم عن مواضعه . . " 13 " } ( سورة المائدة ) : ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف ، بل تعدى إلى أن أتوا بكلام من عند أنفسهم ، وقالوا هو من عند الله ، قال تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا . . " 79 " } ( سورة البقرة : فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد ؟ ومن العلماء من يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا . . " 346 " } ( سورة البقرة ) : فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضوه وحكموا به ، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصلوا منه ولم يقاتلوا . ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قوت دولتهم ، واتسعت رقعتها من الشمال إلى الجنوب ، فأغار عليهم بختنصر وهزمهم ، وفعل بهم ما فعل .

وهذه التفسيرات على أن الفسادين سابقان للإسلام ، والأولى أن نقول : إنهما بعد الإسلام ، وسوف نجد في هذا ربطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء .

كيف ذلك ؟

قالوا : لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم : لقد أظل زمان نبي يأتي فتتبعه ، ونقتلكم به قتل عاد وإرم .

لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومن عنده علم الكتاب ، فمن عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك ، وأنك صادق ، ويعرف علامتك ، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

ويقول أحدهم : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ، ومعرفتي لمحمد أشد ، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه ، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأه في كتبهم ، وما يعلمه من أوصافه ، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

إذن : كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا ، وكانوا مستشرقين لمجيئه ، وعندهم مقدمات لبعثه صلى الله عليه وسلم . ومع ذلك : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . . " 89 " }( سورة البقرة ) : فلما كفروا به ، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة ؟

في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها ، ووفى بهم رسول الله ما وفوا ، فلما غدروا هم ، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم ، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم ، وقتل منهم من قتل ، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر ؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار " 2 " } ( سورة الحشر ) : وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير ، وبني قينقاع ، وبني قريظة ، الذين خانوا العهد مع رسول الله ، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، ونص الآية القادمة يؤيد ما نذهب إليه من أن الإفسادتين كانتا بعد الإسلام .