تفسير سورة الفاتحة
سورة الفاتحة سمِّيت بذلك ؛ لأنه افتتح بها القرآن الكريم ؛ وقد قيل : إنها أول سورة نزلت كاملة . .
هذه السورة قال العلماء : إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد ، والأحكام ، والجزاء ، وطرق بني آدم ، وغير ذلك ؛ ولذلك سمِّيت " أم القرآن " [1] ؛ والمرجع للشيء يسمى " أُمّاً " . .
وهذه السورة لها مميزات تتميّز بها عن غيرها ؛ منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين : فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ؛ ومنها أنها رقية : إذا قرئ بها على المريض شُفي بإذن الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال للذي قرأ على اللديغ ، فبرئ : " وما يدريك أنها رقية " [2] . .
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة ، فصاروا يختمون بها الدعاء ، ويبتدئون بها الخُطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات . ، وهذا غلط : تجده مثلاً إذا دعا ، ثم دعا قال لمن حوله : " الفاتحة " ، يعني اقرؤوا الفاتحة ؛ وبعض الناس يبتدئ بها في خطبه ، أو في أحواله . وهذا أيضاً غلط ؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف ، والاتِّباع . .
قوله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم } : الجار والمجرور متعلق بمحذوف ؛ وهذا المحذوف يقَدَّر فعلاً متأخراً مناسباً ؛ فإذا قلت : " باسم الله " وأنت تريد أن تأكل ؛ تقدر الفعل : " باسم الله آكل " . .
قلنا : إنه يجب أن يكون متعلقاً بمحذوف ؛ لأن الجار والمجرور معمولان ؛ ولا بد لكل معمول من عامل . .
وقدرناه متأخراً لفائدتين :
الفائدة الأولى : التبرك بتقديم اسم الله عزّ وجل .
والفائدة الثانية : الحصر ؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر ، كأنك تقول : لا آكل باسم أحد متبركاً به ، ومستعيناً به ، إلا باسم الله عزّ وجلّ .
وقدرناه فعلاً ؛ لأن الأصل في العمل الأفعال . وهذه يعرفها أهل النحو ؛ ولهذا لا تعمل الأسماء إلا بشروط
وقدرناه مناسباً ؛ لأنه أدلّ على المقصود ؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من لم يذبح فليذبح باسم الله " [49] . أو قال صلى الله عليه وسلم " على اسم الله " [50] : فخص الفعل . .
و { الله } : اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره ؛ وهو أصل الأسماء ؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له . .
و { الرحمن } أي ذو الرحمة الواسعة ؛ ولهذا جاء على وزن " فَعْلان " الذي يدل على السعة . .
و { الرحيم } أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده ؛ ولهذا جاءت على وزن " فعيل " الدال على وقوع الفعل
فهنا رحمة هي صفته . هذه دل عليها { الرحمن } ؛ ورحمة هي فعله . أي إيصال الرحمة إلى المرحوم . دلّ عليها { الرحيم } . .
و { الرحمن الرحيم } : اسمان من أسماء الله يدلان على الذات ، وعلى صفة الرحمة ، وعلى الأثر : أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة . .
والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دلّ عليها السمع ، والعقل ؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب ، والسنّة من إثبات الرحمة لله . وهو كثير جداً ؛ وأما العقل : فكل ما حصل من نعمة ، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله . .
هذا وقد أنكر قوم وصف الله تعالى بالرحمة الحقيقية ، وحرّفوها إلى الإنعام ، أو إرادة الإنعام ، زعماً منهم أن العقل يحيل وصف الله بذلك ؛ قالوا : " لأن الرحمة انعطاف ، ولين ، وخضوع ، ورقة ؛ وهذا لا يليق بالله عزّ وجلّ " ؛ والرد عليهم من وجهين :
الوجه الأول : منع أن يكون في الرحمة خضوع ، وانكسار ، ورقة ؛ لأننا نجد من الملوك الأقوياء رحمة دون أن يكون منهم خضوع ، ورقة ، وانكسار . .
الوجه الثاني : أنه لو كان هذا من لوازم الرحمة ، ومقتضياتها فإنما هي رحمة المخلوق ؛ أما رحمة الخالق سبحانه وتعالى فهي تليق بعظمته ، وجلاله ، وسلطانه ؛ ولا تقتضي نقصاً بوجه من الوجوه . .
ثم نقول : إن العقل يدل على ثبوت الرحمة الحقيقية لله عزّ وجلّ ، فإن ما نشاهده في المخلوقات من الرحمة بَيْنها يدل على رحمة الله عزّ وجلّ ؛ ولأن الرحمة كمال ؛ والله أحق بالكمال ؛ ثم إن ما نشاهده من الرحمة التي يختص الله بها . كإنزال المطر ، وإزالة الجدب ، وما أشبه ذلك . يدل على رحمة الله . .
والعجب أن منكري وصف الله بالرحمة الحقيقية بحجة أن العقل لا يدل عليها ، أو أنه يحيلها ، قد أثبتوا لله إرادة حقيقية بحجة عقلية أخفى من الحجة العقلية على رحمة الله ، حيث قالوا : إن تخصيص بعض المخلوقات بما تتميز به يدل عقلاً على الإرادة ؛ ولا شك أن هذا صحيح ؛ ولكنه بالنسبة لدلالة آثار الرحمة عليها أخفى بكثير ؛ لأنه لا يتفطن له إلا أهل النباهة ؛ وأما آثار الرحمة فيعرفه حتى العوام ، فإنك لو سألت عامياً صباح ليلة المطر : " بِمَ مطرنا ؟ " ، لقال : " بفضل الله ، ورحمته " . .
مسألة :
هل البسملة آية من الفاتحة ؛ أو لا ؟
في هذا خلاف بين العلماء ؛ فمنهم من يقول : إنها آية من الفاتحة ، ويقرأ بها جهراً في الصلاة الجهرية ، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة ؛ لأنها من الفاتحة ؛ ومنهم من يقول : إنها ليست من الفاتحة ؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله ؛ وهذا القول هو الحق ؛ ودليل هذا : النص ، وسياق السورة . .
أما النص : فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : إذا قال : { الحمد لله رب العالمين } قال الله تعالى : حمدني عبدي ؛ وإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله تعالى : أثنى عليَّ عبدي ؛ وإذا قال : { مالك يوم الدين } قال الله تعالى : مجّدني عبدي ؛ وإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ؛ وإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } . . . إلخ ، قال الله تعالى : هذا لعبدي ؛ ولعبدي ما سأل " [51] ؛ وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة ؛ وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " صلَّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ؛ فكانوا لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول قراءة ، ولا في آخرها " [52] : والمراد لا يجهرون ؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها . .
أما من جهة السياق من حيث المعنى : فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق ؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآية على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } وهي الآية التي قال الله فيها : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " ؛ لأن { الحمد لله رب العالمين } : واحدة ؛ { الرحمن الرحيم } : الثانية ؛ { مالك يوم الدين } : الثالثة ؛ وكلها حق لله عزّ وجلّ { إياك نعبد وإياك نستعين } : الرابعة . يعني الوسَط ؛ وهي قسمان : قسم منها حق لله ؛ وقسم حق للعبد ؛ { اهدنا الصراط المستقيم } للعبد ؛ { صراط الذين أنعمت عليهم } للعبد ؛ { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } للعبد . .
فتكون ثلاث آيات لله عزّ وجل وهي الثلاث الأولى ؛ وثلاث آيات للعبد . وهي الثلاث الأخيرة ؛ وواحدة بين العبد وربِّه . وهي الرابعة الوسطى . .
ثم من جهة السياق من حيث اللفظ ، فإذا قلنا : إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين ؛ ومن المعلوم أن تقارب الآية في الطول والقصر هو الأصل . .
فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة . كما أن البسملة ليست من بقية السور . .