فاتحة الكتاب هي أم الكتاب ، لا تصلح الصلاة بدونها ، فأنت في كل ركعة تستطيع أن تقرأ آية من القرآن الكريم ، تختلف عن الآية التي قرأتها في الركعة السابقة ، وتختلف عن الآيات التي قرأتها في صلواتك . . ولكن إذا لم تقرأ الفاتحة فسدت الصلاة ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تام " [1] أي غير صالحة .
فالفاتحة أم الكتاب التي لا تصلح الصلاة بدونها ، والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل . . فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين . قال الله عز وجل حمدني عبدي . فإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله عز وجل : أثنى علي عبدي ، فإذا قال مالك يوم الدين ، قال الله عز وجل مجدني عبدي . . فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله عز وجل هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . . وإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال الله عز وجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل[2] .
وعلينا أن نتنبه ونحن نقرأ هذا الحديث القدسي أن الله تعالى يقول : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، ولم يقل قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي ، ففاتحة الكتاب هي أساس الصلاة ، وهي أم الكتاب .
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ البداية نفسها التي أرادها الله تبارك وتعالى ، وهي أن تكون البداية بسم الله .
وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت { اقرأ بسم ربك الذي خلق } . وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون . . هي بسم الله . ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية .
ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن . . وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى : { اقرأ } . واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان . . إما حافظا لشيء يحفظه ، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه . . ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه . . وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه . . وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب .
وعندما قال جبريل : " اقرأ " . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ . . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم منطقيا مع قدراته . وتردد القول ثلاث مرات . . جبريل عليه السلام بوحي من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول : " اقرأ " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أنا بقارئ . . ولقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة . . وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول ما أنا بقارئ .
نقول إن الله تبارك وتعالى . . كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون ، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة ، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما . للبشرية كلها إلى يوم القيامة . . لأن كل البشر يعلمهم بشر . . ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى . ليكون معلما لأكبر علماء البشر . . يأخذون عنه العلم والمعرفة . لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى :
} اقرأ باسم ربك الذي خلق " 1 " خلق الإنسان من علقٍ " 2 " { ( سورة العلق ) .
أي أن الله سبحانه وتعالى . الذي خلق من عدم . سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله . . وسيكون ما تقرأه وأنت النبي الأمي إعجازا . . ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك لحظة نزوله . ولكن للدنيا كلها وليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط ، ولكن حتى قيام الساعة ، ولذلك قال جل جلاله :
{ اقرأ وربك الأكرم " 3 " الذي علم بالقلم " 4 " }( سورة العلق ) .
أي أن الذي ستقرؤه يا محمد . . سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض . . ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال : { اقرأ وربك الأكرم } مستخدما صيغة المبالغة . فهناك كريم وأكرم . . فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله . . لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك . . أما إذا كان الله هو الذي سيعلمك . . يكون " أكرم " . . لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى . .
والحق يريد أن يلفتنا إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة ، ولكنه يقرؤه بسم الله ، ومادام بسم الله . . فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم . لأن الذي علمه هو الله . . وعلمه فوق مستوى البشرية كلها .
على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله . . لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا . . ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه . . فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة . . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :
{ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " 16 " }( سورة يونس ) .
لذلك أنت تقرأ القرآن بسم الله . . لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة . . ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله ؟ . . إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله . . لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه . فحين نزرع الأرض مثلا . . لابد أن نبدأ بسم الله . . لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها . . ولا خلقنا البذرة التي نبذرها . ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع .
إن الفلاّح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع . . إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله . . بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع .
والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار . . ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة . ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء . . فكأنه حين يبدأ العمل بسم الله ، يبدؤه بسم الله الذي سخر له الأرض . . وسخر له الحَبّ ، وسخر له الماء ، وكلها لا قدرة له عليها . . ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته . . فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا باسم من سخرها له . .
والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك . فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون . . ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية . بل هي تعمل بقدرة خالقها . الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها .
الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه . ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي إنسان على أن يستأنسها . ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا . . لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما . . ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء ، ولم يخضع لنا ما شاء . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
{ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون " 71 " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " 72 " } ( سورة يس ) .
وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا .
يأتي الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل عليها المطر بغزارة . والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون . فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام . بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون . . فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذي عطلها ؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين ، إن شاءت جعلتها تعمل ، وإن شاءت جعلتها لا تعمل . . إذن فكل شيء في الكون بسم الله . . هو الذي سخر وأعطى . . وهو الذي يمنح ويمنع . حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار . . واقرأ قول الحق تبارك وتعالى :
{ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور " 49 " أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير " 50 " }( سورة الشورى ) .
والأصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى . . هذا هو القانون . . ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله . . لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق . . ولكنها إرادة خالق القانون . . إن شاء جعله يعمل . . وإن شاء يبطل عمله . . والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ؛ ولكنه هو الذي يحكمها .
وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل . . فهو قادر على أن يخرق القوانين . . خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام . . كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاجه . . ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها . .
وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها . . { قال يا مريم أنى لك هذا " 37 " }( سورة آل عمران ) .
الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة . . مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات . . ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون . . هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي لا تتناسب مع قدرات من يحصل عليها . .
الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه . . وترى الابنة ترتدي ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها . . ولو سألت الأم أو الأب أو الابنة من أين لك هذا ، لَمَا فسد المجتمع . . ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام .
بماذا ردت مريم عليها السلام ؟
{ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " 37 " } ( سورة آل عمران ) .
إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون . . لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة . . فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها إلا طلاقة القدرة . . فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا . . هذه قضية ضد قوانين الكون . . لأن الإنجاب لا يتم إلا وقت الشباب ، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان . . فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا . . لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب . . فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز . . هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر . . ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضدِّه . . ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان . . ورزق زكريا بابنه يحيى .
إذن كل شيء في هذا الكون بسم الله . . يتم بسم الله وبإذن من الله . . الكون تحكمه الأسباب نعم ؛ ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب .
أنت حين تبدأ كل شيء بسم الله . . كأنك تجعل الله في جانبك يعينك . . ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء بسم الله . . لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى . . والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة . . فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى عونه وإلى رحمته . . فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات . . كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها . . كأن نقول بسم الله القوي وبسم الله الرازق وبسم الله المجيب وبسم الله القادر وبسم الله النافع . . إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها . . ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول : بسم الله ، بسم الله ، بسم الله الجامع لكل هذه الصفات .
على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله ، وإنما يريدون الجزاء المادي وحده . . إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله . . وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله . . كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع . . له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة . . ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان . . بل الحياة الحقيقية هي الآخرة . . الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية . . بقدر عطاء الله في الدنيا . . والذي في باله الله يأخذ بقدر عطاء الله في الدنيا والآخرة . . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير } ( سورة سبأ : 1 ) ؛ لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا . . ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة . . فلله الحمد في الدنيا والآخرة .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع " . [5]
ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل . . أي عمل ناقص ، فيه شيء ضائع . . ؛ لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخّرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك . . وحين لا تبدأ العمل باسم الله . . فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا . . وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة . . فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة ، فأقبل على كل عمل باسم الله . . قبل أن تأكل قل باسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به . . عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح . . عندما تدخل إلى بيتك قل بسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت . . عندما تتزوج قل بسم الله لأنه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك . . في كل عمل تفعله ابدأه باسم الله . . لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى . . فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله باسم الله . . إذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر . . أو أن تفعل عملا يغضب الله . . وتذكرت بسم الله . . فإنك ستمتنع عنه . . ستستحي أن تبدأ عملا بسم الله يغضب الله . . وهكذا ستكون أعمالك كلها فيما أباحه الله .
الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه بسم الله . . فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله . . والله هو الإله المعبود في كونه . . ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به . . ولا نقدم على ما نهى عنه . . فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله في العبادة . . وبطاعته في افعل ولا تفعل . . وهذا هو المقصود أن تبدأ قراءة القرآن بسم الله الذي آمنت به ربا وإلها . . والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما ينهى . . والذي بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه . . والذي خلق وأوجد ويحيي ويميت وله الأمر في الدنيا والآخرة . . والذي ستقف أمامه يوم القيامة ليحاسبك أحسنت أم أسأت . . فالبداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى .
بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله . . وقد عصيت وقد خالفت . . نقول إياك أن تستحي أن تقرأ القرآن . . وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت . . ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدؤه بسم الله الرحمن الرحيم . . فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي . . بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها . . ويطلب منه أن يتوب وأن يعود إلى الله . . فيغفر له ذنبه ، لأن الله رحمن رحيم . . فلا تقل إنني أستحي أن أبدأ باسم الله لأنني عصيته . . فالله سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود إلى حظيرة الإيمان وهو رحمن رحيم . .
فإذا قلت كيف أقول بسم الله وقد وقعت في معصية أمس . . نقول لك قل باسم الله الرحمن الرحيم . . فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه . . وهو سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا .
والرحمة والرحمن والرحيم . . مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه . . هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق . . بلا حول ولا قوة . . ويجد فيه كل ما يحتاج إليه نموه ميسراً . . رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل . . انظر إلى حنو الأم على ابنها وحنانها عليه . . وتجاوزها عن سيئاته وفرحته بعودته إليها . .
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي : " أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته " [6] .
الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو ويرزقنا . . ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر . . ونعصي فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه . . ولا يهلكنا بما فعلنا . ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم . . لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا . . نرفع أيدينا إلى السماء . . ونقول يا رب رحمتك . . تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا . وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله . . كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود إليه . . فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا .
على أننا نلاحظ أن الرحمن الرحيم من صيغ المبالغة . . يقال راحم ورحمن ورحيم . . إذا قيل راحم فيه صفة الرحمة . . وإذا قيل رحمن تكون مبالغة في الصفة . . وإذا قيل رحيم تكون مبالغة في الصفة . . والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة . .
صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف . . وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة . بل هي صفات الكمال المطلق . . ولكن الذي يتغير هو متعلقات هذه الصفات . . اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرةٍ " 40 " }( سورة النساء ) .
هذه الآية الكريمة . . نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى ، ثم تأتي الآية الكريمة بقول الله جل جلاله : { وما ربك بظلامٍ للعبيد " 46 " }( سورة فصلت ) .
نلاحظ هنا استخدام صيغة المبالغة . . " ظلام " . . أي شديد الظلم . . وقول الحق سبحانه وتعالى : { ليس بظلام } . . لا تنفي الظلم ولكنها تنفي المبالغة في الظلم ، تنفي أن يظلم ولو مثقال ذرة . . نقول إنك لم تفهم المعنى . . أن الله لا يظلم أحدا . . الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد . . والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد . . والعبيد هم كل خلق الله . . فلو أصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الأعداد الهائلة . . فإن الظلم يكون كثيراً جداً ، ولو أنه قليل في كميته لأن عدد من سيصاب به هائل . . ولذلك فإن الآية الأولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى . والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى . . ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة .
نأتي بعد ذلك إلى رحمن ورحيم . . رحمن في الدنيا لكثرة عدد الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته . . فرحمة الله في الدنيا تشمل المؤمن والعاصي والكافر . . يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم ، يرزق من آمن به ومن لم يؤمن به ، ويعفو عن كثير . . إذن عدد الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا هم كل خلقه . بصرف النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم .
ولكن في الآخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط . . فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله . . إذن الذين تشملهم رحمة الله في الآخرة . . أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا . . فمن أين تأتي المبالغة ؟ . . تأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء . . فنعم الله في الآخرة أكبر كثيراً منها في الدنيا . . المبالغة هنا بكثرة النعم وخلودها . . فكأن المبالغة في الدنيا بعمومية العطاء ، والمبالغة في الآخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة النعم والخلود فيها .
ولقد اختلف عدد من العلماء حول بسم الله الرحمن الرحيم . . وهي موجودة في 113 سورة من القرآن الكريم هل هي من آيات السور نفسها . . بمعنى أن كل سورة تبدأ { بسم الله الرحمن الرحيم } تحسب البداية على أنها الآية الأولى من السورة ، أم أنها حسبت فقط في فاتحة الكتاب ، ثم بعد ذلك تعتبر فواصل بين السور . .
وقال العلماء إن { بسم الله الرحمن الرحيم } آية من آيات القرآن الكريم . . ولكنها ليست آية من كل سورة ما عدا فاتحة الكتاب فهي آية من الفاتحة . . وهناك سورة واحدة في القرآن الكريم لا تبدأ ب{ بسم الله الرحمن الرحيم } وهي سورة التوبة وتكررت بسم الله الرحمن الرحيم في الآية 30 من سورة النمل في قوله تعالى : { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } .
. . . . .
نلاحظ أن هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في بسم الله الرحمن الرحيم ، وفي فاتحة الكتاب ، وهذه الأسماء هي : الله . والرحمن والرحيم . نقول أنه ليس هناك تكرار في القرآن الكريم ، وإذا تكرر اللفظ يكون معناه في كل مرة مختلفا عن معناه في المرة السابقة ، لأن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى . . ولذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح ، وفي معناه الصحيح . .
قولنا : { بسم الله الرحمن الرحيم } هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء . . إذن فلفظ الجلالة " الله " في بسم الله ، معناه الاستعانة بقدرات الله سبحانه وتعالى وصفاته ، لتكون عونا لنا على ما نفعل .
ولكن إذا قلنا : الحمد لله . . فهي شكر لله على ما فعل لنا ؛ ذلك أننا لا نستطيع أن نقدم الشكر لله إلا إذا استخدمنا لفظ الجلالة الجامع لكل صفات الله تعالى ؛ لأننا نحمده على كل صفاته ورحمته بنا حتى لا نقول باسم القهار وباسم الوهاب وباسم الكريم ، وباسم الرحمن . . نقول الحمد لله على كمال صفاته ، فيشمل الحمد كمال الصفات كلها .
وهناك فرق بين " بسم الله " الذي نستعين به على ما لا قدرة لنا عليه . . لأن الله هو الذي سخر كل ما في هذا الكون ، وجعله يخدمنا ، وبين " الحمد لله " فإن لفظ الجلالة إنما جاء هنا لنحمد الله على ما فعل لنا ، فكأن " بسم الله في البسملة " طلب العون من الله بكل كمال صفاته . . وكأن الحمد لله في الفاتحة تقديم الشكر لله بكل كمال صفاته .
و{ الرحمن الرحيم } في البسملة لها معنى غير { الرحمن الرحيم } في الفاتحة ، ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله سبحانه وتعالى وغفرانه حتى لا نستحي ولا نهاب أن نستعين بسم الله إن كنا قد فعلنا معصية . . فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نستعين باسمه دائما في كل أعمالنا . فإذا سقط واحد منا في معصية ، قال كيف أستعين بسم الله ، وقد عصيته ؟ نقول له ادخل عليه سبحانك وتعالى من باب الرحمة . . فيغفر لك وتستعين به فيجيبك .
وأنت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله ، لأن عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
واقرأ قول الله تعالى : { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا " 49 " }( سورة الكهف ) .
ولولا رحمة الله التي سبقت عدله . ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض . . فالله جل جلاله يقول : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ؛ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " 61 " } ( سورة النحل )
فالإنسان خلق ضعيفا ، وخلق هلوعا . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته ، قالوا : حتى أنت يا رسول الله قال : حتى أنا " .
فذنوب الإنسان في الدنيا كثيرة . . إذا حكم فقد يظلم . وإذا ظن فقد يسيء . . وإذا تحدث فقد يكذب . . وإذا شهد فقد يبتعد عن الحق . . وإذا تكلم فقد يغتاب .
هذه ذنوب نرتكبها بدرجات متفاوتة . ولا يمكن لأحد منا أن ينسب الكمال لنفسه ، حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة لا يصلون إلى الكمال ، فالكمال لله وحده . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " [7] .
ويصف الله سبحانه وتعالى الإنسان في القرآن الكريم : { وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " 34 " }( سورة إبراهيم ) .
ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن أن ندخل إلى كل عمل باسم الله . . فعلمنا أن نقول : { بسم الله الرحمن الرحيم } لكي نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله . وأن المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل بسم الله . . لأنه رحمن رحيم ، فيكون الله قد أزال وحشتك من المعصية في الاستعانة به سبحانه وتعالى .
ولكن الرحمن الرحيم في الفاتحة مقترنة برب العالمين ، الذي أوجدك من عدم . . وأمدك بنعم لا تعد ولا تحصى . أنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته ، ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة .
والله سبحانه وتعالى رب للمؤمن والكافر ، فهو الذي استدعاهم جميعا إلى الوجود . ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته . . وليس بما يستحقون . . فالشمس تشرق على المؤمن والكافر . . ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن فقط ، والمطر ينزل على من يعبدون الله ومن يعبدون أوثانا من دون الله . والهواء يتنفسه من قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها .
وكل النعم التي هي من عطاء الربوبية لله هي في الدنيا لخلقه جميعا ، وهذه رحمة . . فالله رب الجميع من أطاعه ومن عصاه . وهذه رحمة ، والله قابل للتوبة ، وهذه رحمة . .
إذن ففي الفاتحة تأتي { الرحمن الرحيم } بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه ، فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه .
وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه . وهذه رحمة تستوجب الشكر . فمعنى " الرحمن الرحيم " في البسملة يختلف عنها في الفاتحة .