الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري

الزمخشري القرن السادس الهجري

صفحة 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

قرّاء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أنّ التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها ، كما بدىء بذكرها في كل أمر ذي بال ، وهو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ومن تابعه ، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة . وقرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ، وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله ، ولذلك يجهرون بها . وقالوا : قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن ، ولذلك لم يثبتوا { آمِينٌ } فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها . وعن ابن عباس : «من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى » .

فإن قلت : بم تعلقت الباء ؟ قلت : بمحذوف تقديره : بسم الله اقرأ أو أتلو ؛ لأنّ الذي يتلو التسمية مقروء ، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال : بسم الله والبركات ، كان المعنى : بسم الله أحل وبسم الله أرتحل ؛ وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله ؛ ب «بسم الله » كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له . ونظيره في حذف متعلق الجارّ قوله عزّ وجلّ : { في تسع آيات إلى فرعون وقومه } [ النمل : 12 ] ، أي اذهب في تسع آيات . وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس : بالرفاء والبنين ، وقول الأعرابي : باليمن والبركة ، بمعنى أعرست ، أو نكحت . ومنه قوله :

فقُلْتُ إلى الطَّعام فقَالَ مِنْهُم *** فَرِيقٌ نحْسُدُ الإِنْسَ الطَّعَامَا

فإن قلت : لم قدّرت المحذوف متأخراً ؟ قلت : لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به ؛ لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون : باسم اللات ، باسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء ، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص . والدليل عليه قوله : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] . فإن قلت : فقد قال : { اقرأ باسم رَبّكَ } [ العلق : 1 ] ، فقدّم الفعل . قلت : هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم .

فإن قلت : ما معنى تعلق اسم الله بالقراءة ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك : كتبت بالقلم ، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتداً به في الشرع ، واقعاً على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام : " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر " إلا كان فعلا كلا فعل ، جعل فعله مفعولاً باسم الله كما يفعل الكتب بالقلم . والثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات في قوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] على معنى : متبرّكاً بسم الله أقرأ ، وكذلك قول الداعي للمعرس : بالرفاء والبنين ، معناه أعرست ملتبساً بالرفاء والبنين ، وهذا الوجه أعرب وأحسن ؛ فإن قلت : فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركاً باسم الله أقرأ ؟ قلت : هذا مقول على ألسنة العباد ، كما يقولُ الرجل الشعر على لسان غيره ، وكذلك : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } إلى آخره ، وكثير من القرآن على هذا المنهاج ، ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه ، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه .

فإن قلت : من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون ، نحو كاف التشبيه ولام الابتداء وواو العطف وفائه وغير ذلك ، فما بال لام الإضافة وبائها بنيتا على الكسر ؟ قلت : أما اللام فللفصل بينها وبين لام الابتداء ، وأما الباء فلكونها لازمة للحرفية والجر ، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون ، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة ، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن ، لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة ، ولوضعها على غاية من الإحكام والرصانة ، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شيء . ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن ، فقال : سم وسم . قال :

بِاسْمِ الذِي في كلِّ سُورةٍ سِمُهْ ***

وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز : كيد ودم ، وأصله : سمو ، بدليل تصريفه : كأسماء ، وسمي ، وسميت ، واشتقاقه من السمو ، لأنّ التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره ، ومنه قيل للقب النبز : من النبز بمعنى النبر ، وهو رفع الصوت . والنبز قشر النخلة الأعلى . فإن قلت : فلم حذفت الألف في الخط وأثبتت في قوله : باسم ربك ؟ قلت : قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال ، وقالوا : طُوِّلَتِ الباء تعويضاً من طرح الألف . وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه : طوّل الباء وأظهر السنات ودوّر الميم . و ( الله ) أصله الإله . قال :

مَعَاذَ الإِلهِ أَنْ تَكُونَ كظَبْيَةٍ ***

ونظيره : الناس ، أصله الأناس . قال :

إنَّ المَنايَا يَطَّلِعْ *** نَ عَلَى الأنَاسِ الآمِنِينَا

فحذفت الهمزة وعوّض منها حرف التعريف ، ولذلك قيل في النداء : يا ألله بالقطع ، كما يقال : يا إله ، والإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق ، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عام القحط ، والبيت على الكعبة ، والكتاب على كتاب سيبويه . وأما ( الله ) بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق ، لم يطلق على غيره . ومن هذا الاسم اشتق : تأله ، وأله ، واستأله . كما قيل : استنوق ، واستحجر ، في الاشتقاق من الناقة والحجر . فإن قلت : أاسم هو أم صفة ؟ قلت : بل اسم غير صفة ، ألا تراك تصفه ولا تصف به ، لا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل . وتقول : إله واحد صمد ، كما تقول : رجل كريم خير . وأيضاً فإنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجرى عليه ، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها وهذا محال . فإن قلت : هل لهذا الاسم اشتقاق ؟ قلت : معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد ، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم : أله ، إذا تحير ، ومن أخواته : دله ، وعله ، ينتظمهما معنى التحير والدهشة ، وذلك أنّ الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن ، ولذلك كثر الضلال ، وفشا الباطل ، وقل النظر الصحيح . فإن قلت : هل تفخم لأمه ؟ قلت : نعم قد ذكر الزجاج أنّ تفخيمها سنة ، وعلى ذلك العرب كلهم ، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر .

و( الرحمن ) فعلان من رحم ، كغضبان وسكران ، من غضب وسكر ، وكذلك ( الرحيم ) فعيل منه ، كمريض وسقيم ، من مرض وسقم ، وفي ( الرحمن ) من المبالغة ما ليس في ( الرحيم ) ، ولذلك قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ، ويقولون : إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى . وقال الزّجّاج في الغضبان : هو الممتلئ غضباً . ومما طنّ على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مركباً من مراكبهم بالشقدف ؟ وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق ، فقلت في طريق الطائف منهم لرجل ما اسم هذا المحمل ؟ أردت المحمل العراقي فقال : أليس ذاك اسمه الشقدف ؟ قلت : بلى ، فقال : هذا اسمه الشقنداف ، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى ، وهو من الصفات الغالبة كالدبران ، والعيوق ، والصعق لم يستعمل في غير الله عزّ وجلّ ، وكما أنّ ( الله ) من الأسماء الغالبة . وأما قول بني حنيفة في مسيلمة : رحمان اليمامة ، وقول شاعرهم فيه :

وأَنْتَ غَيْثُ الوَرَى لا زِلْتَ رَحْمَانَا ***

فباب من تعنتهم في كفرهم . فإن قلت : كيف تقول : الله رحمن ، أتصرفه أم لا ؟ قلت : أقيسه على أخواته من بابه ، أعني : نحو عطشان ، وغرثان ، وسكران ، فلا أصرفه . فإن قلت : قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى واختصاصه بالله يحظر أن يكون فعلان فعلى ، فلم تمنعه الصرف ؟ قلت : كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة ، فإذاً لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص وهو القياس على نظائره . فإن قلت : ما معنى وصف الله تعالى بالرحمة ومعناها العطف والحنوّ ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها ؟ قلت : هو مجاز عن إنعامه على عباده ؛ لأنّ الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه ، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم ومنعهم خيره ومعروفه . فإن قلت : فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه ، والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم : فلان عالم نحرير ، وشجاع باسل ، وجواد فياض ؟ قلت : لما قال [ الرَّحْمَنِ ] فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها ، أردفه ( الرحيم ) كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

الحمد والمدح أخوان ، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها . تقول : حمدت الرجل على إنعامه ، وحمدته على حسبه وشجاعته . وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال :

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّي ثلاثة *** يَدِي ولِسَانِي والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا

والحمد باللسان وحده ، فهو إحدى شعب الشكر ، ومنه قوله عليه [ الصلاة و ] السلام :

" الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده " وإنما جعله رأس الشكر ؛ لأنّ ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها ، أشيع لها وأدلّ على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب ، وما في عمل الجوارح من الاحتمال ، بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كلّ خفي ويجلي كل مشتبه .

والحمد نقيضه الذمّ ، والشكر نقيضه الكفران ، وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو «لله » وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار ، كقولهم : شكراً ، وكفراً ، وعجباً ، وما أشبه ذلك ، ومنها : سبحانك ، ومعاذ الله ، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدّون بها مسدّها ، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة ، والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره . ومنه قوله تعالى : { قَالُواْ سلاما قَالَ سلام } [ هود : 69 ] ، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم ؛ لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده وحدوثه . والمعنى : نحمد الله حمداً ، ولذلك قيل : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ؛ لأنه بيان لحمدهم له ، كأنه قيل : كيف تحمدون ؟ فقيل : إياك نعبد . فإن قلت : ما معنى التعريف فيه ؟ قلت : هو نحو التعريف في أرسلها العراك ، وهو تعريف الجنس ، ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أنّ الحمد ما هو ، والعراك ما هو ، من بين أجناس الأفعال . والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم . وقرأ الحسن البصري : { الحمد ِللَّهِ } بكسر الدال لإتباعها اللام . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة : { الحمد ِللَّهِ } بضم اللام لإتباعها الدال ، والذي جسرهما على ذلك والإتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل ومغيرة تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين ، وأشف القراءتين قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى ، بخلاف قراءة الحسن .

الرب : المالك . ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن . تقول : ربه يربه فهو رب ، كما تقول : نمّ عليه ينمّ فهو نمّ . ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل ، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده ، وهو في غيره على التقيد بالإضافة ، كقولهم : رب الدار ، ورب الناقة ، وقوله تعالى :{ ارجع إلى رَبّكَ } [ يوسف : 50 ] ، { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : { رَبِّ العالمين } بالنصب على المدح وقيل بما دل عليه الحمد لله كأنه قيل : نحمد الله رب العالمين .

العالم : اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل : كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض . فإن قلت : لم جمع ؟ قلت : ليشمل كل جنس مما سمي به . فإن قلت : هو اسم غير صفة ، وإنما تجمع بالواو والنون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام . قلت : ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣
مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

قرىء : " ملك يوم الدين " ، ومالك وملك بتخفيف اللام . وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه : مَلَكَ يومَ الدين ، بلفظ الفعل ونصب اليوم ، وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه : مالكَ بالنصب . وقرأ غيره : مَلَك ، وهو نصب على المدح ؛ ومنهم من قرأ : مالكٌ ، بالرفع . وملك : هو الاختيار ، لأنه قراءة أهل الحرمين ، ولقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] ، ولقوله : { مَلِكِ الناس } [ الناس : 2 ] ، ولأن الملك يعم والملك يخص . ويوم الدين : يوم الجزاء . ومنه قولهم :«كما تدين تدان » . وبيت الحماسة :

ولَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا *** نِ دِنَّاهمْ كما دَانُوا

فإن قلت : ما هذه الإضافة ؟ قلت : هي إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع ، مُجرى مجرى المفعول به كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، والمعنى على الظرفية . ومعناه : مالك الأمر كله في يوم الدين ، كقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] . فإن قلت : فإضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقة فلا تكون معطية معنى التعريف ، فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة ؟ قلت : إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال ، فكان في تقدير الانفصال ، كقولك : مالك الساعة ، أو غداً . فأمّا إذا قصد معنى الماضي ، كقولك : هو مالك عبده أمس ، أو زمان مستمرّ ، كقولك : زيد مالك العبيد ، كانت الإضافة حقيقية ، كقولك : مولى العبيد ، وهذا هو المعنى في { مالك يَوْمِ الدين } ، ويجوز أن يكون المعنى : ملك الأمور يوم الدين ، كقوله : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] ، { ونادى أصحاب الاعراف } [ الأعراف : 48 ] ، والدليل عليه قراءة أبي حنيفة : «مَلَكَ يومَ الدين » ، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه من كونه رباً مالكاً للعالمين لا يخرج منهم شيء من ملكوته وربوبيته ، ومن كونه منعماً بالنعم كلها الظاهرة والباطنة والجلائل والدقائق ، و من كونه مالكاً للأمر كله في العاقبة يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق في قوله : الحمد لله دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

«إيا » ضمير منفصل للمنصوب ، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك : إياك ، وإياه ، وإياي ، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب ، كما لا محل للكاف في أرأيتك ، وليست بأسماء مضمرة ، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون ، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب : «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب » فشيء شاذ لا يعوّل عليه ، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص ، كقوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] ، { قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا } [ الأنعام : 164 ] . والمعنى نخصك بالعبادة ، ونخصك بطلب المعونة . وقرىء : " إياك " بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء . قال طفيل الغنوي :

فهَيَّاكَ والأَمْرَ الَّذِي إن تَرَاحَبَتْ *** مَوَارِدُهُ ضاقَتْ عليْكَ مَصادِرُه

والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل . ومنه : ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى ، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع . فإن قلت : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ؟ قلت : هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] . وقوله تعالى : { والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ } [ فاطر : 9 ] . وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات :

تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بالأَثْمَدِ *** ونَامَ الخَلِيُّ ولَم تَرْقُد

وبَاتَ وباتَتْ لَهُ لَيْلةٌ*** كلَيْلَةِ ذِي العائرِ الأرْمَدِ

وذلك مِنْ نَبَإ جَاءَني*** وخبِّرْتُهُ عنْ أَبي الأَسوَدِ

وذلك على عادة افتتانهم في الكلام وتصرفهم فيه ، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ، وقد تختص مواقعه بفوائد . ومما اختص به هذا الموضع : أنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات ، فقيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، لا نعبد غيرك ولا نستعينه ، ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به . فإن قلت : لم قرنت الاستعانة بالعبادة ؟ قلت : ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته . فإن قلت : فلم قدّمت العبادة على الاستعانة ؟ قلت : لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها . فإن قلت : لم أطلقت الاستعانة ؟ قلت : ليتناول كل مستعان فيه ، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ، ويكون قوله : { اهدنا } بياناً للمطلوب من المعونة ، كأنه قيل : كيف أعينكم ؟ فقالوا : اهدنا الصراط المستقيم ، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض . وقرأ ابن حبيش : " نستعين " ، بكسر النون .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

هدى أصله أن يتعدى باللام أو بإلى ، كقوله تعالى : { إِنَّ هذا االقرآن يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] . ومعنى طلب الهداية وهم مهتدون طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف ، كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] ، { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . وعن علي وأبيّ رضي الله عنهما : اهدنا ثبتنا ، وصيغة الأمر والدعاء واحدة ، لأنّ كل واحد منهما طلب ، وإنما يتفاوتان في الرتبة . وقرأ عبد الله : أرشدنا .

«السراط » : الجادّة ، من سرط الشيء إذا ابتلعه ، لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه ، كما سمي : لقماً ، لأنه يلتقمهم . والصراط من قلب السين صاداً لأجل الطاء ، كقوله : «مصيطر » ، في «مسيطر » ، وقد تشم الصاد صوت الزاي ، وقرىء بهنّ جميعاً ، وفصاحهنّ إخلاص الصاد ، وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام ، ويجمع سرطاً ، نحو كتاب وكتب ، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل ، والمراد طريق الحق وهو ملة الإسلام .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

{ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم ، وهو في حكم تكرير العامل ، كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم ، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، كما قال : { الذين استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] ، فإن قلت : ما فائدة البدل ؟ وهلا قيل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ؟ قلت : فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير ، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره : صراط المسلمين ؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده ، كما تقول : هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم ؟ فلان ؛ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل ، لأنك ثنيت ذكره مجملاً أوّلاً ، ومفصلاً ثانياً ، وأوقعت فلاناً تفسيراً وإيضاحاً للأكرم الأفضل فجعلته علماً في الكرم والفضل ، فكأنك قلت : من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين فعليه بفلان ، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع . والذين أنعمت عليهم : هم المؤمنون ، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام ؛ لأنّ من أُنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه . وعن ابن عباس : هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا ، وقيل هم الأنبياء . وقرأ ابن مسعود : «صراط من أنعمت عليهم » .

{ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } بدل من الذين أنعمت عليهم ، على معنى أنّ المنعم عليهم : هم الذين سلموا من غضب الله والضلال ، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من غضب الله والضلال . فإن قلت : كيف صح أن يقع { غَيْرِ } صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف ؟ قلت : { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا توقيت فيه كقوله :

وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّني***

ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم ، فليس في غير إذاً الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف ، وقرىء بالنصب على الحال ؛ وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير ، وذو الحال الضمير في عليهم ، والعامل أنعمت ، وقيل المغضوب عليهم : هم اليهود ؛ لقوله عز وجل : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] . والضالون : هم النصارى ؛ لقوله تعالى : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] ، فإن قلت ما معنى غضب الله ؟ قلت : هو إرادة الانتقام من العصاة ، وإنزال العقوبة بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ، ونسأله رضاه ورحمته . فإن قلت : أي فرق بين { عَلَيْهِمْ } الأولى و { عَلَيْهِمْ } الثانية ؟ قلت : الأولى محلها النصب على المفعولية ، والثانية محلها الرفع على الفاعلية . فإن قلت : لم دخلت «لا » في { وَلاَ الضالين } ؟ قلت : لما في غير من معنى النفي ، كأنه قيل : لا المغضوب عليهم ولا الضالين . وتقول : أنا زيداً غير ضارب ، مع امتناع قولك أنا زيداً مثل ضارب ، لأنه بمنزلة قولك : أنا زيداً لا ضارب . وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قرآ : وغير الضالين . وقرأ أيوب السختياني : «ولا الضألين » بالهمزة ، كما قرأ عمرو بن عبيد : «ولا جأن » وهذه لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين . ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم : شأبة ، ودأبة .

آمين : صوت سمي به الفعل الذي هو استجب ، كما أنّ «رويد ، وحيهل ، وهلم » أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل ، وأسرع ، وأقبل » . وعن ابن عباس :

سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين فقال : «افعل » وفيه لغتان : مدّ ألفه ، وقصرها . قال :

وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْداً قالَ آمِينَا***

وقال :

أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَاً***

وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لقنني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب " وقال : " إنه كالختم على الكتاب " وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف . وعن الحسن : لا يقولها الإمام لأنه الداعي . وعن أبي حنيفة رحمه الله مثله ، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها . وروى الإخفاء عبد الله بن مغفل وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعند الشافعي يجهر بها . وعن وائل بن حجرأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ : ولا الضالين ، قال آمين ورفع بها صوته . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأبيّ بن كعب : " ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها ؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : «فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " وعن حذيفة بن اليمان أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب { الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة " .