التفسير القيم لابن القيم

ابن القيم القرن الثامن الهجري

صفحة 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال ، وتضمنتها أكمل تضمن .

فاشتملت على التعريف بالمعبود - تبارك وتعالى - بثلاثة أسماء ، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ، ومدارها عليها ، وهي : «الله ، والرب ، الرحمن » ، وبنيت السورة على «الإلهية » ، و«الربوبية » ، و«الرحمة » .

ف{ إياك نعبد } : مبني على الإلهية . و{ إياك نستعين } : على الربوبية . و«طلب الهداية إلى الصراط المستقيم » : بصفة الرحمة .

و«الحمد » : يتضمن الأمور الثلاثة . فهو المحمود – سبحانه وتعالى - في إلهيته ، وربوبيته ، ورحمته . والثناء والمجد كمالان لجده .

وتضمنت إثبات المعاد ، وجزاء العباد بأعمالهم - حسنها وسيئها - وتفرُّدَ الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق ، وكون حكمه بالعدل . وكل هذا تحت قوله { مالك يوم الدين } .

[ إثبات النبوات في الفاتحة ]

وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة :

أحدها : ( كونه { رب العالمين } ) :

فلا يليق به – سبحانه - أن يترك عباده سُدًى هَمَلًا لا يُعرِّفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما ، فهذا هَضْم للربوبية ، ونسبة «الرب » تعالى إلى ما لا يليق به . وما قَدَره حق قدره من نسبه إليه .

الثاني : ( أخذها من اسم «الله » )

وهو : المألوه المعبود . ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله .

الموضع الثالث : ( من اسمه «الرحمن » )

فإن رحمته تمنع إهمال عباده ، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم . فمن أعطى اسم «الرحمن » حقه عَرَف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب ، أعظمَ من تضمنه إنزال الغيث ، وإنبات الكلأ ، وإخراج الحب . فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح ، لكنِ المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب . وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك .

الموضع الرابع : ( من ذكر «يوم الدين » )

فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم ، فيثيبهم على الخيرات ؛ ويعاقبهم على المعاصي والسيئات . وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه . والحجة إنما قامت برسله وكتبه . وبهم استحق الثواب والعقاب . وبهم قام سوق يوم الدين . وسيق الأبرار إلى النعيم . والفجار إلى الجحيم .

الموضع الخامس : ( من قوله «إياك نعبد » )

فإن ما يُعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه . وعبادته ( وهي شكره وحبه وخشيته ) فطري ومعقول للعقول السليمة - لكن طريق التعبد وما يُعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم - وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول . يستحيل تعطيل العالم عنه ، كما يستحيل تعطيله عن الصانع . فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ، ولم يؤمن به . ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به .

الموضع السادس : ( من قوله «اهدنا الصراط المستقيم » )

فالهداية : هي البيان والدلالة ، ثم التوفيق والإلهام - وهو بعد البيان والدلالة - ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل . فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق ، وجعلُ الإيمان في القلب ، وتحبيبه إليه ، وتزيينه في القلب ، وجعله مؤثرا له ، راضيا به ، راغبا فيه .

[ مراتب الهداية ]

وهما هدايتان مستقلتان ، لا يحصل الفلاح إلا بهما . وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا . وإلهامنا له ، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرا وباطنا . ثم خَلْقُ القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم . ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة .

ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة ، وبطلان قول من يقول : إذا كنا مهتدين ، فكيف نسأل الهداية ؟ فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم . وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده ، أو أكثر منه أو دونه . وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك . وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله ، فأمر يفوت الحصر . ونحن محتاجون إلى الهداية التامة . فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام .

وللهداية مرتبة أخرى - وهي آخر مراتبها - : وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصراط الموصل إليها . فمن هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم ، الذي أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، هدي هناك إلى الصراط المستقيم ، الموصل إلى جنته ودار ثوابه .

وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ، يكون ثبوت قَدَمه على الصراط المنصوب على مَتْن جهنم . وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط . فمنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالطَّّرْف ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كشَدِّ الركاب ، ومنهم من يسعى سعيا ، ومنهم من يمشي مشيا ، ومنهم من يحبو حَبْوًا ، ومنهم المخدوش المسلَّم ، ومنهم المكردَس في النار . فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا ، حذو القُذَّة بالقذة ، جزاء وفاقا { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } [ النحل : 90 ] .

ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم ؛ فإنها الكلاليب التي بجَنبتي ذاك الصراط ، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه . فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك . { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] .

فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير ، والسلامة من كل شر .

الموضع السابع : ( من معرفة نفس المسئول - وهو الصراط المستقيم ) .

ولا تكون الطريق «صراطا » حتى تتضمن خمسة أمور :

الاستقامة ، والإيصال إلى المقصود ، والقرب ، وسعته للمارين عليه ، وتعيُّنه طريقًا للمقصود . ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة :

فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه ؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين . وكلما تَعوَّجَ طال وبعد . واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود . ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سَعَته . وإضافته إلى المنعم عليهم ، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال ، يستلزم تَعَيُّنَه طريقًا .

و«الصراط » تارة يضاف إلى الله ، إذ هو الذي شرعه ونصبه ، كقوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما } [ الأنعام : 153 ] ، وقوله : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله } [ الشورى : 25 . 53 ] .

وتارة يضاف إلى العباد - كما في الفاتحة - لكونهم أهل سلوكه . وهو المنسوب لهم . وهم المارون عليه .

[ العالم بالحق ولا يعمل به ويتبع هواه : مغضوب عليه ]

الموضع الثامن : ( من ذكر المنعَم عليهم )

وتمييزهم عن طائفتي «الغضب » و«الضلال » فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة ؛ لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق ، أو جاهلا به . والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له . فهذه أقسام المكلفين . لا يخرجون عنها البتة .

فالعالم بالحق العامل به : هو المنعم عليه . وهو الذي زكَّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح . وهو المفلح { قد أفلح من زكاها } [ الشمس : 9 ] .

والعالم به المتبع هواه : هو المغضوب عليه . والجاهل بالحق : هو الضال .

والمغضوب عليه : ضال عن هداية العمل . والضال : مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل . فكل منهما ضال مغضوب عليه ، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به . ومن هاهنا كان اليهود أحق به . وهو متغلظ في حقهم . كقوله تعالى في حقهم { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب } [ البقرة : 90 ] ، وقال تعالى : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل } [ المائدة : 60 ] .

والجاهل بالحق : أحق باسم الضلال . ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } [ المائدة : 77 ] .

فالأولى : في سياق الخطاب مع اليهود . والثانية : في سياقه مع النصارى .

وفي «الترمذي » و«صحيح ابن حِبَّان » : من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اليهود مغضوب عليهم . والنصارى ضالون » .

ففي ذكر المنعَم عليهم ( وهم من عرف الحق واتبعه ) ، والمغضوب عليهم ( وهم من عرفه واتبع هواه ) ، والضالين ( وهم من جهله ) : ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة ؛ لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود . وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة .

[ لماذا قال : المغضوب عليهم ، ولم يقل : غضبت عليهم – كأنعمت عليهم ؟ ]

وأضاف النعمة إليه ، وحذف فاعل الغضب لوجوه :

منها : أن «النعمة » هي الخير والفضل . و«الغضب » من باب الانتقام والعدل . والرحمة تغلب الغضب ، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين ، وأسبقهما وأقواهما .

وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه ( سبحانه ) وحذف الفاعل في مقابلتهما ، كقول مؤمني الجن { وأنَّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } [ الجن : 10 ] ومنه قول الخَضِر في شأن الجدار واليتيمين : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما } [ الكهف : 82 ] وقال في خرق السفينة { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] ثم قال بعد ذلك : وما فعلته عن أمري ، وتأمل قوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } [ البقرة : 187 ] وقوله : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } [ المائدة : 3 ] وقوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] ، ثم قال : { وأحل لكم ما رواء ذلكم } [ النساء : 24 ] .

[ مطلق النعمة على المؤمن والكافر ، والنعمة المطلقة للمؤمن فقط ]

وفي تخصيصه لأهل «الصراط المستقيم » بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم . وأما مطلق النعمة : فعلى المؤمن والكافر . فكل الخلق في نعمة .

وهذا فصل النزاع في مسألة : هل لله على الكافر من نعمة أم لا ؟ فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان . ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر ، كما قال تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } [ إبراهيم : 34 ] .

و«النعمة » من جنس الإحسان - بل هي الإحسان - والرب تعالى إحسانه على البَر والفاجر ، والمؤمن والكافر . وأما «الإحسان المطلق » : فللذين اتقوا والذين هم محسنون .

الوجه الثاني : أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] فأضيف إليه ما هو منفرد به . وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومَجْرى للنعمة .

وأما «الغضب على أعدائه » : فلا يختص به تعالى ، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه . فكان في لفظة «المغضوب عليهم » بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام ، وأن النعمة المطلقة منه وحده ، هو المنفرد بها - ما ليس في لفظة «المنعم عليهم » .

الوجه الثالث : أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه ، وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة ، من إكرام المنعَم عليه والإشادة بذكره ، ورفع قدره ، ما ليس في حذفه .

فإذا رأيت مَنْ قد أكرمه مَلِكٌ وشرَّفه ، ورفع قدرَه ، فقلت : هذا الذي أكرمه السلطان ، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه ، كان أبلغَ في الثناء والتعظيم من قولك : هذا الذي أُكرِم وخُلِع عليه وشُرِّف وأُعطِيَ .

وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره . فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية ، التي هي العلم النافع والعمل الصالح . وهي الهدى ودين الحق . ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء . فهذا تمام النعمة . ولفظ { أنعمت عليهم } يتضمن الأمرين .

وذكر غضبه على { المغضوب عليهم } يتضمن أيضا أمرين : الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان ، والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه ، فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال ، فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم ، وذكر { الضالين } مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم ، فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله ، وغضب الله عليه .

فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام ، واقتضاه أكمل اقتضاء : في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة ، مع ذكر الفاعل في أهل السعادة ، وحذفه في أهل الغضب . وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال .

[ تلازم الهداية والنعمة ، وتلازم الغضب والضلال ]

وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة ، والغضب والضلال . فذكر «المغضوب عليهم » و«الضالين » في مقابلة المهتدين المنعم عليهم . وهذا كثير في القرآن ، يقرن بين الضلال والشقاء ، وبين الهدى والفلاح . فالثاني كقوله : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [ البقرة : 5 ] وقوله : { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [ الأنعام : 72 ] والأول كقوله تعالى : { إن المجرمين في ضلال وسعر } [ القمر : 47 ] ، وقوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } [ البقرة : 7 ] وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } [ طه : 123 ] فهذا الهدى والسعادة . ثم قال : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 123 . 126 ] فذكر الضلال والشقاء .

فالهدى والسعادة متلازمان . والضلال والشقاء متلازمان .

فصل [ الطريق الموصل إلى الله طريق واحد ]

وذكر { الصراط المستقيم } مفردا معرفا تعريفين : تعريفا باللام ، وتعريفا بالإضافة . وذلك يفيد تعيُّنه واختصاصه ، وأنه صراط واحد .

وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها ، كقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] فوحد لفظ «الصراط » و «سبيله » . وجمع «السبل » المخالفة له .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ، وقال : «هذا سبيل الله » ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ، وقال : «هذه سُبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه » ، ثم قرأ قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ الأنعام : 153 ] .

وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد - وهو ما بعث به رسله ، وأنزل به كتبه - لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق . ولو أتى الناس من كل طريق ، واستفتحوا من كل باب ، فالطرق عليهم مسدودة ، والأبواب عليهم مغلقة ، إلا من هذا الطريق الواحد . فإنه متصل بالله ، موصل إلى الله .

[ في معنى قوله : صراط عليّ مستقيم ]

قال الله تعالى : { هذا صراط علي مستقيم } [ الحجر : 41 ] قال الحسن : «معناه صراط إليّ مستقيم » .

وهذا يحتمل أمرين :

( القول الأول ) أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض ، فقامت أداة «على » مقام «إلى » .

والثاني : أنه أراد التفسير على المعنى . وهو الأشبه بطريق السلف . أي «صراط موصل إليَّ » .

وقال مجاهد : الحق يرجع إلى الله ، وعليه طريقه ، لا يُعَرِّجُ على شيء . وهذا مثل قول الحسن وأبين منه . وهو من أصح ما قيل في الآية .

وقيل : «عليّ » فيه للوجوب ، أي : عليّ بيانه وتعريفه والدلالة عليه . والقولان نظير القولين في آية النحل . وهي : { وعلى الله قصد السبيل } [ النحل : 9 ] .

والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر : أن السبيل القاصد - وهو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ، ويوصل إليه . قال طُفَيل الغَنَوي :

مضوا سلفا ، قصد السبيل عليهم *** وصَرْفُ المنايا بالرجال تَشَقْلَب

أي ممرنا عليهم ، وإليهم وصولنا . وقال الآخر :

فهن المنايا : أيُّ واد سلكته *** عليها طريقي ، أو عليّ طريقها

فإن قيل : لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة «إلى » التي هي للانتهاء ، لا أداة «على » التي هي للوجوب . ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال : { إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } [ الغاشية : 25 . 26 ] وقال : { إلينا مرجعهم } [ لقمان : 23 ] وقال : { ثم إلى ربهم مرجعهم } [ الأنعام : 108 ] وقال : { إن علينا جمعه وقرآنه } [ القيامة : 17 ] ، وقال : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] ونظائر ذلك .

قيل : في أداة «على » سر لطيف . وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى - وهو حق - كما قال في حق المؤمنين : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] ، والله عز وجل هو «الحق » ، وصراطه حق ، ودينه حق فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى . فكان في أداة «على » على هذا المعنى ما ليس في أداة «إلى » فتأمله ، فإنه سر بديع .

فإن قلت : فما الفائدة في ذكر «على » في ذلك أيضا ؟ وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق ، وعلى الهدى ؟

قلت : لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى ، مع ثباته عليه ، واستقامته إليه . فكان في الإتيان بأداة «على » ما يدل على علوه وثبوته واستقامته .

وهذا بخلاف الضلال والريب . فإنه يؤتى فيه بأداة «في » الدالة على انغماس صاحبه ، وانقماعه وتدسسه فيه ، كقوله تعالى : { فهم في ريبهم يترددون } [ التوبة : 45 ] ، وقوله : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات } [ الأنعام : 39 ] وقوله : { فذرهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] ، وقوله : { وإنهم لفي شك منه مريب } [ فصلت : 45 ] .

وتأمل قوله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] ، فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سُفلاً ، هاوية بسالكها في أسفل سافلين .

( القول الثالث ) وفي قوله تعالى : { قال هذا صراط علي مستقيم } [ الحجر : 41 ] قول ثالث : وهو قول الكسائي : إنه على التهديد والوعيد ، نظير قوله : { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] كما يقال : «طريقك عليّ » ، و«ممرك عليّ » . لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك ، ولا معجز . والسياق يأبى هذا ، ولا يناسبه لمن تأمله . فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال : { لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين } [ الحجر : 39 . 40 ] فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ، ولا طريق لي عليهم . فقرر الله - عز وجل - ذلك أتم التقرير . وأخبر أن «الإخلاص » صراط عليه مستقيم . فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط ؛ لأنه صراط علي . ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ، ولا الحَوْم حول ساحته ، فإنه محروس محفوظ بالله ، فلا يصل عدو الله إلى أهله .

فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ، ولينظر إلى هذا المعنى ، ويوازن بينه وبين القولين الآخرين ، أيهما أليق بالآيتين ، وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف .

وأما تشبيه الكسائي له بقوله : { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة ، فتأمله ! ! ولا يقال في التهديد : «هذا طريق مستقيم علي » ، لمن لا يسلكه ، وليست سبيل المهدد مستقيمة . فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم . وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله . فلا يستقيم هذا القول البتة .

وأما من فسره بالوجوب ، أي : «عليّ بيان استقامته والدلالة عليه » . فالمعنى صحيح . لكن في كونه هو المراد بالآية نظر ؛ لأنه حذف في غير موضع الدلالة . ولم يؤلف الحذف المذكور ، ليكون مدلولا عليه إذا حذف . بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة . فإنه حذف مألوف معروف . حتى إنه لا يذكر البتة . فإذا قلت : «له درهم على » . كان الحذف معروفا مألوفا . فلو أردت : «علي نقده » ، أو «عليّ وزنه وحفظه » ، ونحو ذلك ، وحذفت لم يَسُغ . وهو نظير : «علي بيانه » . المقدر في الآية ، مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق . وأجلُّ المعنيين وأكبرهما .

وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه يقول : وهما نظير قوله تعالى : { إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى } [ الليل : 12 . 13 ] قال : فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى .

قلت : وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة { والليل إذا يغشى } إلا معنى الوجوب ، أي علينا بيان الهدى من الضلال . ومنهم من لم يذكر في سورة «النحل » إلا هذا المعنى كالبغوي . وذكر في «الحجْر » الأقوال الثلاثة . وذكر الواحدي في «بسيطه » المعنيين في سورة «النحل » ، واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث .

فصل [ في معنى قوله : إن ربي على صراط مستقيم ]

و{ الصراط المستقيم } : هو «صراط الله » . وهو يخبر أن الصراط «عليه » سبحانه ، كما ذكرنا ، ويخبر أنه سبحانه «على الصراط المستقيم » . وهذا في موضعين من القرآن : في هود ، والنحل .

قال في هود : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } [ هود : 56 ] ، وقال في النحل : { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } [ النحل : 76 ] .

فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع . ولا تنطق ولا تعقل ، وهي كَلٌّ على عابدها ، يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ، ويضعه ويقيمه ويخدمه . فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد ؟ وهو قادر متكلم ، غني ، وهو على صراط مستقيم ، في قوله وفعله .

فقوله سبحانه وتعالى صِدْقٌ ورشد ونصح وهدى ، وفِعلُه حكمةٌ وعدل ورحمة ومصلحة .

هذا أصح الأقوال في الآية . وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره . ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ، ثم حكاها بعده ، كما فعل البغوي . فإنه جزم به ، وجعله تفسير الآية . ثم قال : وقال الكلبي : يدلكم على صراط مستقيم .

قلت : ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم . فإن دلالته بفعله وقوله ، وهو على «الصراط المستقيم » في أفعاله وأقواله ، فلا يناقض قول من قال : إنه سبحانه على الصراط المستقيم .

قال : وقيل : «هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل . وهو على صراط مستقيم » .

قلت : وهذا حق لا يناقض القول الأول . فالله على الصراط المستقيم ، ورسوله عليه ، فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه .

وعلى هذا ، يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم ، وهو الصنم الذي هو أبكم ، لا يقدر على هدى ولا خير . ولإمام الأبرار ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر بالعدل . وهو على صراط مستقيم .

وعلى القول الأول : يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار . والقولان متلازمان . فبعضهم ذكر هذا ، وبعضهم ذكر هذا . وكلاهما مراد في الآية . قال : وقيل : كلاهما للمؤمن والكافر . يرويه عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال عطاء : الأبكم أُبيُّ بن خَلف ، ومن يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم .

قلت : والآية تحتمله - ولا يناقض القولين قبله - فإن الله على صراط مستقيم ، ورسوله وأتباع رسوله . وضد ذلك : معبود الكفار وهاديهم ، والكافر التابع والمتبوع والمعبود . فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع ، وبعضهم ذكر الهادي ، وبعضهم ذكر المستجيب القابل ، وتكون الآية متناولة لذلك كله ، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن .

وأما آية هود : فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا . وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم . وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم . فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [ الأنعام : 115 ] وأفعاله كلها مصالح وحكم ، ورحمة وعدل وخير . فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة ، لخروج الشر عن «الصراط المستقيم » . فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم ، أو أقواله ؟ وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله .

وفي دعائه عليه الصلاة والسلام : «لبيك وسعديك ، والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك » ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله : «والشر لا يُتقرب به إليك » ، أو «لا يصعد إليك » . فإن المعنى أجل من ذلك ، وأكبر وأعظم قدرا . فإن من أسماؤه كلها حسنى ، وأوصافه كلها كمال ، وأفعاله كلها حكم ، وأقواله كلها صدق وعدل : يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله .

فطابق بين هذا المعنى وبين قوله : { إن ربي على صراط مستقيم } وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله : { إني توكلت على الله ربي وربكم } [ هود : 56 ] ، أي هو ربي ، فلا يُسلمني ولا يضيعني . وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني . فإن نواصيكم بيده ، لا تفعلون شيئا بدون مشيئته . فإن ناصية كل دابة بيده ، لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه . فهو المتصرف فيها . ومع هذا ، فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ، ونفوذ قضائه وقدره فيها : { على صراط مستقيم } . لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة .

ولو سلطكم عليّ فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه ؛ لأنه تسليط من هو { على صراط مستقيم } . لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة .

فهكذا تكون المعرفة بالله ، لا معرفة القدرية المجوسية ، والقدرية الجبرية ، نفاة الحكم والمصالح والتعليل . والله الموفق سبحانه .

فصل [ قلة الرفيق في طريق الحق ]

ولما كان طالب «الصراط المستقيم » طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه ، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة - والنفوس مجبولة على وحشة التفرد ، وعلى الأنس بالرفيق - نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق ، وأنهم هم { الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } [ النساء : 69 ] فأضاف «الصراط » إلى الرفيق السالكين له . وهم { الذين أنعم الله عليهم } ، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه . وليعلم أن رفيقه في هذا «الصراط » : هم { الذين أنعم الله عليهم } . فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له . فإنهم هم الأقلون قدرا ، وإن كانوا الأكثرين عددا ، كما قال بعض السلف : «عليك بطريق الحق ، ولا تستوحش لقلة السالكين . وإياك وطريق الباطل ، ولا تغتر بكثرة الهالكين » .

وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق ، واحرص على اللحاق بهم . وغض الطرف عمن سواهم . فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا . وإذا صاحوا بك في طريق سيرك ، فلا تلتفت إليهم . فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك .

وقد ضربت لذلك مثلين . فليكونا منك على بال :

المثل الأول : رجل خرج من بيته إلى الصلاة - لا يريد غيرها - فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس ، فألقى عليه كلاما يؤذيه . فوقف ورد عليه ، وتماسكا . فربما كان شيطان الإنس أقوى منه ، فقهره ، ومنعه عن الوصول إلى المسجد ، حتى فاتته الصلاة . وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول ، وكمال إدراك الجماعة . فإن التفت إليه أطمعه في نفسه . وربما فترت عزيمته . فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجَمْز بقدر التفاته أو أكثر . فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده ، وخاف فوت الصلاة أو الوقت : لم يبلغ عدوه منه ما شاء .

المثل الثاني : الظبي أشد سعيا من الكلب ، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه .

والقصد : أن في ذكر هذا الرفيق : ما يزيل وحشة التفرد ، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم .

وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت : «اللهم اهدني فيمن هديت » ، أي : أدخلني في هذه الزمرة ، واجعلني رفيقا لهم ومعهم .

والفائدة الثانية : أنه توسل إلى الله بنعمه ، وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية ( أي قد أنعمت بالهداية على من هديت ، وكان ذلك نعمة منك . فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة ، واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم ) . فهو توسل إلى الله بإحسانه .

والفائدة الثالثة : كما يقول السائل للكريم : تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم . وعلمني في جملة من علمته . وأحسن إليّ في جملة من شملته بإحسانك .

فصل [ كيفية الدعاء المستجاب وصيغة سؤال الله ]

ولما كان سؤال الله الهداية إلى «الصراط المستقيم » أجل المطالب ، ونَيْلُه أشرفَ المواهب : علَّم الله عباده كيفية سؤاله ، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه ، وتمجيده . ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم . فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم . توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته ، وتوسل إليه بعبوديته .

وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء . ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في «صحيحه » . والإمام أحمد والترمذي .

أحدهما : حديث عبد الله بن بُريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو ، ويقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت ، الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد . فقال صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم ، الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سُئل به أعطى » قال الترمذي : حديث صحيح .

فهذا توسل إلى الله بتوحيده ، وشهادة الداعي له بالواحدانية . وثبوت صفاته المدلول عليها باسم «الصمد » وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : «العالم الذي كمل علمه ، القادر الذي كملت قدرته » ، وفي رواية عنه : «هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد » ، وقال أبو وائل : «هو السيد الذي انتهى سؤدده » ، وقال سعيد بن جبير : «هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله » .

وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله : «ولم يكن له كفوا أحد » وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة . والتوسل بالإيمان بذلك ، والشهادة به هو الاسم الأعظم .

[ التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته ]

والثاني : حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنان ، بديع السموات والأرض . ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم . فقال صلى الله عليه وسلم : «لقد سأل الله باسمه الأعظم » ، فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته .

وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين ، وهما : «التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده » ، و«التوسل إليه بعبوديته وتوحيده » ، ثم جاء سؤال أهم المطالب ، وأنجح الرغائب - وهو الهداية - بعد الوسيلتين . فالداعي به حقيق بالإجابة .

ونظير هذا : دعاء النبي صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل - رواه البخاري في «صحيحه » من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : «اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن . ولك الحمد ، أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، والساعة حق ، ومحمد حق . اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت . وبك خاصمت ، وإليك حاكمت . فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت » فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له . ثم سأله المغفرة .

فصل ( في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم )

التوحيد نوعان : نوع في العلم والاعتقاد . ونوع في الإرادة والقصد .

ويسمى الأول : التوحيد العلمي . والثاني : التوحيد القصدي الإرادي . لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة . والثاني بالقصد والإرادة .

وهذا الثاني أيضا نوعان : توحيد في الربوبية ، وتوحيد في الإلهية . فهذه ثلاثة أنواع .

فأما «توحيد العلم » : فمداره إلى إثبات صفات الكمال ، وعلى نفي التشبيه والمثال . والتنزيه عن العيوب والنقائص . وقد دل على هذا شيئان : مجمل ، ومفصل .

أما «المجمل » : فإثبات الحمد له سبحانه . وأما «المفصل » : فذكر صفة : الإلهية ، والربوبية ، والرحمة ، والملك . وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات .

[ دلالة «الحمد لله » على توحيد الله ]

فأما تضمن الحمد لذلك : فإن «الحمد » يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ، ونعوت جلاله ، مع محبته والرضا عنه ، والخضوع له . فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود ، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له .

وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل ، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها . ولهذا كان الحمد لله حمدا لا يحصيه سواه ، لكمال صفاته وكثرتها . ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه لما له من صفات الكمال ، ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه . ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار ، وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها . فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ، ولا تتكلم ولا تهدي ، ولا تنفع ولا تضر . وهذه صفة إله الجهمية ، التي عاب بها الأصنام ، نسبوها إليه ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا . فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } [ مريم : 42 ] فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر : وأنت إلهك بهذه المثابة ، فكيف تنكر علي ؟ لكن كان - مع شركه - أعرف بالله من الجهمية . وكذلك كفار قريش كانوا - مع شركهم - مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه . وقال تعالى : «واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا

جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } [ الأعراف : 148 ] فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم ، واستدلال على بطلان الإلهية بذلك .

فإن قيل : فالله تعالى لا يكلم عباده . قيل : بلى ، قد كلمهم . فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب ، منه إليه بلا واسطة - كموسى عليه السلام ، ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي . وهم الأنبياء . وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله . فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه . وقالوا لهم : هذا كلام الله الذي تكلم به ، وأمرنا بتبليغه إليكم .

ومن هاهنا قال السلف : من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم ؛ لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده . فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة . وقال تعالى في سورة طه عن السامري : { فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } [ طه : 88 . 89 ] ورجع القول : هو التكلم والتكليم . وقال تعالى : { ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } [ النحل : 76 ] فجعل نفي صفة الكلام موجبا لبطلان الإلهية . وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية : أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ، ولا مدبرا ، ولا ربا ، بل هو مذموم ، معيب ناقص ، ليس له الحمد ، لا في الأولى ، ولا في الآخرة . وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، التي لأجلها استحق الحمد . ولهذا سمى السلف كتبهم التي صنفوها في السنة ، وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه ، وكلامه وتكليمه : «توحيدا » ؛ لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع ، وجحد له .

وإنما توحيده سبحانه : «إثبات صفات كماله ، وتنزيهه عن التشبيه والنقائص » .

فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها توحيدا . وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا . فسموا الباطل باسم الحق ، ترغيبا فيه ، وزخرفا ينفقونه به . وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه . والناس أكثرهم مع ظاهر السكة ، ليس لهم نقد النقاد : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } [ الكهف : 17 ] ، والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت البتة ، إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص ، تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية ، وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ، ولا مدح ولا كمال .

وكذلك حمده لنفسه سبحانه ( على عدم اتخاذ الولد ) المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه ، وتعبيد كل شيء له . فاتخاذ الولد ينافي ذلك ، كما قال تعالى : { قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض } [ يونس : 68 ] .

وحمد نفسه ( بأنه لا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) ، لكمال علمه وإحاطته .

وحمد نفسه ( بأنه لا يظلم أحدا ) ، لكمال عدله وإحسانه .

وحمد نفسه ( بأنه لا تدركه الأبصار ) ، لكمال عظمته ، يُرى ولا يدرك ، كما أنه يعلم ولا يحاط به علما . فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال ؛ لأن العدم لا يرى . فليس في كون الشيء لا يرى كمال البتة . وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا ، لعظمته في نفسه ، وتعاليه عن إدراك المخلوق له .

وكذلك حمد نفسه ( بعدم الغفلة والنسيان ) ، لكمال علمه .

فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه فلمضادته لثبوت ضده ، ولتضمنه كمال ثبوت ضده .

فعلمت أن «حقيقة الحمد » تابعة لثبوت أوصاف الكمال ، وأن نفيها نفي لحمده ، ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده . فهذا درلة الحمد على توحيد الأسماء والصفات .

فصل [ دلالة الأسماء الخمسة على توحيد الله ]

وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها – وهي : ( الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والملك ) فمبني على أصلين :

أحدهما : ( أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله ) :

فهي مشتقة من الصفات . فهي أسماء ، وهي أوصاف . وبذلك كانت حسنى ، إذ لو كانت ألفاظا لا معاني فيها لم تكن حسنى ، ولا كانت دالة على مدح ولا كمال . ولساغ وقوع أسماء الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان ، وبالعكس . فيقال : اللهم إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك أنت المنتقم . واللهم أعطني ، فإنك أنت الضار المانع ، ونحو ذلك .

ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها :

قال تعالى : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } [ الأعراف : 180 ] ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها . لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم ، كقوله تعالى : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات : 58 ] ، فعلم أن «القويَّ » من أسمائه ، ومعناه الموصوف بالقوة . وكذلك قوله : { فلله العزة جميعا } [ فاطر : 10 ] فالعزيز من له العزة ، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا . وكذلك قوله : { أنزله بعلمه } [ النساء : 166 ] ، { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود :14 ] ، { ولا يحيطون بشيء من علمه } [ البقرة : 255 ] .

وفي «الصحيح » عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » ، فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه «البصير » .

وفي «صحيح البخاري » عن عائشة رضي الله عنها : «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات » .

وفي «الصحيح » حديث الاستخارة : «اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك » فهو قادر بقدرة .

وقال تعالى لموسى – عليه السلام – { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } [ الأعراف : 144 ] فهو متكلم بكلام .

وهو «العظيم » الذي له العظمة ، كما في «الصحيح » عنه صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي » .

وهو «الحكيم » الذي له الحكم { فالحكم لله العلي الكبير } [ غافر : 12 ] وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله ، أو سمعه ، أو بصره ، أو قوته ، أو عزته ، أو عظمته : انعقدت يمينه ، وكانت مكفرة ؛ لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه .

وأيضا : لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها . فلا يقال : يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد . فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها . فإذا انتفى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها .

وأيضا : فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة ، التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به . فكانت كلها سواء ، ولم يكن فرق بين مدلولاتها . وهذا مكابرة صريحة ، وبُهتٌ بيِّن . فإن من جعل معنى اسم «القدير » هو معنى اسم «السميع ، البصير » ، ومعنى اسم «التواب » هو معنى اسم «المنتقم » ، ومعنى اسم «المعطي » هو معنى اسم «المانع » فقد كابر العقل واللغة والفطرة ، فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها .

[ أنواع الإلحاد في أسماء الله ]

والإلحاد فيها أنواع - هذا أحدها .

الثاني : تسمية الأوثان بها ، كما يسمونها آلهة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه ، فسموا بها أوثانهم ، فزادوا ونقصوا . فاشتقوا اللات من «الله » ، والعزى من «العزيز » ومناة من «المنان » .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 180 ] [ قال : ] «يكذبون عليه » ، وهذا تفسير بالمعنى .

وحقيقة الإلحاد فيها : العدول بها عن الصواب فيها ، وإدخال ما ليس من معانيها فيها ، وإخراج حقائق معانيها عنها . هذا حقيقة الإلحاد . ومن فعل ذلك فقد كذب على الله . ففسر ابن عباس رضي الله عنهما الإلحاد بالكذب ، أو هو غاية الملحد في أسمائه تعالى ، فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها ، وخرج بها عن حقائقها ، أو بعضها ، فقد عدل بها عن الصواب والحق ، وهو حقيقة الإلحاد .

فالإلحاد : إما بجحدها وإنكارها ، وإما بجحد معانيها وتعطيلها ، وإما بتحريفها عن الصواب ، وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة ، وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات ، كإلحاد أهل الاتحاد . فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون ، محمودها ومذمومها ، حتى قال زعيمهم : «وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا ، وشرعا وعرفا ، وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا » تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا .

فصل [ دلالة أسماء الله على ذاته ولوازم صفاته سبحانه ]

الأصل الثاني : أن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة ، فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم ؛ فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن ، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة . ويدل على الصفة الأخرى باللزوم .

فإن اسم «السميع » يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة . وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن ، ويدل على اسم «الحي » وصفة الحياة بالالتزام ، وكذلك سائر أسمائه وصفاته .

ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه . ومن هاهنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام . فإن من علم أن الفعل الاختياري لازم للحياة ، وأن السمع والبصر لازم للحياة الكاملة ، وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة - أثبت من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما ينكره من لم يعرف لزوم ذلك ، ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها ، وكذلك سائر صفاته .

فإن اسم «العظيم » له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها .

وكذلك اسم «العلي » واسم «الحكيم » وسائر أسمائه ، فإن من لوازم اسم «العلي » : العلو المطلق ، بكل اعتبار . فله العلو المطلق من جميع الوجوه : علو القدر ، وعلو القهر ، وعلو الذات . فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه «العلي » .

وكذلك اسمه «الظاهر » من لوازمه : أن لا يكون فوقه شيء ، كما في «الصحيح » عن النبي صلى الله عليه وسلم «وأنت الظاهر ، فليس فوقك شيء » ، بل هو سبحانه فوق كل شيء .

فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه «الظاهر » ولا يصح أن يكون «الظاهر » هو من له فوقية القدر فقط ، كما يقال : الذهب فوق الفضة ، والجوهر فوق الزجاج ؛ لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور ، بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها . ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط ، وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة ، لمقابلة الاسم : ب«الباطن » وهو الذي ليس دونه شيء ، كما قابل «الأول » الذي ليس قبله شيء ، ب «الآخر » الذي ليس بعده شيء .

وكذلك اسم «الحكيم » من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ، ووضعه الأشياء في مواضعها ، وإيقاعها على أحسن الوجوه . فإنكار ذلك إنكار لهذا الاسم ولوازمه . وكذلك سائر أسمائه الحسنى .

فصل [ اسم «الله » مستلزم لجميع الأسماء الحسنى والصفات العليا ]

إذا تقرر هذان الأصلان . فاسم «الله » دال على جميع الأسماء الحسنى . والصفات العليا بالدلالات الثلاث . فإنه دال على «إلهيته » المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له ، مع نفي أضدادها عنه .

وصفات الإلهية : هي صفات الكمال ، المنزهة عن التشبيه والمثال ، وعن العيوب والنقائص . ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم ، كقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } [ الأعراف : 180 ] ، ويقال : «الرحمن ، والرحيم ، والقدوس ، والسلام ، والعزيز ، والحكيم » من أسماء الله ، ولا يقال : «الله » من أسماء «الرحمن » ولا من أسماء «العزيز » ونحو ذلك .

فعلم أن اسمه «الله » مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى ، دال عليها بالإجمال ، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية ، التي اشتق منها اسم «الله » ، واسم «الله » دال على كونه مألوها معبودا ، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا ، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب . وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته ، المتضمنين لكمال الملك والحمد . وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله ؛ إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ، ولا سميع ، ولا بصير ، ولا قادر ، ولا متكلم ، ولا فعال لما يريد ، ولا حكيم في أفعاله .

وصفات الجلال والجمال : أخص باسم «الله » .

وصفات الفعل والقدرة ، والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ، ونفوذ المشيئة وكمال القوة ، وتدبير أمر الخليقة أخصُّ باسم «الرب » .

وصفات الإحسان ، والجود والبر ، والحنان والمنة ، والرأفة واللطف : أخصُّ باسم «الرحمن » وكرر إيذانا بثبوت الوصف ، وحصول أثره ، وتعلقه بمتعلقاته .

ف«الرحمن » : الذي الرحمة وصْفُه . و«الرحيم » : الراحم لعباده . ولهذا يقول تعالى : { وكان بالمؤمنين رحيما } [ الأحزاب : 43 ] ، { إنه بهم رءوف رحيم } [ التوبة : 117 ] ، ولم يجئ «رحمان بعباده » ، ولا «رحمان بالمؤمنين » ، مع ما في اسم «الرحمن » الذي هو على وزن «فعلان » من سعة هذا الوصف ، وثبوت جميع معناه الموصوف به .

ألا ترى أنهم يقولون : «غضبان » ، للممتلئ غضبا ، و«ندمان » و«حيران » و«سكران » و«لهفان » لمن ملئ بذلك ، فبناء «فعلان » للسعة والشمول .

[ الله تعالى قرن استواؤه على العرش بالرحمة ]

ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا ، كقوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ، { ثم استوى على العرش الرحمن } [ الفرقان : 59 ] ، فاستوى على عرشه باسم «الرحمن » ؛ لأن العرش محيط بالمخلوقات ، قد وسعها . والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم ، كما قال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] ، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات . فلذلك وسعت رحمته كل شيء .

وفي «الصحيح » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب ، فهو عنده موضوع على العرش : إن رحمتي تغلب غضبي » ، وفي لفظ : «فهو عنده على العرش » .

فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ، ووضعه عنده على العرش ، وطابق بين ذلك وبين قوله : { الرحمن على العرش استوى } ، وقوله : { ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ] ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى ، إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم .

وصفات : العدل ، والقبض ، والبسط ، والخفض ، والرفع ، والعطاء ، والمنع ، والإعزاز ، والإذلال ، والقهر ، والحكم ، ونحوها : أخص باسم «الملك » ، وخصه بيوم الدين ، وهو الجزاء بالعدل ، لتفرده بالحكم فيه وحده ، ولأنه اليوم الحق ، وما قبله كساعة . ولأنه الغاية ، وأيام الدنيا مراحل إليه .

فصل [ الخلق والأمر نشأ من الأسماء الثلاثة ]

وتأمل ارتباط «الخلق والأمر » بهذه الأسماء الثلاثة . وهي ( الله ، والرب ، والرحمن ) كيف نشأ عنها الخلق ، والأمر ، والثواب ، والعقاب ؟ وكيف جمعت الخلق وفرقتهم ؟ فلها الجمع ، ولها الفرق .

فاسم «الرب » له الجمع الجامع لجميع المخلوقات . فهو رب كل شيء وخالقه ، والقادر عليه ، لا يخرج شيء عن ربوبيته . وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته ، وتحت قهره . فاجتمعوا بصفة الربوبية ، وافترقوا بصفة الإلهية ، فألهه وحده السعداء ، وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل ، والرجاء والخوف ، والحب والإنابة ، والإخبات والخشية ، والتذلل والخضوع إلا له .

وهنا افترق الناس ، وصاروا فريقين : فريقا مشركين في السعير ، وفريقا موحدين في الجنة .

فالإلهية هي التي فرقتهم ، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم .

فالدين والشرع ، والأمر والنهي – مظهره ، وقيامه - : من صفة الإلهية .

والخلق والإيجاد والتدبير والفعل : من صفة الربوبية .

والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار : من صفة الملك . وهو ملك يوم الدين .

فأمرهم بإلهيته ، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته . وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله . وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى .

وأما «الرحمة » : فهي التعلق ، والسبب الذي بين الله وبين عباده . ف«التأليه » منهم له ، و«الربوبية » منه لهم . و«الرحمة » سبب واصل بينه وبين عباده ، بها أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبها هداهم ، وبها أسكنهم دار ثوابه ، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم ، فبينهم وبينه سبب العبودية ، وبينه وبينهم سبب الرحمة .

واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته . ف { الرحمن على العرش استوى } مطابق لقوله { رب العالمين * الرحمن الرحيم } فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها . فوسع كل شيء برحمته وربوبيته ، مع أن في كونه ربا للعالمين ما يدل على علوه على خلقه ، وكونه فوق كل شيء ، كما يأتي بيانه إن شاء الله .

فصل [ لله تعالى جميع أقسام الكمال والحمد ]

في ذكر هذه الأسماء بعد «الحمد » ، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها : ما يدل على أنه محمود في إلهيته ، محمود في ربوبيته ، محمود في رحمانيته ، محمود في ملكه ، وأنه إله محمود ، ورب محمود ، ورحمان محمود ، وملك محمود .

فله بذلك جميع أقسام الكمال : كمال من هذا الاسم بمفرده ، وكمال من الآخر بمفرده ، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر .

مثال ذلك : قوله تعالى : { والله غني حميد } ، { والله عليم حكيم } ، { والله قدير } ، { والله غفور رحيم } ف«الغنى » : صفة كمال . و«الحمد » : صفة كمال ، واقتران غناه بحمده كمال أيضا .

وعلمه كمال ، وحكمته كمال ، واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا .

وقدرته كمال ومغفرته كمال ، واقتران القدرة بالمغفرة كمال . وكذلك العفو بعد القدرة { فإن الله كان عفوا قديرا } [ النساء : 149 ] ، واقتران العلم بالحلم { والله عليم حليم } [ النساء : 12 ] .

وحملة العرش أربعة : اثنان يقولان : «سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك » ، واثنان يقولان : «سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك » ، فما كل من قدر عفا ، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة ، ولا كل من علم يكون حليما ، ولا كل حليم عالم . فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم . ومن عفو إلى قدرة ، ومن ملك إلى حمد ، ومن عزة إلى رحمة { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } [ الشعراء : 9 ] ، ومن هاهنا كان قول المسيح عليه السلام : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة : 117 ] أحسن من أن يقول : وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم . أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة . ( وهي كمال القدرة ) . وعن حكمة ، ( وهي كمال العلم ) . فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني لا يكون قادرا حكيما عليما . بل لا يكون ذلك إلا عجزا . فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة ، وعلم تام ، وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها . فهذا أحسن من ذكر «الغفور الرحيم » في هذا الموضع ، الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها ، وقد فاتت . فإنه لو قال : وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم . كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها - ما ينزه عنه منصب المسيح عليه السلام ، لاسيما والموقف موقف عظمة وجلال ، وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا ، واتخذه إلها من دونه . فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة . وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 35 . 36 ] ، ولم يقل : فإنك عزيز حكيم ؛ لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء ، أي إن تغفر لهم وترحمهم ، بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد ، ومن المعصية إلى الطاعة ، كما في الحديث : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » .

وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به ، وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه ، واقترن به ، من فعله وأمره . والله الموفق للصواب .

فصل : ( في مراتب الهداية الخاصة والعامة . وهي عشر مراتب )

المرتبة الأولى : ( مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة ، بل منه إليه ) .

وهذه أعلى مراتبها ، كما كلم موسى بن عمران ، صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه . قال الله تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } [ النساء : 164 ] ، فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده ، ثم خص موسى - من بينهم بالإخبار بأنه كلمه . وهذا يدل على أن «التكليم » الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية . ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر «كلم » هو «التكليم » رفعا لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام ، أو إشارة ، أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم . فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز . قال الفراء : العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ؛ ولكن لا تحققه بالمصدر ، فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام ، كالإرادة ، يقال : فلان أراد إرادة ، يريدون حقيقة الإرادة . ويقال : أراد الجدار ، ولا يقال : إرادة لأنه مجاز غير حقيقة . هذا كلامه .

وقال تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] ، وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون . وفي هذا «التكليم الثاني » سأل النظر ، لا في الأول ، وفيه أعطى الألواح ، وكان عن مواعدة من الله له . و«التكليم الأول » لم يكن عن مواعدة . وفيه قال الله له : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } [ الأعراف : 144 ] ، أي : بتكليمي لك بإجماع السلف .

وقد أخبر سبحانه في كتابه : أنه ناداه وناجاه . فالنداء من بُعد ، والنجاء من قرب . تقول العرب : إذا كبرت الحلقة فهو نداء ، أو نجاء ، وقال له أبوه آدم – عليه السلام - في محاجته : «أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك التوراة بيده ؟ » . وكذلك يقوله له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه . وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى – عليه السلام - في السماء السادسة - أو السابعة - على اختلاف الرواية . قال : «وذلك بتفضيله بكلام الله » .

ولو كان «التكليم » الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى . ولا كان يسمى «كليم الرحمن » ، وقال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى : 51 ] ، ففرق بين تكليم الوحي ، والتكليم بإرسال الرسول ، والتكليم من وراء حجاب .

فصل : ( المرتبة الثانية : مرتبة الوحي المختص بالأنبياء )

قال الله تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } [ النساء : 163 ] ، وقال : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } الآية [ الشورى : 51 ] ، فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم . وجعله في آية النساء قسيما للتكليم . وذلك باعتبارين ؛ فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة ، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة .

و«الوحي » في اللغة : هو الإعلام السريع الخفي ، ويقال في فعله : «وَحَى » ، و«أوحى » .

قال رؤبة :

وحى لها القرار فاستقرت *** . . .

وهو أقسام ، كما سنذكره .

فصل : ( المرتبة الثالثة : إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري )

فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه .

فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء ، لا تكون لغيرهم .

ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشرى رجلا ، يراه عيانا ويخاطبه . وقد يراه على صورته التي خلق عليها . وقد يدخل فيه الملك ، ويوحي إليه ما يوحيه ، ثم يَفْصِم عنه ، أي يقلع . والثلاثة حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم .

فصل : ( المرتبة الرابعة : مرتبة التحديث )

وهذه دون مرتبة الوحي الخاص ، وتكون دون مرتبة الصديقين ، كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنه كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب » .

وسمعت شيخ الإسلام - تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول : «جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا . وعلق وجودهم في هذه الأمة ب «إن » الشرطية ، مع أنها أفضل الأمم ، لاحتياج الأمم قبلنا إليهم ، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته صلى الله عليه وسلم ، فلم يحوج الله – سبحانه وتعالى - الأمة بعده إلى مُحدِّث ولا مُلْهَم ، ولا صاحب كشف ولا منام ، فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها .

و«المحدَّث » : هو الذي يحدَّث في سره وقلبه بالشيء ، فيكون كما يحدث به .

قال شيخنا : «والصديق أكمل من المحدَّث ؛ لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف . فإنه قد سَلَّّم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول صلى الله عليه وسلم . فاستغنى به عما منه .

قال : وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول صلى الله عليها وسلم . فإن وافقه قبله ، وإلا رده ، فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث .

[ الخلط بين التحديث الإلهي ووساوس النفس ]

قال : وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات «حدثني قلبي عن ربي » فصحيح أن قلبه حدثه ، ولكن عَمَّن ؟ عن شيطانه ، أو عن ربه ؟

فإذا قال : «حدثني قلبي عن ربي » كان مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به ، وذلك كذب .

قال : ومحدَّث الأمة لم يكن يقول ذلك ، ولا تفوه به يوما من الدهر ، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك ، بل كتب كاتبه يوما «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين ، عمر بن الخطاب » فقال : «لا . امْحُهْ ، واكتب : هذا ما رأى عمر بن الخطاب . فإن كان صوابًا فمن الله ، وإن كان خطأ فمن عمر ، والله ورسوله منه بريء » ، وقال في الكلالة : «أقول فيها برأيي . فإن يكن صوابا فمن الله . وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان » ، فهذا قول المحدَّث بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم . وأنت ترى الاتحادي والحلولي والإباحي الشطاح ، والسماعي : مجاهر بالقِحَة والفرية . يقول «حدثني قلبي عن ربي » .

فانظر إلى ما بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين . وأعط كل ذي حق حقه ، ولا تجعل الزغل والخالص شيئا واحدا .

فصل : ( المرتبة الخامسة : مرتبة الإفهام )

قال الله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } [ الأنبياء : 78 . 79 ] فذكر هذين النبيين الكريمين ، وأثنى عليهما بالعلم والحكم . وخص سليمان – عليه السلام- بالفهم في هذه الواقعة المعينة .

وقال على ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل : «هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ » - فقال : «لا ، والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة ، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه ، وما في هذه الصحيفة - وكان فيها العقل ( وهو الديات ) ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر » .

وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما : «والفهم الفهم فيما أُدلى إليك » .

فالفهم نعمة من الله على عبده ، ونور يقذفه الله في قلبه . يعرف به ، ويدرك مالا يدركه غيره ولا يعرفه ، فيفهم من النص مالا يفهمه غيره ، مع استوائهما في حفظه . وفهم أصل معناه .

فالفهم عن الله ورسوله صلى الله عليها وسلم عنوان الصديقية ، ومنشور الولاية النبوية ، وفيه تفاوتت مراتب العلماء ، حتى عُدَّ ألفٌ بواحد . فانظر إلى فهم ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد سأله عمر رضي الله عنه ، ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة { إذا جاء نصر الله والفتح } ، وما خص به ابن عباس من فهمه منها «أنها نَعْيُ الله سبحانه نبيه إلى نفسه ، وإعلامه بحضور أجله » ، وموافقة عمر رضي الله عنه له على ذلك ، وخفائه عن غيرهما من الصحابة - وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا - وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله ، لولا الفهم الخاص ؟

ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس ، فيحتاج مع النص إلى غيره . ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه ، وأما في حق صاحب الفهم : فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها .

فصل : ( المرتبة السادسة : مرتبة البيان العام )

وهو : تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه . بحيث يصير مشهودا للقلب ، كشهود العين للمرئيات .

وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه ، التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها . قال الله تعالى : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } [ التوبة : 115 ] ، فهذا الإضلال عقوبة منه لهم ، حين بين لهم ، فلم يقبلوا ما بينه لهم ، ولم يعملوا به . فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى ، وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان .

وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر ، وزالت عنك شكوك كثيرة ، وشبهات في هذا الباب . وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده . والقرآن يصرح بهذا في غير موضع ، كقوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] ، { وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم } [ النساء : 155 ] ، فالأول : كفر عناد . والثاني : كفر طبع ، وقوله : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأنعام : 110 ] ، فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه ، بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له .

فتأمل هذا الموضع حق التأمل . فإنه موضع عظيم .

وقال تعالى : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] ، فهذا هدى بعد البيان والدلالة . وهو شرط لا موجب . فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده لم يحصل به كمال الاهتداء . وهو هدى التوفيق والإلهام .

وهذا البيان نوعان : بيان بالآيات المسموعة المتلوة ، وبيان بالآيات المشهودة المرئية . وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله ، وصدق ما أخبرت به رسله عنه . ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكير في آياته المشهودة ويحضهم على التفكر في هذه وهذه . وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل . وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم ، وبعد ذلك يضل الله من يشاء . قال الله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم } [ إبراهيم : 4 ] ، فالرسل تبين ، والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته .

فصل : ( المرتبة السابعة : البيان الخاص )

وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة ، وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء ، وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية البتة .

قال تعالى في هذه المرتبة : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } [ النحل : 37 ] ، وقال : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] ، فالبيان الأول شرط ، وهذا موجب .

فصل : ( المرتبة الثامنة : مرتبة الإسماع )

قال الله تعالى : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } [ الأنفال : 23 ] ، وقد قال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير } [ فاطر : 19 . 23 ] .

وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ ؛ فإن ذلك حاصل لهم ، وبه قامت الحجة عليهم ؛ لكن ذاك إسماع الآذان ، وهذا إسماع القلوب .

فإن الكلام له لفظ ومعنى ، وله نسبة إلى الآذان والقلب وتعلق بهما . فسماع لفظه حظ الأذن ، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب . فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب ، وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله تعالى : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم } [ الأنبياء : 2 . 3 ] وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه ، أو تمكنه منها . وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه ، بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه : { ماذا قال آنفا ، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } [ محمد : 16 ] .

والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن ، ومرتبة الإفهام أعم ؛ فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه ، ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر . وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه ومتعلقاته وإشاراته .

ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب ، ويترتب على هذا السماع سماع القبول .

[ درجات السماع ]

فهو إذن ثلاث مراتب : سماع الأذن ، وسماع القلب ، وسماع القبول والإجابة .

فصل : ( المرتبة التاسعة : مرتبة الإلهام )

قال تعالى : { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 7 . 8 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن منذر الخزاعي رضي الله عنه لما أسلم : «قل : اللهم ألهمني رشدي ، وقني شر نفسي » .

وقد جعل صاحب «المنازل » : «الإلهام هو مقام المحدثين » . قال : «وهو فوق مقام الفراسة ؛ لأن الفراسة ربما وقعت نادرة ، واستصعبت على صاحبها وقتا ، أو استعصت عليه ، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد » .

قلت : التحديث أخص من الإلهام . فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان .

فأما التحديث : فالنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر » ، يعني من المحدثين . فالتحديث إلهام خاص . وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين ، كقوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } [ القصص : 7 ] وقوله : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة : 111 ] ، وإما من غير المكلفين ، كقوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون } [ النحل : 68 ] ، فهذا كله وحي إلهام .

وأما جعله فوق مقام الفراسة ، فقد احتج عليه بأن «الفراسة » ربما وقعت نادرة كما تقدم . والنادر لا حكم له . وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه . و«الإلهام » لا يكون إلا في مقام عتيد ، يعني في مقام القرب والحضور .

والتحقيق في هذا : أن كل واحد من «الفراسة » و«الإلهام » ينقسم إلى عام وخاص . وخاصُّ كل واحد منهما فوق عامِّ الآخر ، وعامُّ كل واحد قد يقع كثيرا ، وخاصُّه قد يقع نادرا . ولكن الفرق الصحيح : أن «الفراسة » قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل . وأما «الإلهام » فموهبة مجردة ، لا تنال بكسب البتة .

فصل : [ درجات الإلهام ]

قال : «وهو على ثلاث درجات : الدرجة الأولى : نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع . إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن . فليس كل خبر نبأ وهو نبأ خبر عن غيب معظم .

ويريد بالوحي والإلهام : الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه . إما بواسطة سمع ، أو هو الإعلام بلا واسطة .

قلت : أما حصوله بواسطة سمع : فليس ذلك إلهاما . بل هو من قبيل الخطاب . وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء . وهو الذي خُصَّ به موسى - عليه السلام - إذ كان المخاطِبُ هو الحق عز وجل .

فصل : [ في ما يسمعه السائرون إلى الله من الخطابات والهواتف ]

وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع : فهو من أحد وجوه ثلاثة - لا رابع لها :

أعلاها : ( خطاب ملائكي ) أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا . فإن هذا يقع لغير الأنبياء . فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين رضي الله عنه بالسلام . فلما اكتَوَى تركت خطابه . فلما ترك الكي عاد إليه الخطاب الملكي . وهو نوعان :

أحدهما : خطاب يسمعه بأذنه - وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين .

والثاني : خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك روحه ، كما في الحديث المشهور : «إن للملك لَمَّة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة ؛ فلمة الملك إيعاد بالخير ، وتصديق بالوعد ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد » ثم قرأ : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا } [ البقرة : 268 ] .

وقال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } [ الأنفال : 12 ] . قيل في تفسيرها : قوُّوا قلوبهم ، وبشروهم بالنصر . وقيل : احضروا معهم القتال . والقولان حق ؛ فإنهم حضروا معهم القتال ، وثبتوا قلوبهم .

ومن هذا الخطاب : واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين . كما في «جامع الترمذي » و«مسند أحمد » من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله تعالى ضرب مثلا صراطا مستقيما ، وعلى كَنَفَتَي الصراط سوران ، لهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وداع يدعو على رأس الصراط ، وداع يدعو فوق الصراط . فالصراط المستقيم : الإسلام . والسوران : حدود الله . والأبواب المفتحة : محارم الله . فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر . والداعي على رأس الصراط : كتاب الله . والداعي فوق الصراط : واعظ الله في قلب كل مؤمن » .

فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين : هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة .

وأما وقوعه بغير واسطة : فمما لم يتبين بعد . والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل . والله أعلم .

فصل : النوع الثاني من الخطاب المسموع : [ خطاب الهواتف من الجان ]

وقد يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا . وقد يكون شيطانا . وهذا أيضا نوعان :

أحدهما : أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه .

والثاني : أن يلقي في قلبه عندما يُلمُّ به . ومنه وعده وتَمْنيته حين يعد الإنسي ويُمَنِّيه ، ويأمره وينهاه . كما قال تعالى : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [ النساء : 120 ] ، وقال : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } [ البقرة : 268 ] ، وللقلب من هذا الخطاب نصيب . وللأذن أيضا منه نصيب . والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة .

فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني ، أو ملكي ؟ بأي برهان ؟ أو بأي دليل ؟ والشيطان يقذف في النفس وحيه ، ويلقي في السمع خطابه . فيقول المغرور المخدوع : «قيل لي ، وخوطبت » ، صدقت ، لكن الشأن في القائل لك والمخاطِب . وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة رضي الله عنه - وهو من الصحابة لما طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه - «إني لأظن الشيطان - فيما يسترق من السمع - سمع بموتك . فقذفه في نفسك » ، فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ؟ .

فصل : النوع الثالث : ( خطاب حالي )

تكون بدايته من النفس ، وعوده إليها ، فيتوهمه من خارج ؛ وإنما هو من نفسه ، منها بدأ وإليها يعود .

وهذا كثيرا ما يعرض للسالك ، فيغلط فيه ، ويعتقد أنه خطاب من الله كلمه به منه إليه . وسبب غلطه أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة ، وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة : صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن ، ومصير الحكم لهما . فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما ، وتشتد عناية الروح بها . وتصير في محل تلك العلائق والشواغل . فتملأ القلب ، فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة . ويتفق تجرد الروح ، فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة ، وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية ، فيرى صورها ، ويسمع الخطاب . وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء . ويحلف أنه رأى وسمع . وصدق ؛ لكن رأى وسمع في الخارج ، أو في نفسه ؟ ويتفق ضعف التمييز . وقلة العلم ، واستيلاء تلك المعاني على الروح وتجردها عن الشواغل .

فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب . ومن سَمَّع نفسه غيرها فإنما هو غرور ، وخدع وتلبيس . وهذا الموضع مقطع القول ، وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه . والله الموفق للصواب .

فصل : [ عود إلى بيان درجات الإلهام ]

قال «الدرجة الثانية : إلهام يقع عيانا . وعلامة صحته : أنه لا يخرق سترا ، ولا يجاوز حدا ، ولا يخطئ أبدا » .

الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى : أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب . وهذا معاينة ومكاشفة . فهو فوقه في الدرجة ، وأتم منه ظهورا . ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين . وذكر له ثلاث علامات :

إحداها : «أنه لا يخرق سترا » : أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه ، خيرا كان أو شرا ، أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس . بل يستر نفسه ، ويستر من كوشف بحاله .

الثانية : «أنه لا يجاوز حدا » : يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي ، وتجاوز حدود الله . مثل الكهان ، وأصحاب الكشف الشيطاني .

الثاني : أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية ، مثل أن يتجسس به على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها . فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف ، فهو شيطاني لا رحماني .

الثالثة : «أنه لا يخطئ أبدا » . بخلاف الشيطاني ؛ فإن خطأه كثير ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صائد «ما ترى ؟ » قال : أرى صادقا وكاذبا . فقال صلى الله عليه وسلم : «لُبِّس عليك » .

فالكشف الشيطاني لابد أن يكذب ، ولا يستمر صدقه البتة .

فصل [ الدرجة الثالثة : جلاء الحقيقة في عين الملهم ]

قال «الدرجة الثالثة : إلهام يجلو عين التحقيق صرفا ، وينطق عن عين الأزل محضا . والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها » .

عين التحقيق عنده : هي الفناء في شهود الحقيقة ، بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود ، وتعود الرسوم أعداما محضة .

فالإلهام في هذه الدرجة : يجلو هذا العين للملهم صرفا ، بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس . فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة . والناطق عن هذا الكشف عندهم : لا يفهم عنه إلا من هو معه ، ومشارك له . وعند أرباب هذا الكشف : أن كل الخلق عنه في حجاب . وعندهم : أن العلم والعقل والحال حجب عليه . وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب ، وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب . فلذلك تمتنع الإشارة إليه ، والعبارة عنه . فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول ، وهذا أمر وراء الحس والعقل .

وحاصل هذا الإلهام : أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم ، لكن في الشهود لا في الوجود . وأما الاتحادية ، القائلون بوحدة الوجود : فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود . ويجعلون صاحب «المنازل » منهم . وهو بريء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة . والله أعلم .

فصل : ( المرتبة العاشرة من مراتب الهداية : الرؤيا الصادقة )

وهي من أجزاء النبوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » .

وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور : إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة ، وذلك نصف سنة . ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة ، من حين بعث إلى أن توفي ، صلوات الله وسلامه عليه . فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك : جزء من ستة وأربعين جزءا . وهذا حسن . لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة : «إنها جزء من سبعين جزءا » .

وقد قيل في الجمع بينهما : إن ذلك بحسب حال الرائي ، فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين . ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين . والله أعلم .

والرؤيا : مبدأ الوحي . وصدقها بحسب صدق الرائي . و«أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا . وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ » ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها . فيتعوض المؤمنون بالرؤيا . وأما في زمن قوة نور النبوة : ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا .

ونظير هذا : «الكرامات » التي ظهرت بعد عصر الصحابة . ولم تظهر عليهم ، لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم ، واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم . وقد نص أحمد على هذا المعنى . وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام » ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لم يبق من النبوة إلا المبشرات » . قيل : وما المبشرات ، يا رسول الله ؟ قال : «الرؤيا الصالحة ، يراها المؤمن أو ترى له » .

وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال : «أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر . فمن كان منكم مُتَحَرِّيهَا فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان » .

والرؤيا كالكشف : منها رحماني . ومنها نفساني . ومنها شيطاني .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الرؤيا ثلاثة : رؤيا من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام » .

والذي هو من أسباب الهداية : هو الرؤيا التي من الله خاصة .

ورؤيا الأنبياء وحي : فإنها معصومة من الشيطان . وهذا باتفاق الأمة ، ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا .

وأما رؤيا غيرهم : فتعرض على الوحي الصريح . فإن وافقته وإلا لم يعمل بها .

فإن قيل : فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة ، أو تواطأت ؟ .

قلنا : متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي ، بل لا تكون إلا مطابقة له ، منبهة عليه ، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه ، لم يعرف الرائي اندراجها فيه ، فيتنبه بالرؤيا على ذلك .

[ من تحرى الصدق في الحديث والحلال في الطعام صدقت رؤياه ]

ومن أراد أن تصدق رؤياه : فليتحر الصدق ، وأكل الحلال ، والمحافظة على الأمر والنهي . ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة . ويذكر الله حتى تغلبه عيناه ؛ فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة .

وأصدق الرؤيا : رؤيا الأسحار . فإنه وقت النزول الإلهي ، واقتراب الرحمة والمغفرة ، وسكون الشياطين . وعكسه رؤيا العَتَمة ، عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية . وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام » .

وللرؤيا ملك موكل بها ، يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله . فيضربها لكل أحد بحسبه .

وقال مالك – رحمه الله تعالى- : «الرؤيا من الوحي وحي » ، وزَجَر عن تفسيرها بلا علم ؛ وقال : «أتتلاعب بوحي الله ؟ » .

ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها ، يخرجنا ذكرها عن المقصود . والله أعلم .

فصل : ( في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين : للقلوب والأبدان )

فأما اشتمالها على شفاء القلوب : فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال . فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين : «فساد العلم » و«فساد القصد » .

ويترتب عليهما داءان قاتلان ، وهما الضلال ، والغضب ؛ فالضلال : نتيجة فساد العلم . والغضب : نتيجة فساد القصد . وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها .

فهداية الصراط المستقيم : تتضمن الشفاء من مرض «الضلال » . ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد ، وأوجبه عليه كل يوم وليلة ، في كل صلاة ، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة . ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه .

والتحقيق ب ( إياك نعبد وإياك نستعين ) علما ومعرفة ، وعملا وحالا : يتضمن

الشفاء من مرض فساد القلب والقصد . فإن «فساد القصد » يتعلق بالغايات والوسائل . فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية ، وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا .

وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته : من المشركين ، ومتبعي الشهوات ، الذين لا غاية لهم وراءها ، وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل . فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم . فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل . فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق ، وحادوا عنه إلى طريق أخرى . وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان . فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ ، وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا ، وأتوا إليه مذعنين ؛ لا لأنه حق ، بل لموافقته غرضهم وأهواءهم ، وانتصارهم به { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون } [ النور : 48 . 50 ] .

والمقصود : أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم . وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها ، واضمحلت وفنيت ، حصلوا على أعظم الخسران والحسرات . وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا ، إذا حَقَّ الحق وبطل الباطل ، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم ، وتيقنوا انقطاعهم عن رَكْب الفلاح والسعادة . وهذا يظهر كثيرا في الدنيا . ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله . ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ . وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء ، إذا حقت الحقائق . وفاز المحقون وخسر المبطلون . وعلموا أنهم كانوا كاذبين ، وكانوا مخدوعين مغرورين . فياله هناك من علم لا ينفع عالمه ، ويقين لا ينجي مستيقنه .

وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ، ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه ، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه ، وهي من أعظم القواطع عنه . فحاله أيضا كحال هذا . وكلاهما فاسد القصد . ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء «إياك نعبد وإياك نستعين » .

[ أركان علاج القلب ]

فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء :

عبودية الله ، لا غيره ، بأمره وشرعه ، لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم ، بالاستعانة على عبوديته به ، لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره .

فهذه هي أجزاء { إياك نعبد وإياك نستعين } فإذا ركبها الطبيب اللطيف ، العالم بالمرض ، واستعملها المريض ، حصل بها الشفاء التام . وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها ، أو اثنين أو أكثر .

[ الرياء والكبر من أشد أمراض القلب ]

ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان ، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد . وهما «الرياء » ، و«الكبر » . فدواء الرياء ب{ إياك نعبد } ودواء الكبر ب{ إياك نستعين } .

وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه – يقول : { إياك نعبد } تدفع الرياء ، و{ إياك نستعين } تدفع الكبرياء .

فإذا عوفي من مرض الرياء ب{ إياك نعبد } ، ومن مرض الكبرياء والعجب ب{ إياك نستعين } ، ومن مرض الضلال والجهل ب{ اهدنا الصراط المستقيم } عوفي من أمراضه وأسقامه ، ورفَل في أثواب العافية ، وتمت عليه النعمة . وكان من المنعم عليهم { غير المغضوب عليهم } وهم «أهل فساد القصد » ، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه ، { والضالين } وهم «أهل فساد العلم » ، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه .

وحُقَّ لسورة تشتمل على هذين الشفاءين : أن يُسْتَشْفَى بها من كل مرض ، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين ، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى ، كما سنبينه ، فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه ، وفهمت عنه فهما خاصا ، اختصها به ، من معاني هذه السورة .

وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق .

فصل [ في الفاتحة شفاء للأبدان ]

وأما تضمنها لشفاء الأبدان : فنذكر منه ما جاءت به السنة ، وما شهدت به قواعد الطب ، ودلت عليه التجربة .

فأما ما دلت عليه السنة : ففي «الصحيح » من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحيٍّ من العرب . فلم يقروهم ، ولم يُضَيِّفُوهم . فُلدغ سيد الحي . فأتوهم . فقالوا : هل عندكم من رُقية - أو هل فيكم من راق - ؟ فقالوا : نعم ، ولكنكم لم تقرونا . فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا ، فجعلوا لهم على ذلك قطيعا من الغنم ، فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب . فقام كأن لم يكن به قَلَبَة . فقلنا : لا تعجلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه ، فذكرنا له ذلك . فقال : «ما يدريك أنها رقية ؟ كلوا ، واضربوا لي معكم بسهم » .

فقد تضمن هذا الحديث : حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه . فأغنته عن الدواء . وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء .

هذا مع كون المحل غير قابل - إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين ، أو أهل بخل ولؤم - فكيف إذا كان المحل قابلا .

فصل [ تشابه نفوس بعض الناس بنفوس العقارب والحيات ]

وأما شهادة قواعد الطب بذلك : فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحُمات والسموم . وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية ، تثير فيها سُمية نارية ، يحصل بها اللدغ . وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها . فإذا تكيَّفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية ، تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل ، كما يجد الشرير من الناس راحة ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه .

وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحدا من بني جنسه . ويجد في نفسه تأذيا بحمل تلك السمية والشر الذي فيه ، حتى يفرغه في غيره . فيبرد عند ذلك أنينه . وتسكن نفسه . ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى الجماع . فيسوء خلقه . وتثقل نفسه حتى يقضي وطره . هذا في قوة الشهوة . وذاك في قوة الغضب .

وقد أقام الله تعالى بحكمته السلطان وازعا لهذه النفوس الغضبية ، فلولا هو لفسدت الأرض وخرجت { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } [ البقرة : 251 ] وأباح الله - بلطفه ورحمته - لهذه النفوس من الأزواج وملك اليمين ما يكسر حدتها .

والمقصود : أن هذه النفوس الغضبية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت فيه ، ومنها ما يؤثر في المحل بمجرد مقابلته له ، وإن لم يمسه ، فمنها ما يطمس البصر ، ويسقط الحبل .

[ من ذلك : نفسية الحاسد وتأثيرها في جسد المحسود ]

ومن هذا نظر العائن : فإنه إذا وقع بصره على المعين حدثت في نفسه كيفية سمية أثرت في المعين بحسب عدم استعداده . وكونه أعزل من السلاح ، وبحسب قوة تلك النفس .

وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وُصف له ، فتتكيف نفسه وتقابله على البعد فيتأثر به . ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة والشكل .

فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذه النفوس الخبيثة السُّمِّية ، وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها ، وما تضمنته من التوحيد والتوكل ، والثناء على الله ، وذكر أصول أسمائه الحسنى ، وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومَحَقَه ، ولا على خير إلا نماه وزاده ، دفعت هذه النفس - بما تكيفت به من ذلك- أثرَ تلك النفس الخبيثة الشيطانية ، فحصل البرء ؛ فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده ، وحفظ الشيء بمثله ؛ فالصحة تحفظ بالمثل ، والمرض يدفع بالضد . أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا ، ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة المنفعلة . فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية ، ولم تقو نفس الراقي على التأثير ، لم يحصل البرء .

فهنا أمور ثلاثة : موافقة الدواء للداء ، وبذل الطبيب له ، وقبول طبيعة العليل .

فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء . وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولا بد بإذن الله سبحانه وتعالى .

ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقي . وميز بين النافع منها وغيره . ورقى الداء بما يناسبه من الرقي . وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل ، كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع . وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره ، وحسن تأمله . والله أعلم .

[ شواهد الواقع والتجارب على تأثير الفاتحة وعلاجها ]

وأما شهادة التجارب بذلك : فهي أكثر من أن تذكر . وذلك في كل زمان .

وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة . ولاسيما مدة المقام بمكة . فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة ، بحيث تكاد تقطع الحركة مني - وذلك في أثناء الطواف وغيره - فأبادر إلى قراءة الفاتحة . وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط . جربت ذلك مرارا عديدة . وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا . فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان ، وصحة اليقين . والله المستعان .

فصل : في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل

والنحل ، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة

وهذا يعلم بطريقين ، مجمل ومفصل :

[ بيان اشتمال الفاتحة على معرفة طرق الضلال على الإجمال ]

أما المجمل : فهو أن «الصراط المستقيم » متضمن ( معرفة الحق ، وإيثاره ، وتقديمه على غيره ، ومحبته والانقياد له ، والدعوة إليه ، وجهاد أعدائه بحسب الإمكان ) .

والحق : هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه ، وأسمائه وتوحيده ، وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وفي حقائق الإيمان ، التي هي «منازل السائرين إلى الله تعالى » . وكل ذلك مسلَّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم .

فكل علم أو عمل أو حقيقة ، أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته ، وعليه السكة المحمدية ، بحيث يكون من ضرب المدينة . فهو من «الصراط المستقيم » . وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال . فما ثَمَّ خروج عن هذه الطرق الثلاث :

( طريق الرسول ) صلى الله عليه وسلم وما جاء به .

و( طريق أهل الغضب ) ، وهي طريق من عرف الحق وعانده .

و( طريق أهل الضلال ) : وهي طريق من أضله الله عنه .

ولهذا قال عبد الله ابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم : «الصراط المستقيم : هو الإسلام » ، وقال عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما : «هو القرآن » ، وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره ، وقال سهل بن عبد الله : «طريق السنة والجماعة » ، وقال بكر بن عبد الله المزني : «طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم » .

ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه علما وعملا - وهو معرفة الحق وتقديمه ، وإيثاره على غيره - فهو الصراط المستقيم .

وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له .

فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل . وهو من صراط الأمتين : الأمة الغضبية ، وأمة أهل الضلال .

فصل [ بيان اشتمال الفاتحة على معرفة طرق الضلال تفصيلا ]

وأما المفصل : فبمعرفة المذاهب الباطلة ، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها . فنقول : الناس قسمان : مقر بالحق تعالى ، وجاحد له .

فتضمنت الفاتحة : إثبات الخالق تعالى ، والرد على من جحده ، بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين .

وتأمل حال العالم كله ، علويه وسفليه ، بجميع أجزائه : تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه . فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده ، لا فرق بينهما ، بل دلالة الخالق ، على المخلوق والفعال على الفعل ، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية ، والفطر الصحيحة : أظهر من العكس .

[ طرق الاستدلال على الله وبالله ]

فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه ، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه . ولا ريب أنهما طريقان صحيحان - كل منهما حق - والقرآن مشتمل عليهما .

فأما الاستدلال بالصنعة فكثير . وأما الاستدلال بالصانع فله شأن . وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم { أفي الله شك } [ إبراهيم : 10 ] أي : أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده ؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول ؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى ؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم : { فاطر السموات والأرض } .

وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - قدس الله روحه – يقول : «كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء ؟ » . وكان كثيرا – رحمه الله تعالى - ما يتمثل بهذا البيت :

وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل

ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والِفطَر من وجود النهار ، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها .

[ بطلان قول من قال بوحدة الوجود ]

وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد ، القائلين بوحدة الوجود ، وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق ، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله ، وهو حقيقة وجود هذا العالم . فليس عند القوم رب وعبد ، ولا مالك ومملوك ، ولا راحم ومرحوم ، ولا عابد ومعبود ، ولا مستعين ومستعان به ، ولا هاد ولا مهدي ، ولا منعم ولا منعَم عليه ، ولا غضبان ومغضوب عليه . بل الرب هو نفس العبد وحقيقته ، والمالك هو عين المملوك ، والراحم هو عين المرحوم ، والعابد هو نفس المعبود . وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها . فتظهر تارة في صورة معبود ، كما ظهرت في صورة فرعون وفي صورة عبد ، كما ظهرت في صورة العبيد ، وفي صورة هاد ، كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء . والكل من عين واحدة ، بل هو العين الواحدة ، فحقيقة العابد ووجوده ، أو إنِّيته : هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته .

والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم .

فصل [ تضمين الفاتحة الرد على من أقر لله بما لا يليق به سبحانه ]

والمقرون بالرب سبحانه وتعالى : أنه صانع العالم ، نوعان :

نوع : ينفي مباينته لخلقه ، ويقولون : لا مباين ولا محايث ، ولا داخل العالم ولا خارجه ، ولا فوقه ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، ولا خلفه ولا أمامه ، ولا فيه ولا بائن عنه .

فتضمنت الفاتحة الرد على هؤلاء من وجهين .

أحدهما : إثبات ربوبيته تعالى للعالم . فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات ، كما باينهم بالربوبية ، وبالصفات والأفعال ، فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم ، فما أثبت ربا . فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين ، لزوما لا انفكاك له عنه البتة :

إما أن يكون هو نفس هذا العالم - وحينئذ يصح قوله - فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه . ومن هاهنا دخل أهل الوحدة ، وكانوا معطلة أولا ، واتحادية ثانيا .

وإما أن يقول : ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا ، ولا داخلا ولا خارجا ، كما قالته الدهرية المعطلة للصانع .

وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين : إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم ، وإثبات خالق قائم بنفسه ، لا في العالم ولا خارج العالم ، ولا فوق العالم ولا تحته ، ولا خلفه ولا أمامه ، ولا يَمْنته ولا يَسْرته : فقول له خَبِئ . والعقول لا تتصوره حتى تصدق به . فإذا استحال في العقل تصوره . فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر . وهو منطبق على العدم المحض ، والنفي الصِّرف . وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين .

فضَعْ هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل ، ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها ، التي لم تحلَّ في العالم ، ولا حَلَّ العالم فيها ، ثم انظر أي المعلومين أولى به ؟ .

واستيقظ لنفسك ، وقم لله قَوْمة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر ، متجرد عن المقالات وأربابها ، وعن الهوى والحمية والعصبية ، صادقا في طلب الهداية من الله . فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه . وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه ، مباين لخلقه . بل هذا نفس ترجمتها .

فصل [ من المثبتين للخالق أهل شرك ]

ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان : أهل توحيد ، وأهل إشراك . وأهل الإشراك نوعان :

أحدهما : ( أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته ) - كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر ، وإن لم يقولوا : إنه مكافئ له .

والقدرية المجوسيه تثبت مع الله خالقين للأفعال ، ليس أفعالهم مقدورة لله ، ولا مخلوقة لهم . وهي صادرة بغير مشيئته . ولا قدرة له عليها ، ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها ، بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين .

فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم ؛ لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال .

وحقيقة قول القدرية المجوسية : أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ، ولا تناولتها ربوبيته . وكيف تتناول مالا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه ؟ مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه . إذ هو المعين عليها والموفق لها . وهو

الذي شاءها منهم ، كما قال في غير موضع من كتابه { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } [ الإنسان : 30 ] فهو محمود على أن شاءها لهم ، وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته . فهو المحمود عليها في الحقيقة .

وعندهم : أنهم هم المحمودون عليها ، ولهم الحمد على فعلها . وليس لله حمد على نفس فاعليتها عندهم ، ولا على ثوابه وجزائه عليها .

أما الأول : فلأن فاعليتها بهم لا به . وأما الثاني : فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر . فهو محض حقهم ، الذي عاوضوه عليه .

وفي قوله : { وإياك نستعين } رد ظاهر عليهم . إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته . فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده ، إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده ، بمن ليس ذلك الفعل بيده ، ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته ؟ .

وفي قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } أيضا رد عليهم . فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الاهتداء . ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها . وهي المتضمنة للإرشاد والبيان ، والتوفيق والإقدار . وجعلهم مهتدين . وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة ، كما ظنته القدرية ؛ لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى ، ولا ينجي من الردى . وهو حاصل لغيرهم من الكفار ، الذين استحبوا العمى على الهدى ، واشتروا الضلالة بالهدى .

النوع الثاني : ( أهل الإشراك به في إلهيته ) . وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء ، ومليكه وخالقه ، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ، ورب السموات السبع ، ورب العرش العظيم . وهم مع هذا يعبدون غيره ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم . وهم الذين اتخذوا من دون الله أندادا . فهؤلاء لم يوفوا { إياك نعبد } حقه ، وإن كان لهم نصيب من «نعبدك » لكن ليس لهم نصيب من { إياك نعبد } المتضمن معنى : لا نعبد إلا إياك ، حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما ، ف { إياك نعبد } تحقيق لهذا التوحيد ، وإبطال للشرك في الإلهية ، كما أن { إياك نستعين } تحقيق لتوحيد الربوبية ، وإبطال للشرك به فيها ، وكذلك قوله : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم } فإنهم أهل التوحيد ، وهم أهل تحقيق { إياك نعبد وإياك نستعين } وأهل الإشراك : هم أهل الغضب والضلال .

فصل : في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات .

وذلك من وجوه :

أحدها : من قوله { الحمد لله } .

فإن إثبات الحمد الكامل له يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه ، من صفات كماله ، ونعوت جلاله . إذ مَنْ عدم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق .

وغايته : أنه محمود من وجه دون وجه . ولا يكون محمودا بكل وجه ، وبكل اعتبار ، بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها ، فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبها .

وكذلك في إثبات صفة «الرحمة » له ما يتضمن إثبات الصفات التي تستلزمها : من الحياة ، والإرادة والقدرة ، والسمع والبصر ، وغيرها .

وكذلك صفة «الربوبية » : تستلزم جميع صفات الفعل .

وصفة «الإلهية » : تستلزم جميع أوصاف الكمال : ذاتًا وأفعالا ، كما تقدم بيانه .

فكونه محمودا إلها ربا ، رحمانا رحيما ، ملكا معبودا ، مستعانا ، هاديا منعما ، يرضى ويغضب - مع نفي قيام الصفات به : جمع بين النقيضين . وهو من أمحل المحال .

وهذه الطريق تتضمن إثبات الصفات الخبرية من وجهين :

أحدهما : أنها من لوازم كماله المطلق . فإن استواءه على عرشه من لوازم علوه ، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني : من لوازم رحمته وربوبيته . وهكذا سائر الصفات الخبرية .

الوجه الثاني : أن السمع ورد بها ، ثناء على الله ومدحا له ، وتعرفا منه إلى عباده بها . فجحدها وتحريفها عما دلت عليه ، وعما أريد بها : مناقض لما جاءت به . فلك أن تستدل بطريق السمع على أنها كمال ، وأن تستدل بالعقل كما تقدم .

فصل : في تضمنها للرد على الجبرية وذلك من وجوه :

أحدها : ( من إثبات عموم حمده سبحانه ) :

فإنه يقتضي أن لا يعاقب عبيده على ما لا قدرة لهم عليه ، ولا هو من فعلهم . بل هو بمنزلة ألوانهم ، وطولهم وقصرهم ، بل هو يعاقبهم على نفس فعله بهم . فهو الفاعل لقبائحهم في الحقيقة . وهو المعاقب لهم عليها . فحمده عليها يأبى ذلك أشد الإباء ، وينفيه أعظم النفي .

فتعالى من له الحمد كله عن ذلك علوا كبيرا ، بل إنما يعاقبهم على نفس أفعالهم التي فعلوها حقيقة . فهي أفعالهم لا أفعاله . وإنما أفعاله : العدل ، والإحسان ، والخيرات .

الوجه الثاني : ( إثبات رحمته ورحمانيته ينفي ذلك ) :

إذ لا يمكن اجتماع هذين الأمرين قط - أن يكون رحمانا رحيما - ويعاقب العبد على مالا قدرة له عليه ، ولا هو من فعله ، بل يكلفه ما لا يطيقه ، ولا له عليه قدرة البتة ، ثم يعاقبه عليه . وهل هذا إلا ضد الرحمة . ونقض لها وإبطال ؟

وهل يصح في معقول أحد اجتماع ذلك ، والرحمة التامة الكاملة ، في ذات واحدة ؟

الوجه الثالث : ( إثبات العبادة والاستعانة لهم ، ونسبتها إليهم ) :

بقولهم «نعبد » و«نستعين » وهي نسبة حقيقية لا مجازية . والله لا يصح وصفه بالعبادة والاستعانة التي هي من أفعال عبيده ، بل العبد حقيقة هو العابد المستعين . والله هو المعبود المستعان به – سبحانه وتعالى .

فصل : في بيان تضمنها الرد على القائلين بالموجب بالذات - دون الاختيار والمشيئة - وبيان أنه سبحانه فاعل مختار

وذلك من وجوه :

أحدها : ( من إثبات حمده ) :

إذ كيف يحمد على ما ليس مختارا لوجوده ، ولا هو بمشيئته وفعله ؟

وهل يصح حمد الماء على آثاره وموجباته ؟ أو النار والحديد وغيرها في عقل أو فطرة ؟

وإنما يحمد الفاعل المختار بقدرته ومشيئته على أفعاله الحميدة .

هذا الذي ليس يصح في العقول والفطر سواه . فخلافه خارج عن الفطرة والعقل ، وهو لا ينكر خروجه عن الشرائع والنبوات . بل يتبجح بذلك ، ويعده فخرا .

الثاني : ( إثبات ربوبيته تعالى ) :

يقتضي فعله بمشيئته واختياره ، وتدبيره وقدرته .

وليس يصح في عقل ولا فطرة ربوبية الشمس لضوئها ، والماء لتبريده ، وللنبات الحاصل به ، ولا ربوبية شيء أبدا لما لا قدرة له عليه البتة .

وهل هذا إلا تصريح بجحد الربوبية ؟

فالقوم كَنَوْا للأغمار ، وصرحوا لأولي الأفهام .

الثالث : ( إثبات ملكه ) .

وحصول ملك لمن لا اختيار له ، ولا فعل ولا مشيئة غير معقول ، بل كل مملوك له مشيئة واختيار وفعل أتم من هذا الملك وأكمل { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] .

الرابع : ( من كونه مستعانا ) .

فإن الاستعانة بمن لا اختيار له ولا مشيئة ولا قدرة محال .

الخامس : ( من كونه مسئولا ) أن يهدي عباده ، فسؤال من لا اختيار له محال . وكذلك من كونه منعما .

فصل : في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات

وذلك من وجوه :

أحدها : كمال حمده .

وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله ، ولا عدد الأفلاك ، ولا عدد النجوم ، ولا من يطيعه ممن يعصيه ، ولا من يدعوه ممن لا يدعوه ؟

الثاني : أن هذا مستحيل أن يكون إلها ، وأن يكون ربا .

فلا بد للإله المعبود ، والرب المدبر ، من أن يعلم عابده ، ويعلم حاله .

الثالث : من إثبات رحمته . فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم .

الرابع : إثبات ملكه .

فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته البتة ، ولا شيئا من أحوال مملكته البتة ، ليس بملك بوجه من الوجوه .

الخامس : كونه مستعانا .

السادس : كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه .

السابع : كونه هاديا .

الثامن : كونه منعما .

التاسع : كونه غضبانا على من خالفه .

العاشر : كونه مجازيا ، يدين الناس بأعمالهم يوم الدين .

فنفي علمه بالجزيئات مبطل لذلك كله .

فصل : في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات

وذلك من وجوه :

أحدها : ( إثبات حمده التام ) .

فإنه يقتضي كمال حكمته ، وأن لا يخلق خلقه عبثا ، ولا يتركهم سُدًى ، لا يُؤْمَرون ولا يُنهون .

ولذلك نََزَّه الله - سبحانه - نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه . وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة ، وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء - فإنه ما عرفه حق معرفته ، ولا عظمه حق تعظيمه ، ولا قدره حق قدره ، بل نسبه إلى ما لا يليق به ، ويأباه حمده ومجده .

فمن أعطى الحمد حقه - علما ومعرفة وبصيرة - استنبط منه : «أشهد أن محمدا رسول الله » ؛ كما يستنبط منه : «أشهد أن لا إله إلا الله » ، وعلم قطعا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد ، كتعطيل صفات الكمال ، وكإثبات الشركاء والأنداد .

الثاني : ( إلهيته ، وكونه إلها ) .

فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا . ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله .

الثالث : ( كونه ربا ) .

فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم . وجزاء محسنهم بإحسانه . ومسيئهم بإساءته . هذا حقيقة الربوبية . وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة .

الرابع : ( كونه رحمانا رحيما ) .

فإن من كمال رحمته : أن يُعَرِّف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه ، ويباعدهم منه . ويثيبهم على طاعته ، ويجزيهم بالحسنى . وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة . فكانت رحمته مقتضية لها .

الخامس : ( ملكه ) .

فإن الملك يقتضي التصرف بالقول ، كما أن الملك يقضي التصرف بالفعل . فالملك هو المتصرف بأمره وقوله ، فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء .

والمالك هو المتصرف في ملكه بفعله . والله له الملك وله الملك فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل .

وتصرفه بقوله نوعان : تصرف بكلماته الكونية ، وتصرف بكلماته الدينية ، وكمال الملك بهما .

فإرسال الرسل : موجب كمال ملكه وسلطانه ، وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس وعقولهم . فكل ملك لا تكون له رسل يَبُثُّهم في أقطار مملكته فليس بملك .

وبهذه الطريق يعلم وجود ملائكته ، وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه . فإنهم رسل الله في خلقه وأمره .

السادس : ( ثبوت يوم الدين ) .

وهو «يوم الجزاء » ، الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا . وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة ، وقيام الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي .

السابع : ( كونه معبودا ) .

فإنه لا يعبد إلا بما يحبه ويرضاه . ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله . فإنكار رسله إنكار لكونه معبودًا .

الثامن : ( كونه هاديا إلى الصراط المستقيم ) .

وهو معرفة الحق والعمل به ، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب . فإن الخط المستقيم : هو أقرب خط موصل بين نقطتين . وذلك لا يعلم إلا من جهة الرسل . فتوقفه على الرسل ضروري ، أعظم من توقف الطريق الحسي على سلامة الحواس .

التاسع : ( كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم ) .

فإن إنعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم ، وجعلهم قابلين الرسالة ، مستجيبين لدعوته . وبذلك ذكَّرهم منَّته عليهم وإنعامه في كتابه .

العاشر : ( انقسام خلقه إلى منعم عليهم ، ومغضوب عليهم ، وضالين ) .

فإن هذا الانقسام ضروري - بحسب انقسامهم في معرفة الحق ، والعمل به - إلى عالم به ، عامل بموجبه . ( وهم أهل النعمة ) ، وعالم به معاند له . ( وهم أهل الغضب ) ، وجاهل به ( وهم الضالون ) .

هذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل . فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة .

فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة . وهذا الانقسام ضروري بحسب الواقع . فالرسالة ضرورية .

وقد تبين لك بهذه الطريق ، والتي قبلها : بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد الجسماني ، وقيامة الأبدان .

وعرفت اقتضاءها ضرورة لثبوت الثواب والعقاب والأمر والنهي . وهو الحق الذي خُلقت به وله السمواتُ والأرض ، والدنيا والآخرة . وهو مقتضى الخلق والأمر ، ونفيه نفيٌ لهما .

فصل : إذا ثبتت النبوات والرسالة ثبتت صفة التكلم والتكليم

فإن حقيقة الرسالة : تبليغ كلام المرسل . فإذا لم يكن ثَمَّ كلام فماذا يبلِّغ الرسول ؟ بل كيف يعقل كونه رسولا ؟

ولهذا قال غير واحد من السلف : من أنكر أن يكون الله متكلمًا ، أو يكون القرآن كلامه فقد أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل ورسالة جميع الرسل ، التي حقيقتها تبليغ كلام الله تبارك وتعالى .

ولهذا قال منكرو رسالته صلى الله عليه وسلم عن القرآن : { إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر } [ المدثر : 24 . 25 ] ، وإنما عنوا القرآن المسموع الذي بُلِّغوه ، وأنذروا به .

فمن قال : إن الله لم يتكلم به ، فقد ضاهأ قوله قولهم . تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

فصل : في بيان تضمنها للرد على من قال بقدم العالم وذلك من وجوه :

أحدها : ( إثبات حمده ) .

فإنه يقتضي ثبوت أفعاله ، لاسيما وعامة مواد الحمد في القرآن - أو كلها - إنما هي على الأفعال .

وكذلك هو هاهنا . فإنه حَمِد نفسه على ربوبيته ، المتضمنة لأفعاله الاختيارية . ومن المستحيل مقارنة الفعل لفاعله . هذا ممتنع في كل عقل سليم ، وفطرة مستقيمة . فالفعل متأخر عن فاعله بالضرورة .

وأيضا فإنه متعلَّق الإرادة والتأثير والقدرة ولا يكون متعلقها قديما البتة .

الثاني : ( إثبات ربوبيته للعالمين ) .

وتقرير ما ذكرناه . والعالم كل ما سواه فثبت أن كل ما سواه مربوب . والمربوب مخلوق بالضرورة . وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن .

فإذا ربوبيته تعالى لكل ما سواه : تستلزم تقدمه عليه ، وحدوث المربوب .

ولا يتصور أن يكون العالم قديما وهو مربوب أبدا . فإن القديم مستغن بأزليته عن فاعل له . وكل مربوب فهو فقير بالذات . فلا شيء من المربوب بغنى ولا قديم .

الثالث : ( إثبات توحيده ) .

فإنه يقتضي عدم مشاركة شيء من العالم له في خصائص الربوبية ، و«القدرة » من خصائص الربوبية .

فالتوحيد ينفى ثبوته لغيره ضرورة ، كما ينفى ثبوت الربوبية والإلهية لغيره .

فصل : في بيان تضمنها للرد على الرافضة

وذلك من قوله { اهدنا الصراط المستقيم } . . . إلى آخرها .

ووجه تضمنه إبطال قولهم : أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام :

«منعم عليهم » : وهم أهل الصراط المستقيم ، الذين عرفوا الحق واتبعوه .

و«مغضوب عليهم » : وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه .

و«ضالون » : وهم الذين جهلوه فأخطأوه .

فكل من كان أعرف للحق ، وأتبع له : كان أولى بالصراط المستقيم .

ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم : هم أولى بهذه الصفة من الروافض . فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم - جهلوا الحق وعرفه الروافض ، أو رفضوه وتمسك به الروافض .

ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما . فرأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الكفر ، وقلبوها بلاد إسلام . وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى . فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم .

ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان . فإنه قَطُّ ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام .

وكم جَرَُّوا على الإسلام وأهله من بليَّة ؟ وهل عاثت سيوف المشركين عُبّاد الأصنام - من عسكر هولاكو وذويه من التتار - إلا من تحت رءوسهم ؟

وهل عطلت المساجد ، وحرقت المصاحف ، وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم ، إلا بسببهم ومن جَرَّائهم ؟

ومظاهرتُهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة ، وآثارهم في الدين معلومة .

فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم ؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال ، إن كنتم تعلمون ؟

ولهذا فسر السلف «الصراط المستقيم » وأهله : بأبي بكر وعمر ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم ، وهو كما فسروه . فإنه صراطهم الذي كانوا عليه - وهو عين صراط نبيهم - وهم الذين أنعم الله عليهم ، وغضب على أعدائهم ، وحكم لأعدائهم بالضلال .

وقال أبو العالية - رُفيع الرياحي - والحسن البصري ، وهما من أجل التابعين { الصراط المستقيم } : رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه » . وقال أبو العالية أيضا في قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } : هم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعمر » .

وهذا حق . فإن آله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر على طريق واحدة . ولا خلاف بينهم ، وموالاة بعضهم بعضا ، وثناؤهم عليهما ، ومحاربة من حاربا ، ومسالمة من سالما : معلومة عند الأمة . خاصها وعامها .

وقال زيد بن أسلم : «الذين أنعم الله عليهم : هم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعمر » .

ولا ريب أن «المنعم عليهم » : هم أتباعه ، و«المغضوب عليهم » : هم الخارجون عن أتباعه .

وأتبع الأمة له وأطوعهم : أصحابه وأهل بيته .

وأتبع الصحابة له - السمع والبصر - : أبو بكر وعمر .

وأشد الأمة مخالفة له : هم «الرافضة » ، فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة . ولهذا يبغضون السنة وأهلها ، ويعادونها ويعادون أهلها . فهم أعداء سنته صلى الله عليه وسلم . وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا ؟ بل هم ورثته حقا .

فقد تبين أن { الصراط المستقيم } : طريق أصحابه وأتباعه . وطريق أهل الغضب والضلال : طريق الرافضة .

وبهذه الطريق – بعينها - يرد على الخوارج . فإن معاداتهم الصحابة معروفة .

[ اشتمال الفاتحة على أسس وأركان العبودية والتوحيد ]

فصل : [ مدار العبودية والتوحيد على : إياك نعبد وإياك نستعين ]

وسر الخلق ، والأمر ، والكتب والشرائع ، والثواب والعقاب : انتهى إلى هاتين الكلمتين . وعليهما مدار العبودية والتوحيد . حتى قيل : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب . جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن . وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن . وجمع معاني القرآن في المفصل . وجمع معاني المفصل في الفاتحة ، ومعاني الفاتحة في { إياك نعبد وإياك نستعين } .

وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين . فنصفهما له تعالى وهو : { إياك نعبد } ، ونصفهما لعبده ؛ وهو : { إياك نستعين } .

وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه .

[ معنى العبودية ]

والعبادة تجمع أصلين : ( غاية الحب ، بغاية الذل والخضوع ) .

والعرب تقول : «طريق معبد » أي مذلل . والتعبد التذلل والخضوع .

فمن أحببته ولم تكن خاضعا له ، لم تكن عابدا له . ومن خضعت له بلا محبة ، لم تكن عابدا له ، حتى تكون محبا خاضعا .

ومن هاهنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية ، والمنكرون لكونه محبوبا لهم . بل هو غاية مطلوبهم - ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم - : منكرين لكونه إلها ، وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم . فهذا غاية توحيدهم - وهو توحيد الربوبية - الذي اعترف به مشركو العرب ، ولم يخرجوا به عن الشرك ، كما قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } [ الزخرف : 87 ] ، وقال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ الزمر : 38 ] ، وقال : { قل لمن الأرض ومن فيها . . . إلى قوله - سيقولون لله قل فأنى تسحرون } [ المؤمنون : 84 . 89 ] ، ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته ، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، كما أنه لا خالق غيره ، ولا رب سواه .

[ معنى الاستعانة ]

والاستعانة تجمع أصلين : ( الثقة بالله ، والاعتماد عليه ) .

فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ، ولا يعتمد عليه في أموره - مع ثقته به - لاستغنائه عنه . وقد يعتمد عليه - مع عدم ثقته به - لحاجته إليه ، ولعدم من يقوم مقامه . فيحتاج إلى اعتماده عليه . مع أنه غير واثق به .

[ معنى التوكل ومواضعه في القرآن ]

و«التوكل » معنى يلتئم من أصلين : من ( الثقة ، والاعتماد ) .

وهو حقيقة { إياك نعبد وإياك نستعين } وهذان الأصلان - وهما التوكل ، والعبادة - قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع ، قرن بينهما فيها . هذا أحدها .

الثاني : قول شعيب : { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } [ هود : 88 ] .

الثالث : قوله تعالى : { ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه } [ هود : 123 ] .

الرابع : قوله تعالى حكاية عن المؤمنين : { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } [ الممتحنة : 4 ] .

الخامس : قوله تعالى : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } [ المزمل : 8 . 9 ] .

السادس : قوله تعالى : { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } [ الرعد : 30 ] .

فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين . وهما : { إياك نعبد وإياك نستعين } .

[ أسرار تقديم العبادة على الاستعانة ]

وتقديم «العبادة » على «الاستعانة » في الفاتحة : من باب تقديم الغايات على الوسائل .

إذ «العبادة » غاية العباد التي خلقوا لها ، والاستعانة وسيلة إليها .

ولأن { إياك نعبد } متعلق بألوهيته واسمه «الله » ، و{ إياك نستعين } متعلق بربوبيته واسمه «الرب » ، فقدم { إياك نعبد } على { إياك نستعين } كما قدم اسم «الله » على «الرب » في أول السورة .

ولأن { إياك نعبد } قسم الرب . فكان من الشطر الأول ، الذي هو ثناء على الله تعالى ، لكونه أولى به . و{ إياك نستعين } قسم العبد . فكان من الشطر الذي «له » ، وهو { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخر السورة .

ولأن «العبادة المطلقة » : تتضمن «الاستعانة » من غير عكس .

فكل عابد لله عبودية تامة : مستعين به ولا ينعكس ؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته ، فكانت العبادة أكمل وأتم . ولهذا كانت «قسم الرب » .

ولأن «الاستعانة » جزء من «العبادة » من غير عكس .

ولأن «الاستعانة » طلب منه ، و«العبادة » طلب له .

ولأن «العبادة » لا تكون إلا من مخلص ، و«الاستعانة » تكون من مخلص ومن غير مخلص .

ولأن «العبادة » حقه الذي أوجبه عليك ، و«الاستعانة » طلب العون على العبادة . وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك . وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته .

ولأن «العبادة » شكر نعمته عليك ، والله يحب أن يشكر ، و«الإعانة » فعله بك وتوفيقه لك . فإذا التزمت عبوديته ، ودخلت تحت رقِّهَا أعانك عليها . فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة . وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم .

و«العبودية » محفوفة بإعانتين : إعانة قبلها على التزامها والقيام بها ، وإعانة بعدها على عبودية أخرى . وهكذا أبدا ، حتى يقضي العبد نَحْبه .

ولأن { إياك نعبد } له . و{ إياك نستعين } به . وما «له » مقدم على ما «به » ؛ لأن ما «له » متعلق بمحبته ورضاه . وما «به » متعلق بمشيئته .

وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته ، فإن الكون كله متعلق بمشيئته ، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار ، والطاعات والمعاصي . والمتعلق بمحبته : طاعاتهم وإيمانهم . فالكفار أهل مشيئته ، والمؤمنون أهل محبته . ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا . وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته .

فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم { إياك نعبد } على { إياك نستعين } .

وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ، ففيه : أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم . وفيه : الاهتمام وشدة العناية به . وفيه : الإيذان بالاختصاص ، المسمى بالحصْر . فهو في قوة : لا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين إلا بك . والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها ، واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما . وسيبويه نص على الاهتمام ، ولم ينف غيره .

ولأنه يقبح من القائل : أن يعتق عشرة أعبد مثلا ، ثم يقول لأحدهم : إياك أعتقت . ومن سمعه أنكر ذلك عليه ، وقال : وغيره أيضا أعتقت . ولولا فهم الاختصاص لما قبح هذا الكلام ، ولا حسن إنكاره .

وتأمل قوله تعالى : { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] ، { وإياي فاتقون } [ البقرة : 41 ] كيف تجده في قوة : لا ترهبوا غيري ، لا تتقوا سواي ؟

وكذلك { إياك نعبد وإياك نستعين } هو في قوة : لا نعبد غيرك . ولا نستعين بسواك . وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الاختصاص من علة السياق .

ولا عبرة بجدل من قلَّ فهمه ، وفتح عليه باب الشك والتشكيك . فهؤلاء هم آفة العلوم ، وبلية الأذهان والفهوم .

مع أن في ضمير «إياك » من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل . ففي : «إياك قصدت ، وأحببت » : من الدلالة على معنى : حقيقتك وذاتك قصدي ، ما ليس في قولك : قصدتك وأحببتك . و«إياك أعني » ، فيه معنى : نفسك وذاتك وحقيقتك أعني .

ومن هاهنا قال من قال من النحاة : إن «إيّا » اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل . ولم يردَّ عليه بردٍّ شاف .

ولولا أنَّا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة ، وذكرنا مذاهب النحاة فيها ، ونصرنا الراجح . ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله .

وفي إعادة «إياك » مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين .

ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه ، فإذا قلت لملك مثلا : إياك أحب ، وإياك أخاف . كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته ، والاهتمام بذكره ، ما ليس في قولك : إياك أحب وأخاف .

فصل : [ أقسام الناس في العبادة والاستعانة ]

إذا عرفت هذا ؛ فالناس في هذين الأصلين - وهما العبادة والاستعانة - أربعة أقسام :

أجلها وأفضلها : ( أهل العبادة والاستعانة بالله عليها ) .

فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ، ويوفقهم للقيام بها . ولهذا كان من أفضل ما يُسأل الرب تبارك وتعالى : الإعانة على مرضاته ، وهو الذي علمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحِبِّه معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : «يا معاذ ، والله إني لأحبك . فلا تنس أن تقول دُبُر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك ، وشكرك ، وحسن عبادتك » . فأنفع الدعاء : طلب العون على مرضاته . وأفضل المواهب : إسعافه بهذا المطلوب . وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا ، وعلى دفع ما يضاده ، وعلى تكميله وتيسير أسبابه ، فتأملها .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : «تأملت أنفع الدعاء : فإذا هو سؤال العون على مرضاته . ثم رأيته في الفاتحة في { إياك نعبد وإياك نستعين } .

ومقابل هؤلاء : القسم الثاني : ( وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به ) . فلا عبادة ولا استعانة ؛ بل إن سأله أحدهم واستعان به ، فعلى حظوظه وشهواته ، لا على مرضاة ربه وحقوقه ؛ فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض ، يسأله أولياؤه وأعداؤه ، ويمُدُّ هؤلاء وهؤلاء .

وأبغض خلقه : عدوه إبليس ، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها ، ومتعه بها . ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته ، كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه . وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه ، ولم يكن عونا على طاعته ، كان مبعدا له عن مرضاته ، قاطعا له عنه ، ولا بد .

وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره . وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه ، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له ، وفيها هلاكه وشقوته . ويكون قضاؤها له من هوانه عليه ، وسقوطه من عينه . ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له ، فيمنعه حماية وصيانة وحفظا ، لا بخلا . وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ، ويعامله بلطفه . فيظن – بجهله - أن الله لا يحبه ولا يكرمه . ويراه يقضي حوائج غيره ، فيسيء ظنه بربه . وهذا حشو قلبه ولا يشعر به . والمعصوم من عصمه الله . والإنسان على نفسه بصيرة ، وعلامة هذا : حمله على الأقدار . وعتابه الباطن لها . كما قيل :

وعاجز الرأي مضياع لفرصته *** حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

فوالله لو كشف عن حاصله وسره لرأى هناك معاتبة القدر واتهامه ، وأنه قد كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، ولكن ما حيلتي ، والأمر ليس إلي ؟ والعاقل خصم نفسه ، والجاهل خصم أقدار ربه .

فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئا معينا خيرته وعاقبته مغيبة عنك . وإذا لم تجد من سؤاله بدا ، فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة . وقدم بين يدي سؤالك الاستخارة . ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة ؛ بل استخارة من لا علم له بمصالحه ، ولا قدرة له عليها ، ولا اهتداء له إلى تفاصيلها . ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، بل إن وُكِل إلى نفسه هلك كل الهلاك ، وانفرط عليه أمره .

وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال : تسأله أن يجعله عونا لك على طاعته وبلاغا إلى مرضاته ، ولا يجعله قاطعا لك عنه ، ولا مبعدا عن مرضاته .

ولا تظن أن عطاءه كلَّ ما أعطى لكرامة عبده عليه ، ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه ، ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان ، يمتحن بهما عباده . قال الله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا } [ الفجر : 15 . 17 ] أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته ، وما ذاك لكرامته عليّ . ولكنه ابتلاء مني ، وامتحان له : أيشكرني فأعطيه فوق ذلك ، أم يكفرني فأسلبه إياه ، وأخَوِّل فيه غيره ؟ وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه ، وجعلته بقَدَر لا يفضل عنه ، فذلك من هوانه عليّ ، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له : أيصبر ، فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سَعة الرزق ، أم يتسخط ، فيكون حظه السخط .

فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام ، وأن الفقر إهانة ، فقال : لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ، ولم أبتله بالفقر لهوانه علي . فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره . فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ، ويُقَتِّر على المؤمن لا لإهانته ؛ إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته ، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته . فله الحمد على هذا ، وعلى هذا ، وهو الغني الحميد .

فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى { إياك نعبد وإياك نستعين } .

القسم الثالث : ( من له نوع عبادة بلا استعانة ) . وهؤلاء نوعان :

أحدهما : ( القدرية ) ، القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف ، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل . فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها ، وتعريف الطريق ، وإرسال الرسل ، وتمكينه من الفعل . فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها . بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة . فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء . ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان ، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر ، من غير أن يكون الله سبحانه وفق هؤلاء بتوفيق زائد ، أوجب لهم الإيمان . وخذل هؤلاء بأمر آخر ، أوجب لهم الكفر . فهؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة ، لا استعانة معه . فهم موكولون إلى أنفسهم . مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد . قال ابن عباس رضي الله عنهما : الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده .

النوع الثاني : ( من لهم عبادات وأوراد ، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة ) ، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر ، وتلاشيها في ضمنه ، وقيامها به ، وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له ، بل كالعدم الذي لا وجود له ، وأن القدر كالروح المحرك لها ، والمعول على المحرك الأول .

فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك ، ومن السبب إلى المسبب . ومن الآلة إلى الفاعل . فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم ، فقل نصيبهم من { إياك نستعين } ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة ، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف .

فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير ، بحسب استعانتهم وتوكلهم . ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم . ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه - وكان مأمورا بإزالته – لأزاله .

فإن قلت : فما معنى التوكل والاستعانة ؟ .

قلت : هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله ، والإيمان بتفرده بالخلق ، والتدبير والضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وأنه ما شاء كان ، وإن لم يشأ الناس . وما لم يشأ لم يكن ، وإن شاءه الناس . فيوجب له هذا اعتمادا عليه ، وتفويضا إليه ، وطمأنينة به ، وثقة به ، ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه ، وأنه مَلِيٌّ به ، ولا يكون إلا بمشيئته ، شاءه الناس أم أبوه .

فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مَلِيَّان بهما . فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه ، وحبس هَمِّه على إنزال ما ينوبه بهما . فهذه حال المتوكل . ومن كان هكذا مع الله ، فالله كافيه ولا بد . قال الله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [ الطلاق : 3 ] أي كافيه . و«الحسب » الكافي . فإن كان - مع هذا - من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة ، وإن لم يكن من أهل التقوى فهو :

القسم الرابع : وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولم يَدُر مع ما يحبه ويرضاه ، فتوكل عليه ، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه ، وطلبها منه ، وأنزلها به ، فقضيت له ، وأسعف بها . ( سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها عند الخلق ، أو أحوالا من كشف وتأثير وقوة وتمكين ) ، ولكن لا عاقبة له . فإنها من جنس الملك الظاهر والأموال ، لا تستلزم الإسلام ، فضلا عن الولاية والقرب من الله .

فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر . فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه ، وأنه من أوليائه المقربين . فهو من أجهل الجاهلين ، وأبعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه ، والتمييز بين ما يحبه ويرضاه ، ويكرهه ويسخطه . فالحال من الدنيا ، فهو كالملك والمال ، إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته ، وتنفيذ أوامره : ألحقه بالملوك العادلين البررة ، وإلا فهو وبال على صاحبه ، ومُبْعِدٌ له عن الله ، ومُلْحِقٌ له بالملوك الظلمة والأغنياء الفجرة .

فصل : [ لا تصح العبادة إلا بالإخلاص والمتابعة ]

إذا عرف هذا : فلا يكون العبد متحققا ب { إياك نعبد } إلا بأصلين عظيمين :

أحدهما : متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .

والثاني : الإخلاص للمعبود . فهذا تحقيق «إياك نعبد » .

والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام :

أحدها : ( أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة ) . وهم أهل «إياك نعبد » حقيقة . فأعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ، وعطاؤهم لله ، ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده . لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا ، ولا ابتغاء الجاه عندهم ، ولا طلب المحمدة ، والمنزلة في قلوبهم ، ولا هربا من ذمهم . بل قد عَدُّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور ، لا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا . فالعمل لأجل الناس ، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ، ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم البتة ، بل من جاهل بشأنهم ، وجاهل بربه .

فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم . ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله ، وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه . ولا يعامل أحدٌ الخلقَ دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق ، وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم .

وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ، ولما يحبه ويرضاه . وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله مِنْ عامِلٍ سواه . وهو الذي بَلاَ عباده بالموت والحياة لأجله . قال الله تعالى : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [ الملك : 2 ] وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا .

قال الفضيل بن عياض : العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا : لم يقبل . وإذا كان صوابا ، ولم يكن خالصا : لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا . و«الخالص » : ما كان لله . و«الصواب » : ما كان على السنة . وهذا هو المذكور في قوله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ الكهف : 110 ] ، وفي قوله : { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } [ النساء : 125 ] ، فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه ، على متابعة أمره . وما عدا ذلك فهو مردود على عامله ، يُرَد عليه - أحوج ما هو إليه - هباء منثورا . وفي «الصحيح » من حديث عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد » ، وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا . فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء .

الضرب الثاني : ( من لا إخلاص له ولا متابعة ) .

فليس عمله موافقا لشرع ، وليس هو خالصا للمعبود ، كأعمال المتزينين للناس ، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء شرار الخلق ، وأمقتهم إلى الله عز وجل . ولهم أوفر نصيب من قوله : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } [ آل عمران : 188 ] يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص .

وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف - من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة - عن الصراط المستقيم . فإنهم يرتكبون البدع والضلالات ، والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم . فهم أهل الغضب والضلال .

الضرب الثالث : ( من هو مخلص في أعماله ، لكنها على غير متابعة الأمر ) :

كجهال العبَّاد ، والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر ، وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله . كمن يظن أن سماع المُكاء والتصدية قربة ، وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة ، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة ، وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة . وأمثال ذلك .

الضرب الرابع : ( من أعماله على متابعة الأمر ، لكنها لغير الله ) : كطاعة المرائين ، وكالرجل يقاتل رياء وحَمِيَّة وشجاعة ، ويحج ليقال ، ويقرأ القرآن ليقال . فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها ، لكنها غير صالحة . فلا تقبل { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر . والإخلاص له في العبادة . وهم أهل { إياك نعبد وإياك نستعين } .

فصل [ أنواع العبادة وأصناف الناس فيها ]

ثم أهل مقام «إياك نعبد » لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق ، فهم في ذلك أربعة أصناف :

الصنف الأول : ( عندهم أنفع العبادات وأفضلها : أشقها على النفوس وأصعبها ) .

قالوا : لأنه أبعد الأشياء عن هواها ، وهو حقيقة التعبد .

قالوا : والأجر على قدر المشقة . ورووا حديثا لا أصل له : «أفضل الأعمال أحمرها » أي أصعبها وأشقها . وهؤلاء : هم أهل المجاهدات والجور على النفوس .

قالوا : وإنما تستقيم النفوس بذلك . إذ طبعها الكسل والمهانة ، والإخلاد إلى الأرض . فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق .

الصنف الثاني : ( قالوا : أفضل العبادات التجرد ، والزهد في الدنيا ) ، والتقلل منها غاية الإمكان ، واطّراح الاهتمام بها ، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها .

ثم هؤلاء قسمان :

فعوامهم ظنوا أن هذا غاية ، فشمروا إليه وعملوا عليه . ودعوا الناس إليه ، وقالوا : هو أفضل من درجة العلم والعبادة . فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها .

وخواصهم : رأوا هذا مقصودا لغيره ، وأن المقصود به عكوف القلب على الله ، وجمع الهمة عليه ، وتفريغ القلب لمحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والاشتغال بمرضاته . فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله ، ودوام ذكره بالقلب واللسان ، والاشتغال بمراقبته ، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له .

ثم هؤلاء قسمان :

( فالعارفون المتبعون منهم ) : إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فَرَّقهم وأذهب جمعيتهم .

و( المنحرفون منهم ) يقولون : المقصود من العبادة جمعية القلب على الله . فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه ، وربما يقول قائلهم :

يطالب بالأوراد من كان غافلا *** فكيف بقلب كل أوقاته ورد ؟

ثم هؤلاء أيضا قسمان :

منهم : من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته .

ومنهم : من يقوم بها ويترك السنن والنوافل ، وتعلم العلم النافع لجمعيته .

وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا ، فقال : إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله ، فإن قمت وخرجت تفرقت ، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي ، فما الأفضل في حقي ؟

فقال : إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم ، وأجب داعي الله ، ثم عد إلى موضعك . وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب ، وإجابة الداعي حق الرب . ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل «إياك نعبد » .

الصنف الثالث : ( رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها : ما كان فيه نفع متعد ) :

فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر . فرأوا خدمة الفقراء ، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل . فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله » رواه أبو يعلى .

واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه ، وعمل النفّاع متعد إلى الغير . وأين أحدهما من الآخر ؟

قالوا : ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب .

قالوا : وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم » ، وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي .

واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : «من دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء » ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير » . وبقوله صلى الله عليه وسلم : «إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في البحر ، والنملة في جحرها » .

واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله ، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ، ما دام نفعه الذي نسب إليه .

واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ، ونفعهم في معاشهم ومعادهم . لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب . ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد ، وترك مخالطة الناس . ورأى هؤلاء «التفرق » في أمر الله ، ونفع عباده ، والإحسان إليهم ، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك .

الصنف الرابع : ( قالوا : إن أفضل العبادة : العمل على مرضاة الرب في كل وقت ) بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته .

فأفضل العبادات في وقت الجهاد : الجهاد ، وإن آل إلى ترك الأوراد ، من صلاة الليل وصيام النهار ، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض ، كما في حالة الأمن .

والأفضل في وقت حضور الضيف – مثلا : القيام بحقه ، والاشتغال به عن الورد المستحب . وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل .

والأفضل في أوقات السحر : الاشتغال بالصلاة والقرآن ، والدعاء والذكر والاستغفار .

والأفضل في وقت استرشاد الطالب ، وتعليم الجاهل : الإقبال على تعليمه ، والاشتغال به .

والأفضل في أوقات الأذان : ترك ما هو فيه من ورده ، والاشتغال بإجابة المؤذن . والأفضل في أوقات الصلوات الخمس : الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه ، والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى الجامع . وإن بعد كان أفضل .

والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه ، أو البدن ، أو المال : الاشتغال بمساعدته ، وإغاثة لهفته ، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك .

والأفضل في وقت قراءة القرآن : جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه ، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به . فتجمع قلبك على فهمه وتدبره ، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك .

والأفضل في وقت الوقوف بعرفة : الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك .

والأفضل في أيام عشر ذي الحجة : الإكثار من التعبد ، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد . فهو أفضل من الجهاد غير المتعين .

والأفضل في العشر الأخير من رمضان : لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم . حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم ، وإقرائهم القرآن ، عند كثير من العلماء .

والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته : عيادته ، وحضور جنازته وتشييعه ، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك .

والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك : أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم ، دون الهرب منهم . فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه . والأفضل خلطتهم في الخير . فهي خير من اعتزالهم فيه ، واعتزالهم في الشر ، فهو أفضل من خلطتهم فيه . فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم .

فالأفضل في كل وقت وحال : إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال . والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه .

[ صفة أهل التعبد المطلق ]

وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق . والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد . فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته . فهو يعبد الله على وجه واحد . وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت . فمدار تعبده عليها . فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية ، كلما رفعت له منزلة عمل عَلاَ سيره إليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى . فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره . فإن رأيت «العلماء » رأيته معهم . وإن رأيت «العباد رأيته معهم . وإن رأيت «المجاهدين » رأيته معهم . وإن رأيت «الذاكرين » رأيته معهم . وإن رأيت «المتصدقين المحسنين » رأيته معهم . وإن رأيت «أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله » رأيته معهم . فهذا هو العبد المطلق ، الذي لم تملكه الرسوم ، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه ، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات . بل هو على مراد ربه ، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه . فهذا هو المتحقق ب { إياك نعبد وإياك نستعين } حقا ، القائم بهما صدقا . . مَلْبَسه ما تهيأ ، ومأكله ما تيسر . واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته . ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا . لا تملكه إشارة . ولا يتعبده قيد . ولا يستولي عليه رسم . حر مجرد . دائر مع الأمر حيث دار ، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه . ويدور معه حيث استقلت مضاربه . يأنس به كل محق . ويستوحش منه كل مبطل ، كالغيث حيث وقع نفع . وكالنخلة لا يسقط ورقها . وكلها منفعة حتى شوكها . وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله ، والغضب إذا انتهكت محارم الله . فهو لله وبالله ومع الله . قد صحب الله بلا خلق ، وصحب الناس بلا نفس . بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين ، وتخلى عنهم . وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها . فواهًا له ! ما أغْرَبَهُ بين الناس ! وما أشد وحشته منهم ! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به ، وطمأنينته وسكونه إليه ! ! والله المستعان . وعليه التكلان .

فصل : [ أصناف الناس في الغاية من العبادة ]

ثم للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة - وهم في ذلك أربعة أصناف .

الصنف الأول : ( نفاة الحكم والتعليل ) ، الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة ، وصرف الإرادة . فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر ، من غير أن تكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ، ولا سببا لنجاة . وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة ، كما قالوا في الخلق : إنه لم يخلق ما خلقه لعلة ، ولا لغاية هي المقصودة به ، ولا لحكمة تعود إليه منه . وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها ، ولا فيها قُوًى ولا طبائع . فليست النار سببا للإحراق ، ولا الماء سببا للإرواء والتبريد ، وإخراج النبات ، ولا فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك . وحصول الإحراق والرِِّي ليس بهما ، لكن بإجراء العادة الاقترانية على حصول هذا عند هذا ، لا بسبب ولا بقوة قامت به . وهكذا الأمر عندهم في أمره الشرعي سواء . لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور ، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا ، من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه ، ولا المنهي عنه صفة اقتضت قبحه .

ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة . وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى «مفتاح دار السعادة ، ومطلب أهل العلم والإرادة » وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها ، وهو كتاب بديع في معناه وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى «سفر الهجرتين ، وطريق السعادتين » .

وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ، ولا يتنعمون بها . وليست الصلاة قرة أعينهم . وليست الأوامر سرور قلوبهم ، وغذاء أرواحهم وحياتهم . ولهذا يسمونها «تكاليف » أي قد كلفوا بها . ولو سمى مُدَّع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا ، وقال : إني إنما أفعله بكلفة ، لم يعده أحد محبا له . ولهذا أنكر هؤلاء - أو كثير منهم - محبة العبد لربه . وقالوا : إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به . لا أنه يحب ذاته . فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه .

و«حقيقة العبودية » : هي كمال المحبة . فأنكروا حقيقة العبودية ولُبَّها .

و«حقيقة الإلهية » : كونه مألوها محبوبا بغاية الحب ، المقرون بغاية الذل والخضوع والإجلال والتعظيم . فأنكروا كونه محبوبا . وذلك إنكار لإلهيته ، وشيخ هؤلاء : هو «الجَعْد بن درهم » الذي ضحى به «خالد بن عبد الله القسري » في يوم أضحى . وقال : «إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ، ولم يتخذ إبراهيم خليلا » وإنما كان إنكاره : لكونه تعالى محبوبا محبا ، لم ينكر حاجة إبراهيم إليه ، التي هي الخلة عند الجهمية ، التي يشترك فيها جميع الخلائق . فكلهم أخلاء لله عندهم .

وقد بينا فساد قولهم هذا وإنكارهم محبة الله من أكثر من ثمانين وجها في كتابنا المسمى «قرة عيون المحبين ، وروضة قلوب العارفين » وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية وأنه لا كمال للإنسان بدون ذلك البتة ، كما أنه لا كمال لجسمه إلا بالروح والحياة ، ولا لعينه إلا بالنور الباصر ، ولا لأذنه إلا بالسمع ، وأن الأمر فوق ذلك وأعظم .

الصنف الثاني : ( القدرية النفاة ) :

الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل . ولكن لا يقوم بالرب ، ولا يرجع إليه . بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته .

فعندهم : أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم ، وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير .

قالوا : ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } [ الأعراف : 43 ] ، وقوله : { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } [ النحل : 32 ] ، وقوله : { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } [ النمل : 90 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم - فيما يحكى عن ربه عز وجل - «يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها » ، وقوله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] .

قالوا : وقد سماه الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا ؛ لأنه يثوب إلى العامل من عمله أي يرجع إليه منه .

قالوا : ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءا ولا أجرا ولا ثوابا معنى .

قالوا : ويدل عليه الوزن . فلولا تعلق الثواب والعقاب بالأعمال واقتضائها لها ، وكونها كالأثمان لها ، لم يكن للوزن معنى . وقد قال تعالى : { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون } [ الأعراف : 8 . 9 ] .

وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل . وبينهما أعظم التباين .

فالجبرية : لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة . وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته ، وينعم من أفنى عمره في معصيته . وكلاهما بالنسبة إليه سواء .

وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم منه عملا ، وأكثر وأفضل درجات . والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة ، من غير تعليل ولا سبب ، ولا حكمة تقتضي تخصيص هذا بالثواب ، وهذا بالعقاب .

والقدرية : أوجبت على الله سبحانه رعاية الأصلح . وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنا لها ، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيص باحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن .

فقاتلهم الله . ما أجهلهم بالله وأغرَّهم به ! جعلوا تفضله وإحسانه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد ، حتى قالوا : إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل .

فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة . ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء البتة .

والطائفتان جائرتان ، منحرفتان عن الصراط المستقيم ، الذي فطر الله عليه عباده ، وجاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب . وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب . مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها ، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومَنّه ، وصدقته على عبده إن أعانه عليها ووفقه لها ، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها ، وحَبَّبها إليه ، وزينها في قلبه وكرَّه إليه أضدادها . ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ، ولا هي على قدره ، بل غايتها - إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده ، وأوقعها على أكمل الوجوه - أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه . فلو طالبه بحقه لبقى عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها . فلذلك لو عَذَّب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم . ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم . كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله » - وفي لفظ : «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله » . وفي لفظ : «لن ينجي أحدا منكم عمله » - قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل » ، وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل كما في قوله : { ادخلو الجنة بما كنتم تعملون } [ النحل : 32 ] .

ولا تنافي بينها إذا توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد . فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال ، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ، ردا على القدرية المجوسية ، التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة .

وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله ، وأغلظهم عنه حجابا . وحُقَّ لهم أن يكونوا مجوس هذه الأمة . ويكفي في جهلهم بالله : أنهم لم يعلموا أن أهل سمواته وأرضه في منته ، وأن من تمام الفرح والسرور ، والغبطة واللذة اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق ، وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة . وأعظمهم منه منزلة ، وأقربهم إليه أعرفهم بهذه المنة ، وأعظمهم إقرارا بها ، وذكرا لها ، وشكرا عليها ، ومحبة له لأجلها . فهل يتقلب أحد قط إلا في منته ؟ { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنت صادقين } [ الحجرات : 17 ] .

واحتمال منة المخلوق : إنما كانت نقصا لأنه نظيره . فإذا مَنَّ عليه استعلَى عليه ، ورأى الممنونُ عليه نفسه دونه . هذا مع أنه ليس في كل مخلوق ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم المنة على أمته ، وكان أصحابه يقولون «الله ورسوله أمَنُّ » ولا نقص في منة الوالد على ولده ، ولا عار عليه في احتمالها . وكذلك السيد على عبده . فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ، ومحض صدقته عليهم ، بلا عوض منهم البتة ؟

وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده . فهو المنان عليهم . بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها ، وأعانهم عليها ، وكملها لهم ، وقبلها منهم على ما فيها ؟

وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله : { بما كنتم تعملون } . فهذه «باء » السببية ، ردا على القدرية والجبرية ، الذين يقولون : لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ، ولا هي أسباب له . وإنما غايتها أن تكون أمارات .

قالوا : وليست أيضا مطردة ، لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر . فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة .

فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء ، كما هي مبطلة لقول أولئك . وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين . وتبين لمن له قلب ولب : مقدار قول أهل السنة . وهم الفرقة الوسط . المثبتون لعموم مشيئة الله ، وقدرته ، وخلقه العباد وأعمالهم ، ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها ، وانعقادها بها شرعا وقدرا ، وترتيبها عليها عاجلا وآجلا .

وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق ، وارتكبت لأجله نوعا من الباطل ، بل أنواعا . وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 213 ] ، و{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } [ الجمعة : 4 ] .

الصنف الثالث : ( الذين زعموا أن فائدة العبادة : رياضة النفوس ) ، واستعدادها لفيض العلوم عليها ، وخروج قواها عن قوى النفوس السَّبُعية والبهيمية . فلو عُطلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم . والعبادات تخرجها عن مألوفاتها وعوائدها ، وتنقلها إلى مشابهة العقول المجردة . فتصير عالمة قابلة لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها .

وهذا يقوله طائفتان :

إحداهما : من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة ، القائلين بقدم العالم ، وعدم انشقاق الأفلاك ، وعدم الفاعل المختار .

الطائفة الثانية : من تفلسفت من صوفية الإسلام . وتقرب إلى الفلاسفة . فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لاستعداد النفوس وتجردها ، ومفارقتها العالم الحسي ، ونزول الواردات والمعارف عليها .

ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلا لهذا المعنى . فإذا حصل لها بقي مخيرا في حفظه أو ردّه ، أو الاشتغال بالوارد عنها . ومنهم من يوجب القيام بالأوراد والوظائف . وعدم الإخلال بها . وهم صنفان أيضا :

أحدهما : من يوجبونه حفظا للقانون ، وضبطا للنفوس .

والآخرون : الذين يوجبونه حفظا للوارد ، وخوفا من تدرج النفس - بمفارقتها له - إلى حالتها الأولى من البهيمية .

فهذه نهاية أقدام المتكلمين على طريق السلوك . وغاية معرفتهم بحكم العبادة وما شرعت لأجله . ولا تكاد تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة ، على سبيل الجمع ، أو على سبيل البدل .

وأما الصنف الرابع : ( فهم الطائفة المحمدية الإبراهيمية ) ، أتباع الخليلين ، العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه ، وأهل البصائر في عبادته ، ومراده بها .

فالطوائف الثلاث محجوبون عنهم بما عندهم من الشبه الباطلة ، والقواعد الفاسدة .

ما عندهم وراء ذلك شيء . قد فرحوا بما عندهم من المحال ، وقنعوا بما ألفوه من الخيال . ولو علموا أن وراءه ما هو أجل منه وأعظم ، لما ارتضوا بدونه ، ولكن عقولهم قصرت عنه ، ولم يهتدوا إليه بنور النبوة ، ولم يشعروا به ، ليجتهدوا في طلبه ، ورأوا أن ما معهم خير من الجهل ، ورأوا تناقض ما مع غيرهم وفساده .

فتركب من هذه الأمور إيثار ما عندهم على ما سواه . وهذه بلية الطوائف . والمعافى من عافاه الله .

[ الغاية من العبودية وحكمتها ]

فاعلم أن سر العبودية ، وغايتها وحكمتها : إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ، ولم يعطلها . وعرف معنى الإلهية وحقيقتها ، ومعنى كونه إلها ، بل هو الإله الحق ، وكل إله سواه فباطل ، بل أبطل الباطل . وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له ، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها ، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات ، وكارتباط المعلوم بالعلم ، والمقدور بالقدرة ، والأصوات بالسمع ، والإحسان بالرحمة والعطاء بالجود .

فمن أنكر «حقيقة الإلهية » ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها ، وما شرعت لأجله ؟ ! وكيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق ، والتي لها خلقوا ، ولها أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، ولأجلها خلقت الجنة والنار ؟ ! وأن فرض تعطيل الخليقة عنها : نسبة لله إلى ما لا يليق به ، ويتعالى عنه مَنْ خلق السموات والأرض بالحق ، ولم يخلقهما باطلا . ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا . قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] ، أي لغير شيء ولا حكمة ، ولا لعبادتي ومجازاتي لكم ، وقد صرح تعالى بهذا في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] .

فالعبادة : هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها . قال الله تعالى : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } [ القيامة : 36 ] أي مهملا . قال الشافعي : لا يؤمر ولا ينهى ، وقال غيره : لا يثاب ولا يعاقب .

والصحيح : الأمران ؛ فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي . والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها . وحقيقة العبادة : امتثالهما . وقال تعالى : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 191 ] ، وقال : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الحجر : 85 ] ، وقال : { وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت } [ الجاثية : 22 ] .

فأخبر أنه خلق السموات والأرض بالحق ، المتضمن أمره ونهيه ، وثوابه وعقابه . فإذا كانت السموات والأرض وما بينهما خلقت لهذا ، وهو غاية الخلق ، فكيف يقال : إنه لا علة له ، ولا حكمة مقصودة هي غايته ؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكد عليهم الثواب بالمنة ، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية ، وارتياضها بمخالفة العوائد ؟

فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال ، وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره ، ولا عرفوه حق معرفته فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته ، الجامعة لكمال محبته . مع الخضوع له والانقياد لأمره .

فأصل العبادة : ( محبة الله ) ، بل إفراده بالمحبة ، وأن يكون الحب كله لله . فلا يحب معه سواه ، وإنما يحب لأجله وفيه ، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه . فمحبتنا لهم من تمام محبته ، وليست محبة معه ، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه .

[ من علامات محبة الله : اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ]

وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها ، فهي إنما تتحقق باتباع أمره ، واجتناب نهيه . فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة . ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها ، وشاهدا لمن ادعاها ، فقال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله ، وشرطا لمحبة الله لهم . ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة . فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم . فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله ، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله .

ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم : هي حب الله ورسوله ، وطاعة أمره صلى الله عليه وسلم . ولا يكفي ذلك في العبودية ، حتى يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبد مما سواهما . فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة ، ولا يهديه الله . قال الله تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } [ التوبة : 24 ] .

فكل من قدّم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه . أو معاملة أحدهم على معاملة الله : فهو ممن ليس الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما . وإن قاله بلسانه فهو كذب منه ، وإخبار بخلاف ما هو عليه . وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله . فذلك المقدَّم عنده أحبُّ إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه ، أو طاعته أو مرضاته ، ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم . فيطيعه ، ويحاكم إليه ، ويتلقى أقواله كذلك . فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك . وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا ، أو في بعض الأمور . ولم يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى من هو أولى به . فهذا الذي يخاف عليه . وهو داخل تحت الوعيد . فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ، ولم يوافقه على اتباع شيخه ، فهو من الظلمة المعتدين ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا .

فصل [ مراتب العبودية وقواعدها ]

وبنى { إياك نعبد } على أربع قواعد : التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه صلى الله عليه وسلم ، من قول اللسان والقلب ، وعمل القلب الجوارح .

فالعبودية : اسم جامع لهذه المراتب الأربع . فأصحاب { إياك نعبد } حقا هم أصحابها .

فقول القلب : هو اعتقاد ما أخبر الله - سبحانه - به عن نفسه ، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله .

وقول اللسان : الإخبار عنه بذلك ، والدعوة إليه ، والذب عنه ، وتبيين بطلان البدع المخالفة له ، والقيام بذكره ، وتبليغ أوامره .

وعمل القلب : كالمحبة له ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والخوف منه والرجاء له ، وإخلاص الدين له ، والصبر على أوامره ، وعن نواهيه ، وعلى أقداره ، والرضى به وعنه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، والذل له والخضوع ، والإخبات إليه ، والطمأنينة به ، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها . وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة .

وأعمال الجوارح : كالصلاة والجهاد ، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ، ومساعدة العاجز ، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك .

ف { إياك نعبد } التزام لأحكام هذه الأربعة ، وإقرار بها .

و{ إياك نستعين } طلب للإعانة عليها والتوفيق لها .

و{ اهدنا الصراط المستقيم } متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل ، وإلهام القيام بهما ، وسلوك طريق السالكين إلى الله بهما .

فصل [ دعوة الرسل جميعا إلى عبودية الله وتوحيده ]

وجميع الرسل إنما دعوا إلى { إياك نعبد وإياك نستعين } فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته ، من أولهم إلى آخرهم .

فقال نوح – عليه السلام – لقومه : { اعبدوا لله مالكم من إله غيره } [ الأعراف : 59 ] ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم – عليهم السلام - قال الله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] ، وقال : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } [ المؤمنون : 51 . 52 ] .

فصل [ العبودية صفة أكمل الخلق ]

والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه ، وأقربهم إليه . فقال : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } [ النساء : 172 ] ، وقال : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] ، وهذا يبين أن الوقف التام في قوله في سورة الأنبياء : { وله من في السموات والأرض } [ الأنبياء : 19 ] هاهنا . ثم يبتدئ { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 19 . 20 ] فهما جملتان تامتان مستقلتان ، أي : إن له من في السموات ومن في الأرض عبيدا وملكا . ثم استأنف جملة أخرى فقال : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } يعني : أن الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ، يعني : لا يأنفون عنها ، ولا يتعاظمون ولا يستحسرون ، فيعيون وينقطعون – يقال : حَسَر واستحسر ، إذا تعب وأعيا - بل عبادتهم وتسبيحهم كالنفس لبني آدم . فالأول : وصف لعبيد ربوبيته . والثاني : وصف لعبيد إلهيته . وقال تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } [ الفرقان : 63 ] إلى آخر السورة ، وقال : { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } [ الإنسان : 6 ] ، وقال : { واذكر عبدنا داود } وقال : { واذكر عبدنا أيوب } [ ص : 41 ] ، وقال : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب } [ ص : 45 ] ، وقال عن سليمان - عليه السلام - : { نعم العبد إنه أواب } [ ص : 30 ] ، وقال عن المسيح – عليه السلام - : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } [ الزخرف : 59 ] ، فجعل غايته العبودية لا الإلهية ، كما يقول أعداؤه النصارى . ووصف أكرم خلقه عليه ، وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية ( سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ) في أشرف مقاماته . فقال تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } [ البقرة : 23 ] ، وقال تبارك وتعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] ، وقال : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } [ الكهف : 1 ] ، فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه ، وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله ، وقال : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } [ الجن : 19 ] ، فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه ، وقال : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } [ الإسراء 1 ] فذكره بالعبودية في مقام الإسراء .

وفي «الصحيح » عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله » . وفي الحديث : «أنا عبد ، آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد » . وفي «صحيح البخاري » عن عبد الله بن عمرو قال : «قرأت في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم : محمد رسول الله ، عبدي ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صَخَّاب بالأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر » .

وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده . فقال تعالى : { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 17 . 18 ] ، وجعل الأمن المطلق لهم . فقال تعالى : { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } [ الزخرف : 28 . 29 ] ، وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة ، وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به . فقال : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] ، وقال : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } [ النحل : 99 . 100 ] .

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين ، وهو «الإحسان » . فقال في حديث جبريل – عليه السلام – وقد سأله عن الإحسان - : «أن تعبد الله كأنك تراه . فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .

فصل : ( في لزوم { إياك نعبد } لكل عبد إلى الموت )

قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] ، وقال أهل النار : { وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين } [ المدثر : 46 . 47 ] ، واليقين هاهنا : هو «الموت » بإجماع أهل التفسير . وفي «الصحيح » - في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه » أي : الموت وما فيه .

فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف ، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان «من كان يعبد ؟ وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ » ويلتمسان منه الجواب .

وعليه عبودية أخرى يوم القيامة ، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود . فيسجد المؤمنون . ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود . فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك ، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا .

ومن زعم أنه يصل إلى «مقام » يسقط عنه فيه التعبد ، فهو زنديق كافر بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم . وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله ، والانسلاخ من دينه . بل كلما تمكن العبد في «منازل العبودية » كانت عبوديته أعظم ، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه . ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بل على جميع الرسل - أعظم من الواجب على أممهم . والواجب على أولي العزم : أعظم من الواجب على من دونهم . والواجب على أولي العلم : أعظم من الواجب على من دونهم . وكل أحد بحسب مرتبته .

فصل : ( في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة )

العبودية نوعان : عامة وخاصة .

فالعبودية العامة : ( عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله ) : بَرِّهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم . فهذه ( عبودية القهر والملك ) . قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا } [ مريم : 88 . 93 ] فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم .

وقال تعالى : { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] فسماهم عباده مع ضلالهم . لكن تسمية مقيدة بالإشارة . وأما المطلقة : فلم تجئ إلا لأهل النوع الثاني ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله . وقال تعالى : { قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } [ الزمر : 46 ] وقال : { وما الله يريد ظلما للعباد } [ غافر : 31 ] وقال : { إن الله قد حكم بين العباد } [ غافر : 48 ] ، فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة .

وأما النوع الثاني : ( فعبودية الطاعة والمحبة ، واتباع الأوامر )

قال تعالى : { يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } [ الزخرف : 68 ] ، وقال : { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 17 . 18 ] ، وقال : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } [ الفرقان : 63 ] ، وقال تعالى عن إبليس : { لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين } [ الحجر : 39 . 40 ] ، فقال تعالى عنهم : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر : 42 ] .

فالخلق كلهم عبيد ربوبيته . وأهل طاعته وولايته : هم عبيد إلهيته .

ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء .

وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية : فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه :

( الأول ) : ( إما منكرا ) كقوله : { إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا } [ مريم : 93 ] .

والثاني : ( معرفا باللام ) ، كقوله : { وما الله يريد ظلما للعباد } [ غافر : 31 ] ، { إن الله قد حكم بين العباد } [ غافر : 48 ] .

الثالث : ( مقيدا بالإشارة أو نحوها ) كقوله : { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] .

الرابع : ( أن يذكروا في عموم عباده ) . فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر .

الخامس : ( أن يذكروا موصوفين بفعلهم ) . كقوله : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] .

وقد يقال : إنما سماهم «عباده » إذ لم يقنطوا من رحمته ، وأنابوا إليه ، واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم ، فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة .

وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة ؛ لأن أصل معنى اللفظة : الذل والخضوع . يقال «طريق مُعَبَّد » إذا كان مُذَلَّلا بوطء الأقدام ، و«فلان عَبَّده الحب » إذا ذلَّلَه ، لكن أولياؤه خضعوا له وَذَلُّوا طوعا واختيارا ، وانقيادا لأمره ونهيه . وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما .

[ والقنوت والسجود فيه خاص وعام ]

ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة : انقسام «القنوت » إلى خاص وعام ، و«السجود » كذلك .

قال تعالى في «القنوت الخاص » : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } [ الزمر : 9 ] وقال في حق مريم – عليها السلام - : { وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] ، وهو كثير في القرآن .

وقال في «القنوت العام » : { وله من في السموات والأرض كل له قانتون } [ الروم : 26 ] أي خاضعون أذلاء .

وقال في «السجود الخاص » : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] ، وقال : { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } [ مريم : 58 ] ، وهو كثير في القرآن .

وقال في «السجود العام » : { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .

ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله : { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } [ الحج : 18 ] ، فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل : { ولله يسجد ما في السموات والأرض من دابة والملائكة } [ النحل : 49 ] ، وهو سجود الذل والقهر والخضوع . فكل أحد خاضع لربوبيته ، ذليل لعزته . مقهور تحت سلطانه تعالى .

فصل : ( في مراتب { إياك نعبد } علما وعملا )

للعبودية مراتب ، بحسب العلم والعمل .

فأما مراتبها العلمية فمرتبتان :

إحداهما : العلم بالله .

والثانية : العلم بدينه .

فأما العلم به سبحانه ، فخمس مراتب :

العلم بذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، وأسمائه ، وتنزيهه عما لا يليق به .

والعلم بدينه ، مرتبتان :

إحداهما : دينه الأمري الشرعي . وهو الصراط المستقيم الموصل إليه . والثانية : دينه الجزائي ، المتضمن ثوابه وعقابه . وقد دخل في هذا العلم العلمُ بملائكته وكتبه ورسله .

وأما مراتبها العلمية ، فمرتبتان : مرتبة لأصحاب اليمين ، ومرتبة للسابقين المقربين . فأما مرتبة أصحاب اليمين : فأداء الواجبات ، وترك المحرمات ، مع ارتكاب المباحات ، وبعض المكروهات ، وترك بعض المستحبات .

وأما مرتبة المقربين : فالقيام بالواجبات والمندوبات . وترك المحرمات والمكروهات ، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم ، متورعين عما يخافون ضرره .

وخاصتهم : قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين ، بل كل أعمالهم راجحة . ومَنْ دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات . وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات . ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله .

فصل [ قواعد العبودية وأحكامها ]

ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة . مَنْ كَمَّلها كمل مراتب العبودية . وبيانها : أن العبودية منقسمة على : القلب ، واللسان ، والجوارح . وعلى كل منها عبودية تخصه .

والأحكام التي للعبودية خمسة : واجب ، ومستحب ، وحرام ، ومكروه ، ومباح .

وهي لكل واحد من : القلب ، واللسان ، والجوارح .

[ عبوديات القلب ]

فواجب القلب : منه متفق على وجوبه ، ومختلف فيه :

فالمتفق على وجوبه : كالإخلاص ، والتوكل ، والمحبة ، والصبر ، والإنابة ، والخوف ، والرجاء ، والتصديق الجازم ، والنية في العبادة ، وهذه قدر زائد على الإخلاص .

فإن «الإخلاص » هو : إفراد المعبود عن غيره .

ونية العبادة لها مرتبتان : إحداهما : تمييز العبادة عن العادة .

والثانية : تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض .

والأقسام الثلاثة واجبة . وكذلك الصدق .

[ الفرق بين الصدق والإخلاص ]

والفرق بينه وبين الإخلاص : أن للعبد مطلوبا وطلبا .

فالإخلاص : توحيد مطلوبه . والصدق : توحيد طلبه .

فالإخلاص : أن لا يكون المطلوب منقسما . والصدق : أن لا يكون الطلب منقسما . فالصدق : بذل الجهد ، والإخلاص : إفراد المطلوب .

واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة .

وكذلك النصح في العبودية ومدار الدين عليه . وهو : بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له . وأصل هذا واجب . وكماله مرتبة المقربين .

وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان : واجب مستحق - وهو مرتبة أصحاب اليمين - وكمال مستحب : وهو مرتبة المقربين .

وكذلك الصبر : واجب باتفاق الأمة ، قال الإمام أحمد : ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن ، أو بضعا وتسعين ، وله طرفان أيضا : واجب مستحق ، وكمال مستحب .

وأما المختلف فيه : ف( كالرضا ) . فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية .

والقولان لأصحاب أحمد . فمن أوجبه قال : السخط حرام . ولا خلاص عنه إلا بالرضا . وما لا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب .

واحتجوا بأثر : «من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ ربا سواي » .

ومن قال هو مستحب ، قال : لم يجئ الأمر به في القرآن ولا في السنة ، بخلاف الصبر ، فإن الله أمر به في مواضع كثيرة من كتابه .

وكذلك التوكل : قال : { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } [ يونس : 84 ] . وأمر بالإنابة : فقال : { وأنيبوا إلى ربكم } [ الزمر : 54 ] .

وأمر بالإخلاص : كقوله { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] .

وكذلك الخوف : كقوله { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 175 ] ، وقوله { فلا تخشوهم واخشون } [ المائدة : 3 ] ، وقوله { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] .

وكذلك الصدق : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 119 ] .

وكذلك المحبة : وهي أفرض الواجبات . إذ هي قلب العبادة المأمور بها ، ومُخُّهَا وروحها .

وأما الرضا : فإنما جاء في القرآن مدح أهله ، والثناء عليهم . لا الأمر به .

قالوا : وأما الأثر المذكور فإسرائيلي . لا يحتج به .

قالوا : وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع ، فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا » وهو في بعض «السنن » .

قالوا : وأما قولكم «لا خلاص عن السخط إلا به » فليس بلازم . فإن مراتب الناس في المقدور ثلاثة : الرضا . ( وهو أعلاها ) ، والسخط . ( وهو أسفلها ) ، والصبر عليه بدون الرضا به . ( وهو أوسطها ) .

فالأولى للمقربين السابقين . والثالثة للمقتصدين . والثانية للظالمين ، وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط . وهو غير راض به . فالرضا أمر آخر .

وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم ، وظن أنهما متباينان . وليس كما ظنه . فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به ، راض به والصائم في شهر رمضان في شدة الحر متألم بصومه راض به ، والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها . فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به .

وهذا الخلاف بينهم ، إنما هو في الرضا بقضائه الكوني ، وأما الرضا به ربا وإلها ، والرضا بأمره الديني : فمتفق على فرضيته ، بل لا يصير العبد مسلما إلا بهذا الرضا : أن يرضى بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا .

[ هل تعاد الصلاة إذا غلبت عليها الوسوسة ]

ومن هذا أيضا اختلافهم في الخشوع في الصلاة . وفيه قولان للفقهاء ، وهما في مذهب أحمد – رحمه الله – وغيره .

وعلى القولين : اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته . فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد ، وأبو حامد الغزالي في «إحيائه » ، ولم يوجبها أكثر الفقهاء .

واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله : «إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته ، فيقول : اذكر كذا ، اذكر كذا - لما لم يكن يذكر - حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى » .

ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها ، ثلثها ، ربعها - حتى بلغ عشرها » ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها » ، فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها عليها ، وإن سميت صحيحة باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة ولا ينبغي أن يعلق لفظ الصحة عليها . فيقال «صلاة صحيحة » مع أنه لا يثاب عليها فاعلها .

والقصد : أن هذه الأعمال - واجبها ومستحبها - هي عبودية القلب . فمن عطلها فقد عطل عبودية الملك ، وإن قام بعبودية رعيته من الجوارح .

والمقصود : أن يكون ملك الأعضاء - وهو القلب - قائما بعبوديته لله سبحانه ، هو ورعيته .

[ أنواع المعاصي من عمل القلب ]

وأما المحرمات التي عليه : فالكبر ، والرياء ، والعجب ، والحسد ، والغفلة ، والنفاق . . . .

وهي نوعان : ( كفر ، ومعصية ) .

فالكفر : كالشك ، والنفاق ، والشرك ، وتوابعها .

والمعصية نوعان : ( كبائر ، وصغائر ) .

فالكبائر : كالرياء ، والعجب ، والكبر ، والفخر ، والخيلاء ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، والفرح والسرور بأذى المسلمين ، والشماتة بمصيبتهم ، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم ، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله ، وتمنى زوال ذلك عنهم ، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا ، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة . ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها ، والتوبة منها . وإلا فهو قلب فاسد . وإذا فسد القلب فسد البدن .

وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب وترك القيام بها .

فوظيفة { إياك نعبد } على القلب قبل الجوارح . فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا بد . وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها .

وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه ، وقد تكون كبائر ، بحسب قوتها وغلظها ، وخفتها ودقتها .

ومن الصغائر أيضا : شهوة المحرمات وتمنيها . وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر ، بحسب تفاوت درجات المشتهَى . فشهوة الكفر والشرك : كفر . وشهوة البدعة : فسق . وشهوة الكبائر : معصية . فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب . وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها : استحق عقوبة الفاعل ، لتنزيله منزلته في أحكام الثواب والعقاب ، وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع . ولهذا قال النبيِ صلى الله عليه وسلم : «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار » . قالوا : هذا القاتل . يا رسول الله . فما بال المقتول ؟ قال : «إنه كان حريصا على قتل صاحبه » فنزله منزلة القاتل ، لحرصه على قتل صاحبه ، في الإثم دون الحكم . وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب .

وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه .

فصل ( وأما عبوديات اللسان الخمس )

فواجبها : النطق بالشهادتين ، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن . وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه ، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم ، كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود ، وأمر بقول «ربنا ولك الحمد » بعد الاعتدال ، وأمر بالتشهد ، وأمر بالتكبير .

ومن واجبه : رد السلام . وفي ابتدائه قولان .

ومن واجبه : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعليم الجاهل ، وإرشاد الضال ، وأداء الشهادة المتعينة ، وصدق الحديث .

وأما مستحبه : فتلاوة القرآن ، ودوام ذكر الله ، والمذاكرة في العلم النافع وتوابع ذلك .

وأما محرمه فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، والدعاء إليها ، وتحسينها وتقويتها ، وكالقذف وسب المسلم ، وأذاه بكل قول . والكذب ، وشهادة الزور ، والقول على الله بلا علم . وهو أشدها تحريما .

ومكروهة : التكلم بما تَرْكُه خير من الكلام به ، مع عدم العقوبة عليه .

وقد اختلف السلف : هل في حقه كلام مباح ، متساوي الطرفين ؟ على قولين . ذكرهما ابن المنذر وغيره . أحدهما : أنه لا يخلو كل ما يتكلم به : إما أن يكون له أو عليه . وليس في حقه شيء لا له ولا عليه .

واحتجوا بالحديث المشهور . وهو : «كل كلام ابن آدم عليه ، لا له . إلا ما كان من ذكر الله وما والاه .

واحتجوا بأنه يكتب كلامه كله . ولا يكتب إلا الخير والشر .

وقالت طائفة : بل هذا الكلام مباح ، لا له ولا عليه ، كما في حركات الجوارح .

قالوا : لأن كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي . وهذا شأن المباح .

والتحقيق : أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين ، بل إما راجحة وإما مرجوحة ؛ لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح . و«إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، تقول : اتق الله . فإنما نحن بك . فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا » ، وأكثر ما يُكِبُّ الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم ، وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو لا . فإن كان كذلك فهو الراجح ، وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح . وهذا بخلاف سائر الجوارح . فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطرفين ، لما له في ذلك من الراحة والمنفعة ، فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ، ولا مضرة عليه فيه في الآخرة . وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة . فتأمله .

فإن قيل : فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين . فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل .

قيل : حركته بها عند الحاجة إليها راجحة ، وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده . فتكون عليه لا له .

فإن قيل : فإذا كان الفعل متساوي الطرفين ، كانت حركة اللسان التي هي الوسيلة إليه كذلك ، إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم .

قيل : لا يلزم ذلك . فقد يكون الشيء مباحا ، بل واجبا ، ووسيلته مكروهة - كالوفاء بالطاعة المنذورة - هو واجب ، مع أن وسيلته - وهو النذر - مكروه منهي عنه .

وكذلك الحلف المكروه مرجوح ، مع وجوب الوفاء به أو الكفارة ، وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه ، ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة . وهذا كثير جدا . فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها ، وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه .

فصل ( وأما العبوديات الخمس على الجوارح )

فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا . إذ الحواس خمسة وعلى كل حاسة خمس عبوديات .

( 1 ) ( فعلى السمع ) :

وجوب الإنصات ، والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه : من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما ، وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام ، واستماع الخطبة للجمعة ، في أصح قولي العلماء .

ويحرم عليه : استماع الكفر والبدع ، إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة : من ردّه ، أو الشهادة على قائله ، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك ، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره ، ولا يحب أن يطلعك عليه ، ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به ، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه .

وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تُخْشَى الفتنة بأصواتهن ، إذا لم تدع إليه حاجة : من شهادة ، أو معاملة ، أو استفتاء ، أو محاكمة ، أو مداواة ونحوها .

وكذلك استماع المعازف ، وآلات الطرب واللهو ، كالعود والطنبور واليراع ونحوها .

ولا يجب عليه سَدُّ أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه ، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات . فحينئذ يجب تجنب سماعها وجوب سد الذرائع .

ونظير هذا المحرِمُ : لا يجوز له تعمد شم الطيب . وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامِّه لم يجب عليه سد أنفه .

ونظير هذا : نظرة الفجاءة لا تحرم على الناظر ، وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها .

وأما السمع المستحب : فكاستماع المستحب من العلم ، وقراءة القرآن ، وذكر الله ، واستماع كل ما يحبه الله ، وليس بفرض .

والمكروه : عكسه . وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه .

والمباح : ظاهر .

( وأما النظر ) : الواجب : فالنظر في المصحف ، وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها ، والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها ، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها ، ونحو ذلك .

والنظر الحرام : النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا ، وبغيرها إلا لحاجة ، كنظر الخاطب ، والمستام والمعامل ، والشاهد ، والحاكم ، والطبيب ، وذي المحرم .

والمستحب : النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما . والنظر في المصحف ، ووجوه العلماء الصالحين والوالدين ، والنظر في آيات الله المشهودة ، ليستدل بها على توحيده – سبحانه - ومعرفته وحكمته .

والمكروه : فضول النظر الذي لا مصلحة فيه . فإن له فضولا كما للسان فضولا . وكم قاد فضولها إلى فضول عَزَّ التخلص منها ، وأعيى دواؤها .

وقال بعض السلف : كانوا يكرهون فضول النظر ، كما يكرهون فضول الكلام .

والمباح : النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة .

ومن النظر الحرام : النظر إلى العورات . وهي قسمان :

عورة وراء الثياب ، وعورة وراء الأبواب .

ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ، ففقأ عينه ، لم يكن عليه شيء ، وذهبت هَدَرًا ، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته . وإن ضعفه بعض الفقهاء ، لكونه لم يبلغه النص ، أو تأوله .

وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله ، كعورة له هناك ينظرها ، أو ريبة هو مأمور - أو مأذون له - في الاطلاع عليها .

( وأما الذوق ) : الواجب : فتناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه ، وخوف الموت . فإن تركه حتى مات ماتَ عاصيا قاتلا لنفسه .

قال الإمام أحمد وطاووس – رحمهما الله - : من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار .

ومن هذا : تناول الدواء إذا تيقن النجاة به من الهلاك ، على أصح القولين : وإن ظن الشفاء به . فهل هو مستحب مباح أو الأفضل تركه ؟

فيه نزاع معروف بين السلف والخلف .

والذوق الحرام : كذوق الخمر ، والسموم القاتلة . والذوق الممنوع منه للصوم الواجب .

وأما المكروه فكذوق المشتبهات ، والأكل فوق الحاجة ، وذوق الطعام الفجاءة . وهو الطعام الذي تفجأ آكله ، ولم يُرد أن يدعوك إليه ، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها . وفي «السنن » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نهى عن طعام المتبارين » ، وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس .

والذوق المستحب : أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل ، مما أذن الله فيه .

والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل ، فينال منه غرضه . والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب .

وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها ، للأمر به عن الشارع .

والذوق المباح : ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان .

( وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم ) : فالشم الواجب : كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام ، كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة ؟ وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه ؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به ، وما لا يملك ؟

ومن هذا شم المقوِّم ، ورب الخبرة ، عند الحكم بالتقويم ، و( شم ) العبيد ونحو ذلك .

وأما الشم الحرام : فالتعمد لشم الطيب في الإحرام ، وشم الطيب المغصوب والمسروق ، وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الافتتان بما وراءه .

وأما الشم المستحب : فشم ما يعينك على طاعة الله ، ويقوي الحواس ، ويبسط النفس للعلم والعمل .

ومن هذا : هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك . ففي «صحيح مسلم » عن النبي من صلى الله عليه وسلم : «من عرض عليه ريحان فلا يرده . فإنه طيب الريح ، خفيف المحمل » .

والمكروه كشم طيب الظَّلَمة ، وأصحاب الشبهات ، ونحو ذلك .

والمباح : ما لا منع فيه من الله ولا تَبِعَة ولا فيه مصلحة دينية ، ولا تعلق له بالشرع

( وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس ) : فاللمس الواجب : كلمس الزوجة حين يجب جماعها ، والأمة الواجب إعفافها .

والحرام : لمس ما لا يحل من الأجنبيات .

والمستحب : إذا كان فيه غض بصره ، وكف نفسه عن الحرام ، وإعفاف أهله .

والمكروه : لمس الزوجة في الإحرام للذة . وكذلك في الاعتكاف ، وفي الصيام ، إذا لم يأمن على نفسه .

ومن هذا لمس بدن الميت - لغير غاسله - لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له . ولهذا يستحب ستره عن العيون ، وتغسيله في قميصه - في أحد القولين .

ولمس فخذ الرجل ، إذا قلنا هي عورة .

والمباح : ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية .

وهذه المراتب أيضا مرتبة على البطش باليد ، والمشي بالرجل . وأمثلتها لا تخفى .

فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله : واجب .

وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف .

والصحيح : وجوبه ليمكنه من أداء دينه ، ولا يجب لإخراج الزكاة .

وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر .

والأقوى في الدليل : وجوبه لدخوله في الاستطاعة ، وتمكنه بذلك من أداء النسك . والمشهور عدم وجوبه .

( ومن البطش ) الواجب : إعانة المضطر ، ورمي الجمار ، ومباشرة الوضوء والتيمم .

والحرام : كقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ونهب المال المعصوم ، وضرب من لا يحل ضربه ، ونحو ذلك ، وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنّرد ، أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة ، كالشطرنج ، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره ، أو دونه عند بعضهم . ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا ، إلا مقرونا بردها ونقضها . وكتابة الزور والظلم ، والحكم الجائر ، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب ، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ، ولاسيما أن كسبت عليه مالا { فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } [ البقرة : 79 ] ، وكذلك كتابة المفتي على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يكون مجتهدا مخطئا ، فالإثم موضوع عنه .

وأما المكروه : فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام ، وكتابة مالا فائدة في كتابته ، ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة .

والمستحب : كتابة كل ما فيه منفعة في الدين ، أو مصلحة لمسلم ، والإحسان بيده بأن يعين صانعا ، أو يصنع لأخرق ، أو يُفرغ من دَلْوه في دلو المستسقي ، أو يحمل له على دابته ، أو يمسكها حتى يحمل عليها ، أو يعاونه بيده فيما يحتاج له ونحو ذلك .

ومنه : لمس الركن بيده في الطواف ، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان .

والمباح : ما لا مضرة فيه ولا ثواب .

( وأما المشي ) الواجب : فالمشي إلى الجمعات والجماعات ، في أصح القولين ، لبضعة وعشرين دليلا ، مذكورة في غير هذا الموضع ، والمشي حول البيت للطواف الواجب ، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه ، والمشي إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إليه ، والمشي إلى صلة رحمه ، وبر والديه ، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه ، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر .

والحرام : المشي إلى معصية الله ، وهو من «رَجْلِ الشيطان » . قال تعالى : { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } [ الإسراء : 64 ] .

قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومُشاتهم . فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس .

وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا .

فواجبه : في الركوب في الغزو ، والجهاد ، الحج الواجب .

ومستحبه : في الركوب المستحب من ذلك ، ولطلب العلم ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين . وفي الوقوف بعرفة نزاع : هل الركوب فيه أفضل ، أم على الأرض ؟

والتحقيق : أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة : من تعليم للمناسك ، واقتداء به ، وكان أعون على الدعاء . ولم يكن فيه ضرر على الدابة .

وحرامه : الركوب في معصية الله عز وجل .

ومكروهه : الركوب للهو واللعب ، وكل ما تركُه خير من فعله .

ومباحه : الركوب لما لم يتضمن فوت أجر ، ولا تحصيل وزر .

فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء : القلب ، واللسان ، والسمع ، والبصر ، والأنف ، والفم ، واليد ، والرجل ، والفرج ، والاستواء على ظهر الدابة .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢
ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣
مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤
إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥
ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦
صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧