اللباب في علوم الكتاب لابن عادل

ابن عادل القرن التاسع الهجري

صفحة 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

بسم الله الرحمان الرحيم . وبه نستعين .

الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهذيه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

وبعد ، فهذا كتاب جمعته من أقوال العلماء في علوم القرآن وسميته : " اللباب في علوم الكتاب " ، ومن الله أسأل العون ، وبلوغ الأمل ، والعصمة من الخطأ والزلل .

الاستعاذة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .

هذا ليس من القرآن إجماعا ، وإنما تعرضت له ؛ لأنه واجب في أول القراءة ، أو مندوب ، وقيل : واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم وحده .

وأصح كيفيات اللفظ هذا اللفظ المشهور ؛ لموافقته قوله تعالى : { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] ورووا فيه حديثين :

قال الشافعي[1]-رضي الله عنه- : واجب أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهو قول أبي حنيفة[2]-رضي الله عنه- قالوا : لأن هذا النظم موافق للآية المتقدمة وموافق لظاهر الخبر .

وقال أحمد[3]-رضي الله تعالى عنه- : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إنه هو السميع العليم ؛ جمعا بين الآيتين .

وقال بعض الشافعية : الأولى أن يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ؛ لأن هذا –أيضا- جمع بين الآيتين .

وروى البيهقي[4] : في كتاب " السنن " بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم كبّر ثلاثا ، وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم[5] .

وقال الثوري[6] ، والأوزاعي[7] : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم .

وروى الضحاك[8] عن ابن عباس ، أن أول ما نزل جبريل-عليه السلام- على محمد- عليه الصلاة والسلام- قال : قل يا محمد : استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل : { بسم الله الرحمان الرحيم } { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق :1 ] .

ونقل عن بعضهم ، أنه كان يقول : أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد .

فصل

اتفق الأكثرون على أن وقت الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة .

وعن النخعي[9] : أنه بعدها ، وهو قول داود الأصفهاني[10] ، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين[11] .

وقالوا : إذا [ قرأ ][12] الفاتحة وأمّن ، يستعيذ بالله .

دليل الجمهور : ما روى جبير بن مطعم[13]-رضي الله عنه- : أن النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم-حين افتتح الصلاة قال : " الله أكبر كبيرا ، ثلاث مرات ، والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، ثلاث مرات ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " [14] .

واحتج المخالف بقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط ، وذكر الاستعاذة جزاء ، والجزاء متأخر عن الشرط ؛ فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن القراءة .

ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل ؛ لأن من قرأ القرآن ، فقد استوجب الثواب العظيم ، فربما يداخله العجب ؛ فيسقط ذلك الثواب ، لقوله –عليه الصلاة والسلام- : ( ثلاث مهلكات ) وذكر منها إعجاب المرء بنفسه[15] ، فلهذا السبب أمره الله- تعالى- [ بأن يستعيذ من الشيطان ؛ لئلا يحمله الشيطان بعد القراءة ][16] على عمل محبط ثواب تلك الطاعة .

قالوا : ولا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } أي : إذا أردت قراءة القرآن ؛ كما في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة :6 ] .

والمعنى : إذا أردتم القيام فتوضئوا ؛ لأنه لم يقل : فإذا صليتم فاغسلوا ؛ فيكون نظير قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } وإن سلمنا كون هذه الآية نظير تلك ، فنقول : نعم ، إذا قام يغسل عقيب قيامه إلى الصلاة ؛ لأن الأمر إنما ورد بالغسل عقيب قيامه ، وأيضا : فالإجماع[17] دل على ترك هذا الظاهر ، وإذا ترك الظاهر في موضع لدليل ، لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل .

أما جمهور الفقهاء –رحمهم الله تعالى- فقالوا : إن قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } يحتمل أن يكون المراد منه : إذا أردت ، وإذا ثبت الاحتمال ، وجب حمل اللفظ عليه توفيقا بين الآية وبين الخبر الذي رويناه ، ومما يقوّي ذلك من المناسبات العقلية ، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة ؛ قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسولا ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } [ الحج : 52 ] فأمره الله تعالى –بتقديم الاستعاذة قبل القراءة ؛ لهذا السبب .

قال ابن الخطيب[18] –رحمه الله تعالى- : " وأقول : هاهنا قول ثالث : وهو [ أن ][19] يقرأ الاستعاذة قبل القراءة ؛ بمقتضى الخبر ، وبعدها ؛ بمقتضى القرآن ؛ جمعا بين الدلائل بقدر الإمكان " .

قال عطاء[20]-رحمه الله تعالى- : الاستعاذة واجبة لكل قراءة ، سواء كانت في الصلاة أو غيرها .

وقال ابن سيرين –رحمه الله تعالى- : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره ، فقد كفى في إسقاط الوجوب ، وقال الباقون : إنها غير واجبة .

حجة الجمهور : أن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجّل وعظّم- لم يُعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة .

ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلم يلزم من عدم الاستعاذة فيه ، عدم وجوبها .

واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه :

الأول : أنه –عليه الصلاة والسلام- واظب عليه ؛ فيكون واجبا- لقوله تعالى : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] .

الثاني : أن قوله تعالى : { فاستعذ } أمر ؛ وهو للوجوب ، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل [ قراءة ] ، لأنه تعالى قال : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل ، والحكم يتكرر بتكرر العلة .

الثالث : أنه -تعالى- أمر بالاستعاذة ؛ لدفع شر الشيطان ؛ وهو واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب[21] .

فصل في حكم التعوذ قبل القراءة

التعوذ في الصلاة مستحب[22] قبل القراءة عند الأكثرين .

وقال مالك[23]-رضي الله تعالى عنه- لا يتعوذ في المكتوبة ، ويتعوذ في قيام شهر رمضان للآية والخبر ، وكلاهما يفيد الوجوب ، فإن لم يثبت الوجوب ، فلا أقل من الندب .

فصل في الجهر والإسرار بالتعوذ

روي أن عبد الله بن عمر[24] –رضي الله تعالى عنهما- لما قرأ ، أسر بالتعويذ .

وعن أبي هريرة[25]-رضي الله تعالى عنه- : أنه جهر به ؛ ذكره الشافعي –رحمه الله تعالى- في " الأم " ، ثم قال : فإن جهر به جاز ، [ وإن أسرّ به جاز ][26] .

فصل في موضع الاستعاذة من الصلاة

قال ابن الخطيب[27] : " أقول : إن الاستعاذة إنما تقرأ بعد الاستفتاح ، وقبل الفاتحة ، فإن ألحقناها بما قبلها ، لزم الإسرار ، وإن ألحقناها بالفاتحة ، لزم الجهر ، إلا أن المشابهة بينها ، وبين الاستفتاح أتمّ ؛ لكون كل منهما نافلة " .

فصل في بيان هل التعوذ في كل ركعة ؟

قال بعض العلماء –رحمهم الله- : إنه يتعوذ في كل ركعة .

وقال بعضهم : لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى .

حجته : أن الأصل هو العدم ، وما لأجله أمرنا بالاستعاذة ؛ هو قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] وكلمة " إذا " لا تفيد العموم .

ولقائل أن يقول : إن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلة ؛ فيتكرر الحكم بتكرر العلة .

فصل في بيان سبب الاستعاذة

التعوذ في الصلاة ، لأجل القراءة ، أم لأجل الصلاة ؟

عند أبي حنيفة[28] ومحمد[29]-رضي الله تعالى عنهما- أنه للقراءة[30] [ وعند أبي يوسف[31] : أنه للصلاة ][32] ويتفرع على هذا الأصل فرعان :

الأول : أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام ؟

عندهما : لا يتعوذ ؛ لأنه لا يقرأ ، وعنده يتعوذ ؛ وجه قولهما قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } [ النحل : 98 ] علّق الاستعاذة على القراءة ، ولا قراءة على المقتدي .

وجه قول أبي يوسف-رحمه الله- أن التعوذ لو كان للقراءة ؛ لكان يتكرر بتكرر القراءة ، ولما لم يكن كذلك ، بل يتكرر بتكرر الصلاة ؛ دل على أنها للصلاة .

الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللهم ، هل يقول : أعوذ بالله ، ثم يكبر ، أم لا ؟

عندهما أنه يكبر التكبيرات ، ثم يتعوذ عند القراءة .

وعند أبي يوسف-رحمه الله- يقدم التعوذ على التكبيرات .

فصل

السنة أن يقرأ القرآن مرتلا ؛ لقوله تبارك وتعالى : { ورتل القرآن ترتيلا } [ المزمل :4 ]

والترتيل : هو أن يذكر الحروف مبنية ظاهرة ، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه ؛ فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ ، وأفهم غيره تلك المعاني ، وإذا قرأها سردا ، لم يفهم ولم يفهم ، فكان الترتيل أولى .

روى أبو داود[33] -رحمه الله تعالى- بإسناده عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقال للقارئ : اقرأ وارق ، ورتل ، كما كنت ترتل في الدنيا ؛ [ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها )[34] ][35] .

قال أبو سليمان الخطابي[36]-رحمه الله- : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة ؛ يقال للقارئ : اقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن ، فمن استوفى ، فقرأ جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة .

فصل في استحباب تحسين القراءة جهرا

إذا قرأ القرآن جهرا ، فالسنة أن يحسن في القراءة ؛ روى أبو داود ، عن البراء بن عازب[37]-رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم )[38] .

فصل في صحة الصلاة مع النطق بالضاد والظاء .

قال ابن الخطيب-رحمه الله تعالى- : " المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء عندنا لا يبطل الصلاة ؛ ويدل عليه أن المشابهة حاصلة بينهما جدا ، والتمييز عسر ، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق .

بيان المشابهة أنهما من الحروف المجهورة ، وأيضا من الحروف الرّخوة ، وأيضا من الحروف المطبقة ، وأيضا : أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب ؛ قال-عليه الصلاة والسلام- : " أنا أفصح من نطق بالضاد " [39] فثبت بما ذكر أن المشابهة بينهما شديدة ، والتمييز عسير .

وأيضا : لم يقع السؤال عنه في زمن النبي –عليه الصلاة والسلام- وأزمنة الصحابة ، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام ، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذا البتة ، علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ، ليس في محل التكليف .

فصل في عدم جواز الصلاة بالوجوه الشاذة

اتفق على أنه لا تجوز القراءة [ في الصلاة ][40] بالوجوه الشاذة : لأن الدليل ينفي جواز القراءة مطلقا ، لأنها لو كانت من القرآن ، لوجب بلوغها إلى حد التواتر ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنها ليست من القرآن ، عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة بها خارج الصلاة ، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع .

فصل في قولهم : " القراءات المشهورة منقولة بالتواتر "

اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالتواتر[41] ، وفيه إشكال ؛ وذلك لأنا نقول : هذه القراءة إما أن تكون منقولة بالتواتر ، أو لا .

فإن كان الأول ، فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله-تعالى- قد خير المكلفين بين هذه القراءة ، وسوى بينهما في الجواز .

وإذا كان كذلك ، كان ترجيح بعضها على البعض واقعا على خلاف الحكم المتواتر ؛ فواجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض ، مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير ، لكنا نرى أن كل واحد يختص بنوع معين من القراءة ، ويحمل الناس عليها ، ويمنعهم من غيرها ، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه .

وإن قلنا : هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر ؛ بل بطريق الآحاد ، فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم ، والقطع اليقين ؛ وذلك باطل بالإجماع ؛ ولقائل أن يجيب عنه ؛ فيقول : بعضها متواتر ، ولا خلاف بين الأمة فيه ، وتجويز القراءة بكل واحد منها ؛ وبعضها من باب الآحاد ، لا يقتضي كون القراءة بكليته خارجا عن كونه قطعيا ، والله أعلم ؛ ذكره ابن الخطيب .

فصل في اشتقاق الاستعاذة وإعرابها

العوذ له معنيان : أحدهما : الالتجاء والاستجارة .

والثاني : الالتصاق ؛ ويقال : " أطيب [ اللحم ][42] عوّذه " هو : ما التصق بالعظم .

فعلى الأول : أعوذ بالله ، أي : ألتجئ إلى رحمة الله ، ومنه العوذة : وهي ما يعاذ به من الشر .

وقيل للرقية ، والتميمة-وهي ما يعلق على الصبي : عوذة ، وعوذة [ بفتح العين وضمها ][43] ، وكل أنثى وضعت فهي عائذ إلى سبعة أيام .

ويُقال : عاذ يعوذُ عَوذاً ، وعياذا ، ومَعَاذا ، فهو عائذ ومعوذ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] .

1-ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني[44]

قيل : عائذ -هنا- أصله اسم فاعل ؛ ولكنه وقع موقع المصدر ؛ كأنه قال : " وعياذا بك " وسيأتي تحقيق هذا القول إن شاء الله تعالى .

و " أعوذُ " فعل مضارع ، وأصله : " أعوذُ " بضم الواو ؛ مثل " أقتلُ ، وأخرجُ أنا " وإنما نقلوا حركة الواو إلى السّاكن قبلها ؛ لأن الضمة ثقيلة ، وهكذا كل مضارع من " فَعَلَ " عينه واو ؛ نحو : " أقوم ، ويقومُ ، وأجولُ ، ويجولُ " وفاعله ضمير المتكلم .

وهذا الفاعل لا يجوز بروزه ؛ بل هو من المواضع السبعة التي يجب فيها استتار الضمير على خلاف في السابع ولا بد من ذكرها ؛ لعموم فائدتها ، وكثرة دورها :

الأول : المضارع المسند للمتكلم وحده ؛ نحو : " أَفْعَلُ " .

الثاني : المضارع المسند للمتكلم مع غيره ، أو المعظم نفسه ؛ نحو : " نَفْعَلُ نحنُ " .

الثالث : المضارع المسند للمخاطب ؛ نحو " تَفْعَلُ أنْتَ " ، ويوحّد المخاطب بقيد الإفراد ، والتذكير ؛ لأنه متى كان مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا –وجب بروزه ؛ نحو : " تقومان-يقومون-تقومين " .

الرابع : فعل الأمر المسند للمخاطب ؛ نحو " أفعل أنت " ويوحد المخاطب أيضا- بقيد الإفراد ، والتذكير ؛ لأنه متى كان مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا-وجب بروزه ؛ نحو : " افعلا-افعلوا-افعلي " .

الخامس : اسم فعل الأمر مطلقا ، سواء كان المأمور مفردا ، أو مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا ؛ نحو : " صه يا زيد- يا زيدان- يا زيدون- يا هند- يا هندان- يا هندات " .

بخلاف فعل الأمر ؛ فإنه يبرز فيه ضمير غير المفرد المذكر ، كما تقدم .

السادس : اسم الفعل المضارع ؛ نحو : " أوَّهْ " أي : أتوجَّعُ ، و " أفٍّ " أي : أتضجّر ، و " وَيْ " أي : أعجب .

وهذه الستة لا يبرز فيها الضمير ؛ بلا خلاف .

وتحرزت بقولي : اسم فعل الأمر ، واسم الفعل المضارع " عن اسم الفعل الماضي ؛ فإنه لا يجب فيه الاستتار كما سيأتي .

السابع : المصدر الواقع موقع الفعل بدلا من لفظه ؛ نحو : " ضربا زيدا " ؛ وقول الشاعر : [ الطويل ] .

2- يمرّون بالدّهْنَا خِفافا عيابهم ويرجعن من دارين بجر الحقائب

على حين ألهى الناسَ جلُّ أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب[45]

وقوله تعالى : { فضرب الرقاب } [ محمد :4 ] .

هذا إذا جعلنا في " ضربا " ضميرا مستترا ؛ وأما من يقول من النحويين : إنه لا يتحمل ضميرا ألبتة ؛ فلا يكون من المسألة في شيء .

والضابط فيما يجب استتاره ، وإن عرف من تعداد الصور المتقدمة- " أن كل ضمير لا يحل محله ظاهر ، ولا ضمير متصل ، فهو واجب الاستتار كالمواضع المتقدمة ، وما جاز أن يحل محله أحدهما ، فهو جائز الاستتار ؛ نحو : " زيد قام " في " قام " ضمير جائز الاستتار ، ويحل محله الظاهر ؛ نحو : " زيد قام أبوه " أو الضمير المنفصل ، نحو : " زيد ما قام إلا هو " فإن وجد من لسانهم في أحد المواضع المتقدمة ، الواجب فيها الاستتار ضمير منفصل ، فليعتقد كونه توكيدا للضمير المستتر ؛ كقوله تعالى : { اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] ف " أنتَ " مؤكد لفاعل " اسكن " .

و " بالله " جار ومجرور ، وكذلك : " من الشيطان " وهما متعلقان ب " أعوذ " .

ومعنى الباء : الاستعانة ، و " مِنْ " للتعليل ، أي : أعوذ مستعينا بالله من أجل الشيطان ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لابتداء الغاية ، ولها معان أخر ستأتي إن شاء الله تعالى .

وأما الكلام على الجلالة ، فيأتي في البسملة إن شاء الله تعالى .

والشيطان : المتمرد من الجن ، وقيل : الشياطين أقوى من الجن ، والمردة أقوى من الشياطين ، والعفريت أقوى من المردة ، والعفاريت أقواها .

وقال أبو عبيدة[46] –رحمه الله- : الشيطان : اسم لكل عارم من الجن ، والإنس ، والحيوانات ؛ [ لبعده ][47] من الرشاد قال تبارك وتعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، فجعل من الإنس شياطين .

وركب عمر[48] –رضي الله تعالى عنه- بَرْذَوْناً ، فطفق يتبختر ، فجعل يضربه ، فلا يزداد إلا تبخترا ؛ فنزل عنه ، وقال : " ما حملتموني إلا على شيطان " [49] .

وقد يطلق على كل قوة ذميمة في الإنسان ؛ قال-عليه الصلاة والسلام- : " الحسد شيطان ، والغضب شيطان " [50] ؛ وذلك لأنهما ينشآن عنه .

واختلف أهل اللغة في اشتقاقه :

فقال جمهورهم : هو مشتق من : " شطَنَ-يَشْطُنُ " أي : بَعُدَ ؛ لأنه بعيد من رحمة الله تعالى ؛ وأنشد : [ الوافر ] .

3-نأتي بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين[51]

وقال آخر : [ الخفيف ] .

4-أيما شاطن عصاه عكاه *** ثم يلقى في السجن والأكبال[52]

وحكى سيبويه[53] –رحمه الله- : " تَشَيْطَنَ " أي :فَعَل فِعْلَ الشياطين ؛ فهذا كله يدل على أنه من " شَطَنَ " لثبوت النون ، وسقوط الألف في تصاريف الكلمة ، ووزنه على هذا : " فَيْعَالَ " .

وقيل : هو مشتق من " شَاطَ – يَشِيطُ " أي : هَاجَ ، واحترقَ ، ولا شك أن هذا المعنى موجود فيه ، فأخذوا بذلك أنه مشتق من هذه المادة ؛ لكن لم يسمع في تصاريفه إلا ثابت النون ، محذوف الألف ؛ كما تقدم ، ووزنه على هذا " فعلان " ، ويترتب على القولين : صرفه وعدم صرفه ، إذا سمي به ، وأما إذا لم يسم به ، فإنه متصرف ألبتة ؛ لأن من شرط امتناع " فعلان " الصفة ألا يؤنث بالتاء ، وهذا يؤنث بها ؛ قالوا : " شيطانة " .

قال ابن الخطيب : و " الشيطان " مبالغة في الشّيطَنة ؛ كما أن " الرحمن " مبالغة في الرحمة . و " الرجيم " في حق الشيطان " فَعِيلٌ " بمعنى " فاعل " .

إذا عرفت هذا ، فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم .

قوله : " الرجيم " نعت له على الذم ، وفائدة النعت : إما إزالة اشتراك عارض في معرفة ؛ نحو : " رأيت زيدا العاقل " .

وإما تخصيص نكرة ؛ نحو : " رأيت رجلا تاجرا " وإما لمجرد مدح ، أو ذم ، أو ترحم ؛ نحو : " مررت بزيد المسكين " وقد يأتي لمجرد التوكيد ؛ نحو قوله : { نفخة واحدة } [ الحاقة : 13 ] ولا بد من ذكر قاعدة في النعت ، تعم فائدتها :

اعلم أن النعت إن كان مشتقا بقياس ، وكان معناه لمتبوعه ، لزم أن يوافقه في أربعة من عشرة ؛ أعني في واحد من ألقاب الإعراب : الرفع ، والنصب ، والجر ، وفي واحد من الإفراد ، والتثنية ، والجمع ، وفي واحد من : التذكير ، والتأنيث ، وفي واحد من : التعريف ، والتنكير .

وإن كان معناه لغير متبوعه ، وافقه في اثنين من خمسة : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير[54] ، نحو : " مررت برجلين عاقلة أمهما " ، فلم يتبعه في تثنية ولا تذكير .

وإذا اختصرت ذلك كله ، فقل : النعت يلزم أن يتبع منعوته في اثنين من خمسة مطلقا : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير ، وفي الباقي كالفعل ؛ يعني : أنك تضع موضع النعت فعلا ، فمهما ظهر في الفعل ، ظهر في النعت ؛ مثاله ما تقدم في : " مررت برجلين [ عاقلة أمهما " ][55] ؛ لأنك تقول : " مررت برجلين عقلت أمهما " .

" والرجيم " قد تبع موصوفه في أربعة من عشرة ؛ لما عرفت ، وهو مشتق من " الرجم " والرجم أصله : الرمي بالرجام ، وهي الحجارة ، ويستعار الرجم للرمي بالظن والتوهم . قال زهير[56] : [ الطويل ]

5-وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم[57]

ويعبر به -أيضا- عن الشتم ؛ قال تعالى : { لئن لم تنته لأرجمنك } [ مريم : 46 ] قيل : أقول فيك قولا سيئا .

والمراجمة : المسابة الشديدة استعارة كالمقاذفة ، فالرجيم معناه : المرجوم ، فهو " فعيلٌ " بمعنى " مفعول " ؛ كقولهم : كف خضيب أي : مخضوب ؛ ورجل لعين أي : ملعون قال الراغب[58] : والترجمان تفعلان من ذلك كأنه يعني أنه يرمي بكلام[59] من يترجم عنه إلى غيره ؛ والرجمة : أحجار القبر ، ثم عبر بها عنه ؛ وفي الحديث : ( لا ترجموا قبري ) ، أي : لا تضعوا عليه الرجمة .

ويجوز أن يكون بمعنى " فاعل " ؛ لأنه يرجم غيره بالشر ، ولكنه بمعنى " مفعول " أكثر ، وإن كان غير مقيس .

ثم في كونه مرجوما وجهان :

الأول : أن معنى كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى ؛ قال الله تعالى : { فاخرج منها فإنك رجيم } [ الحجر :34 ] واللعن يسمى رجما .

وحكى الله تعالى –عن والد إبراهيم-عليه الصلاة والسلام- أنه قال : { لئن لم تنته لأرجمنك } قيل : عنى بقوله الرجم بالقول .

وحكى الله -تعالى- عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا : { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } [ الشعراء : 116 ] وفي سورة يس : { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } [ يس :18 ] .

والوجه : أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما ؛ لأنه -تعالى- أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب ؛ طردا لهم من السماوات ، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد وأما قوله في بعض وجوه الاستعاذة : إن الله هو السميع العليم ، ففيه وجهان :

الأول : أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ، ومعلوم أن الوسوسة كأنها كلام خفي في قلب الإنسان ، ولا يطلع عليها أحد ، فكأن العبد يقول : يا من هو يسمع كل مسموع ، ويعلم كل سر خفي أنت تعلم وسوسة الشيطان ، وتعلم غرضه منها ، وأنت القادر على دفعها عني ، فادفعها عني بفضلك ؛ فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار .

الثاني : أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع ؛ اقتداء بلفظ القرآن ؛ وهو قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } [ الأعراف :200 ] .

وقال في حم السجدة : { إنه هو السميع العليم } [ فصلت : 36 ] .

فصل في احتجاج المعتزلة لإبطال الجبر

قال ابن الخطيب –رحمه الله تعالى- : قالت المعتزلة[60] قوله : " أعوذ بالله " يبطل القول بالجبر من وجوه :

الأول : أن قوله : " أعوذ بالله " اعتراف بكون العبد فاعلا ، لتلك الاستعاذة ، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى ، لامتنع كون العبد فاعلا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، وأيضا فإذا خلقه الله في العبد ، امتنع دفعه ، وإذا لم يخلقه الله فيه ، امتنع تحصيله ، فثبت أن قوله : " أعوذ بالله " اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال[61] نفسه .

والثاني : أن الاستعاذة من الشيطان إنما تحسن إذا لم يكن الله تعالى ، خالقا للأمور التي منها يستعاذ .

أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى ، امتنع أن يستعاذ بالله منها ؛ لأن بهذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله في غير ما يفعله الله تعالى .

والثالث : أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدل على أن العبد غير راض بها ، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى ، وقضائه ، وحكمه ، وجب أن العبد يكون راضيا بها ؛ لما ثبت بالإجماع أن الرضا بقضاء الله تعالى واجب .

والرابع : أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان ، أما إذا كانت فعلا لله ، ولم يكن للشيطان في وجودها أثر ألبتة ، فكيف يستعاذ من شر الشيطان ؟ بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله ؛ لأنه لا شر إلا من قبله .

والخامس : أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا ، وأنت يا إله الخلق علمت[62] صدور الوسوسة عني ، ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك ، وحكمت بها علي ، ولا قدرة لي على مخالفة حكمك ، ثم قلت : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ، وقلت : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقلت : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] فمع هذه الأعذار الظاهرة ، والأسباب القوية فكيف يجوز في حكمتك ، ورحمتك أن تذمني ، وتلعنني على شيء خلقته في ؟

والسادس : جعلتني مرجوما ملعونا إما أن يكون بسبب جرم صدر مني ، أو لا [ يكون ][63] بسبب جرم صدر مني .

فإن كان الأول ؛ فقد بطل الجبر ، وإن كان الثاني ، فهذا محض الظلم ، وأنت قلت : { وما الله يريد ظلما للعباد } [ غافر : 31 ] فكيف يليق هذا بك ؟

فإن قال قائل : هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر ، وأنا لا [ أقول ][64] بالجبر ، ولا بالقدر ، بل أقول : الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر ؛ وهو الكسب .

فنقول : هذا ضعيف ؛ لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال ، أو لا يكون . فإن كان الأول ، فهو تمام القول بالاعتزال ، وإن كان الثاني ، فهو الجبر المحض ، و[ الأسئلة ][65] المذكورة واردة على هذا القول ، فكيف يعقل حصول الواسطة ؟

قال أهل السنة والجماعة-رحمهم الله- أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا ، فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين :

الأول : أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين ، أو كانت صالحة للطرفين معا ، فإن كان الأول ، فالجبر لازم ، وإن كان الثاني ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر ، إما أن يتوقف على المرجح ، أو لا يتوقف .

فإن كان الأول ، ففاعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع ، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع . وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه .

وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح ؛ فهذا باطل لوجهين :

الأول : أنه لو جاز لك ، لبطل الاستدلال [ بترجح ][66] أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح .

والثاني : أن بهذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ، ولا يكون صادرا عن العبد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد عاد الجبر المحض ، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا ، فهو وارد عليكم .

الوجه الثاني في السؤال : أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا ؛ وذلك محال ؛ والمفضي إلى المحال محال ، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم لزوما لا جواب عنه .

ثم قال أهل السنة : قوله : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " - يبطل القول بالاعتزال من وجوه :

الأول : أن المطلوب من قولك : " أعوذ بالله " إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير ؛ أو على سبيل القهر والجبر .

أما الأول فقد فعله ، ولما فعله كان طلبه من الله تعالى محالا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال .

وأما الثاني فهو غير جائز ؛ لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين ، وقد ثبت كونهم مكلفين .

أجاب عنه المعتزلة فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن ، وترك القبيح .

لا يقال : فتلك الألطاف قد فعلها الله تعالى بأسرها في الفائدة في الطلب ؛ لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند الدعاء ، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله .

أجاب أهل السنة عن هذا السؤال بوجوه :

أحدها : أن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا أثر فيه ، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع : والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم ، فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم ، وهو جمع بين النقيضين ؛ وهو محال .

فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب ، وذلك يبطل القول بالاعتزال وإن لم يحصل بسبب تلك الألطاف رجحان [ طرف ][67] الوجود ، لم يكن لفعلها ألبتة أثر ؛ فيكون فعلها عبثا محضا ؛ وذلك في حق الله تعالى محال .

الوجه الثاني : أن يقال : إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح العبد ، أو لا يكون فإن كان الحق هو الأول ، فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع .

فإن توقع منه إفساد العبد ، مع أن الله تعالى يريد إصلاح العبد ، فلم خلقه ، ولم سلطه على العبد ؟ وإن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد ، فأي حاجة [ للعبد ][68] إلى الاستعاذة منه ؟ .

وأما إذا قيل : إن الله قد لا يريد ما هو صلاح حال العبد ، فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان ؟

الوجه الثالث : أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر ، أو يكون قادرا على فعل الخير والشر ، وعلى فعل أحدهما .

فإن كان الأول ، فقد أجبره الله على الشر ؛ وذلك يقدح في قولهم : إنه -تعالى- لا يريد إلا الصلاح والخير ، وإن كان الثاني ، وهو أنه قادر على فعل الشر والخير ؛ فها هنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى ، وإذا كان ذلك ، فأي فائدة في الاستعاذة ؟

الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان ، فإن الشيطان كيف وقع في المعاصي ؟

فإن قلنا : إنه وقع فيها بسبب وسوسة شيطان آخر ، لزم التسلسل .

وإن قلنا : وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر ، فلم لا يجوز مثله في البشر ؟

وعلى هذا التقدير لا فائدة للاستعاذة من الشيطان ، وإن قلنا : إنه -تعالى- سلّطه الشيطان على البشر ، ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر ، فهذا أحيف على البشر ، وتخصيص له بمزيد التثقيل ، والإضرار ؛ وذلك ينافي كون الإله رحيما ناظرا لعباده .

الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الاستعاذة منه ، وإن كان واجب الوقوع ، كذلك .

اعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله : " أعوذ بالله " إلا أن ينكشف أن الكل من الله تعالى ، وبالله .

وحاصل الكلام ما قاله الرسول –عليه الصلاة والسلام- أعوذ برضاك من سخطك[69] . . . الحديث .

فصل في المستعاذ به

وهو على وجهين :

أحدهما : أن يقال : " أعوذ بالله " .

والثاني : أن يقال : " أعوذ بكلمات الله التامات " . فأما الاستعاذة بالله ، فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة " الله " وسيأتي ذلك في تفسير : " بسم الله " وأما الاستعاذة بكلمات الله ، فاعلم أن المراد ب " كلمات الله " هو قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] .

والمراد من قوله : " كن " نفاذ قدرته في الممكنات ، وسريان مشيئته في الكائنات ؛ بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع ، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله -تعالى- إلا لكونه موصوفا بتلك القدرة القاهرة ، والمشيئة النافذة .

قال ابن الخطيب[70] رحمه الله تعالى- فرق بين أن [ يقول ][71] : " أعوذ بالله " وبين أن يقول : " بالله أعوذ " ، فإن الأول لا يفيد الحصر ، والثاني يفيده ، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني ، مع أنا بينا أن الثاني أكمل ؟

وأيضا : جاء قوله : " الحمد لله " وجاء أيضا : قوله : " لله الحمد " وأما ها هنا ، فقد جاء قوله : " أعوذ بالله " ، وما جاء " بالله أعوذ " فما الفرق ؟

فصل في المستعيذ

اعلم أن قوله : " أعوذ بالله " أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك ، وهو[72] غير مختص بشخص معين ، فهو أمر على سبيل العموم ، لأنه –تعالى- حكى ذلك عن الأنبياء ، والأولياء ، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله تعالى ؛ كما حكي عن نوح –عليه الصلاة والسلام- أنه قال : { أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود :47 ] ؛ فأعطاه [ الله ][73] خلعتين : السلام والبركات ؛ { اهبط بسلام منا وبركات عليك } [ هود : 48 ] .

وقال يوسف –عليه الصلاة والسلام- : { معاذ الله إنه ربي } [ يوسف : 23 ] ، فأعطاه الله خلعتين صرف السوء عنه والفحشاء ، وقال أيضا : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } [ يوسف : 79 ] فأكرمه الله تعالى بخلعتين : رفع أبويه على العرش العرش وخروا له سجدا .

وحكي عن موسى –عليه الصلاة والسلام- قال : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] ؛ فأعطاه الله خلعتين : إزالة التهمة ، وإحياء القتيل .

وحكي عن موسى –عليه الصلاة والسلام- أيضا : { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } [ الدخان : 20 ] ، وفي آية أخرى : { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } [ غافر : 27 ] ؛ فأعطاه الله خلعتين : أفنى عدوه ، وأورثهم أرضهم وديارهم .

وحكي أن أم مريم قالت : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } [ آل عمران :36 ] ؛ فأعطاها الله -تعالى- خلعتين : { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا } [ آل عمران :37 ] .

ومريم –عليها السلام- لما رأت جبريل- عليه الصلاة والسلام- في صورة بشر يقصدها : { قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا } [ مريم : 18 ] ؛ فوجدت نعمتين : ولدا من غير أب ، [ وتبرئة ][74] الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء ؛ وهو قوله تعالى : { إني عبد الله } [ مريم :30 ] .

وأمر نبيه -محمدا- عليه الصلاة والسلام- بالاستعاذة مرة أخرى : فقال : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون } [ المؤمنون : 97 ، 98 ] .

وقال تعالى : { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق } [ الفلق : 1 و 2 ] ، وقال تعالى : { قل أعوذ برب الناس } [ الناس : 1 ] ، وقال تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } [ الأعراف : 200 ] ، فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام –كانوا أبدا في الاستعاذة بالله –عز وجل- من شر شياطين الجن والإنس .

وأما الأخبار ؛ فكثيرة :

عن معاذ بن جبل[75]-رضي الله عنه- قال : استب رجلان عند النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ، وفخّم- وأغرقا فيه ؛ فقال عليه الصلاة والسلام- : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذلك عنه ؛ هي قوله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " [76] .

وعن معقل بن يسار[77] -رضي الله تعالى عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ( من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم ) ، وفي رواية : ( من الشيطان الرجيم ) . وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي ، كان بتلك المنزلة[78] .

وعن ابن عباس[79] عن النبي –صلى الله عليه وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم وفخّم- أنه قال : " من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات ، وكّل الله تعالى به ملكا ؛ يذوذ عنه الشيطان " [80] .

وعن خولة بنت حكيم[81] –رضي الله تعالى عنها- عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق ؛ لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل )[82] .

وعن عمرو بن شعيب[83] عن أبيه ، عن جده –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا فرغ أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة : من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن شر همزات الشياطين ، وأن يحضرون ، فإنها لن تضره )[84] ؛ وكان عبد الله بن عمر-رضي الله تعالى عنهما- يعلمها من بلغ من عبيده ، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه .

وعن ابن عباس –رضي الله تعالى عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم- : كان يعوذ الحسن[85] والحسين[86]-عليهما السلام ويقول : :أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامّة[87] ؛ ويقول : " كان إبراهيم-عليه الصلاة والسلام- يعوذ بها إسماعيل ، وإسحاق-عليهما الصلاة والسلام " .

وكان –عليه السلام- يعظم أمر الاستعاذة ؛ حتى أنه لما تزوج امرأة ، ودخل بها ، وقالت : أعوذ بالله منك ؛ فقال –عليه الصلاة والسلام : ( عذت بمعاذ ، فالحقي بأهلك )[88] .

وروى الحسن –رضي الله عنه- قال : بينما رجل يضرب مملوكا له فجعل المملوك يقول : أعوذ بالله ، إذ جاء نبي الله –عليه الصلاة والسلام- فقال : أعوذ برسول الله ؛ فأمسك عنه فقال –عليه السلام- : ( عائذ الله أحق أن يمسك عنه ) قال : فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر ؛ لوجه الله -تعالى- ، فقال عليه السلام : ( أما والذي نفسي بيده ، لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار ) .

وعن سويد[89] ، سمعت أبا بكر الصديق[90]-رضي الله عنه- يقول على المنبر : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ؛ وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت " .

وكان عليه الصلاة والسلام[91] يقول : " اللهم ، أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك " [92] .

فصل

في المستعاذ منه ؛ وهو الشيطان .

اعلم أن الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرها ؛ كما قال تبارك وتعالى : كما يقول الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] .

فأما كيفية الوسوسة بناء على أن ما روي من الآثار ذكروا : أنه يغوص في باطن الإنسان ، ويضع رأسه على حبة قلبه ، ويلقى إليه الوسوسة ؛ واحتجوا بما روي أن النبي-صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم- قال : ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ؛ ألا فضيقوا مجاريه بالجوع )[93] وقال -عليه الصلاة والسلام- : ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات )[94] .

وقال الغزالي[95]-رحمه الله- في كتاب الإحياء : القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب ، ومثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب ، ومثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص ؛ فتتراءى فيها صورة بعد صورة ، ومثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة .

قال ابن الخطيب[96]-رحمه الله تعالى- لقائل أن يقول : لم لم يقل : أعوذ بالملائكة مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان ؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى ؟

وجوابه : كأنه تعالى يقول : عبدي إنه يراك ، وأنت لا تراه ؛ لقوله تعالى : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } [ الأعراف : 27 ] ؛ فإنه يفيد كيده فيكم ؛ لأنه يراكم ، وأنتم لا ترونه ؛ فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه ؛ وهو الله تعالى فقيل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .

فصل في وجود الجن

اختلف الناس في وجود الجن والشياطين ، [ فمن الناس من أنكر الجن والشياطين ][97] . وعلم أنه لا بد أولا من البحث عن ماهية الجن والشياطين ؛ فنقول : أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة ، تجيء وتذهب ؛ مثل الناس والبهائم ؛ بل القول المحصل فيه قولان :

الأول : أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، ولها عقول وأفهام ، وقدرة على أعمال صعبة شاقة .

والقول الثاني : أن كثيرا من الناس أثبتوا أنها موجودات[98] غير متحيزة ، ولا حالة في المتحيز ، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية .

ثم إن هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام [ بالكلية ][99] ؛ وهم الملائكة المقربون –عليهم السلام- كما قال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } [ الأنبياء : 19 ] .

ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام ، وأشرفها حملة العرش ؛ كما قال تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] .

والمرتبة الثالثة : ملائكة الكرسي .

والمرتبة الرابعة : ملائكة السماوات طبقة بطبقة .

والمرتبة الخامسة : ملائكة كرة الأثير .

والمرتبة السادسة : ملائكة الهواء الذي هو في طبع النسيم .

والمرتبة السابعة : ملائكة كرة الزمهرير .

والمرتبة الثامنة : مرتبة الأرواح[100] المتعلقة بالبحار .

والمرتبة التاسعة : مرتبة الأرواح المعلقة بالجبال .

والمرتبة العاشرة : مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا العالم .

واعلم أنه على كلا القولين ؛ فهذه الأرواح قد تكون مشرقة الهيئة ، خيرية سعيدة ؛ وهي المسماة بالصالحين من الجن ، وقد تكون كدرة سفلية شريرة شقية ، وهي المسماة بالشياطين .

واعلم[101] أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين :

أما القرآن فآيات : منها قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق } [ الأحقاف : 29و 30 ] ، وهذا نص على وجودهم ، وعلى أنهم سمعوا القرآن ، وعلى أنهم أنذروا قومهم .

وقوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) [ البقرة : 102 ] .

وقوله : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات } [ سبأ :13 ] .

وقوله : { والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد } [ ص : 37 و38 ] .

وقوله : { ولسليمان الريح } إلى قوله : { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه }

[ سبأ : 12 ] .

وقوله : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنقذوا } [ الرحمان : 33 ] .

وقوله تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد } [ الصافات : 6 و 7 ] وأما الأخبار فكثيرة منها :

ما روى مالك في " الموطأ " ، عن صيفي بن أفلح[102] ، عن أبي السائب[103] مولى هشام ابن زهرة ، أنه دخل على أبي سعيد الخدري[104] ، قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، قال : فسمعت تحريكا تحت سريره في بيته ، فإذا حية ، ففرت فهممت أن أقتلها ، فأشار أبو سعيد : أن اجلس ، فلما انصرف من صلاته ، أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ قلت نعم ، قال : إنه كان فيه فتى قريب عهد بعرس ، وساق الحديث إلى أن قال : فرأى امرأته واقفة بين الناس . فهيأ الرمح ؛ ليطعنها ؛ بسبب الغيرة ، فقالت امرأته : ادخل بيتك لترى ، فدخل [ بيته ][105] فإذا هو بحية على فراشه ، فركز فيها الرمح ، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا : الفتى أم الحية ؛ فسألنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال : ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فمن بدا لكم منه فاذنوه ثلاثة أيام ، فإن عاد فاقتلوه فإنه شيطان )[106] .

وروى في " الموطأ " ، عن يحيى بن سعيد[107] ، قال : لنا أسري برسول الله –صلى الله عليه وسلم- رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار ، كلما التفت رآه ، فقال جبريل –عليه الصلاة والسلام- ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته ، قل : ( أعوذ بوجه الله الكريم ، وبكلماته التامات اللاتي ذرأ في الأرض لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما نزل إلى الأرض ، وشر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن )[108] .

وروى مالك -أيضا- في " الموطأ " أن كعب الأحبار[109] كان يقول : أعوذ بوجه لله العظيم ، الذي ليس شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها ، وما لم أعلم ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ . [110]

وروى مالك أيضا في الموطأ ، أن خالد بن الوليد[111] قال : يا رسول الله ، إني [ أروَّع ] في منامي ، فقال : قل : ( أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون )[112] .

وخبر خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن ، وقراءته عليهم ، ودعوته إلى الإسلام .

وروى القاضي أبو بكر في " الهداية " أن عيسى عليه الصلاة والسلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم ، فأراه ذلك ، فإذا رأسه مثل رأس الحية ، واضع رأسه ][113] على قلبه ، فإذا ذكر الله تعالى ، [ خنس ][114] ؛ وإذا لم يذكره ، وضع رأسه على حبة قلبه .

وقال –عليه الصلاة والسلام- ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ) .

وقال : ( وما منكم من أحد إلا وله شيطان ) قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا ، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم )[115] والأحاديث كثيرة .

فصل في قدرة الجن على النفوذ خلال البشر

المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر ، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك .

أما حجة المثبتين فوجوه :

الأول : أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ، ولا جسماني ، فحينئذ يكون معنى كونه قادرا على النفوذ في باطنه ؛ أنه يقدر على التصرف في باطنه ، وذلك غير مستبعد .

وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه ، كان نفاذه في باطن بني آدم-أيضا- غير ممتنع قياسا على النفس وغيره .

الثاني : قوله تعالى : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] .

الثالث : قوله –عليه الصلاة والسلام- : ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ) .

وأما المنكرون ، فاحتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبليس : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } [ إبراهيم : 22 ] صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان ، إلا من الوجه الواحد ، وهو : إلقاء الوسوسة ، والدعوة إلى الباطل .

وأيضا : فلا شك أن الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- والعلماء المحققين- يدعون الناس إلى لعن الشياطين ، والبراءة منهم ، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم ، أعظم أنواع العداوة ، فلو كانوا قادرين على النفوذ في البواطن ، وعلى إيصال البلاء ، والشر إليهم ، وجب أن يكون

تضرر{[0116 الأنبياء ، والعلماء ، منهم أشد من تضرر كل واحد ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنه باطل .

فصل في تنزه الملائكة عن شهوتي البطن والفرج

اتفقوا على أن الملائكة –عليهم السلام- لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ؛ { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ]

وأما الجن والشياطين ، فإنهم يأكلون ويشربون ؛ قال –عليه الصلاة والسلام- في الروث والعظم : إنه زاد إخوانكم من الجن .

وأيضا : فإنهم يتوالدون ؛ قال تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني } [ الكهف :50 ] .

فصل في اشتقاق البسملة

البسملة : مصدر " بسمل " ، أي : قال : " بسم الله ، نحو : " حوقل ، وهيلل ، وحمدَل ، وحيعل " ، أي قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله ، وحي على الصلاة ومثله " الحسبلة " وهي قوله : " حسبنا الله " ، و " السبحلة " وهي قول : " سبحان الله " و " الجعفلة " [0] : قول " جعلت فداك " ، و " الطلبقة والدمعزة " حكاية قولك : " أطال الله تعالى بقاءك ، وأدام عزك " .

وهذا شبيه بباب النحت في النسب ، أي أنهم يأخذون اسمين ، فينحتون منهما لفظا واحدا ؛ فينسبون إليه ؛ كقولهم : " حضرمي ، وعبقسين وعبشمي " نسبة إلى " حضرموت " ، وعبد قيس " {[1]}وعبد شمس " ؛ قال الشاعر{[2]} : [ الطويل ]

6-وتضحك مني شيخة عبشمية *** كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا{[3]}

وهو غير مقيس ، فلا جرم أن بعضهم قال في : " بسمل ، وهيلل " : إنهما لغة مولدة .

قال الماوردي{[4]} رحمه الله تعالى : يقال لمن قال : " بسم الله " : " مُبسمل " وهي لغة مولدة ؛ وقد جاءت في الشعر ؛ قال عمر بن أبي ربيعة{[5]} : [ الطويل ] .

7-لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل{[6]}

وغيره من أهل اللغة نقلها ، ولم يقل إنها مولدة كـ " ثعلب " {[7]}و " المطرزي " {[8]} .

" بسم الله " : جار ومجرور ، والباء متعلق بمضمر ، فنقول : هذا المضمر يحتمل أن يكون اسما ، وأن يكون فعلا ، وعلى التقديرين ؛ فيجوز أن يكون متقدما ومتأخرا ، فهذه أقسام أربعة .

أما إذا كان متقدما ، وكان فعلا ؛ فكقولك : أبدأ ببسم الله .

وإن كان متقدما ، وكان اسما ؛ فكقولك : ابتدائي ببسم الله .

وإن كان متأخرا ، وكان فعلا ؛ فكقولك : بسم الله أبدأ .

وإن كان متأخرا ، وكان اسما ؛ كقولك : بسم الله ابتدائي .

وأيهما أولى التقديم أم التأخير ؟

قال ابن الخطيب : كلاهما ورد في القرآن الكريم ، أما التقديم ، فكقوله { بسم الله مجراها ومرساها } [ هود :41 ] وأما التأخير ؛ فكقوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } [ العلق :1 ] وأقول : التقديم أولى ؛ لأنه-تعالى- قديم واجب الوجود لذاته ، فيكون وجوده سابقا على وجود غيره ، لأن السبق بالذات يستحق السبق في الذكر ؛ قال تبارك وتعالى : { هو الأول والآخر } [ الحديد :3 ] وقال تعالى : { لله الأمر من قبل ومن بعد } [ الروم :4 ] وقال تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] .

قال أبو بكر الرازي{[9]}-رحمه الله تعالى- إضمار الفعل أولى من إضمار الاسم ؛ لأن نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل ، وهو الأمر ، لأنه –تبارك وتعالى- قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } فكذا قوله تعالى { بسم الله الرحمان الرحيم } التقدير : قولوا : بسم الله .

وأقول : لقائل أن يقول : بل إضمار الاسم أولى ؛ لأنا إذا قلنا : تقدير الكلام : بسم الله ابتداء كل شيء ، كان هذا إخبارا عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث ، ومخالفا لجميع الكائنات ، سواء قاله قائل ، أو لم يقله ، ولا شك أن هذا الاحتمال أولى ، وتمام الكلام يأتي في بيان أن الأولى أن يقال : الحمد لله وسيأتي لذلك زيادة بيان في الكلام في الاسم إن شاء الله تعالى .

فصل فيما يحصل به الجر

الجر يحصل بشيئين :

أحدهما بالحرف ؛ كما في قوله تعالى : " بسم الله " .

والثاني : بالإضافة ؛ كما في قوله تعالى : " الله " من قوله " بسم الله " .

وأما الجر الحاصل في لفظة " الرحمان الرحيم " فإنما حصل ، لكون الوصف ثابتا للموصوف في الإعراب ، فها هنا أبحاث :

أحدها : أن حروف الجر لم اقتضت الجر ؟

وثانيهما : أن الإضافة لم اقتضت الجر ؟

وثالثها : أن اقتضاء الحروف أقوى ، أم اقتضاء الإضافة ؟

ورابعها : أن الإضافة بين الجزء والكل ، أو بين الشيء الخارج عن ذات الشيء المنفصل ؟

قال مكي{[10]}-رحمه الله تعالى- كُسرت الباء من " بِسم الله " ؛ لتكون حركتها مشبهة لعملها ؛ وقيل : كسرت ليفرق بين ما يخفض ، ولا يكون إلا حرفا ؛ نحو : الباء ، واللام ، وبين ما يخفض ، وقد يكون اسما نحو : الكاف .

وإنما عملت الباء وأخواتها الخفض ؛ لأنها لا معنى لها إلا في الأسماء ، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأسماء ، وهو الخفض ، وكذلك الحروف التي تجزم الأفعال ، إنما عملت الجزم ؛ لأنها لا معنى لها إلا في الأفعال ، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأفعال ، وهو الجزم .

والباء-هنا- للاستعانة ؛ كـ " عملت بالقدوم " لأن المعنى : أقرأ مستعينا بالله ، ولها معان أخر تقدم الوعد بذكرها وهي :

الإلصاق : حقيقة أو مجازا نحو : مسحت برأسي ، " مررت بزيد " .

قال ابن الخطيب{[11]} –رحمه الله تعالى- فرّع أصحاب أبي حنيفة –رحمه الله- على " باء " الإلصاق مسائل :

إحداها : قال محمد –رحمه الله تعالى- في " الزيادات " : إذا قال لامرأته : أنت طالق بمشيئة الله ، لا يقع الطلاق ؛ وهو كقوله : أنت طالق إن شاء الله ، ولو قال : لم يشأ الله يقع ؛ لأنه أخرج مخرج التعليل ، وكذلك أنت طالق بمشيئة{[12]} الله تعالى لا يقع الطلاق ، ولو قال أو بإرادة{[13]}الله لا يقع ، [ ولو قال لإرادة الله يقع ]{[14]}أما إذا قال : أنت طالق بعلم الله ، أو لعلم الله ، فإنه يقع في الوجهين ، ولا بد من الفرق .

وثانيهما : في باب الأيمان لو قال : إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني ، فأنت طالق ، تحتاج في كل مرة إلى إذنه ، ولو قال : إن خرجت إلا أن آذن لك ، فأذن لها مرة كفى ، ولا بد من الفرق .

وثالثها : لو قال : طلقي نفسك ثلاثا بألف ، فطلقت نفسها واحدة ، وقعت بثلث الألف ، وذلك أن الباء تدل على البدلية ، فيوزع البدل على المبدل ، فصار بإزاء كل طلقة ثلث الألف ، ولو قال : طلقي نفسك ثلاثا على ألف ، فطلقت نفسها واحدة ، لم يقع عند أبي حنيفة ؛ لأن لفظة " على " كلمة شرط{[15]} ولم يوجد الشرط ، وعند صاحبيه يقع واحدة بثلث الألف دلت وها هنا مسائل متعلقة بالباء .

قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الثمن إنما يتميز عن المثمّن بدخول " الباء " عليه ، فإذا قلت : بِعت كذا بكذا ، فالذي دخل عليه " الباء " هو الثمن وعلى هذا تبنى مسألة البيع الفاسد ، فإذا قال بعت هذا الكرباس من الخمر صح البيع ، والعقد فاسد .

وإذا قال : بعث هذا الخمر ، فالكرباس لم يصح ، وله الفرق في الصورة الأولى : أن الخمر ثمن ، وفي الثانية الحمر مثمن ، وجعل الخمر مثمنا لا يجوز .

ومنها قال الشافعي-رضي الله تعالى عنه- : إذا قال : بعتك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم .

وعند أبي حنيفة –رحمه الله- لا يتعين .

والسببية : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا } [ النساء : 160 ] أي : بسبب ظلمهم .

والمصاحبة : نحو : " خرج زيدٌ بثيابه " أي : مصاحبا لها .

والبدل : كقوله –عليه الصلاة والسلام- : " ما يسرني بها حمر النعم " {[16]} ، أي : بدلها ؛ وكقول الآخر : [ البسيط ] .

8-فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا{[17]}

أي بدلهم .

والقسم : " أحلف بالله لأفعلن " .

والظرفية : نحو : " زيد بمكة " أي : فيها .

والتعدية : نحو { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] .

والتبعيض : كقول الشاعر في هذا البيت : [ الطويل ] .

9-شرِبْنَ بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر ، لهن نئيج{[18]}

أي : من مائه .

والمقابلة : " اشتريت بألف " أي : قابلته بهذا الثمن .

والمجاوزة : نحو قوله تعالى : { ويوم تشقق السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ، ومنهم من قال : لا يكون كذلك إلا مع السؤال خاصة ؛ نحو : { فاسأل به خبيرا } [ الفرقان : 59 ] أي : عنه ، وقول علقمة{[19]} : [ الطويل ]

10-فإن تسألوني بالنساء فإنــني خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء [ أو ]{[20]} قلّ ماله فليس له في ودهن نصيب{[21]}

والاستعلاء : كقوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } [ آل عمران :75 ] ، أي : على قنطار .

وبمعنى " إلى " : كقوله { وقد أحسن بي } [ يوس : 100 ] .

والجمهور يأبون جعلها إلا للإلصاق ، أو التعدية ، ويردون جميع المواضع المذكورة إليهما ، وليس هذا موضع استدلال .

وقد تزاد مطردة ، وغير مطردة :

فالمطردة : في فاعل " كفى " نحو : { كفى بالله } [ العنكبوت : 52 ] أي : كفى الله . بدليل سقوطها في قول الشاعر : [ الطويل ] .

11- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا{[22]}

وفي خبر " ليس " و " ما " أختها غير موجب بـ " إلا " ؛ كقوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } [ الزمر : 36 ] { وما ربك بغافل } [ الأنعام : 132 ] ، وفي " بحسبك زيد " .

وغير مطردة : في مفعول " كفى " ؛ كقوله : [ الكامل ] .

12-فكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا{[23]}

أي : كفانا ، وفي البيت كلام آخر ، وفي المبتدإ غير " حسب " .

ومنه في أحد القولين : { بأييّكم المفتون } [ القلم : 6 ] .

[ أي : أيكم المفتون ]{[24]} وقيل : المفتون مصدر كالمعقول والميسور ، فعلى هذا ليست زائدة .

وفي خبر " لا " أخت " ليس " ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]

13-وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلا عن سواد بن قارب{[25]}

أي : مغنيا .

وفي خبر " كان " منفية ؛ نحو : [ الطويل ] .

14-وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل{[26]}

أي : لم أكن أعجلهم .

وفي الحال ، وثاني مفعولي " ظن " منفيين أيضا ؛ كقول القائل في ذلك البيت : [ الوافر ] .

15-فما رجعت بخائبة ركاب حكيم بن المسيب منتهاها{[27]}

وقال الآخر : [ الطويل ]

16-دعاني أخي والخيل بيني وبينه فلما دعاني لم يجدني بقعدد{[28]}

أي : ما رجعت ركاب خائبة ، ولم يجدني قعددا .

وفي خبر " إنَّ " ؛ كقول امرئ القيس{[29]} : [ الطويل ] .

17-فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فإنك مما أحدثت بالمجرب{[30]}

أي : فإنك المجرب .

وفي { أولم يروا أن الله } [ الإسراء : 99 ] .

والاسم لغة : ما أبان عن مسمى ، واصطلاحا : ما دل على معنى في نفسه فقط غير متعرض ببنيته لزمان ، ولا دال جزء من أجزائه على جزء من أجزاء معناه .

وبهذا القيد الأخير خرجت الجملة الاسمية ، والتسمية : جعل اللفظ دالا على ذلك المعنى .

قال أبو عبيدة : -رحمه الله تعالى- : ذكر الاسم في قوله تعالى : " بسم الله " صلة زائدة ، والتقدير : " بالله " ، وإنما ذكر لفظة " الاسم " : إما للتبرك ، وإما أن يكون فرقا بينه وبين القسم .

قال ابن الخطيب{[31]}-رحمه الله تعالى- : وأقول : المراد من قوله تعالى : " بسم الله " ابدءوا بـ " بسم الله " ، وكلام أبي عبيدة ضعيف ، لأن الله أمرنا بالابتداء ، فهذا الأمر إنما يتناول فعلا من أفعالنا ، وذلك الفعل ، هو لفظنا وقولنا ، فوجب أن يكون المراد : ابدءوا بـ " بسم الله " .

وقال صاحب " البحر المحيط " : اختلف الناس : هل الاسم عين المسمى ، أو غيره ؟ وهي مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

واستشكلوا على كونه هو المسمى إضافته إليه ؛ فإنه يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه . وأجاب أبو البقاء{[32]}-رحمه الله- عن ذلك بثلاثة أجوبة :

أجودها : أن الاسم -هنا- بمعنى التسمية ، والتسمية غير الاسم ؛ لأن التسمية هي : اللفظ بالاسم ، والاسم هو : اللازم للمسمى ؛ فتغايرا .

الثاني : أن في الكلام حذف مضاف تقدير : بسم مسمى الله .

الثالث : أن لفظ " اسم " زائد ؛ كقوله : [ الطويل ] .

18- إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر{[33]}

أي : السلام عليكما .

وقول ذي الرمة{[34]} : [ البسيط ] .

19-لا ينعش الطرف إلا ما تخونه داع يناديه باسم الماء مبغوم{[35]}

وإليه ذهب أبو عبيدة{[36]} ، والأخفش{[37]} وقطرب{[38]} -رحمهم الله- واختلفوا في معنى الزيادة :

فقال الأخفش : " ليخرج من حكم القسم إلى قصد التبرك " .

وقال قطرب : " زيد للإجلال والتعظيم " . وهذان الوجهان ضعيفان ؛ لأن الزيادة ، والحذف لا يصار إليهما إلا إذا اضطر إليهما .

ومن هذا القبيل-أعني ما يوهم إضافة الشيء إلى نفسه-إضافة الاسم إلى اللقب ، والموصوف ، إلى صفته ؛ نحو : " سعيد كرز " و " زيد " قفة " و " مسجد الجامع " و " بقلة الحمقاء " ؛ ولكن النحويين أولوا النوع الأول بأن جعلوا الاسم بمعنى المسمى ، واللقب بمعنى اللفظ ، فتقديره : جاءني مسمى هذا اللفظ ، وفي الثاني جعلوه على حذف مضاف ، فتقدير " بقلة الحمقاء " " : " بقلة الحبة الحمقاء " ، و " مسجد الجامع " : " مسجد المكان الجامع " .

واختلف النحويون في اشتقاقه{[39]} :

فذهب أهل " البصرة " : إلى أنه مشتق من السمو ، وهو [ العلو و ]{[40]} الارتفاع ؛ لأنه يدل على مسماه ، فيرفعه ويظهره .

وذهب الكوفيون : إلى أنه مشتق من الوسم ، وهو : العلامة ؛ لأنه علامة على مسماه ، وهذا وإن كان صحيحا من حيث المعنى ؛ لكنه فاسد من حيث التصريف .

واستدل البصريون على مذهبهم بتكسيرهم له على " أسماء " ، وتصغيرهم له على " سمي " ، لأن التكسير والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها .

وتقول العرب : فلان سميك ، وسميت فلانا بكذا وأسميته بكذا ، فهذا يدل على أن اشتقاقه من : " السمو " ، ولو كان من : " الوسم " لقيل في التكسير{[41]} : " أوسام " ، وفي التصغير " وسيم " ؛ ولقالوا : وسيمك فلان ، ووسمت ، وأوسمت فلانا بكذا فدل عدم قولهم ذلك ؛ أنه ليس كذلك .

وأيما فجعله من " السمو " مدخل له في الباب الأكثر ، وجعله من " الوسم " مدخل له في الباب الأقل ؛ وذلك أن حذف اللام كثير ، وحذف الفاء قليل .

وأيضا فإنا عهدناهم غالبا يعوضون في غير محل الحذف ، فجعل همزة الوصل عوضا عن اللام موافق لهذا الأصل ، بخلاف ادعاء كونها عوضا عن الفاء .

فإن قيل : قولهم : " أسماء " في التكسير ، و " سمي " في التصغير ، لا دلالة فيه ؛ لجواز [ أن يكون ]{[42]} الأصل : " أوساما " و " وسيما " ، ثم قلبت الكلمة بأن{[43]} أخرت فاؤها بعد لامها ، فصار لفظ " أوسام " ، " أسماوا " ، ثم أعل إعلال " كساء " ، وصار " وسيم " ، " سميوا " ثم أعل إعلال " جري " تصغير " جرو " .

فالجواب : أن ادعاء ذلك لا يفيد ؛ لأن القلب على خلاف القياس ، فلا يصار إليه ، وما لم تدع إليه ضرورة .

وهل لهذا الخلاف فائدة أم لا ؟

والجواب : أن له فائدة ، وهي أن من قال باشتقاقه من العلو يقول : إنه لم يزل موصوفا قبل وجود الخلق ، وبعدهم ، وعند فنائهم ، ولا تأثير لهم في أسمائه ، ولا صفاته ، وهو قول أهل السنة-رحمهم الله- .

ومن قال : إنه مشتق من الوسم يقول : كان الله تعالى في الأزل بلا اسم ، ولا صفة ، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات ، وهو قول المعتزلة . وهذا أشد خطأ من قولهم " بخلق القرآن " ، وعلى هذا الخلاف وقع الخلاف أيضا في الاسم والمسمى .

فصل في لغات " الاسم "

وفي الاسم خمس لغات : " اسم " بضم الهمزة وكسرها ، و " سمّ " بكسر السين وضمها . وقال أحمد بن يحيى : من قال : " سم " بضم السين ، أخذه من سموت أسمو ،ومن قال بالكسر أخذه من سميت أسمي ، وعلى اللغتين قوله : [ الرجز ] .

20-وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمه

مبتركا لكل عظم يلحمه{[44]}

ينشد بالوجهين .

وأنشدوا على الكسر : [ الرجز ] .

21-باسم الذي في كل سورة سمه{[45]}

فعلى هذا يكون في لام " اسم " وجهان :

أحدهما : أنها واو .

والثاني : أنها ياء ؛ وهو غريب ، ولكن أحمد بن يحيى- رحمه الله تعالى- جليل القدر ثقة فيما ينقل .

و " سمى " مثل : هدى ، ؛ واستدلوا على ذلك بقول الشاعر : [ الرجز ] .

22-والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركا{[46]}

ولا دليل في ذلك لجواز أن يكون من لغة من يجعله منقوصا مضموم السين ، وجاء به منصوبا ، وإنما كان ينتهض دليلا لو قيل : " سمى " حالة رفع أو جر .

وهمزته همزة وصل ، أي : تثبت ابتداء ، وتحذف درجا ، وقد تثبت ضرورة ؛ كقوله : [ الطويل ] .

23-وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ولا من تسمى ثم يلتزم الإسما{[47]}

وهو أحد الأسماء العشرة التي ابتدئ في أوائلها بهمزة الوصل وهي : اسم ، واست ، وابن ، وابنم ، وابنة ، وامرؤ ، وامرأة ، واثنان ، واثنتان ، وايمن في القسم .

والأصل في هذه الهمزة أن تثبت{[48]} خطا ، كغيرها من همزات الوصل .

وإنما حذفوها حين يضاف الاسم إلى الجلالة خاصة ؛ لكثرة الاستعمال .

وقيل : ليوافق الخط اللفظ .

وقيل : لا حذف أصلا ، وذلك لأن الأصل " سم " أو " سُم " بكسر السين أو ضمها ، فلما دخلت الباء سكنت السين تخفيفا ؛ لأنه وقع بعد الكسرة كسرة أو ضمة .

قال ابن الخطيب{[49]}-رحمه الله تعالى- : إنما حذفوا ألف " اسم " في قوله تعالى : " بسم الله : وأثبتوها في قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } [ العلق :1 ] لوجهين :

الأول : أن كلمة " بسم الله " مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال ؛ فلأجل التخفيف حذفوا الألف ، بخلاف سائر المواضع ، فإن ذكرها يقل .

الثاني : قال الخليل{[50]}-رحمه الله تعالى- إنما حذفت الألف في " بسم الله " ؛ لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن ، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف ، فسقطت في الخط ، وإنما لم تسقط في { اقرأ باسم ربك } ؛ لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع ، كما في " بسم الله " ؛ لأنه يمكن حذف الباء من { اقرأ باسم ربك } مع بقاء المعنى صحيحا ، فإنك لو{[51]} قلت : اقرأ اسم ربك صح المعنى ، [ أما لو ]{[52]} حذفا [ الباء ]{[53]} من " بسم الله " لم يصح المعنى ، فظهر الفرق .

قال بعضهم : فلو أضيفت إلى غير الجلالة ثبتت نحو : " باسم الرحمان " هذا هو المشهور ، وحكي عن الكسائي{[54]} ، والأخفش –رحمة الله تعالى عليهما- جواز حذفها إذا أضيف إلى غير الجلالة من أسماء الباري تعالى ؛ نحو : " بسم ربك " و " بسم الخالق " .

وإنما طولوا الباء من " بسم الله " ولم يطولوها في سائر المواضع لوجهين :

الأول : أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ؛ ليدل طولها على الألف المحذوفة التي بعدها ، ألا ترى أنهم لما كتبوا { اقرأ باسم ربك } بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية .

قال مكي –رحمه الله تعالى- : حذفت الألف من " بسم الله " لكثرة الاستعمال .

وقيل : حذفت لتحريك السين في الأصل ؛ لأن أصل السين الحركة ، وسكونها لعلة دخلتها .

الثاني : قال القتيبي : إنما طولوا الباء ، لأنهم أرادوا ألا يستفتحوا كتاب الله-تعالى- إلا بحرف معظم وكان عمر بن عبد العزيز{[55]} رضي الله تعالى عنه يقول لكتابه : طولوا الباء ، وأظهروا السين ، ودوّروا الميم{[56]} تعظيما لكتاب الله تعالى .

فصل في متعلق الجار والمجرور

الجار والمجرور لا بد له من شيء يتعلق به ، فعل ، أو ما في معناه ، إلا في ثلاث صور :

" حرف الجر الزائد " ، و " لعل " و " لولا " عند من يجر بهما ، وزاد ابن عصفور{[57]} -رحمه الله تعالى- " كاف التشبيه " ؛ وليس بشيء ، فإنها تتعلق .

إذا تقرر ذلك فـ " بسم الله " لابد من شيء يتعلق به ، ولكنه حذف ، واختلف النحويون في ذلك :

فذهب أهل البصرة : إلى أن المتعلق اسم .

وذهب أهل " الكوفة " : إلى أنه فعل .

واختلف كل من الفريقين :

فذهب بعض البصريين : إلى أن ذلك المحذوف مبتدأ حذف هو ، وخبره ، وبقي معموله ، تقديره : ابتدائي بسم الله كائن أو مستقر ، أو قراءتي بسم الله كائنة أو مستقرة ؛ وفيه نظر : من حيث إنه يلزم حذف المصدر ، وإبقاء معموله وهو ممنوع . وقد نص مكي{[58]} -رحمه الله تعالى- على منع هذا الوجه .

وذهب بعضهم : إلى أنه خبر حذف هو ومبتدؤه -أيضا- ، وبقي معموله قائما مقامه ؛ والتقدير : ابتدائي كائن بسم الله ، نحو : " زيد بمكة " ، فهو على الأول : منصوب المحل ، وعلى الثاني : مرفوعه ؛ لقيامه مقام الخبر .

وذهب بعض الكوفيين : إلى أن ذلك الفعل المحذوف مقدر قبله ، قال : لأن الأصل التقديم ؛ والتقدير : اقرأ بسم الله ، أو أبتدئ بسم الله .

ومنهم من قدره بعده ، والتقدير : بسم الله اقرأ ، أو أبتدئ ، أو أتلو .

وإلى هذا نحا الزمخشري{[59]} –رحمه الله-قال{[60]} : " ليفيد التقديم الاختصاص ؛ لأنه وقع ردا على الكفرة الذين كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم ؛ كقولهم : باسم اللات ، وباسم العزى " وهذا حسن جدا .

ثم اعترض على نفسه بقوله تبارك وتعالى : { اقرأ باسم ربك } حيث صرّح بهذا العامل مقدما على معموله .

ثم أجاب : بأن تقديم الفعل في سورة العلق أوقع ؛ لأنها أول سورة نزلت ؛ فكان الأمر بالقراءة أهم .

وأجاب غيره : بأن " بسم ربك " ليس متعلقا بـ " اقرأ " الذي قبله ، بل بـ " اقرأ " الذي بعده ، فجاء على القاعدة المتقدمة ، وفي هذا نظر ؛ لأن الظاهر على هذا القول أن يكون " اقرأ " الثاني توكيدا للأول ؛ فيكون قد فصل بمعمول المؤكد بينه ، وبين ما أكده مع الفصل بكلام طويل . واختلفوا -أيضا- هل ذلك الفعل أمر أو خبر ؟

فذهب الفراء :{[61]} إلى أنه أمر تقديره : " اقرأ أنت بسم الله " .

وذهب الزجاج{[62]} : إلى أنه خبر تقديره : " اقرأ أنا ، أو ابتدئ " ونحوه{[63]} .

قال ابن الخطيب{[64]} –رحمه الله تعالى- : أجمعوا على أن الوقف على قوله تعالى : " بسم " ناقص قبيح ، وعلى قوله تعالى : " بسم الله الرحمان " كاف صحيح ، وعلى قوله : " بسم الله الرحمان الرحيم " تام .

واعلم أن الوقف لا بد وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة : وهو أن يكون ناقصا ، أو كافيا ، أو كاملا ، فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص ، والوقف على كل كلام مفهوم المعاني ، إلا أن ما بعده يكون متعلقا بما قبله يكون كافيا ، والوقف على كل كلام تام ، ويكون ما بعده منقطعا عنه يكون تاما{[65]} .

ثم لقائل أن يقول : قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] كلام تام ، إلا أن قوله تعالى : { الرحمان الرحيم مالك } [ الفاتحة :3 ] متعلق بما قبله ؛ لأنها صفات ، والصفات تابعة للموصوفات ، فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف ، وجعلها وحدها آية ، فلم لم يقولوا : " بسم الله الرحمان " آية ؟ ثم يقولوا : " الرحيم " آية ثانية ، وإن لم يجز ذلك ، فكيف جعلوا " الرحمان الرحيم " آية مستقلة ؟ فهذا الإشكال لا بد من جوابه .

فصل الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ؟

قال ابن الخطيب{[66]} -رحمه الله تعالى- : قالت الحشوية ، والكرامية ، والأشعرية : الاسم نفس المسمى ، وغير التسمية{[67]} .

وقالت المعتزلة : " الاسم غير المسمى ونفس التسمية ، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى ، وغير التسمية .

وقبل الخوض في ذكر الدلائل لابد من التنبيه على مقدمة ، وهي أن قول القائل : الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ؟ يجب أن يكون مسبوقا ببيان أن الاسم ما هو ؟ وأن المسمى ما هو ؟ حتى ينظر بعد ذلك في " الاسم " هل هو نفس المسمى أم لا ؟

فنقول : إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة ، وحروف مؤلفة ، المسماة تلك الذوات في أنفسها ، وتلك الحقائق بأعيانها ، فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى ؛ والخوص في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثا ، وإن كان{[68]} المراد بالاسم ذات المسمى ، وبالمسمى -أيضا- تلك الذات ، فقولنا : " الاسم " هو " المسمى " معناه : أن ذات الشيء عين ذات الشيء ، [ وهذا ]{[69]} وإن كان حقا ، إلا أنه من إيضاح الواضحات ؛ وهو عبث ، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث .

قال البغوي –رحمه الله تعالى- : الاسم هو المسمى ، وعينه وذاته ؛ قال تبارك وتعالى : { إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } [ مريم :7 ] ثم نادى الاسم فقال " { يا يحيى } [ مريم :12 ] ، وقال تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } [ يوسف :40 ] وأراد الأشخاص المعبودة ؛ لأنهم كانوا{[70]} يعبدون المسميات .

واعلم أنا استخرجنا لقول من يقول : الاسم نفس المسمى تأويلا لطيفا ، وبيانه أن لفظ الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين ، ولفظ الاسم كذلك ، فوجب أن يكون لفظ الاسم في هذه الصورة نفس المسمى ، إلا أن فيه إشكالا ، وهو أن كون الاسم للمسمى من باب المضاف ، وأحد المضافين لا بد وأن يكون مغايرا للآخر .

فصل في الأدلة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى

" في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى " :

وذلك أن المسمى قد يكون معدوما ، فإن المعدوم منفي سلب لا ثبوت له . والألفاظ ألفاظ موجودة ، مع أن المسمى بها عدم محض ، ونفي صرف .

وأيضا قد يكون المسمى موجودا ، والاسم معدوما مثل الحقائق التي ما وضعوا لها ألفاظا معينة ، وبالجملة فثبوت كل واحد منها حال عدم الآخر معلوم إما أن يكون مقدرا أو مقررا ، وذلك يوجب المغايرة .

الثاني : أن الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحدا ، كالأسماء المترادفة ، وقد يكون الاسم واحدا [ وتكون ]{[71]} المسميات كثيرة ، كالأسماء المشتركة ، وذلك-أيضا- يوجب المغايرة .

الثالث : أن كون الاسم اسما للمسمى ، وكون المسمى مسمى بالاسم من باب الإضافة : كالمالكية ، والمملوكية ، وأحد المضافين مغاير للآخر ، ولقائل أن يقول : يشكل هذا بكون الشيء عالما بنفسه .

الرابع : الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات ، وتلك الأصوات أعراض غير باقية ، والمسمى قد يكون باقيا ، وقد يكون واجب الوجود لذاته .

الخامس : أنا إذا تلفظنا بالنار ، والثلج ، فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا ، فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج ، وذلك لا يقوله عاقل .

السادس : قوله تبارك وتعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] .

وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تسعة وتسعين اسما ){[72]} فها هنا الأسماء كثيرة ، والمسمى واحد ، وهو الله –سبحانه وتعالى- .

السابع : أن قوله تعالى : " بسم الله " ، وقوله –تعالى :- { تبارك اسم ربك } [ الرحمان : 78 ] ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى الله-تعالى- وإضافة الشيء إلى نفسه محال .

الثامن : أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا : " اسم الله " وبين قولنا : " اسم الاسم " ، وبين قولنا : " الله الله " ، وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى .

التاسع : أنا نصف{[73]} الأسماء بكونها عربية وفارسية ، فنقول : الله : اسم عربي ، وخوذاي : اسم أعجمي وأما ذات الله تعالى ، فمنزهة عن كونه كذلك .

العاشر : قال تبارك وتعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف :180 ] أمرنا بأنا ندعو الله بأسمائه ، والاسم آلة الدعاء ، والمدعو هو الله تعالى ، والمغايرة بين ذات المدعو ، وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة .

واحتج من قال : الاسم هو المسمى بالنص ، والحكم :

أما النص ، فقوله تعالى : { تبارك اسم ربك } والمتبارك المتعالى هو الله –تبارك وتعالى- لا الصوت ولا الحرف .

وأما الحكم : فهو أن الرجل إذا قال : " زينب طالق " {[74]} ، وكان زينب{[75]} اسما لامرأته ، وقع عليها الطلاق ، ولو كان الاسم غير المسمى ، لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة ، فكان يجب ألا يقع الطلاق عليها .

الجواب عن الأول : أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه منزها عن النقائص{[76]} والآفات ، فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات الله -تعالى- وصفاته عن العبث ، والرّفث ، وسوء الأدب ؟

وعن الثاني : أن قولنا " زينب طالق " معناه : أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ " طالق " ، فلهذا السبب وقع الطلاق عليها . و " الله " في " بسم الله " مضاف إليه .

وهل العامل في المضاف إليه المضاف أو حرف الجر المقدر ، أو معنى الإضافة ؟

ثلاثة أقوال خيرها أوسطها وهو على المعبود بحق لا يطلق على غيره [ ولم يجز لأحد من المخلوقين أن يسمى باسمه ، وكذلك الإله قبل النقل ، والإدغام ، لا يطلق إلا على المعبود بحق ]{[77]} .

قال الزمخشري رحمه الله " كأنه صار علما بالغلبة " وأما " إله " المجرد عن الألف ، فيطلق على المعبود بحق وعلى غيره ، قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } [ المؤمنون :117 ] ، { ومن اتخذ إلهه هواه } [ الفرقان :43 ] .

قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : [ من الناس ] من طعن في قول من يقول " الإله هو المعبود " من وجوه :

أحدها : أنه-تعالى- إله الجمادات والبهائم ، مع أن صدور العبادة منها محال .

الثاني : أنه -تعالى- إله المجانين والأطفال ، مع أنه لا تصدر العبادة منهم .

الثالث : يلزم أن يقال : إنه -تعالى- ما كان إلها في الأزل .

وقال قوم الإله ليس عبارة عن المعبود ، بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبودا ، وهذا القول-أيضا- يرد عليه ألا يكون إلها للجمادات ، والبهائم ، والأطفال ، والمجانين ، وألا يكون إلها في الأزل .

وأجيب : بأن هذين الإلزامين ضعيفان .

فإن الله -تعالى- مستحق للعبادة [ في الأزل ]{[78]} ، بمعنى أنه أهل لأن يعبد ، وهذا لا يتوقف على حصول العبادة .

والثاني : -أيضا- ضعيف ؛ لأنه في الأزل مستحق للعبادة .

واختلف الناس : هل هو مرتجل أو مشتق{[79]} ؟

والصواب الأول وهو أعرف المعارف [ حكي أن سيبويه رؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : خيرا كثيرا ؛ لجعل اسمه أعرف المعارف ]{[80]} .

ثم القائلون باشتقاقه اختلفوا اختلافا كثيرا :

فمنهم من قال : إنه مشتق من " لاهَ-يَلِيهُ " ، أي : ارتفع ، ومنه قيل للشمس : إلاهة-بكسر الهمزة وفتحها-لارتفاعها .

وقيل : لاتخاذهم إياها معبودا ، وعلى هذا قيل : " لهْيَ أبوكَ " يريدون لله أبوك فقلب العين إلى موضع اللام ، وخفّفه بحذف الألف واللام ، وحذف حرف الجر .

وأبعد بعضهم ، فجعل من ذلك قولَ الشاعر في ذلك : [ الطويل ] .

24-ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنّك من برق عليّ كريم{[81]}

فإن الأصل : " لله إنك كريم عليّ " فحذف حرف الجر ، وحرف التعريف ، والألف التي قبل الهاء من الجلالة ، وسكّن الهاء ؛ إجراء للوصل مجرى الوقف ، فصار اللفظ : " له " ثم ألقى حركة همزة " إن " على الهاء فبقي " لهنَّكَ " كما ترى ، وهذه سماجة من قائله [ وفي البيت قولان أيسر من هذا ]{[82]} .

ومنهم من قال : هو مشتق من " لاهَ- يَلُوه- لِيَاهاً " [ أي احتجب فالألف على هذين القولين أصيلة فحينئذ أصل الكلم لاه ] " اللاه " ثم أدغمت لام التعريف في اللام بعدها ؛ لاجتماع شروط الإدغام ، وفخمت لامُه ، ووزنه على القولين المتقدمين إما : " فَعَلَ " أو " فَعِلَ " بفتح العين وكسرها ، وعلى كل تقدير : فتحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، وكان الأصل : لِيَهاً أو لِيهاً أو لَوَهَا أو لَوِهَا .

ومنهم من جعله مشتقا من " أَلَهَ " و " أَلَه " لفظ مشترك بين معان ، وهي : العبادة والسكون ، والتحير ، والفزع ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

25-ألِهْتَ إلينا والحوادث جمّة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[83]}

أي : سكنت ؛ وقال غيره : [ الطويل ]

26-ألِهْتُ إليها والركائب وُقَّف . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[84]}

أي : فزعت إليها .

فمعنى " إله " أن خلقه يعبدونه ، ويسكنون إليه ، ويتحيرون فيه ، ويفزعون إليه ، ومنه قول رؤبة{[85]} : [ الرجز ]

27- لله در الغانيات المده سبّحن واسترجعن من تأله{[86]}

أي : من عبادة .

ومنه قوله تعالى : { ويذرك وآلهتك } [ الأعراف : 127 ] أي : عبادتك .

وإلى معنى التحير أشار أمير المؤمنين –رضي الله عنه- بقوله : " كل دون صفاته تحير الصفات ، وضل هناك تصاريف اللغات " {[87]} ؛ وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته تحيّر ؛ ولهذا روي : " تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله " {[88]} .

وعلى هذا فالهمزة أصلية ، والألف قبل الهاء زائدة ، فأصل الجلالة : " الإله " ؛ كقول الشاعر [ في ذلك البيت ]{[89]} : [ الطويل ] .

28- معاذ [ الإله ]{[90]}أن تكون كظبية ولا دمية ولا عقيلة رَبْرَبِ{[91]}

ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ؛ كما حذفت في " ناس " والأصل : أناس ؛ كقوله : [ الكامل ] .

29-إن المنايا يطلعـ ـن على الأناس الآمنينا{[92]}

فالتقى حرف التعريف مع اللام ، فأدغم فيها وفخّم .

أو تقول : إن الهمزة من " الإله " حذفت للنقل بمعنى : أنا نقلنا حركتها إلى لام التعريف ، وحذفناها بعد نقل حركتها ، كما هو المعروف في النقل ، ثم أدغم لام التعريف ؛ لما تقدم ، إلا أن النقل-هنا- لازم ؛ لكثرة الاستعمال .

ومنهم من قال : هو مشتق من " وَلِهَ " ؛ لكون كل مخلوق وإله نحوه ، ولهذا قال بعض الحكماء : الله محبوب للأشياء كلها وعلى هذا دل قوله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] .

فأصله : " ولاَه " ثم أبدلت الواو همزة ، كما أُبدلت في " إشاحٍ ، وإعاء " والأصل : " وِشاح ، ووعاء " .

فصار اللفظ به : " إلها " ثم فعِل به ما تقدم من حذف همزته ، والإدغام ، ويعزى هذا القول للخليل-رحمه الله تعالى- .

فعلى هذين القولين ووزن " إلاه " : " فعال " وهو بمعنى مفعول ، أي : معبود أو متحير فيه ؛ كالكتاب بمعنى مكتوب ، ورد قول الخليل بوجهين :

أحدهما : أنه لو كانت الهمزة بدلا من واو ، لجاز النطق بالأصل ، ولم يقله أحد ، ويقولون : " إشاح " و " وِشَاحَ " ، و " إعَاءَ " و " وِعَاء " .

والثاني : أنه لو كان كذلك لجمع على " أَوْلِهة " كـ " أَوْعِيَة " ، و " أَوْشِحَة " ، فتردّ الهمزة إلى أصلها ، ولم يجمع " إله " إلا على " آلهة " .

وللخليل أن ينفصل عن هذين الاعتراضين ؛ بأن البدل لزم [ في ]{[93]} هذا الاسم ؛ لأنه اختص بأحكام لم يشركه فيها غيره كما ستقف عليه –إن شاء الله تعالى- ثم جاء الجمع على التزام البدل .

وأما الألف واللام ، فيترتب الكلام فيها على كونه مشتقا أو غير مشتق .

فإن قيل بالأول كانت في{[94]} الأصل معرفة .

وإن قيل بالثاني كانت زائدة .

وقد شذ حذف الألف واللام من الجلالة في قولهم : " لاه أبوك " والأصل : " لله أبوك " كما تقدم ، قالوا : وحذفت الألف التي قبل الهاء خطا ؛ لئلا يشتبه بخط " اللات " : اسم الصنم ؛ لأن بعضهم يقلب هذه التاء في الوقف هاء ، فيكتبها هاء تبعا للوقف ، فمن ثم جاء الاشتباه .

وقيل : لئلا يشبه{[95]} بخط " اللاه " اسم فاعل من " لها-يلهو " وهذا إنما يتم على لغة من يحذف ياء المنقوص{[96]} وقفا ؛ لأن الخط يتبعه ، وأما من يثبتها وقفا فيثبتها خطا ، فلا لبس حينئذ .

وقيل : حذف الألف لغة قليلة جاء الخط عليها ، والتزم ذلك ؛ لكثرة استعماله ؛ قال الشاعر : [ الرجز ] .

30- أقبل سيْل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنة المغلة{[97]}

قال ابن الخطيب –رحمه الله- : ويتفرع على هذا مسائل :

أحدها : لو قال عند الحلف : بِلّه ، فهل تنعقد يمينه أم لا ؟

قال بعضهم : لا ؛ لأن بله [ اسم ]{[98]} للرطوبة فلا ينعقد اليمين به .

وقال آخرون : ينعقد اليمين ؛ لأن ذلك بحسب أصل اللغة جائز ، وقد نوى به الحلف ، فوجب أن تنعقد .

وثانيها : لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا ؟

وثالثها : لو ذكر قول : " الله " في قوله : " الله أكبر " هل تنعقد الصلاة به أم لا ؟

وحكم لامه التفخيم ، تعظيما ما لم يتقدمه كسر فترقق .

وقد{[99]} كان أبو القاسم الزمخشري –رحمه الله تعالى- قد أطلق{[100]} التفخيم ، ولكنه يريد ما قلته .

ونقل أبو البقاء{[101]} –رحمه الله- : " إن منهم من يرققها على كل حال وهذا ليس بشيء ؛ لأن العرب على خلافه كابرا عن كابر كما ذكره{[102]} الزمخشري .

ونقل الفراء خلافا فيما إذا تقدمه فتحة ممالة أي قريبة من الكسرة : فمنهم من يرققها ، ومنهم من يفخمها ، وذلك كقراءة السوسي{[103]} في أحد وجهيه : { حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] .

قال ابن الخطيب{[104]} –رحمه الله تعالى- : " لم يقل أحد : " الله " بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات " .

ونقل السهيلي{[105]} ، وابن العربي{[106]} فيه قولا غريبا ، وهو أن الألف واللام فيه أصلية غير زائدة ، واعتذروا عن وصل الهمزة ؛ لكثرة الاستعمال كما يقول الخليل في همزة التعريف{[107]} ، وقد رد قولهما بأنه كان ينبغي أن ينوّن لفظ الجلالة ، وكان وزنه حينئذ " فعّال " نحوك " لئّال " و " سئّال " ، وليس فيه ما يمنعه من التنوين ، فدل على أن " أل " زائدة على ماهية الكلمة .

ومن غريب ما نقل فيه -أيضا- أنه ليس بعربي ، بل هو معرب ، وهو سرياني الوضع ، وأصله : " لاهَا " فعربته العرب ، فقالوا : " اللهُ " ؛ واستدلوا على ذلك بقول الشاعر : [ مخلّع بسيط ]

31-كحلفة من أبي رياح يسمعها لاهه الكبار{[108]}

فجاء به على الأصل قبل التعريف ، نقل ذلك أبو زيد البلخي{[109]}-رحمه الله تعالى- .

ومن غريب ما نقل فيه -أيضا- أن الأصل فيه " الهاء " التي هي كناية عن الغائب ، قالوا : وذلك أنهم أثبتوه موجودا في نظر عقولهم ؛ فأشاروا إليه بالضمير ، ثم زيدت فيه لام الملك ، إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها ، فصار اللفظ " له " ، ثم زيد فيه الألف واللام ؛ تعظيما وتفخيما ، وهذا لا يشبه كلام أهل اللغة ، ولا النحويين ، وإنما يشبه كلام بعض المتصوفة .

ومن غريب ما نقل فيه -أيضا- أنه صفة ، وليس باسم ، واعتلّ [ هذا الذاهب إلى ]{[110]} ذلك ؛ أن الاسم يعرف المسمى ، والله -تعالى- لا يدرك حسا ولا بديهة ، فلا يعرفه اسمه ، وإنما تعرفه صفاته ؛ ولأن العلم قائم مقام الإشارة ، وذلك ممتنع في حق الله تعالى .

وقد رد الزمخشري هذا القول بما معناه : أنك تصفه ، ولا تصف به فتقول : إله عظيم واحد كما تقول : شيء عظيم ، ورجل كريم ، ولا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل ، ولو كان صفة لوقع صفة لغيره لا موصوفا .

وأيضا : فإن صفاته الحسنى ، لا بد لها من موصوف بها تجري عليه ، فلو جعلناها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها ، وليس فيما عدا الجلالة خلاف في كونه صفة ، فتعين أن تكون الجلالة اسما لا صفة ، والقول في هذا الاسم الكريم يحتمل الإطالة ، وهذا القدر كاف .

فصل في اختصاص لفظ الجلالة به سبحانه

قال ابن الخطيب{[111]} -رحمة{[112]} الله تعالى عليه- : أطبق جميع الخلق على أن قولنا : " الله " مخصوص بالله تبارك وتعالى ، وكذلك قولنا : " الإله " مخصوص به سبحانه وتعالى .

وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله -تعالى- فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال : " إله كذا " ، أو ينكرونه كما قال –تبارك وتعالى- عن قوم موسى-عليه السلام- : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] .

فصل في خواص لفظ الجلالة .

قال ابن الخطيب{[113]} –رحمه الله تعالى- : ( اعلم أن هذا الاسم مخصوص بخواص لا توجد في سائر أسماء الله تعالى .

فالأولى : أنك إذا حذفت الألف من قولك : " الله " بقي الباقي على صورة " الله " وهو مختص به سبحانه وتعالى ، كما في قوله تعالى : { ولله ملك السموات الأرض }( آل عمران :189 ) ، وإن حذفت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة ( له ) ؛ كما في قوله تبارك وتعالى : { له مقاليد السموات والأرض } ( الشورى : 12 ) ، وقوله تعالى : { له الملك وله الحمد } التغابن :1 ) ، وإن حذفت اللام الباقية كانت البقية " هو " وهو أيضا- ويدل عليه سبحانه وتعالى ، كما في قوله تعالى : { قل هو الله أحد } ( الاخلاص :1 ) و قوله : { لا إله الاهو } ( البقرة :255 ) والواو زائدة ؛ بدليل : سقوطه في التثنية والجمع فإنك تقول : هما ، وهم ، ولا تبقي الواو فيهما ، فهذه الخاصية موجودة في لفظ " الله " –تعالى- غير موجودة في سائر الأسماء ، كما [ حصلت ]{[114]} هذه الخاصية بحسب اللفظ{[115]} [ فقد حصلت – أيضا- بحسب المعنى ][116] ، فإنك إذا دعوت الله –تبارك وتعالى- بالرحمة فقد وصفته بالرحمة ، وما وصفته بالقهر ، وإذا دعوته بالعليم ، فقد وصفته بالعلم ، وما وصفته بالقدرة .

وأما إذا قلت : " ياالله " ، فقد وصفته بجميع الصفات ، لأن الإله لا يكون إلها إلا إذا كان موصوفا بجميع هذه الصفات ، فتبث أن قولنا : " الله " قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء .

الخاصية الثانية : أن كلمة الشهادة ، وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإيمان[117] ، ولو يكن فيها هذا الاسم ، لم يحصل الإيمان ، فلو قال الكافر : أشهد أن لا إله إلا الرحيم ، أو إلا الملك ، أو إلا القدوس ، لم يخرج من الكفر ، ولم يدخل في الإسلام .

أما إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فإنه يخرج من الكفر ، ويدخل في الاسلام ، وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة .

[ وفي هذا نظر ][118] ؛ لأنا لا نسلم هذا في الأسماء المختصة بالله –سبحانه وتعالى- مثل : القدوس والرحمن .

فصل في رسم لفظ الجلالة

كتبوا لفظة " الله " بلامين ، وكتبوا لفظة " الذي " بلام واحدة ، مع استوائهما في اللفظ ، وفي أكثر الدوران على الألسنة ، وفي لزوم التعريف ؛ والفرق من وجوه :

الأول : أن قولنا : " الله " اسم معرب متصرف تصرف الأسماء ، فأبقوا كتابته على الأصل .

أما قولنا " الذي " فهو مبني من أجل أنه ناقص ، مع أنه لا يفيد إلا مع صلته ، فهو كبعض الكلمة ، ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنيا ، فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب ، ألا ترى أنهم كتبوا قوله -تعالى- " اللذان " بلامين ؛ لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف ؛ لأن الحرف لا يثنى .

الثاني : أن قولنا : " الله " لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله : " إله " ، وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا : " الذي " .

الثالث : أن تفخيم ذكر الله -تعالى- في اللفظ واجب ، هكذا في الخط ، والحذف ينافي التفخيم .

وأما قولنا : " الذي " فلا تفخيم له في المعنى ، فتركوا- أيضا- تفخيمه في الخط .

قال ابن الخطيب[119] -رحمة الله تعالى عليه- : " إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا : " الله " في الخط ؛ لكراهة اجتماع الحروف [ المتشابهة في الصورة ][120] ، [ وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المقابلة في اللفظ ][121] عند القراءة " .

{ الرحمان الرحيم } [ الفاتحة : 1 ] صفتان مشتقتان من الرحمة .

وقيل : الرحمان ليس مشتقا ؛ لأن العرب لم تعرفه في قولهم : { وما الرحمان } [ الفرقان : 60 ] وأجاب ابن العربي عنه : بأنهم إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ؛ ولذلك لم يقولوا : ومن الرحمان ؟

وقد تبعا موصوفهما في الأربعة من العشرة المذكورة .

وذهب[122] الأعلم الشنتمري[123] إلى أن " الرحمان " بدل من اسم " الله : لا نعت له ، وذلك مبني على مذهبه من أن " الرحمان " عنده علم بالغلبة .

واستدل على ذلك بأنه قد جاء غير تابع لموصوف [ كقوله تعالى : { الرحمان علم القرآن }[124] [ الرحمان : 1-2 ] و{ الرحمان على العرش استوى } [ طه :5 ] .

وقد رد عليه السهيلي بأنه لو كان بدلا لكان مبينا لما قبله ، وما قبله وهو الجلالة الكريمة لا تفتقر إلى تبيين ؛ لأنها أعرف الأعلام ، ألا تراهم قالوا : " وما الرحمان " ولم يقولوا : وما الله ؟ .

وأما قوله : " جاء غير تابع " فذلك لا يمنع كونه صفة ؛ لأنه إذا علم الموصوف جاز حذفه ، وبقاء صفته ؛ كقوله تبارك وتعالى : { ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } [ فاطر : 28 ] أي : نوع مختلف [ ألوانه ][125] ، وكقول الشاعر [ في ذلك المعنى ][126] : [ البسيط ]

32- كناطح صخرة يوما ليفلقها فما وهاها وأوهى قرنه الوعل[127]

أي : كوعْل ناطح ، وهو كثير .

والرحمة لغة : الرقة والانعطاف ، ومنه اشتقاق الرحم ، وهي البطن ؛ لانعطافها على الجنين ، فعلى هذا يكون وصفه -تعالى- بالرحمة مجازا عن إنعامه على عباده ، كالملك إذا عطف على رعيته أصابهم خيره ، هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري –رحمه الله تعالى- ويكون على هذا التقدير صفة فعل ، لا صفة ذات .

وقيل : الرحمة : إرادة الخير لمن [ أراده الله بذلك ][128] ووصفه بها على هذا القول حقيقة ، وهي حينئذ صفة ذات ، وهذا القول هو الظاهر .

وقيل : الرحمة [ رقة ][129] تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرد ، وإذا وصف به البارئ -تعالى- فليس يراد به [ إلا ][130] الإحسان المجرد دون الرقة ، وعلى هذا روي : " الرحمة من الله -تعالى- إنعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف " .

وقال ابن عباس –رضي الله تعالى عنهما- : " هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة " .

قال الخطابي : وهو مشكل ؛ لأن الرقة لا مدخل لها في صفاته .

[ وقال الحسين بن الفضل[131] : هذا وهم من الراوي ؛ لأن الرقة ليست من صفات الله –تعالى-في شيء ][132] ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر والرفق من صفاته .

قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله-تعالى- رفيق يحب الرفق ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف " [133] ؛ ويؤيده الحديث الآخر . وأما الرحيم فهو الرفيق بالمؤمنين خاصة .

واختلف أهل العلم في أن " الرحمان الرحيم " بالنسبة إلى كونهما بمعنى واحد ، أو مختلفين ؟

فذهب بعضهم : إلى أنهما بمعنى واحد كـ " ندمان ونديم " ، ثم اختلف هؤلاء على قولين :

فمنهم من قال : يجمع بينهما ؛ تأكيدا .

ومنهم من قال : لما تسمى مسيلمة –لعنه الله-بـ " الرحمان " قال الله تعالى لنفسه : " الرحمان الرحيم " فالجمع بين هاتين الصفتين لله -تعالى- فقط . وهذا ضعيف جدا ؛ فإن تسميته بذلك غير معتد بها ألبتة ، وأيضا : فإن " بسم الله الرحمان الرحيم " قبل ظهور أمر مسيلمة .

ومنهم من قال : لكل واحد فائدة غير فائدة الآخر ، وجعل ذلك بالنسبة إلى تغاير متعلقهما ؛ إذ يقال : " رحمان الدنيا ، ورحيم الآخرة " ، ويروى ذلك عن النبي –صلى الله عليه وسلذم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم- وذلك لأن رحمته في الدنيا تعم المؤمن والكافر ، وفي الآخر تخص المؤمنين فقط .

ويروى : " رحيم الدنيا ، ورحمان الآخرة " وفي المغايرة بينهما بهذا القدر وحده نظر لا يخفى .

وذهب بعضهم إلى أنهما مختلفان ، ثم اختلف هؤلاء أيضا :

فمنهم من قال : الرحمان أبلغ ؛ ولذلك لا يطلق على غير البارئ-تعالى- ، واختاره الزمخشري ، وجعله من باب " غضبان " و " سكران " للممتلئ غضبا وسكرا ؛ ولذلك يقال : " رحمان الدنيا والآخرة ، ورحيم الآخرة فقط " .

قال الزمخشري[134] : " فكان القياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما يقال : " شجاع باسل " ولا يقال : " باسل شجاع " .

ثم أجاب : بأنه أردف " الرحمان " الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بـ " الرحيم " ؛ ليكون كالتتمة والرديف ؛ ليتناول [ ما دق منها ][135] ، ولطف .

ومنهم من عكس : فجعل " الرحيم " أبلغ ، ويؤيده رواية من قال : " رحيم الدنيا ، ورحمان الآخرة " ؛ لأنه في الدنيا يرحم المؤمن والكافر ، وفي الآخرة لا يرحم إلا المؤمن .

لكن الصحيح أن " الرحمان " [136] أبلغ ، وأما هذه الرواية فليس فيها دليل ، بل هي دالة على أن " الرحمان " أبلغ ؛ وذلك لأن القيامة فيها الرحمة أكثر بأضعاف ، وأثرها فيها أظهر على ما يروى : " أنه خبأ لعباده تسعا وتسعين رحمة ليوم القيامة " .

والظاهر أن جهة المبالغة فيهما مختلفة ؛ فمبالغة " فعلان " من حيث : الامتلاء والغلبة ، ومبالغة " فعيل " من حيث : التكرار والوقوع بمحال الرحمة .

وقال أبو عبيدة[137] وبن

[ سورة فاتحة الكتاب ]{[0296

وهي مكية في قول الأكثرين ، وهي سبع آيات ، وتسع وعشرون كلمة ، ومائة واثنان وأربعون حرفا .

عن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- : " الحمد لله رب العالمين ، سبع آيات ، إحداهن بسم الله الرحمان الرحيم ، وهي السبع المثاني ، وهي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب " {[0297 .

قال علي بن أبي طالب{[0298 –كرم الله وجهه- : " نزلت فاتحة الكتاب ب " مكة " من [ كنز ] تحت العرش " {[0299 .

وقال مجاهد{[0300 –رضي الله عنه- " فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة " {[0301 .

قال الحسين بن الفضل : " لكل عالم هفوة " وهذه نادرة من مجاهد ؛ لأنه تفرد بها ، والعلماء على خلافه .

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم أنها أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني ، [ وسورة الحجر مكية ] بلا خلاف ، ولا يمكن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ب " مكة " بضع عشر سنة بلا فاتحة الكتاب .

قال بعضهم : ويمكن الجمع بين القولين بأنها نزلت مرتين : مرة ب " مكة " ، ومرة ب " المدينة " .

ولها أسماء كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى :

فالأول : " فاتحة الكتاب " سميت بذلك ؛ لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم ، والقراءة في الصلاة . وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .

الثاني : سورة الحمد ؛ لأن أولها لفظ الحمد .

الثالث : " أم القرآن " قيل : لأن أم الشيء أصله ، ويقال لمكة : أم القرى ، لأنها أصل البلاد ، دحيت الأرض من تحتها .

وقال الثعلبي{[0302 سمعت أبا القاسم بن حبيب قال : سمعت أبا بكر القفال قال : سمعت أبا بكر بن دريد{[0303 يقول : " الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر " .

قال قيس بن الخطيم{[0304 : [ الوافر ]

36- نصبنا أمنا حتى ازعرروا وصاروا بعد ألفتهم شلالا

فسميت هذه السورة بأم القرآن ؛ لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة ، كما أن مفزع العسكر إلى الراية . والعرب تسمي الأرض أما ، لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ، ولأنه يقال : أم فلان فلانا إذا قصده .

والرابع : السبع المثاني ، سميت بذلك ؛ قيل : لأنها مثنى نصفها ثناء العبد للرب ، ونصفها عطاء الرب للعبد .

وقيل : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة .

وقيل : لأنها مستثناة من سائر الكتب ، قال عليه الصلاة والسلام : " والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان{[0305 مثل هذه السورة ، فإنها السبع المثاني ، والقرآن العظيم " .

وقيل : لأنها سبع آيات ، كل آية تعدل قراءتها بسبع من القرآن فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله -تعالى- ثواب من قرأ كل القرآن .

وقيل : لأنها نزلت مرتين : مرة ب " مكة " ومرة ب " المدينة "

وقيل : لأن آياتها سبع ، وأبواب النيران سبعة ، فمن قرأها غلقت عنه [ أبواب النيران السبعة ] .

والدليل عليه ما روي أن جبريل –عليه الصلاة والسلام- قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم- : " يا محمد ، كنت أخشى العذاب على أمتك ، فلما نزلت الفاتحة أمنت ، قال : لم يا جبريل ؟ قال : لأن الله -تعالى- قال : { وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 43 ، 44 ] ، وآياتها سبع ، فمن قرأها صارت كل آية طبقا على كل باب من أبواب جهنم ، فتمر أمتك عليها سالمين " .

وقيل : لأنها إذا قرئت في الصلاة تثنى بسورة أخرى .

وقيل : سميت مثاني ؛ لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له .

الخامس : " الوافية : كان سفيان بن عيينة{[0306-رضي الله عنه- يسميها بهذا الاسم .

وقال الثعلبي : وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرئ نصفها في ركعة ، والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز ؟ وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة .

السادس : " الوافية " سميت بذلك ؛ قيل : لأن المقصود من كل القرآن الكريم تقدير أمور أربعة : الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله -تعالى- فقوله : { الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم } [ الفاتحة : 2-3 ] يدل على الإلهيات .

وقوله : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] يدل على المعاد .

وقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة :5 ] يدل على نفي الجبر ، والقدرة على إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره .

وقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] إلى آخرها يدل -أيضا-على إثبات قضاء الله -تعالى- وقدره .

وعلى النبوات كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

السابع : " الكافية " لأنها تكفي عن غيرها ، وغيرها لا يكفي عنها ، روى محمود بن الربيع{[0307 ، عن عبادة بن الصامت{[0308-رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم : " أم القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضا عنها " {[0309 .

الثامن : " الأساس " قيل : لأنها أول سورة من القرآن ، فهي كالأساس .

وقيل : إن أشرف العبادات بعد الإيمان هي الصلاة ، وهذه السورة مشتملة على كل ما لابد منه في الإيمان ، والصلاة لا تتم إلا بها .

التاسع : " الشفاء " عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم : " فاتحة الكتاب شفاء من كل سم " {[0310 .

ومر بعض الصحابة –رضي الله عنهم- برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه ، فبرئ ، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( هي أم القرآن ، وهي شفاء من كل داء ){[0311 .

العاشر : " الصلاة قال عليه الصلاة والسلام : يقول الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) ، والمراد هذه السورة .

وقيل : لها أسماء غير ذلك .

قيل : اسمها " السؤال " .

وقيل : -أيضا- : اسمها " الشكر " .

وقيل : اسمها -أيضا- " الدعاء " .

وقيل : " الرقية " لحديث الملدوغ{[0312 .

فصل في فضائلها

عن أبي سعيد الخدري –رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- أنه قال : " فاتحة الكتاب شفاء من السم " .

وعن حذيفة بن اليمان{[0313 –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب : " الحمد لله رب العالمين " [ الفاتحة :2 ] فيسمعه{[0314 الله-تعالى- فيرفع عنهم بسببه العذاب أربع سنين " {[0315 .

وعن الحسن{[0316-رضي الله عنه- قال : " أنزل الله-تعالى- مائة وأربعة كتب : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن ، ثم أودع علوم القرآن في المفصل ، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة ، فمن علم تفسير الفاتحة ، كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ، ومن قرآها ، فكأنما قرأ التوراة والإنجيل ، والزبور ، والفرقان " {[0317 .

وعن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- قال : مر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- على أبي بن كعب{[0318 -رضي الله عنه- وهو قائم يصلي فصاح به فقال له : تعالى يا أبي ، فعجّل أبي في صلاته ، ثم جاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- فقال : " ما منعك يا أبي أن تجيبني ، إذ دعوتك ؟ أليس [ الله تعالى يقول ]{[0319 : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } [ الأنفال : 24 ] قال أبي –رضي الله عنه- لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك ، وإن كنت مصليا ، قال : " أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ، وفي الإنجيل ، وفي الزبور ، ولا في الفرقان مثلها " ؟ فقال أبي –رضي الله عنه- : نعم يا رسول الله ، قال : " لا تخرج من باب المسجد حتى تتعلمها –والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلما بلغ الباب ليخرج ، قال أبي : السورة يا رسول الله ، فوقف فقال : " نعم كيف تقرأ في صلاتك " ؟ فقال أبي : [ إني أقرأ ]{[0320 أم القرآن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- : " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها ، إنها السبع المثاني التي آتاني الله عز وجل " {[0321 .

" القول في النزول "

ذكروا في كيفية نزول هذه السورة أقوالا :

أحدها : أنها مكية ، روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه- أنه قال : " نزلت فاتحة الكتاب ب " مكة " من كنز تحت العرش " ثم قال الثعلبي : وعليه أكثر العلماء –رحمهم الله تعالى- وروى أيضا بإسناده عن عمرو بن شرحبيل{[0322-رضي الله عنه- أنه قال : أول ما نزل من القرآن : { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة :2 ] ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- أسر إلى خديجة- رضي الله عنها- فقال : " لقد خشيت أن يكون خالطني شيء " فقالت : وما ذاك ؟ قال : إنني إذا خلوت سمعت النداء { اقرأ ] [ العلق :1 ] ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل{[0323 ، وسأله عن تلك الواقعة ، فقال له ورقة : إذا أتاك النداء ، فاثبت له ، فأتاه جبريل-عليه الصلاة والسلام- فقال له : قل : { بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1-2 ] .

وبإسناده عن أبي صالح{[0324 ، عن ابن عباس-رضي الله تعالى عنهما- قال : قام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم- ب " مكة " فقال : " بسم الله الرحمان الرحيم " ، فقالت قريش : رضّ الله فاك{[0325 .

القول الثاني : أنها نزلت ب " المدينة " ، روى الثعلبي بإسناده ، عن مجاهد أنه قال : " فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة " {[0326 .

قال الحسين بن الفضل : لكل عالم هفوة ، وهذه هفوة مجاهد ؛ لأن العلماء-رحمهم الله تعالى- على خلافه .

ويدل عليه وجوه :

الأول : أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ، ومنها قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] ، وهي فاتحة الكتاب ، وهذا يدل على أنه-تعالى- آتاه هذه السورة فيما تقدم .

وهذا ليس فيه دليل ، لأن النبي –عليه الصلاة والسلام- قال : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد . . . ){[0327 الحديث ، فيكون هذا الإتيان بالنسبة إلى اللوح المحفوظ ، فإن منع في البعض فلا يمنع{[0328 في الشفاعة .

الثاني : أنه يبعد أن يقال : إنه أقام ب " مكة " بضع سنين بلا فاتحة الكتاب .

الثالث : قال بعض العلماء : هذه السورة نزلت ب " مكة " مرة ، وب " المدينة " مرة أخرى ، فهي مكية مدنية ، ولهذا السبب سمّاها الله-تعالى- بالسبع المثاني ؛ لأنه ثنى إنزالها ، وإنما كان كذلك ؛ مبالغة في تشريفها ، وأجمعت الأمة على أن الفاتحة سبع آيات .

وروي شاذا عن الحسين الجعفي{[0329 أنها ست آيات ، وأجمعت الأمة-أيضا- على أنها من القرآن .

ونقل القرطبي{[0330 : أن الفاتحة مثبتة في مصحف ابن مسعود{[0331 –رضي الله تعالى عنه- وأن المعوذتين ليستا من القرآن عنده ، وسيأتي الكلام على ذلك آخر الكلام على الفاتحة إن شاء الله تعالى ."

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

قولُه تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } .

الحمدُ[153] : الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعْمةً مْبْتدأة إلَى أَحَدٍ أَمْ لاَ .

يُقال : حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به ، وحمدتُه على شَجَاعته ، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ ، دون عمل الجَوَارِح ، إذْ لا يُقالُ : حمدت زيداً أيْ : عملت له بيدي عملاً حسناً ، بخلاف الشكر ؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير .

يُقال : شَكَرْتُه على ما أعطاني ، ولا يُقالُ : شكرتُه على شَجَاعَتِه ، ويكون بالقلبِ ، واللِّسَانِ ، والجَوَارح ؛ قال الله تعالى :

{ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً }

[ سبأ : 13 ] وقال الشاعرُ : [ الطويل ] .

37- أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً- *** -يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحجَّبَا[154]

فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه .

وقيل : الحمدُ هو الشكر ؛ بدليلِ قولِهم : " الحمدُ لِلَّهِ شُكْراً " .

وقيل : بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق .

والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ .

وقيلَ : الحمدُ : الثناءُ عليه تعالى [ بأوصافِه ، والشكرُ : الثناءُ عليهِ بِأَفْعَاله ][155] فالحامِدُ قِسْمَانِ : شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة .

وقيل : الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِنْ كان منقولاً عن ثَعْلَب ؛ لأنَّ المقلوبَ[156] أقلُّ اسْتِعْمالاً من المقلوب منه ، وهذان مُسْتَوِيَان في الاستعمالِ ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْس ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيْن .

وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْد ، فإنه يُقالُ : حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال : مَدَحْتُه ، ولو كان مَقْلُوباً لما امتنع ذلك .

ولقائلٍ : أَنْ يَقُولَ : منع من ذلك مانِعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .

وقال الرَّاغِبُ[157] : " الحَمْدُ لله " : الثناءُ بالفَضِيلَةِ ، وهو أخصُّ من المدحِ ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه ، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار ، فقد يُمْدَح الإنسان بطول قَامَتِهِ ، وصَبَاحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه ، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ .

قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى - : الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه :

أحدها : أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلْحَيِّ ، ولغيرِ الحَيِّ? أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ ، فإنه يَمْدَحُها ؟ فثبت أَنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ .

الثَّاني : أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ ، وقد يكونُ بعدَه ، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان .

الثالث : أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه ؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ : " احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ[158] " أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ " [159] .

الرابعُ : أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل .

وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدّالُّ على كونه مُخْتَصًّا بِفَضِيلة مُعَيَّنَةٍ ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان ، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ .

وأَمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكْرِ ، فهو أَنَّ الحمدَ يَعُمُّ إذا وَصَلَ ذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك ، وأما الشُّكْرُ ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك .

وقال الرَّاغِبُ - رحمه الله - : والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة ، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً ، وكل حمد مَدْحٌ ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً .

ويقال : فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد ، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً ، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ .

واحمدُ أَيْ : أَنَّه يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ .

والألفُ : واللام في " الحَمْد " قِيل : للاستغراقِ .

وقيل : لتعريفِ الجِنْس ، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]

38- . . . . . . . . . . . . . . . . . . - *** -إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ[160]

وقيل : للعَهْدِ ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ ، ولم يُبَيّنْ وجهةَ ذلك ، ويشبه أن يُقالَ : إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ ، لا الإخبار به ، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه ، بخلاف كونها للجِنْسِ .

والأصلُ في " الحَمْدِ " المصدريةُّ ؛ فلذلك لا يُثَنَّى ، ولا يُجْمَعُ .

وحكى ابنُ الأَعْرَابِيِّ[161] جَمْعَهُ على " أَفْعُل " ؛ وأنشد : [ الطويل ]

39- وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ- *** -بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي[162]

وقرأ الجُمْهُورُ[163] : " الحَمْدُ لِلَّه " برفْعِ الدّال وكسرِ لاَمِ الجَرِّ ، ورفعُهُ على الابتداءِ ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة .

ثم ذلك المحذوفُ إنْ شئتَ قَدَّرْتَهُ [ اسْماً ، وهو المُخْتارُ ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَهُ ][164] فِعْلاً أَي : الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله ، واسْتَقَرَّ لِلَّه .

والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ : أَنَّ ذَلك يَتَعَيّنُ في بَعْضِ الصورِ ، فلا أَقَلَّ مِنْ ترجيحِه في غَيْرِها ، وذلك أنّك إذا قُلْتَ : " خرجتُ فإِذَا في الدَّار زَيْدٌ " و " أمَّا في الدارِ فَزَيْدٌ " يتعيّنُ في هاتَيْن الصُّورَتَيْنِ [ أن يقدر بالاسم ][165] ؛ لأَنَّ " إذا " الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيلِيَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأُ . وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعض الصُّورِ ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ ، نحو : الَّذِي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره ؟

والجوابُ : أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ ، أَو الخبر ، وليس أَجْنَبِيًّا ، فكان اعتباره أَوْلَى ، بخلاف وقوعه صِلةً ، [ والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ ][166] .

ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ -ها هنا- لعُمُومِ فائدتها ، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً ، أو حالاً ، أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ ، وذلك المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً : فأمّا قول الشاعر : [ الطويل ]

40 - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ ، وَإِنْ يَهُنْ- *** -فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ[167]

وأما قولُه تبارك وتَعَالى : { فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يقصدْ جعل الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلّقَ به ، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرُه باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعْلاً[168] . واختلفُوا : أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة ؟

فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ ، [ وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ ][169] ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين .

وقُرِئَ[170] شَاذًّا بنصب الدالِ من " الحَمْد " ، وفيه وجهان :

أظهرُهُما : أنه منصوبٌ على المصدريَّةِ ، ثم حُذِف العاملُ ، ونابَ المصدرُ مَنَابه ؛ كقولِهِم في الأخبار : " حمداً ، وشكراً لا كُفْراً " والتقدير : " أَحمد الله حمداً " ، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ .

وقال الطَّبَرِيُّ[171] - رحمه الله تعالى - : " إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه ، فكأَنَّه قال : " قولوا : الحَمْد للهِ " وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا : إِيَّاكَ " .

فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيًّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً ، ولا يجوزُ إظهار الناصب ، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه .

والثاني : أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ ، أَي : اقْرَءُوا الحَمْدَ ، أَو اتْلُوا الحَمْدَ ؛ كقولهم : " اللَّهُمَّ ضَبُعاً وَذِئْباً " ، أَي : اجْمَعْ ضَبُعاً ، والأوّلُ أَحْسَنُ ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ .

وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب ، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ ، بخلافِ النَّصْبِ ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله - : إن جوابَ إِبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه :

{ قَالَ سَلاَمٌ }[ هود : 69 ] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة :

{ قَالُواْ سَلاَماً }[ هود : 69 ] امتثالاً لقولِه تعالى :

{ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ }[ لنساء : 86 ] .

و " لله " على قراءةِ النصبِ[172] يتعلّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ ، لأنَّها للبيانِ ، تقديرهُ : أَعْنِي لله ، كقولِهم : " سُقْياً له ورَعياً لك " تقديرُه : " أَعْنِي له ولك " ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر ، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام ، فينصبوه به فيقُولُوا : سُقْياً زيداً ، ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى :

{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ }[ محمد : 8 ] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ ؛ لأنَّ " لَهُمْ " لا يتعلّقُ ب " تَعْساً " كما مَرَّ .

ويحتملُ أَنْ يُقالُ : إن اللام في " سُقياً لك " ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل ؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده .

وقُرِئَ[173] : - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال ، ووجهُهُ : أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده ، وهي لُغَةُ " تَمِيم " ، وبَعْضِ " غَطَفَان " ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني ؛ للتَّجَانُسِ . ومنه : [ الطويل ]

41- . . . . . . . . . . . . . . . - *** -اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ[174]

بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ ، ومثلُه : [ البسيط ]

42- وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً- *** -وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ[175]

الأصل : وَيْلٌ لأُمِّهَا ، فحذفَ اللاَّمَ الأُولَى ، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها ، وحذَفَ الهَمْزَةَ ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ ، فصار اللفظ : " وَيْلِمِّهَا " .

ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ ، فيقول : " وَيْلُمِّهَا " بِضَمِّ اللاَّمِ ، قال : [ البسيط ]

43 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا- *** -فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ[176]

ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ ، لأنَّ الإعرابَ مُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ .

وقرئ أيضاً[177] : " لُلَّهِ " بضم لاَمِ الجَرِّ ، قَالُو : وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ ، وهي لغةُ بَعْضِ " قَيْس " ، يُتْبِعُون الثانِي نحو : " مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ " بضم الدَّال والقاف لأجل الميم ، وعليه قرئ[178] :{ مُرُدفين } [ الأنفال : 9 ] بِضَمِّ الراءِ ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ .

فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في " الحَمْدُ لِلَّهِ " .

ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ : الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي :

المُلْكُ : المالُ لِزَيْدٍ . والاستحقاقُ : الجُل لِلْفَرَسِ . والتَّمْلِيكُ : نحو : وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو :{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }[ الشورى : 11 ] لتسكنوا إليها .

والنسب : نحو : لِزَيْدٍ عَمٌّ .

والتعليلُ : نحو :{ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ }[ النساء : 105 ] ،

والتبليغُ : نحو قلتُ لك .

وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً ؛ كقوله : [ البسيط ]

44- لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ- *** -بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ[179]

والتَّبْيِينُ نحو قولِه تَعَالَى :{ هَيْتَ لَكَ }[ يوسف : 23 ] .

والصيرورةُ : نحو قولِهِ تَعَالَى :{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }[ القصص : 8 ] .

والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى " فِي " : كقوله تعالى :{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }[ الأنبياء : 47 ] ، أَوْ بِمَعْنَى " عِنْدَ " : كقولِهم : " كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ " ، أيْ : عِنْدَ خَمْسٍ ، أَوْ بِمَعْنَى " بَعْدَ " : كقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] أيْ : بَعْدَ دُلُوكها .

والانتهاءُ : كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُّسَمًّى } [ الرعد : 2 ] .

والاستعلاءُ : نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ }[ الإسراء : 109 ] .

وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه ؛ كقولِه تَعَالى :{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، [ وإذا ] كان العامِلُ فرعاً ، نحو قوله تعالى :{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } هود : 107 ] .

وَبِغَيْرِ اطرادٍ ؛ نحو قوله في ذلك البيت : [ الوافر ]

45- فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً- *** -أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا[180]

وأما قولُه تَعَالَى :{ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم }[ النمل : 72 ] ، فقِيل : على التَّضْمِينِ ، وقِيلَ : هي زَائِدَةٌ .

ومن الناسِ مَنْ قال : تقديرُ الكَلام : قُولُوا : الحمد لله .

قال ابنُ الخَطِيب : - رحمه الله تعالى - : وهذا عندي ضعيفٌ ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصَار إليه ليصحّ الكلامُ ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكَلام ، والدليل عليه : أن قوله - تعالى - " الحَمْدُ لِلَّهِ " إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقًّا [ لله تعالى ] وملَكاً له ، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه ، فلا حاجةَ إلى الإضمار .

وأيضاً فإن قولَه : " الحمد لله " يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته ، وبحسبِ أَفْعالِه ، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه .

قال ابنُ الخَطِيب[181] : - رحمه الله تعالى - : " الحَمْدُ لِلَّه ثمانيةُ أَحْرُفٍ ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [ أبواب ][182] ، فمن قال : " الحمد لله " بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية " والله أعلم .

فَصْلٌ

تمسّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى : " الحمدُ لِلَّهِ " أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه :

الأولُ : أَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ أشْرَفَ وأَكْمَل ، وكانت النعمةُ الصادِرَةُ عنه أَعْلَى وأفضل ، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ[183] المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ ، فلو كان الإيمانُ فِعْلاً للعبد ، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له ، ولما لم يكنْ كذلك ، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ .

الثاني : أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم : " الحمدُ لِلَّهِ على نعمةِ الإيمانِ " ، فلو كان العَبْدُ فاعلاً للإيمانِ لَكَان قولُهم : " الحمد للَّه على نعمة الإيمان " ؛ باطلاً ، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لا يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ ؛ لقوله تعالى :{ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ }

[ آل عمران : 188 ] .

الثالثُ : أَن قوله تعالى : " الحمدُ للهِ " يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله ، وانه لَيْسَ لِغَيْر الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً ، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى ، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم ، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى .

الرابعُ : أَن قولَهُ[184] : " الحَمد لله " مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ[185] ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بين الخَلْقِ ، فلما بدأ كتابَهُ بمدحِ النفْسِ ، دَلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ ، وذلك يدلُّ على أنه - تبارك وتعالى - مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ .

الخامسُ : عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً ، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ ، وإلا كان عبثاً ، وذلك في حقه تعالى محالٌ ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [ أن تَكُونَ ][186] واجِبةً ، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ .

أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب ، والعوض إلى المُكَلَّفِين .

وأما الذي يكونُ من باب التفضل ، فهو مثلُ أنَّه يزيد على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ .

فنقولُ : هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد ، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا : الحمدُ لله .

وتقريرهُ أن نقولَ : أما أداةُ الواجِباتِ ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارٍ ، فأدّاه ، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً ، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [ له ][187] عن الذَّمِّ ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد .

وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزِيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ ، لما حَصَل له الحمدُ ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح .

السَّادسُ : قولُه : الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ ، فنقولُ : استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْراً ثابتاً لذاته ، أو ليس تابثا لذاته ، فإنْ كان الأوّل ، امتنَع ثُبوتُه لغيره ، فامتنع - أيضاً - أنْ يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم ؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه ، فوجب أَلاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوَابِ ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة .

وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول : فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُسْتكملاً بغيره ، وذلك على الله - تعالى - محالٌ .

أما قول المعتزلة : إنَّ قَوْلَهُ : " الحَمْدُ لِلَّهِ " لا يتم إلاَّ على قولِنَا ؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطْلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ ، ولا جَوْرَ في قَضِيَّتِهِ ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ ، وعندنا أنَّ الله - تعالى - كذلك ؛ فكان مُسْتَحِقًّا لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح .

أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه ، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه ، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه ؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر ، ثم يعذبُه عليه ، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا ، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد ؟

وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسبب الإلهيَّة ؛ إِمَّا أن يستحِقَّهُ على العبدِ ، أَوْ عَلَى نفسه ، فإن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ .

وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ ؛ وذلكَ بَاطِلٌ ، قالوا : فثبت أَنَّ القولَ بالحَمْدِ لا يصحُّ إلا على قولنا .

فَصْل هل وجوب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع ؟

اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ .

مِنَ الناس مَنْ قال : إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ ، لقوله تبارك وتعالى :{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }[ الإسراء : 15 ] ، ولقوله تبارك وتعالى :{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[ النساء : 165 ] .

ومِنْهم مَنْ قال : إنه ثَابِتٌ[188] قبلَ مَجيء الشرع ، وبعد مجيئه على الإطلاقِ ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى : " الحَمدُ لِلَّهِ " وبيانه من وجوه :

الأولُ : أَن قولَه تعالى : " الحمدُ لله " يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ ، وملكُه على الإطْلاَقِ ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع .

الثاني : أنه تعالى قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ؛ وقد ثَبَتَ في [ أصُول ][189] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلَّلاً بذلك الوصف ، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه ، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمِينَ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم ، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات ، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي ، أو بعده .

فصل

قال ابنُ الخَطيب - رحمه الله تعالى - : تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا : الحمدُ لِلَّهِ ؛ لأن قوْلنا : " الحمد للَّه " إخبارٌ عن حُصُولِ الحَمْد ، والإخبارُ عَن الشيءِ مغايرٌ للخَبَرِ عنه ، فنقولُ : حَمْدُ المنعم عبارةٌ عن كُلِّ فِعْلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعماً ، وذلك الفعل : إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ ، أو فعل اللّسَانِ ، أوْ فِعل الجوارح .

أمَّا فعلُ القلبِ : فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُوفاً بصفات الكمال والإجْلاَل .

وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [ والإجلال ][190] .

[ وأما فعل الجوارح ؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال ][191] .

واعلم أن أهل العلم - رحمهم الله - افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً :

فمنهم مَنْ قال : إنه لا يجوزُ عقلاً أنُ يأمرَ الله عَبِيدَه بأن يَحْمَدُوه ، واحتجوا عليه بوجوه :

الأولُ : أن ذلك التحميدَ ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم ، أَوْ لا بِنَاءَ عليه ، فالأول باطِلٌ ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً ، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم ، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة .

وأما الثاني : فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً ، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ .

الثاني : قالُوا : إِنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ ، والكامل [ لذاته ] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره ، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً .

الثالثُ : أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ : أنه لَوْ لم يفعلْ لاسْتَحَقَّ العذابَ ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه : أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ ، لَعَاقَبْتُكَ ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى ، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ ، ولو تركته [ لعاقبتك ][192] أَبَدَ الآبادِ ، وهذا لا يَلِيقُ بالحَلِيم الكريم .

والفريقُ الثاني : قَالُوا : الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه :

الأولُ : أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ .

والثاني : أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى إلاَّ مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ .

والثالثُ : أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعمةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه ؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم ، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده ، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ ، وحظُّ النَّفسِ ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ .

وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّم وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها ، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى :{ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[ آل عمران : 54 ] ، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى :{ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }[ البقرة : 15 ] وغَيْرِه .

فإن قِيل : إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة ، قُلْنَا : نُسلِّمُ ، ولكنه قد سمى نفسه به ، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به .

وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع ، فقال اللهُ تعالى :{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }[ البقرة : 152 ] .

قولُه تَعَالَى : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

الرَّبُّ : لُغَةً : السيدُ ، والمَالِكُ ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ ؛ ومنه قولُه : [ الطويل ]

46- أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ- *** -لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ[193]

والمُصْلِحُ ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى : الصّاحبِ ؛ وأنشد القائل : [ الكامل ]

47- قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ- *** -بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ[194]

والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك ، فليس هو معنى زائداً .

وقيل : يكون بمعنى الخَالِقِ .

واختُلِفَ فيه : هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر ؟

فمنهم من قال : [ هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى " مُرَبٍّ " ][195] ، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه .

[ فمنهم من قال ][196] : هو على " فَعِل " كقولك : " نَمَّ - يَنُمَّ - فهو نَمٌّ " من النّمام ، بمعنى غَمّاز .

وقيل : وزنه " فَاعِل " ، وأصلُه : " رَابٌّ " ، ثم حُذِفت الألفُ ؛ لكثرةِ الاستعمالِ ؛ لقولِهم : رَجَلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ .

ولقائلٍ أنْ يقولَ : لا نسلم أن " بَرّ " مأخوذ من " بَارّ " بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ " ربًّا " أصله " رابٌّ " .

ومنهم مَنْ : قال إنه مَصْدرٌ " رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبًّا " أي : مَلَكَهُ .

قال : " لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ " .

فهو مصدر في معنى الفاعل نحو : " رجل عَدْل وصَوْم " .

ولا يُطْلقُ على غَيْر الباري - تعالى- إلاّ بقيد إضافةٍ ، نحو قوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ }[ يوسف : 50 ] ، ويقولون : " هو رَبُّ الدَّارِ ، ورَبُّ البَعِير " ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ[197] : [ الخفيف ]

48- وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ- *** -مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ[198]

وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ .

وقرأ الجمهورُ : " رَبِّ " مجروراً على النعتِ " لله " ، أو البَدَلِ منه .

وقرِئ مَنْصُوباً[199] ، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ :

إِمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ ، تقدِيرُه : " أحمد[200] ربَّ العالمين " .

أو على القطع من التبعية ، أو على النِّدَاءِ وهذا أضعفُهَا ، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف .

وقُرِئَ[201] مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية ، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ ، أيْ : " هُوَ رَبُّ " وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ ، لِعُمومِ فَائِدَتِه فنقول :

اعلمْ أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته ، وكان الوصفُ مَدْحاً ، أو ذماً ، أو ترحُّماً - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ .

والقطعُ : إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ ، ولا هذا المبتدإِ ، نحو قولِهم : " الحَمْدُ لله أَهْلَ الحَمْدِ " رُوِيَ بنصبِ " أَهْل " ورفعِه ، أيْ : أعني أَهْلَ ، أو هو أَهلُ الحمدِ .

وإِذا تكررتِ النُّعُوتُ ، والحالةُ هذه ، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه :

إما إتباعُ الجَميعِ ، أو قَطْعُ الجَمِيع ، أوْ قَطْعُ البَعْضِ ، وإتباعُ البَعْضِ .

إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ ، نحو : " مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ " ؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ .

و " العَالَمِينَ " خَفْضٌ بالإضافَةِ ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ ، وهم اسْمُ جَمْعٍ ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه ، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً ل " عَالَمٍ " ؛ لأن الصحيح في " عَالَمِ " أن يُطْلَق على كل موجودٍ سوى الباري تَعَالى ، لاشتقاقه من العَلاَمةِ ، بمعنى أنه دالّ على صانِعهِ .

و " عَالَمُون " بصيغة الجمع لا يُطْلق إلا على العُقلاءِ دون غيرهم ، فاستحال أن يكون " عالمون " جمع " عَالَم " ؛ لأنَّ الجمعَ لا يكونُ أخَصَّ مِنَ المُفْرَدِ .

وهذا نظيرُ ما فعله سِيْبَويَه[202] - رحمه الله تعالى - في أنَّ " أعراباً " لَيْسَ جَمْعاً ل " عَرَب " ؛ لأنَّ " عرباً " يُطْلَقُ على البَدَوِيِّ دُونَ القروِيّ .

فإن قِيلَ : لِمَ لاَ يَجُوزُ أَنِ يكونَ " عَالَمُونَ " جَمْعاً ل " عَالَم " مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره ، فيزولَ المحذُورُ المذكور ؟

وأُجِيبَ عنه : بأنه لَوْ جاز ذلك ، لَجَازَ أَنْ يُقالَ : " شَيْئُون " جَمْعُ " شَيْءٍ " مُرَاداً به العاقل دون غيره ، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك .

وفي الجواب نَظَرٌ ، إذْ لِقائل أنْ يقول : " شيئون " منع منه مانِعٌ آخرُ ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً ، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ " عَالَمِين " مراداً به العاقل .

ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ " عَالَمِين " إنما جمع هذا الجمع ؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ .

وقال الراغِبُ[203] أيضاً : " إنَّ العَالَم في الأصل اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ " وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ ، لكونه كالآلةِ ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه .

وقال الرَّاغِبُ : " وأما جمعُه جَمْعَ السَّلامَةِ ، فلكون الناس في جُمْلَتِهم ، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللّفظِ غَلَبَ حُكْمُه " ، فظاهر هذا أَنَّ " العَالَمِين " يطلق على العُقَلاء وغَيْرِهم ، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء ، كما زعم بعضُهم ، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ .

فصل في وجوه تربية الله لعبده

قال ابنُ الخَطِيبِ[204] - رحمه الله تعالى - : " وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، ونحن نذكر منها أمثلة :

الأولُ : لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً ، ثم مُضْغَةً ثانيةً ، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ ، مثلُ العِظَامِ ، والغَضَارِيفِ ، والرّبَاطَاتِ ، والأَوْتَارِ ، والأوردَةِ ، والشرايِين ، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ ، ثُمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى ، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ? والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ " ! .

والثَّاني : أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض ، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها ، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها ، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب .

أما الشق الأعلى ، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً ، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ ، واللطافة ، وهي القُشُور ، واللّبوبُ ، ثم الأدهان .

وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة ، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ، ومع غايةِ لُطْفِها ، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة ، وأودع فيها قُوًى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها ، والحكمةُ في كُلّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ ، والإدام ، والفواكه ، والأشربةِ ، والأدْوِيَةِ ؛ كما قال تعالى :{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً }[ عبس : 25 ، 26 ] .

فَصْلٌ

اختلفوا في { الْعَالَمِينَ } .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : " هُمُ الجنُّ والإِنْسُ[205] ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ " ؛ قال الله تعالى :{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }[ الفرقان : 1 ] .

وقال قتادةُ[206] : والحَسَنُ ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم - : " جميعُ المخلوقِينَ " ؛ قال تبارك وتعالى :{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }[ الشعراء : 23 ، 24 ] .

واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ ، سُمُّوا بذلك ؛ لِظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم .

قال أَبُو عُبَيد[207] - رحمه الله تعالى - : هم أرْبَعُ أُمَمٍ : الملائكةُ ، والإنسُ ، والجِنُّ ، والشَّيَاطِينُ ، مُشْتَقٌّ من العلم ، ولا يُقَال للبهائِمِ ؛ لأنها لا تَعْقِلُ .

واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم .

قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب[208]- رضي الله عنه - : " لِلَّه ألْفُ عَالَمٍ : سِتُّمائةٍ في البَحْرِ ، وأربعمائة في البرِ[209] " .

وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان[210] - رضي الله عنه - : " ثَمانُونَ أَلْفاً ، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ ، وأربعونَ ألفاً في البَرِّ " .

وقال وَهْبٌ[211] - رضي الله عنه - : " لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ ، الدّنيا عَالَمٌ منها ، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسْطاطٍ في صَحْرَاء[212] " .

وقال كَعْبُ الأحبارِ - رضي الله عنه - : " لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ - عز وجل - " ؛ قال تعالى :{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[ المدثر : 31 ] .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

قوله تعالى : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }

نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ - وقرئا منصوبين[213] ، ومَرْفُوعَيْنِ ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في " البَسْمَلَةِ " فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

{ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ }

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

قوله تعالى : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ }

يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً ، أوْ بَدَلاًَ ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مُشْتَقٌّ من " المَلْك " - بفتح الميم - وهو : الشَّدُّ والرَّبْطُ ، قال الشاعرُ في ذلك : [ الطويل ]

49 - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا- *** -يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا[214]

ومنه : إِمْلاَكُ العَرُوسِ ؛ لأنّه عَقْدٌ ، ورَبْطٌ ، لِلنِّكَاحِ .

وقُرِئََ[215] : " مَالِك " بالألَفِ .

قال الأَخْفَش[216] - رحمه الله تعالى - يُقال : مَلِك بَيِّنُ المُلْكِ - بضم الميم ، و " مَالِك " من " الِمَلْكِ " بفتح الميم وكسرها .

ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى .

وروي عن العربِ : " لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ " مُثَلَّثُ الفاء ، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ :

فالمفْتُوحُ : الشَّدُّ والرَّبْط .

والمضْمُومُ : هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطاعَةُ ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه ، والمقصور : هو التّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه ، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه .

وقال الرَّاغِبُ[217] : المِلْكُ أي " بالكَسْرِ " كالجِنْسُ للملك ، أَي " بالضَّم " فكُلُّ مِلْكٍ " بالكسر " ملك ، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً ، فعلى هذا يكُونُ بينهما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك ، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنْ المُلْكِ بالضمِ ومالِكاً مأخوذ من المِلك " بالكَسْرِ " وقيل : إنَّ الفرقَ بينهما : أَنَّ المَلِكَ : اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة ، إِمَّا في نَفْسِه ، بِالتمكُّنِ مِنْ زمامِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا .

وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ .

وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَاءَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى ، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب - رحمه الله تعالى - أنه قال : إِذَا اخْتَلفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السّبعةِ ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَاباً على إعراب في القرآنِ ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ ، فضَّلْتُ الأَقْوَى . نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في " اليَوَاقيت " .

قال أَبُو شَامَة[218] - رحمه الله : - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى ، وليْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِراءَتَيْنِ ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ - سبحانه وتعالى - بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ ، وبهذه في رَكْعة ، ذكر ذلك عند قَوْلِه تعالى : مَالِك يَوْمِ الدِّين .

وَروَى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي ، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ[219] ، عَنْ أَبِي عَمْرو[220] : " مَلْكِ " بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً .

وقرأ الأَعْمَش[221] ، ومحمدُ بنُ السّميفع[222] ، وأَبُو عَبْد الملك[223] قاضي الجُنْد : " مَالِكَ " بنصب الكاف على النِّداءِ . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته : يا مالك يوم الدين ، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً ، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس[224] ، وقرأ عَوْن العُقَيْلِيُّ[225] بالأَلف وَرَفْعِ الكَاف ، على مَعْنَى : " هُوَ مَالِك " .

وقرأ أَبُو حَيْوَة شُرَيح بنُ يَزيد[226] : برفع الكافِ مِنْ غَيْر أَلِف .

وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر[227] " مالك " بالإمالة والإضجاع البليغ . وقرأ أَيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ : بَيْنَ الإِمَالةِ والتّفْخِيمِ ، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي[228] .

وقرأ الحَسَنُ { مَلَك يَوْمَ الدِّين } على الفِعْلِ ، وهو اختيارُ أَبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة ، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة " مَالِكِ " أَنَّها أمْدَحُ ؛ لعُمُومِ إضافَتِه ، إِذْ يُقالُ : " مَالِكُ الجِنِّ ، والإِنْسِ ، والطَّيرِ " ولا يُقالُ : " مَلِك الطّيْرِ " ، وأنشدوا على ذلك : [ الكامل ]

50 - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [ الوُجُوهُ ][229] لِوَجْهِهِ- *** -مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ[230]

وقالُوا : فُلاَنُ مَالِك كَذَا ، لِمَنْ يَمْلِكُه ، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ نحو : " مَلِكِ العَرَب ، والعَجَمِ " ، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُلُّ على الزيادَةِ في المعنى ، كما تقدم في " الرحمن " ولأَنَّ ثواب تَالِيها أَكثرُ من ثَوابِ تَالِي " مَلِك " .

ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ " مَلِكِ " ما حكاه الفَارسِيّ[231] ، عن ابن السّرَّاجِ[232] ، عَنْ بَعْضِهم : أنه وصف [ نَفْسَه ][233] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ ، بقوله : " رَبِّ العَالَمِينَ " ، فلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ " مَالِكِ " ؛ لأنها تَكْرَارٌ .

قال أَبُو عَليٍّ : ولا حُجَّةَ فِيه ؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ ، يَذْكُرُ العَامَُّ ، ثُمَّ الخَاصُّ ؛ نحو :{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ }[ الحشر : 24 ] .

وقال أَبُو حَاتم[234] : " مَالِكِ " أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ ، و " مَلِكِ " أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ ، والفرق بَيْنَهُمَا : أَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [ أيضاً ][235] واختاره ابنُ العَرَبيِّ .

ومِنْهَا : أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للمملوكِ وغَيْرِ المَمْلُوكِ ، بخلاف " مَالِكِ " فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم ، ولإشْعَارِه بالكثرةِ ، ولأنه تَمدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - " مَالِكِ المُلْكِ " ، وبقوله تعالى :{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ }[ آل عمران : 26 ] ، ومَلِكٌ مأخوذٌ منه [ كما تقدّم ، ولم يتمدح ب " مالك المِلْك " بكسر الميم الذي " مالك " مأخوذ منه ][236] .

وقال قَوْمٌ : " مَعْنَاهُمَا : واحِدٌ ؛ مثلُ : فَرِهِين وفَارِهِين ، وحَذِرِين وحَاذِرِين " .

ويُقالُ : المَلِكِ والمالِكِ : هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود ، ولا يَقْدِرُ عليه أحد غير الله تعالى .

وجمع " مَالِكِ " : مُلاَّك ومُلَّك ، وجَمْعُ " مَلِك " : أَمْلاَك ومُلُوك .

وقُرِئ[237] : " مَلْك " بسكون اللاّم ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

51- وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طوَالٍ *** عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا[238]

كما يُقالُ : فَخِذٌ وفَخْذٌ ، وجَمْعُه على هذا : أَمْلُك ومُلُوك ، قاله مَكِّيٌّ رحمه الله .

و " مَلِيك " ، ومنه : الكامل

52 - فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا- *** -قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا[239]

و " مَلَكي " بالإشْبَاعِ ، وتُرْوَى عن نَافِع[240] - رحمه الله - .

إذا عُرِفَ هذا فيكونُ " مَلِك " نعتاً لله - تعالى - ظاهراً ، فإنه معرفة بالإضافة .

وأما " مَالِك " فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضِيّ ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً ؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة[241] فيتعرَّفُ بها ، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ[242] : { مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ } فجعل " مَلَك " فِعْلاً مَاضِياً ، وإن أُرِيد به الحالُ ، أو الاستقبالُ [ فَيُشْكِلُ ؛ لأنه : إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله ، ولا يجوزُ ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفَاعِلِ بمعنى الحالِ ، أو الاستقبال ][243] غَيْرُ محضةٍ[244] ، فلا يُعرف[245] ، وإذا لم يتعرّفْ ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ ؛ لما عرفت فيما تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً .

وإِمَّا أنْ يُجعَلَ بَدَلاً ، وهو ضَعيفٌ ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم .

والذي يَنْبَغِي أَنْ يُقالَ : إنه نعتٌ على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبرٍ ؛ لأَنّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقْييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ ، ولاَ اسْتِقبالٍ ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمه الله تعالى .

وإضافَةُ " مَالِكِ " و " مَلِكِ " إلى " يَوْمِ الدِّينِ " مِنْ بابِ الاتِّساعِ ؛ إذْ متعلّقُهما غيرُ اليومِ ، والتقديرُ : مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ .

ونظيرُ إِضَافَةِ " مَالِكٍ " إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ " طَبّاخٍ " إلى " ساعات " في قول الشاعر : [ الرجز ]

53 - رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ- *** -طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ[246]

إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو " زادَ الكَسِلْ " ، وفي الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ ؛ للدلاَلةِ علَيه .

ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [ على ظاهِرِه ][247] من غيرَ تَقْديرِ حَذْفٍ .

ونسْبَةُ " المِلْك " و " المُلْك " إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلَةٍ ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرأ : { مَلَكَ يَوْمَ الدّين } فِعْلاً ماضياً ، فإن ظاهِرَهَا كونُ " يَوْمَ " مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى " اللامِ " ، لأَنَّها الأصل .

ومِنْهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى " في " مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِه تبارك وتعالى :{ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ سبأ : 33 ] قال[248] : المعنى " مَكْرٌ في اللَّيْلِ " إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه .

والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ : إِمَّا على معنى " اللامِ " وإما على مَعْنى [ مِنْ ][249] ، وكونُها بمعنى " في " غَيْرُ صَحِيحٍ .

وأَمَّا قولُه تعالى : " مَكْرُ اللَّيْلِ " فلا دَلاَلَةَ فِيه ؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما ؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ : نَهَارُهُ صَائِم ، ولَيْلُهُ قَائِم ؛ وقول الشاعر في ذلك البيت : [ البسيط ]

54 - أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وَسِلْسِلَةٍ- *** -وَاللَّيْلُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ[250]

لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك ، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ .

و " اليَوْمُ " لُغَةً : القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ ، أيَِّ زَمَنٍ كَان مِنْ لَيْلٍ وَنَهار ؛ قال اللهُ تبارك وتعالى :{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ }[ القيامة :29 و30 ] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى ، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار . وأما في العُرْف : فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس .

وقال الرَّاغِبُ : " اليوم " يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [ غُرُوبِها ][251] .

وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَومِ ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعَةِ ، قال تبارك وتعالى :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }[ المائدة : 3 ] ، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليوم ، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمُ ؛ كما يُقالُ : لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ . ذكره القُرْطُبِيُّ رحمه الله تعالى . و " الدِّينِ " مضافٌ إِلَيه أَيْضاً ، والمرادُ به - هنا - الجَزَاءُ ؛ ومنه قولُ الشاعر : [ الهزج ]

55 - وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا- *** -نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا[252]

أي : جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا .

وقال آخَرُ في ذلك : [ الكامل ]

56 - وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ- *** -وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ[253]

ومثله : [ المتقارب ]

57 - إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْناهُمُ- *** -وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا[254]

ومثله [ الطويل ]

58 - حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّما- *** -يُدانُ [ الفَتَى ][255] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ[256]

وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تَعَالَى عنهما - ومُقاتِلٌ والسُُّدِّيُّ : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } : قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ ؛ قال تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ التوبة : 36 ] . أي : الحسابُ المستقيمُ .

وقال قَتَادَةُ : " الدِّين : الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً " .

وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي[257] : " مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ، يوم[258] لا ينفعُ فيه إلاّ الدِّين " .

وقيل : الدين القَهْرُ : يُقالُ : دِنْتُهُ فَدَانَ أي : قَهَرْتُهُ فذلّ .

وقيل : الدينُ الطاعَةُ ؛ ومنه : " وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً " ، أَيْ : طَاعَةً ، وله مَعَانٍ أُخَرُ : العادَةُ ؛ كقولِه هذا البيت : [ الطويل ]

59 - كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرثِ قَبْلَهَا- *** -وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ[259]

أَيْ : كَعَادَتِكِ . ومثله : [ الوافر ]

60 - تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي- *** -أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدِينِي[260]

ودَانَ : عَصَى وأطاعَ : وذَلَّ وعَزَّ ، فهو من الأضدَادِ [ قاله ثعلب ][261] .

والقضاءُ ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى :{ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [ النور : 2 ] ، أَيْ : في قَضَائِهِ وحُكْمِه .

والحَالُ ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال : " لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه ، لأَجَبْتُكَ " ، أَيْ : على حَالَةٍ .

والدَّاءُ ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك : [ البسيط ]

61 - يَا دِينَ قَلْبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا[262]- *** -

ويُقالُ : دِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً - بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر - أيْ : جَازَيْتُه .

ويُسْتعارُ للملّة والشريعَةِ أيضاً ؛ قال اللهُ تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ }[ آل عمران :83 ] ، يَعْنِي : الاسلامَ ؛ بدليلِ قَوْلِه تَعَالَى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .

ويُقَالُ : دِينَ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ ، ومنه قِيل للعبدِ : مَدِين ، ولِلأَمَةِ : مَدِينَة .

وقِيل : هو من دِنْتُهُ : إذا جازيته بطاعته ، وجعل بعضُهم " المَدِينَة " مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ[263] ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِنْ شاء اللهُ تعالى .

وإنما خُصَّ " يوم الدين " بالذكر مع كونِه مالِكاً للأيّام كُلِّها ؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة ، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه ؛ قال الله تعالى :{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }[ الفرقان : 26 ] ، وقال :{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[ غافر : 16 ] ، وقال تعالى : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ }[ الانفطار : 19 ] .

فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا

قرأ أَبُو عَمْرو[264] - رحمه الله تعالى : - " الرَّحِيم ملك " بإدغام المِيمِ في الميم ، وكذلك يُدْغِمُ كُلَّ حَرْفَينِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مَخْرج واحد ، أو [ كانا ][265] قرِيبَي المَخْرج ، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً ، إِلاّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً ، أَوْ مُنَوَّناً ، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً ، أَوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين ، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإِدغَامِ الكَبيرِ ، وافَقه حَمْزَة[266] من إدغام المتحركِ في قوله تعالى : { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } [ النساء : 81 ] { وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً } [ الصافات : 1 و 2 و 3 ] ، { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] .

وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء[267] ، وخَلَف[268] ، والكِسَائِي [ في إدغام الساكن وهو إدغام الساكن في المتحرك ][269] إِلاَّ في الراءِ عند اللام ، والدال عند الجيم ، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي ، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة .

فصل في كلام القدرية والجبرية

قال ابنُ الخَطِيب[270] : قالتِ القدريَّةُ : إن كان خَالِقُ أَفْعالِ العبادِ ، هو الله - تعالى - امتنع القول بالثواب ، والعقاب ، والجزاءِ ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث ، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ ، وعلى هَذا التقديرِ ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين .

وقالت الجبريةُ : لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه ، لم يكن مالكاً لها ، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد ، ولأعمالِهم ، عَلِمْنَا أَنَّهُ خالقٌ لها مقدرٌ لَهَا .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين }

إِيَّاكَ : كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر ، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل . وإيَّاكَ أَسْأَلُ ؛ ولا يُسْتَعملُ مؤخراً إلاّ منفصلاً ؛ فيُقالُ ، ما عنيتُ إِلاَّ إِيَّاك .

وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على " نعبد " قُدِّم للاختصاصِ ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ .

واخْتلَفُوا فيه : هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة ؟ فالجمهورُ : على أنه مُضْمَرٌ .

وقال الزَّجَّاجُ[271] رحمه الله تعالى : هو اسمٌ ظاهر .

والقائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ :

أحدُها : أنه كلمةُ ضَمِيرٍ .

والثاني : عَلَى أَنَّ " إِيَّا " وَحْدَهُ ضَمِيرٌ ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [ من تكلّم وغيبة وخطابِ ] .

وثَالِثُها : أَنَّ " إِيَّا " وحده ضميرٌ ، وما بعده حُرُوفٌ تبين[272] ما يُرادُ به [ من تكلم وغيبة وخطاب ][273] .

ورابعُها : أَنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضميرُ ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم : " إذا بلغ الرَّجُلَ السِّتِّينَ ، فإياه وإِيَّا الشَّواب " بِإِضَافَةِ " إِيَّا " إلى " الشواب " ، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ ، والهاء ، والياء في محلّ جر ، إِذا قُلْتَ : " إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ[274] " وقد أَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ ، فجعل له اشْتِقاقَاً ، ثُمَّ قال : هَلْ هو مشتقٌّ من " أَوَّ " ؛ كقول الشاعر في ذلك : [ الطويل ]

62- فَأَوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا- *** - . . . . . . . . . . . . . . . . . . [275]

أَوْ منْ " آيَة " ؛ كقوله [ الرجز ]

63- لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ-[276] *** -

وهل وَزْنُه : " إفْعَل ، أو فَعِيل ، أو فَعُول " ثم صَيرَّه التصريفُ إلى صِيغةِ " إِيَّا " ؟ وهذا الذي ذكره لا يُجدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلاَن في المتوغِّلِ في البناءِ وفيه لُغاتٌ : أَشْهرُها : كَسْرُ الهمزةِ ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ ، ومنها ، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالُها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفهَا ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]

64- فَهَيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذِي الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ- *** -مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ[277]

وقال بعضُهم : " إِيَّاكَ " بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه ؛ لأنه يَصِيرُ : " شَمْسَك نعبد " ؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ : ضَوْؤُها - بكسر الهَمزةِ ، وقد تُفْتَحُ . وقيل : هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر ، فإذا حذفت التاءَ ، مَدَدْتَ ؛ قال : [ الطويل ]

65- سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمْسِ إِلاَّ لِثَاتِهِ- *** -أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ[278]

وقد قٌرِئ[279] ببعضِهَا شَاذًّا .

وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسع لا يحتمله هذا الكتاب ، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به .

و " نَعْبُدُ " فعلٌ مضارعٌ مرفوع ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازمِ ، وقِيل : لوقوعِه موقعَ الاسمِ ، وهذا رأْيُ البصريين .

ومعنى المضارع المشابه ، يعني : أنه أشبه[280] الاسمَ في حركاتِهِ ، وسكناتِه ، وعدَدَ حُرُوفِهِ ، أَلاَ تَرَى أَنَّ " ضَارِباً " يُشْبه " يَضْرِب " فيما ذكرت ، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ ، ويختص في الأَشْخاصِ ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مَرّ في الاستعاذة .

والعبادَةُ : غايةُ التذللِ ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفْضَالِ ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُوديةِ ؛ لأن العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ ، ويُقالُ : طريقٌ مُعَبَّدٌ ، أَيْ : مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه . وقال طَرَفَة[281] في ذلك : [ الطويل ]

66- تُبَارِي عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ- *** -وَظِيفاً وظيفا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ[282]

ومنه : العَبْدُ ؛ لِذلَّتِهِ ، وبَعيرٌ معبَّدٌ : أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطِرَان .

وقيل : العبادةُ التَّجَرُّدُ ، ويُقالُ : عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجلَ - بالتشديدِ فقط ، أَيْ : ذللتُه ، واتخذتُه عبداً .

وفي قوله تعالى : " إِيَّاكَ نَعْبُد " التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ ، إِذْ لو جرى الكلامُ على أصله ، لَقِيل : الحمد لله ، ثم قيل : إِيَّاهُ نَعبدُ ، والالتفاتُ : نوعٌ مِن البلاغَةِ .

قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله - : والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه :

أحدُها : أن المصلِّي كان أَجْنَبِيًّا عند الشروعِ في الصَّلاةِ ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة ، إلى قوله : " يَوْمِ الدِّينِ " ، ثم إنه تعالى كأنه قال له : حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً ، ربًّا ، رحماناً ، رحيماً ، مالكاً ليوم الدين ، فَنعْمَ العبدُ أنت ، فرفعنا الحجابَ ، وأبدلنا البُعدَ بالقُرْبِ ، فتكلّم بالمخاطبة وقل : إياك نعبد .

الثاني : أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ ، [ والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِل ][283] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ .

ومن الالتفَاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى :{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ولم يَقُلْ : " بكم " ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله : [ المتقارب ] .

67- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ- *** -وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ

وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ- *** -كَلَيْلَةِ ذِي العَائِرِ الأَرْمَدِ

وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي- *** -وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ[284]

وقد خَطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ - رحمه الله تعالى - في جَعْلِه هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ ، وقال : بل هما التفاتان :

أحدُهما : خُروجٌ مِنَ الخطابِ المفتتح به في قولِهِ : " لَيْلُك " ، إلى الغَيْبَةِ في قوله : " وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ " .

والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلُّم ، في قولِه : " مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ " .

والجوابُ : أَنَّ قولَه أَوّلاً : " تَطَاوَلَ لَيْلُك " فيه التفاتٌ ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ : " تطاول لَيْلِي " ؛ لأنه هو المقصودُ ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبةِ ، ثُمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل .

وقُرِئ شاذًّا[285] : " إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِهِ للمفعول الغائبِ ؛ ووجهُهَا على إِشْكالِهَا : أن فيها استعارةً والتفاتاً :

أما الاستعارةُ : [ فإنه اسْتُعِير ][286] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْعِ ، والأصل : أنت تُعْبَد ، وهو شائع ؛ كقولِهم : " عَسَاكَ ، وعَسَاهُ ، وعَسَانِي " في أحدِ الأقوالِ ؛ وقول الآخر : [ الرجز ]

68- يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا- *** -وَطَالَمَا عَنَّيْتَنَا إِلَيْكَا[287]

فالكافُ في " عَصَيْكَا " نائبةٌ عن التاءِ ، والأصل : " عَصَيْتَ " .

وأما الالتفاتُ : فكان من حَقِّ هذا القارىء أَنْ يَقْرأَ : " إِيَّاكَ تُعْبَدُ " بالخطابِ ، ولكنه التفت من الخطاب في " إِيَّاكَ " إلى الغَيْبَةِ في " يُعْبَدُ " إلاّ أن هذا الالتفاتَ غَرِيبٌ ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه : [ الطويل ]

69- أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً- *** -سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ[288]

فقال : " بِهِ " بعد قوله : " أَنْتَ " و " كُنْتَ " .

و " إيَّاكَ " واجبُ التقديم على عامله ؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهَ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ .

وتَحَرَّزُوا بقولِهِم : " لو تأَخَّرَ عنه وجب اتصالُه " ، من نحو : " الدرهم إياه أعطيتك " لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ : " الدِّرْهَمُ أَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ " لم يَلْزم الاتصالُ ، لما سيأتي بل يجوزُ : " أعطيتكَهُ " .

فصل في معنى العبادة

قال ابنُ الخَطِيب[289] رحمه الله تعالى : العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرضِ تَعْظِيم الغَيْرِ ، من قولهم : طريقٌ مُعبَّدٌ ، أَيْ : مذلّلٌ ، فقوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، معناه : لا أعبد أحداً سواك ، ويدلّ على هذا الحصر وجوه :

فَذَكَر من جملتها : تسميَة الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، ومالك يوم الدين ، وكونَهُ قادراً بأن يُمْسِكَ السّماءَ بلا إعانة ، وأَرْضاً بلا دِعَامة ، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر ، ويسكن القُطْبَيْن ، ويخرجُ من السَّماءِ تارة النَّارَ ؛ وهو البرق ، وتارة الهواءَ ؛ وهو الريح ، وتارة الماء ؛ وهو المطر .

وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ ؛ وتارةً يخْرج الحجرَ من الماء ؛ وهو الجمد ، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر ؛ [ وهي الجبال ][290] ، وأجساماً مسافرة لا تقيم ؛ وهي الأنهار ، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ ، ودفع محمداً - عليه الصلاة والسلام - إلى قَاب قَوْسَيْن ، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون ؛ لقوله :

{ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] ، وجعل النارَ بَرْداً وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - ورفع مُوسَى - عليه السلام - فوق الطُّورِ ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ ، وجعل البحر يبساً لموسى - عليه الصلاة والسلام - فهذا من أداة الحَصْرِ .

والكلام في " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " كالكَلاَمِ في " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " .

والواو : عاطِفَةٌ ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى ، ولا تقتضى تَرْتِيباً على قول الجمهور ، خلافاً لطائفةٍ من الكُوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى .

وأصل " نَسْتَعِين " : " نَسْتَعْوِنُ " ؛ مَثْلُ : " نَسْتَخْرِجُ " في الصحيح ؛ لأنه من العَوْنِ ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ ، فنقلت إلى السَّاكن قَبْلَها ، فسكنت الواوُ بعد النَّقْلِ وانكَسَر ما قبلها ؛ فَقُلِبَتْ ياءً .

وهذه قاَعِدَةٌ مطّردَةٌ ؛ نَحْوُ : " مِيزَان ، ومِيِقَات " ، وهما من : الوَزْنِ ، والوَقْتِ .

والسِّينُ فيه معناها : الطلبُ ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ ، وهو أحد المعاني التي ل " استفعل " وله مَعََانٍ أُخَرٌ :

الاتخاذُ : نحو : " اسْتَعْبِدْهُ " أي : اتخذْهُ عبداً .

والتحولُ ؛ نحو : " اسْتَحْجَرَ الطِّينُ " أَيْ : صار حجراً ، ومنه قوله : " إِنَّ الْبُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ " أي : تتحولُ إلى صفة النُّسور .

ووجُودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه ؛ نحو : " اسْتَعْظَمَهُ " أَيْ : وجده عظيماً .

وعَدُّ الشَّيْء كذلك ، وإِن لم يكُنْ ؛ نحو : " اسْتَحْسَنَهُ " .

ومطاوعةُ " أَفْعَل " ؛ نحو : " أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى " .

وموافقتُه له أيضاً ؛ نحو : " أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ " .

وموافقةُ " تَفَعَّلَ " ؛ نحو : " اسْتَكْبَرَ " بمعنى " تكبر " .

وموافقةُ " افْتَعَلَ " ؛ نحو : " اسْتَعْصَمَ " بمعنى " اعْتَصَمَ " .

والإِغْنَاءُ[291] عن المجرد ؛ نحو : " اسْتَكَفّ " و " اسْتَحْيَا " ، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه .

والإِغْنَاءُ بهما عن " فَعَلَ " أي المجرد الملفوظ به نحو : " اسْتَرْجَعَ " و " استعان " ، أَيْ : رجع وحَلَق عانته .

وقُرئ[292] : " نِسْتَعينُ " بكسرْ حرف المضارعة ؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة .

وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً ؛ لثقل ذلك ، على أنَّ بعضَهُم قال : " ييجَلُ " ، مضارع " وجَلَ " ، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء ، فكسر ما قبلها لتنقلب ؛ وقد قُرِئ[293] : " فإنَهم ييلَمُون " [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إِنْ شاء الله تعالى .

وأن يكون المُضَارعُ من ماضٍ مكسورِ العَيْن ؛ نحو : " تِعْلَمُ " من " عَلِمَ " ، أو في أوله همزةُ وصلٍ ، نحو " نِسْتَعِينُ " من " اسْتَعَانَ " ، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ ؛ نحو : " نِتَعَلَّمُ " من " تَعَلَّمَ " ، فلا يجوزُ في " يضْربُ " و " يقتلُ " كسر حرف المُضَارعة ؛ لعدم الشُّروط المذكورة .

والاستعانَةُ : طلبُ العَوْنِ : وهو المُظَاهرة والنصرة ، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة .

وقال ابنُ الخَطِيبِ : كأنه يقولُ : شَرَعْتُ في العبادَةِ ، فأستعين بك في إتمامها ، فلا تمنعني من إتمامها بالمَوْتِ ، ولا بالمرضِ ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِهَا .

وقال البَغَوِيُّ - رحمه الله تعالى - فإن قِيل : لم قدم ذِكْرَ العِبَادةِ على الاستعانَةِ ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة ؟

قلنا : هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانَة قبلَ الفعل ، ونحن نَجْعلُ التوفِيقَ ، والاستعانَة مع الفعل ، فلا فرق بين التقديم والتأخير .

وقيل : الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً ، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً ؛ ليتناول كلَّ معبود به ، وكلَّ مُسْتَعان [ عليه ][294] ، أَوْ يكون المرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول ؛ نحو :

{ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ }[ البقرة : 60 ] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ .

فصل في نظم الآية

قال ابنُ الخَطِيْبِ[295] - رحمه الله تعالى - : قال تعالى : " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " فقدَّمَ قولَه : " إيَّاك " على قوله : " نعبد " ولم يقل : " نعبدك " لوجوه :

أحدُها : أنه - تبارك وتَعَالَى - قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ ؛ لينبه[296] العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ - تعالى - فلا يتكاسَلُ في التعظيم .

وثانيها : أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت ، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه : " إياك " ؛ لتذكرني ، وتحضر في قلبك معرفتي ، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي ، وعلمتَ أني مولاك ، وأنك عبدي ؛ سهلت عليك تلك العبادة .

وثالثها : أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على المحدث الممكن لذاته ، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار .

فصل في نون " نعبد "

قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى - : لقائلٍ أَنْ يقولَ : النُّون في قوله تعالى : " نعبد " إما أن تكون نونَ الجمع ، أو نونَ العظمةِ ، والأول باطِلٌ ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعاً ، والثاني باطل أيضاً ؛ لأن عند أداء العبوديةِ ، اللاَّئق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْز والذّلة لا بالعَظَمَةِ .

واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه :

أحدها : أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان ، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة .

الثاني : أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة ، فقوله : " نعبد " ، المُرَاد منه ذلك الجمعُ ، وإن كان يصلّي وحده كان المراد أني أعبدك ، والملائكةُ معي .

الثالث : أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ ، فلو قال : " إياك أعبدُ " كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه ، ولم يذكر عبادَةَ غَيْرِه ، أما إذا قال : " إياك نعبدُ " كان قد ذكر عبادَة نفسِه ، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

قوله تعالى :{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

اهْدِ : صِيغَةُ أمْرٍ ، ومعناها : الدعاءُ ، فقِيلَ معناه : أَرْشِدْنَا .

وقال عَليٌّ ، وأُبَيّ بن كَعْب - رضي الله عنهما - ثبتنَا ؛ كما يُقالُ للقائِم : قم حتى أَعودَ إليك ، أَيْ : دُمْ على ما أنت عليه ، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية ؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من[297] الله - تعالى - لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة .

قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى - : المرَادُ من قوله تعالى : { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } هو : أنْ يكونَ الإنسانُ مُعْرِضاً عما سوى الله - تعالى - مُقْبِلاً بكليةِ قلبه وفِكْرِه وذِكْرِه على الله تعالى .

مثالُه : أنْ يصيرَ بحيثُ لو أُمِرَ بذبح ولده ، لأطاعَ ؛ كما فعل إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِر بأَنْ ينقادَ ، لأن يذبحَهُ غيرُه ، لأطاعَ ؛ كما فعله إسْماعِيلُ عليه الصلاةُ والسَّلام ، ولو أُمِرَ باَنْ يُلْقي نفسَهُ في البحر ، لأطاعَ ؛ كما فعله يُونُسُ عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِرَ بأن يتلمذَ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المَنْصب إلى أعلى الغايات ، لأطاع ؛ كما فعله موسى - عليه الصَّلاة والسلام - مع الخَضِر [ عليه الصَّلاةُ والسلامُ ][298] ، ولو أُمِرَ بأنْ يصبرَ في الأمرِ بالمَعْرُوف ، والنهي عن المنكر على القتل ، والتفرِيقِ بنصفين ، لأطاع ؛ كما فعله يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا - عليهما الصَّلاة والسلام - فالمراد بقوله تعالى { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، هو الاقتداءُ بأنبياء اللهِ في الصَّبر على الشدائدِ ، والثبات عند نزُولِ البلاءِ ، ولا شَكّ أن هذا مقامٌ شَدِيدٌ ؛ لأن أكثر الخَلْقِ لا طاقة لهم به .

واعلم أن صيغةَ " افْعَلْ " تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ .

وقال بعضُهم : إن وردت صيغةُ " افعل " من الأَعلى للأدنى ، قيل فيها : أَمرٌ ، وبالعكس دُعاء ، ومن المُساوي التماسٌ ، وفاعله مستتر وُجُوباً ، لِمَا مَرَّ ، أي : اهْدِ أنت ، و " نا " مفعولٌ أَوَّلٌ ، وهو ضميرٌ متصل يكون للمتكلم مع غيره ، أو المعظّم نفسه ، ويستعملُ في موضع : الرّفع ، والنصب ، والجر ، بلفظ واحد ؛ نحو : " قُمْنَا " ، و " ضَرَبَنَا زَيْدٌ " ، و " مَرَّ بِنَا " ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضَّمائر .

وقد زعم بعضُ النَّاس أن الياء كذلك ؛ تقولُ : " أكرمني " ، و " مرّ بي " ، و " أنت تقومين يا هند " ، و " الياء " في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ ، وفي الثاني مجرورته ، وفي الثالث مرفوعتهُ ، وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع ، ليستْ تلك الياء التي في حالة النَّصْب والجر ؛ لأن الأُولَى للمتكلم ، وهذه للمخاطبة المؤنثة .

وقيل : بل يشاركُه لفظُ هُم ؛ تقول : " هم نائمون " و " ضربتهم " و " مررت بهم " ، ف " هم " مرفوعُ المحلِّ ، ومنصوبُه ، ومجروره بلفظ واحد ، وهو للغائبين في كل حالٍ ، وهذا وإِنْ كان أقربَ مِنَ الأولِ ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متّصلٌ .

فافترقا ، بخلاف " نَا " فإنَّ معناها لا يختلِفُ ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة .

و " الصِّراطَ " مفعولٌ ثانٍ ، و " المستقيم " صِفَتُه ، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة .

وأصلُ " هَدَى " أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ ، وهو إما : " إلى " أو " اللام " ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ثمّ يُتَّسَعُ فيه ، فيُحْذَف الجَرُّ ، فيتعدى بنفسه ، فأصل " اهْدِنَا الصَّرَاطَ " : إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط ، ثم حذف .

والأمرُ عند البصريين مَبْنِيٌّ وعند الكوفين مُعْرَبٌ ، ويَدَّعُونَ في نحو : " اضْرِبْ " ، أنّ أصله : " لِتَضْرِبْ " بلامِ الأَمْرِ ، ثم حذف الجازم ، وتبعه حرفُ المُضَارعة ، وأتي بهمزة الوصل ؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن ، وهذا مما لا حاجة إليه ، وللرد عليهم موضعٌ يليق به .

ووزْنُ " اهْدِ " [299] " افْع " ؛ حُذِفَتْ لاَمُه ، وهي الياء حملاً [ للأمر على المجزوم ، والمجزوم تُحْذَفُ ] [300]منه لامه إذا كانت حرف علّة .

ومعنى الهِدَاية : الإرشادُ أو الدلاَلةُ ، أو التقدّم . ومنه هواد الخيل لتقدمها . قال امرؤُ القَيْسِ : [ الطويل ]

70 - فَأَلْحَقَنا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ- *** -جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ[301]

أي : المتقدّمات الهَادية لغيرها .

أو التَّبْيينُ ؛ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] أي : بيّنّا لهم ؛ ونحو : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] ، أَيْ : أَلْهَمَهُ لمصالحه .

أو الدعاءُ ؛ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }[ الرعد : 7 ] ، أيْ دَاعٍ .

وقيل : هو المَيْلُ ؛ ومنه قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] والمعنى : بقلوبِنا إِلَّيْكَ ، وهذا غلط ؛ فإن تَيْك مادةٌ أُخْرَى من " هَادَ - يَهُودُ " .

وقال الرَّاغِبُ : الهِدَايَةُ : دَلاَلَةٌ بِلُطْفٍ ، ومنه الْهَدِيَّةُ ، وخصّ ما كان دلالةً ب " هديت " وما كان إعْطَاءً ب " أهديت " .

و " الصِّرَاط " : الطَّريقُ المستسهلُ ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ ؛ قال [ الرجز ]

71 - فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ[302]- *** -

ومثله : [ الوافر ]

72 - أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ- *** -إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ[303]

وقال آخَرُ : [ الوافر ]

73 - شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى- *** -تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ[304]

أَي : الطَّريقِ .

وهو مُشْتَقٌّ من " السَّرْطِ " وهو : الابتِلاَع ؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه ، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه ؛ ألا ترى إلى قولهم : قَتَلَ أَرْضاً عَالِمُهَا ، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا ؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام[305] : [ الطويل ]

74 - رَعَتْهُ الْفَيَافِي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً- *** -رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ سَاكِبُهْ[306]

وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً ؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه ، أو يلتقمُهُ سالِكُه .

وأصله : السّين : وقد قرأ به[307] قُنْبُل[308] رحمه الله تعالى حيث ورد ، وإنما أُبْدِلَتْ صَاداً ؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلاَءِ وإبدالها صاداً مُطَّرد عنده ؛ نحو : " صَقَر " في " سَقَر " ، و " صَلَخ " في " سَلَخ " ، و " أَصْبغ " في " أَسْبغ " ، و " مُصَيْطر " في " مُسَيْطر " لما بينهما من التَّقارب .

وقد تُشَمُّ الصادُ في " الصِّرَاطِ " ونحوه زَاياً ، وقرأ به خَلَفٌ[309] ، وحَمْزَةُ حيث ورد ، وخَلاَّد[310] : الأوَّلَ فقط ، وقد تُقْرأُ[311] زاياً مَحْضَة ، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد ، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم .

و " الصِّراطَ " يُذَكَّرُ ويُوَنَّثُ : فالتذكيرُ لُغَة تَمِيم ، والتَّأْنِيثُ لغةُ " الحِجَازِ " ، فإِنِ اسْتُعْمِلَ مُذكَّراً ، جمع على " أَفْعِلَة " في القلّةِ ، وعلى " فُعُل " في الكَثْرَةِ ، نحو : " حِمَارِ " ، و " أَحْمِرَة " و " حُمُر " ، وإِنِ اسْتُعْمِل مُؤَنثاً ، فقياسه أن يجمعَ على " أَفْعُل " : نحو : " ذِرَاع " و " أذْرُع " .

و " المُسْتَقِيمَ " اسمُ فَاعِلِ من استقامَ ، بمعنى المُجَرّد ، ومعناه : السَّوِيّ[312] مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاج ، وأَصْلُه : " مُسْتَقْوم " ثُم أُعِلّ كإعلالِ " نَسْتَعِيْن " وسيأتي الكلامُ [ مُسْتَوْفًى ][313] على مادتِه إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى : { وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } [ البقرة : 3 ] .

و " الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ " قال ابْنُ عَبَّاسٍ ، وجَابِرٌ[314]- رضي الله عنهما - : هو الإسْلاَم[315] ، وهو قولُ مُقَاتِلٍ ، وقال ابن مَسْعودٍ رضي الله تعالى عنهما : هو القرآن الكريم[316] ، وروي عن علي - رضي الله تعالى عنه - مرفوعاً : الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ : كتَابُ اللهِ تَعَالَى .

وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ[317] رضي الله عنه " طَريقُ الجَنَّة " .

وقال سَهْلُ بن عَبْدِ الله رحمه الله تعالى : هو طريقُ السُّنَّةِ والجَمَاعة . وقال بَكْرُ بنُ عبد الله المُزْنِيّ[318] : هو طريقُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .

وقال أَبُو العَالِيَةِ[319] ، والحَسَنُ : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصَاحِبَاه .

قال ابنُ الخَطِيب[320] : الحِكْمَةُ في قوله : " اهْدِنَا " ولم يَقُلْ " اهدني " ؛ إما : لأن الدعاءَ مهما كان أعم ، كان إلى الإجابة أَقْربَ .

وإِمَّا لقول النبي عليه الصلاة والسلام " " ادْعُوا الله تعالى بِأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوه بها " قالُوا : يَا رَسُولِ الله ، فمنْ لنا بتلك الأَلْسِنَةِ ؟ قال : " يَدْعُو بَعْضَكُمْ لبعضٍ ؛ لأنك ما عصيت بِلِسَانه ، وَهُوَ ما عَصَى بِلِسَانِكَ " [321] .

الثالث : كأنّ العبدَ يقولُ : سمعتُ رَسُولَك يقولُ : " الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ[322] " ، فلما أَرَدْتُ حمدك ، قلتُ : الحَمْدُ لله ، ولما ذكرت العبادة ، ذكرتُ عبادةَ الجَمِيع ، ولما ذكرتُ الاستعانةَ ، ذكرتُ استعَانَة الجَمِيع ، فلا جرم لَمَّا طلبتُ الهدايةَ ، طلبتُها للجميع ، ولما طلبتُ الاقتداءَ بالصالحين ، طلبتُ اقتداءَ الجميع ؛ فقلتُ : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة :7 ] ، ولما طلبتُ الفِرَارَ من المردودين ، ففررت من الكل ؛ فقلت : { غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّيْنَ } [ الفاتحة :7 ] ، فلما لَمْ أُفارقِ الأنبياءَ والصالحين في الدنيا ، فأرجو ألا أفارِقََهم في الآخرة ؛ كما قال تعالى : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم } [ النساء : 69 ] الآية الكريمةَ .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }

قولُه تَعَالَى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .

" صِرَاطَ الذِيْنَ " بدل منه ، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ .

والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها :

بدلُ كُلّ من كُلّ ، وبدل بَعْضٍ من كُلّ ، وبدلُ اشْتِمَالٍ ، وبدلُ غَلَطٍ ، وبدل نِسْيَان ، وبدل بَدَاء ، وبدل كُلّ من بعض .

أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ ، فلا خلافَ فِيها .

وأما بدلُ البدَاء ، فأثبته بعضُهم ؛ مستدلاًّ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة ، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُهَا إلى العُشُرِ " ولا يَرِدُ هذا في القرآن الكريمِ .

وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ ، فأثبتهما بعضُهم ؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ : [ البسيط ]

75- لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ- *** -وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ[323]

قال : لأنَّ " الحُوّة " السّوادُ الخالِصُ ، و " اللَّعَسُ " سواد يشوبه حُمْرَة ، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ .

وأما بدل الكُلّ من البعض ، فأثبته بعضهُم ، مُسْتَدِلاًّ بظاهِر قوله : [ الخفيف ]

76- نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا- *** -بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ[324]

في رواية مَنْ نَصَبَ " طَلْحَةَ " ، قال : لأنَّ " الأَعْظُمَ " بعضُ " طَلْحَةَ " ، و " طَلْحَةَ " كُلّ وقد أُبْدِلَ منها ؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرىء القيس [ الطويل ]

77- كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا- *** -لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ[325]

ف " غَدَاةَ " بعضُ " اليوم " ، وقد أُبْدِلَ " اليوم " منها .

ولا حُجَّةَ في البيتيْنِ ، أما الأولُ : فإنَّ الأَصْلَ " أعظماً دفنوها أَعْظُمَ طلحة " ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيم المُضَافُ إليهِ مُقَامه ؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ " طَلْحَةَ " على أنَّ الأصل : " أعظم طلحة " ولم يُقَم المضاف إليه مقامَ المضاف .

وأما الثاني : فإنَّ " اليَوْمَ " يُطلقُ على القطعةِ من الزمان ، كما تقدّم ، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن .

وقيل : " الصراط " الثاني غير الأول ، والمرادُ به : العلمُ بالله تعالى . قاله جَعْفَرُ بنُ محمد[326] رحمه الله تعالى : وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ .

والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى :

بدل مَعرفةٍ ، ونكرةٍ منْ نكرةٍ ، ومعرفةٍ منْ نكرةٍ ، ونكرةٍ مِنْ معرفةٍ .

ويَنْقَسمُ أيضاً إلى :

بدل ظاهِر من ظاهرٍ : ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ ، وظاهرٍ مِنْ مضمر ، ومضمرٍ من ظاهر .

وفائدةُ البَدلِ : الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى ، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل .

و " الذين " في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة ، وهو اسمُ موصولٍ ، لافتقاره إلى صِلَةٍ وعائدٍ ، وهو جمع " الذي " في المعنى ، والمشهور فيه أن يكونَ بالياءِ ، رفعاً ، ونصباً ، وجرًّا ؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم ؛ ومنه : [ الرجز ]

78- نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا- *** -يَوْمَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا[327]

وقد تُحْذَفُ نُونُه اسْتِطَالةً بصلته ؛ كقوله : [ الطويل ]

79- وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ- *** -هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ[328]

ولا يقع إلاَّ على أُولي العلمِ ، [ ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم ، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم ][329] وغيرهم .

و " أَنْعَمْتَ " : فِعْلٌ ، وفاعلٌ ، صِلَة المَوْصُولِ .

والتاء في " أنعمتَ " ضميرُ مرفوعٍ مُتَّصل . و " عليهم " جار ومجرور متعلّق ب " أنعمتَ " ، والضميرُ هو العائدُ ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء ، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِه ومُنْفَصِلِهِ .

والهمزةُ في " أنعمتَ " ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ [330]ما صِيَغَ منه ، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه ، ولكن ضُمِّنَ معنى " تَفَضَّلَ " فَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ .

وقرأ عمر[331] بنُ الخَطّابِ ، وابنُ الزُّبَيْرِ[332] رضي الله - تعالى - عنهما " صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ " .

ول " أَفْعَلَ " أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى ، تقدّمَ وَاحِدٌ .

والتعدِيَةُ ؛ نحو : " أَخْرَجتُه " .

والكثرةُ ؛ نحو : " أَظْبَى المَكَانُ " أَيْ : " كَثُرَ ظِبَاؤُه " .

والصَّيرورةُ ؛ نحو : " أَغَدَّ البَعِيرُ " صار ذا غُدّة .

والإعانة ؛ نحو : " أَحْلَبْتُ فُلاَناً " أي : أعنتُه على الحَلْبِ .

والتَّشْكِيَةُ ؛ نحو : " أَشكيتُه " أي : أزلتُ شِكَايَتَهُ .

والتَّعرِيضُ ؛ نحو : " أبعتُ المبتاعَ " ، أي : عرضتُه للبيع .

وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه ؛ نحو : " أحمدتُه " أي : وجدتُه محموداً .

وبلوغُ عَدَدٍ ؛ نحو : " أعْشَرتِ الدَّرَاهِمُ " ، أي : بلغتِ العَشَرَة .

أو بلوغُ زَمانٍ ؛ نحو " أصبح " ، أو مَكَانٍ ؛ نحو " أَشْأَمَ " .

وموافقَةُ الثّلاثي ؛ نحو : " أحزتُ المكانَ " بمعنى : حُزْتُهُ .

أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي ؛ نحو : " أَرْقَلَ البعيرُ " .

ومطاوعةُ " فَعَلَ " ؛ نحو قَشَع الريح ، فَأَقْشَع السّحابُ .

ومطاوعَةُ " فَعَّلَ " ؛ نحو : " فَطَّرْتُه ، فَأَفْطَرَ " .

ونَفْيُ الغريزَةِ ؛ نحو : " أسرع " .

والتَّسميةُ ؛ نحو : " أخطأتهُ " ، أَيْ : سَمَّيْتُه مخْطِئاً .

والدعاءُ ؛ نحو : " أسقيتُه " ، أَي : قلتُ له : سَقَاكَ الله تعالى .

والاستحقاقُ ؛ نحو " أَحْصَدَ الزرعُ " ، أَيْ : استحقَّ الحصادَ .

والوصولُ ؛ نحوه : " أَعْقَلْتُهُ " ، أَيْ : وَصَّلْتُ عقلي إليه .

والاستقبالُ نحو : " أَفَفْتُه " ، أَي : استقبلتُه بقول : أُفٍّ .

والمجيءُ بالشيء ؛ نحو : " أكثرتُ " أَيْ : جئتُ بالكثير .

والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَل ، نحو : أَشْرَقَتِ الشَّمسُ : أضاءتْ ، وشَرَقَتْ : طَلَعَتْ .

والهجومُ ؛ نحو : أَطْلَعْتُ على القوم ، أيْ : اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ .

و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً ؛ نحو : عليه دَيْنٌ : ولها معانٍ أُخَرُ ، منها : المُجَاوزة ؛ كقوله : [ الوافر ]

80- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ- *** -لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا[333]

أيْ : عَنِّي .

وبمعنى " الباءِ " { حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] ، أي : بأَنْ ، وبمعنى " فِي " ؛ { الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [ البقرة : 102 ] أيْ : فِي [ مُلْكِ ] ، { الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } [ البقرة : 177 ] .

والتعليلُ : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم .

وبمعنى " مِن " : { حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ }[ المؤمنون : 5 ، 6 ] ، أيْ : إلاّ مِنْ أَزواجهم .

والزيادة كقوله : [ الطويل ]

81- أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ- *** -عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ[334]

لأنَّ " تُروقُ " يتعدى بنفسِه ، ولكل موضع من هذه المواضعِ مَجَالٌ للنظر .

وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ ، والاسْمِيَّةِ[335] ؛ فتكون اسماً في موضعين :

أحدهُما : أن يدخلَ عليها حَرْفُ الجَرّ ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]

82- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا- *** -تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ[336]

ومعناها " فَوْق " ، أيْ : من فوقه .

والثاني : أنْ يؤدي جعلُه حرفاً ، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المُتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها ؛ ومن ذلك قوله : [ المتقارب ]

83- هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ- *** -بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا[337]

ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيْن " عَنْ " ، وستأتي إنْ شاء الله تعالى .

وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددةٌ بين الاسم ، والفِعْلِ ، والحرفِ .

أما الاسمُ والحرفُ ، فقد تقدما .

وأما الفعلُ : قال : فإنك تقولُ : " عَلاَ زيدٌ " أي : ارتفع . وفي هذا نَظَرٌ ؛ لأن " عَلاَ " إذا كان فِعْلاً ، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً ، فلا اشتقاقَ له ، فليس هو ذَاكَ ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلَ يَرُدُّ هذا النظرَ ، [ بقولهم : إنَّ " خَلاَ " ، " وَعَدا " مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر ][338] .

والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ ، فإنْ تقدمها ياءٌ ساكنة ، أو كسرةٌ ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين ؛ نحو : عَلَيْهِم وفِيهِمْ وَبِهِمْ .

والمشهورُ في مِيمِهَا السكونُ قبل متحرك ، والكسرُ قبلَ ساكن ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء ، أما إذا ضممتَ ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة ؛ كقوله : " وفِيهُمِ الحكام " بِكَسْرِ المِيمِ .

وفي " عَلَيْهِمْ " عشرُ لُغاتٍ :

قُرِئ[339] بِبَعْضِها : " عَلَيْهُِمْ " بكسر الهاء وضمها ، مع سُكُون الميم .

" عَلَيْهِمِي " ، بكسر الهاء ، وزيادة الياء ، وبكسر الميم فقط .

" عليهُمُو " بضم الميم ، وزيادة واو ، أو الضم فقط .

" عليهِمُو " بِكَسْرِ الهاءِ ، وضم الميمِ ، بزيادة الواو .

" عليهُمِي " بِضَمِّ الهاء ، وزيادة ياء بعد الميم .

أو الكسر فقط " عليهِمُ " بكسر الهاء ، وضم الميم ، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَارِي[340] .

والتفسيرُ ، قال البَغَويُّ - رحمه الله تعالى - : صراط الذين أنعمت عليهم أي : مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق ، وقال عِكْرَمة[341]- رضي الله تعالى عنه - : مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَة وعلى الأنبياء عليهم السلام .

وقِيل : على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيِّين والمُؤْمنين الذين ذكرهم الله - تَعَالَى - في قوله :{ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ]

وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى ، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام ، قبل أن غيروا دينهم .

وقال أَبُو العَالِيَةَ[342] : هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما .

وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ[343] - رضي الله عنه - : هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهل بَيْتِهِ .

وقرأ حَمْزَةُ [344] " عَلَيْهُمْ " ، و " إلَيْهُمْ " ، و " لَدَيْهُمْ " بضم الهاء .

ويضم يَعْقُوب[345] كُلَّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً ، إلاّ قولَه تعالى :

{ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [ الممتحنة : 12 ] .

والآخرُونَ : بكسرها . فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل ؛ لأنها مضمومة عند الانفراد .

ومَنْ كسرها ، فالأصل الياءُ السَّاكنة ، والياءُ أختُ الكسرة .

وضم ابنُ كَثِير[346] ، وأَبُو جَعْفَر[347] كُلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصْلِ ، إذا لم يلقها ساكن ، فإنْ لقيها ساكِنٌ فلا يُشْبِع .

ونَافِعٌ يُخَيِّرُ ، ويضمُّ وَرْش[348] عند ألِفِ القطع .

وإذا تلقته ألفُ الوصلِ ، وقبل الهاء كسرٌ ، أو ياءٌ ساكنةٌ ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكسرَهُما أَبُو عَمْرو ، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله .

والآخرون : بضمّ الميم ، وكسرِ الهاء ؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها ، وضمّ الميم على الأصل ، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب[349] - رضي الله تعالى عنه - : " صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " .

قال ابنُ الخَطِيب[350] - رحمه الله تعالى - : اخْتُلِفَ في حَدّ النّعْمَةِ :

فقال بعضُهم : إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ .

[ ومنهم مَنْ يقولُ : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلى الغير ] .

قالوا : وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [ والحقّ أن هذا القيد غير معتبر ؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ][351] ، وإنْ كان فعله محظوراً ؛ لأن جهةَ استحقاقِ السكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب ، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما ؟ أَلاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ ، والذَّمَّ بمعصيةِ الله تعالى ، فلا يجوزُ أنْ يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك .

ولنرجع إلى تفسير الحَدّ : فنقول : أما قَولُنا : " المنفعة " ؛ فلأن المَضَرّةَ المحضةَ لا تكون نِعْمَةً .

وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان ؛ لأنه لو كان نفعاً حقًّا وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه ، نَفْعَ المفعولِ به ، فلا يكون نِعْمَةً[352] ، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ ، ليربَحَ عليها .

وها هنا فوائدُ :

الفائِدَةُ الأُوْلَى : أَنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع ، ودفع الضَّرر ، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى :{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] ، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ :

أحدُها : نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا ، نحو : أنْ خَلَق ورَزَقَ .

وثانيها[353] : نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غير الله - تعالى - في ظاهرِ الأَمْرِ ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلتْ من الله تبارك وتعالى ؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ ، كان ذلك العبدُ مشكوراً ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] فبدأ بنفسِه ، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى .

وثالثها : نِعمٌ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضاً من الله تعالى[354] ؛ لأنه لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفّقنا للطاعات ، وأعاننا عليها ، وهدانا إليها ، وأَزَاحَ الأعذار عَنا ، وإِلاَّ لَمَا وَصَلْنَا إلى شَيْءٍ منها ، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة من الله تَعَالى .

الفائدةُ الثَّانيةُ : اختلفوا [ في أنه ][355] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ ؟ فقال بعضُ أصحابنا : ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة .

وقالت المعتزلةُ : لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية ، ونعمة دنيوية .

واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم ، بالقرآن [ الكريم ][356] ، والمعقول .

أما القرآنُ ؛ فقوله تبارك وتعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ؛ وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمةٌ ، لكانوا داخِلِينَ تحت قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفّارِ ، وذلك بَاطِلٌ ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ .

فإن قَالُوا : إنَّ قَوْله : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } يدفعُ ذَلكَ .

قلنا : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِه : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ؛ فكان التَّقْدِير : " اهْدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم " ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوفُ المذكورُ .

وقوله تبارك وتعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً } [ آل عمران : 178 ] .

وأما المَعْقُولُ : فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مُقَابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام ، كالقَطْرة في البحر ، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً ، بدليل أنَّ مَنْ جعل السُّمَّ في الحَلْوَى لم يَعُدِ النفعُ الحاصلُ منه نعمةً ؛ لأجل أن ذلك النفع حقيرٌ في مُقابلةِ ذلك الضَّرر الكبير[357] ، فكذا ههُنا .

وأما الَّذِين قالوا : إن لله على الكافر نعمةً ، فقد احتجُّوا بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً } [ البقرة : 21 ، 22 ] ، على أنه يَجبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم ، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً ؛ وقولِه تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ ، وشرحِ النعم .

وقولِه تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] .

وقولِه تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] .

وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .

ولو لم تحصل النعمة ، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاَّ عند حصول النعمة .

الفائدة الثالثةُ : قال ابنُ الخَطِيب[358] - رحمه الله - : قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر - رضي الله عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية : " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم ؛ بقوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } [ النساء : 69 ] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق ، وسائر الصّديقين ، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمامٍ ، لما جَازَ الاقتداء به ][359] ، فثبت [ بما ذكرناه دلالة هذه الآية على ][360] إمامة أبي بكر رضي الله عنه .

الفائدة الرابعة : قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كُلّ من كان لله - تعالى - عليه نعمة ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا ، أو نعمة الدين ، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين .

فنقول : كل نعمة ديِنِيّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان ، فرجع حاصل القول في قوله تعالى : { هْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل ، فيتفرع عليه أحكام :

الأول : أنه لما ثبت أن المُرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان ، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة ، ثبت أنّ الخالق للإيمان ، والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدلّ على فساد قول المعتزلة ، وكان الإيمان أعظم النعم ، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى ، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .

الحكم الثاني : يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار ؛ لأن قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعْظيم بهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة ، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التَّعْظيم .

الحكم الثالث : دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [ الصلاح والأصلح ][361] في الدين ؛ لأنه لو كان الإرْشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً ، وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب .

الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه ، وأرشده إليه ، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ ، لأن كل ذلك حاصل في حَقّ الكفار ، فلما خص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام ، مع أن الإقدار ، وإزاحة العلل حاصل في حَقّ الكل ، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار ، وإزاحة الموانع .

قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ }

" غير " بدل من " الذين " بدل نكرة من معرفة .

وقيل : نعت ل " الذين " ، وهو مشكل ؛ لأن " غير " نكرة و " الذين " معرفة[362] ، وأجابوا عنه بجوابين :

أحدهما : أن " غير " إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين ، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية ، فيتعرف " غير " حينئذ بالإضافة ، تقول : " مررت بالحركة غير السكون " والآية من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج ، وهو مرجوح .

والثاني : أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه ، فعومل معاملة النكرات .

وقيل : إن " غير " بدل من المضمر المجرور في " عليهم " ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه ، وينوي بالأول الطّرح ؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد ، ألا ترى أن التقدير يصير : " صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم " .

و " المغضوب " خفض بالإضافة ، وهو اسم مفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، ف " عليهم " الأولى منصوبة المَحَلّ ، والثانية مرفوعته ، و " أل " فيه موصولة ، والتقدير : " غير الذين غُضِب عليهم " .

والصحيح في " أل " الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ .

واعلم أن لفظ " غير " مفرد مذكر أبداً ، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه ، نقول : " قامت غيرك " ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل ، وهو مغاير ، ولذلك لا تتعرف بالإضافة ، وكذلك أخواتها ، أعني نحو : " مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِدْن وتِرْب " .

وقد يستثنى بها حملاً على " إلاّ " كما يوصف ب " إلاّ " حملاً عليها ، وقد يراد بها النفي ك " لا " ، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها ، كما يجوز في " لا " تقول : " أنا زيداً غَيْرُ ضارب " أي : غير ضارب زيداً ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

84- إِنَّ امْرَءًا خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ- *** -عَلَى التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ[363]

تقديره : غير مكفور عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي .

لو قلت : " جاء القوم زيداً غير ضارب " ، تزيد : غير ضارب زيداً لم يجز ؛ لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في " لا " .

وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً .

وقول ثالث : يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ ، فيمتنع فيها ذلك ، وبين ألاّ يكون فيجوز .

وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً ، فإدْخَال الألف واللام عليها خَطَأ .

واختلفوا هل يجوز دخول " أل " على " غير وبعض وكل " والصحيح جوازه .

قال البغوي - رحمه الله تعالى - : " غير " ها هنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها ، كما يقال : " فلان غير مُحْسن ولا مجمل " ، فإذا كان " غير " بمعنى " لا " ، فلا يجوز العَطْفُ عليها ب " لا " ؛ لا يجوز في الكلام : " عندي سوى عبد الله ولا زيد " .

وقرئ[364] : " غَيْرَ " نصباً ، فقيل : حال من " الَّذِين " وهو ضعيف ؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى : وقيل : من الضمير في " عليهم " .

وقيل على الاستثناء المنقطع ، ومنعه الفَرَّاء ؛ قال : لأن " لا " لا تُزَادُ إلاَّ إذا تقدمها نفي ، كقول الشاعر : [ البسيط ]

85- مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا- *** -وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ[365]

وأجابوا بأن " لا " صلة زائدة مثلها في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الرجز ]

86- فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا[366]- *** -

وقول الآخر : [ الطويل ]

87- وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ- *** -ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ[367]

وقول الآخر : [ الطويل ]

88- أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ- *** -نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ[368]

ف " لا " في هذه المواضع كلها صلةٌ .

وفي هذا الجواب نظر ؛ لأن الفَرَّاء لم يقل : إنها غير زائدة ، وقولهم : إن " لا " زائدة في الآية ، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد ، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا : وجدت " لا " زائدةً من غير تقدّم نفي ، كهذه المواضع المتقدمة .

ويحتمل أن تكون " لا " في قوله : " لا البُخْلَ " مفعولاً به ل " أَبَى " ، ويكون نصب " البُخْلَ " على أنه بدل من " لا " أي : أبى جُودُهُ قَوْلَ لا ، وقول : لا هو البخل ، ويؤيد هذا قوله : " واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ " فجعل " نَعَمْ " فاعل " اسْتَعْجَلَتْ " ، فهو من الإِسْنَادِ اللَّفْظي ، أي : إلى جود هذا اللَّفظ ، واستعجل به هذا اللفظ .

وقيل : إن نصب " غير " بإضمار أعني . ويحكى عن الخليل ، وقدّر بعضهم بعد " غير " محذوفاً قال : التقدير : " غير صِرَاط المَغْضُوب " ، وأطلق هذا التَّقدير ، فلم يقيده بِجَرّ " غير " ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله تعالى : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وهذا ضعيف ؛ لأنه متى اجتمع البدل[369] والوصف قدم الوصف ، فالأولى أن تكون صفةً ل " صراط الذين " ، ويجوز أن تكون بدلاً من " الصراط المستقيم " ، أو من " صراط الذين " [370] إلا أنه يلزم منه تكرار البدل ، وفي جوازه نَظَر ، وليس في المَسْألة نقل ، إلاّ أنهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة ، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني .

واعلم أنّه حيث جعلنا " غير " صفةً فلا بد من القول[371] بتعريف " غير " ، أو إبهام الموصوف ، وجريانه مجرى النكرة ، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ " غير " .

و " لا " في قوله تعالى : { وَلاَ الضَّآلِّينَ } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من " غير " لئلا يتوهّم عطف " الضَّالين " على " الذين أنعمت " .

وقال الكوفيون : هي بمعنى " غير " وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صرح ب " غير " كانت للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيٌّ رضي الله عنهما .

و " الضَّالين " مجرور عطفاً على " المغضوب " ، وقرىء شاذاً " [372] الضَّأَلِّينَ " ، بهمز الألف ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]

89- وَلِلأَرْضِ أَمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلََتْ- *** -بَيَاضاً ، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ[373]

قال الزَّمَخْشَرِي : " وفعلوا ذلك ، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين " .

وقد فعلوا ذلك حيث لا سَاكِنَانِ ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]

90- وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ[374]- *** -

بهمز " العألم " .

وقال آخر : [ البسيط ]

91- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً- *** - . . . . . . . . . . . . . . . . . . [375]

بهمز ألف " زَوْرَأَة " ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ ؛ فإنهم قالوا في قراءة[376] ابن ذَكْوَان[377] : " مِنْسَأَتَهُ " بهمز ساكنة : إنّ أصلها ألف ، فقلبت همزة ساكنة .

فإن قيل : لم أتى بصلة " الذين " فعلاً ماضياً ؟

قيل : ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة " أل " اسماً ليشمل سائر الأزمان ، وجاء مبنيًّا للمفعول ؛ تحسيناً للفظ ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية ، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطُّف ، وترفّق لطلب الإحسان ، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام .

والإنعام : إيصال الإحسان إلَى الغير ، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاَء ، فلا يقال : أنعم فلان على فَرَسِهِ ، ولا حماره .

والغضب : ثَورَان دم القلب إرادة الانتقام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه[378] " .

وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره .

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : هنا قاعدة كليةٌ ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة ، والفرح ، والسُّرور ، والغضب ، والحَيَاء ، والعُتُوّ ، والتكبر ، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات .

ومثاله : الغضب : فإنّ أول غليان دم القلب ، وغايته : إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [ المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضاً الحَيَاءُ ][379] له أول وهو انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب .

ويقال : فُلاَن غُضبَّة : إذا كان سريع الغَضَبِ .

ويقال : غضبت لفلان إذا كان حيًّا وغضبت به إذا كان ميتاً .

وقيل : الغضب تغيُّر القلب لمكروه .

وقيل : إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل ، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذاتٍ .

والضلال : الخَفَاء والغيبوبة .

وقيل : الهلاك ، فمن الأول قولهم : ضَلَّ الماءُ في اللبن .

[ وقال القائل ]6 : [ الوافر ]

92- أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ- *** -عَن الحَيِّ المُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا[380] ؟

" والضَّلضلَة " : حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي .

ومن الثاني :

{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ }[ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضّلال : العُدُول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسْيان كقوله تعالى :{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليل قوله :{ فَتُذَكِّرَ } [ البقرة : 282 ] .

التفسير : قيل : " المغضوب عليهم " هم اليهود .

وقيل : " الضالون " هم النصارى ؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى :{ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] ، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] .

وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز من دينهم أولى .

وقيل : " المغضوب عليهم " : هم : الكُفّار ، و " الضّالون " : هم المنافقون .

وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما : " غير المغضوب عليهم " بالبِدْعَةِ ، " والضّالين " عن السُّنَّة .

والأَوْلَى أن يحمل " المغضوب عليهم " على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد ؛ لأن اللفظ عام ، والتقييد خلاف الأصل .

فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة

قال ابن الخطيب- رحمه الله تعالى - : " غير المغضوب عليهم " يدلُّ على أن أحداً من الملائكة ، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين ، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله ؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلّ عن الحق ، لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم ، ولا بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

فَصْلٌ في إضافة الغضب لله

قالت المعتزلة : غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم ، وإلاَّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم .

وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى - : لما ذكر غضب الله عليهم ، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين ، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد .

أما لو قلنا : إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك مُحَال .

فَصْلٌ

قال ابن الخطيب[381] - رحمه الله تعالى - : دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق :

أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .

وأهل البغي والعدوان ، وهم المراد بقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } .

وأهل الجهل في دين الله ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ الضَّآلِّينَ } .

فإن قيل : لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ ؟

قلنا : لأن كل أحد يحترز عن الكفر ، أما قد لا يحترز عن الفِسْق ، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك .

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : ها هنا سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولَّد عن علمه بصدور القبيح والجناية[382] عنه ، فهذا العلم إما أن يقال : إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان قديماً فلم خلقه ، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود ، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم ، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [ يعقل ][383] إقدامه على إيجَادِهِ وتكوينه ؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاًّ للحوادث ، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر ، وتسلسل ، وهو مُحَال .

والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد .

سؤال آخر

وهو أن من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه ، وأن يكون من الضَّالين ، فلما ذكر قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فما الفائدة في أن ذكر عقيبه : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } ؟

والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرَّجَاء والخوف ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا " [384] ، فقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل ، وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ } يوجب الخوف الكامل ، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه ، وينتهي إلى حَدِّ الكمال .

سؤال آخر

ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضَّالين ؟

فالجواب : أنّ الذين كملت نعم الله - تَعَالَى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقّ لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المُرَادون بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ ، وهم المغضوب عليهم ، كما قال تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }[ النساء :93 ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى :{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] .

فصل في حروف لم ترد في هذه السورة

قالوا : إنّ هذه السورة لم يحصل[1] فيها سبعة من الحروف ، وهو الثاء ، والجيم ، والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب ، فالثناء أوّل حروف الثبور .

والجيم أوّل حروف جهنم .

والخاء : أول حروف الخِزْي .

والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق ، والزّقوم والشّقاوة .

والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب ، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء .

والفاء أول حروف الفراق تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .

قلنا : فائدته أنه - تعالى - وصف جَهَنّم بأن { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذَاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة ، وآمن بها ، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة .

القول في " آمين " : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : اللَّهم اسمع واستجب .

وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما - : معناه كذلك يكون ، فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ .

وقيل : ليس باسم فعل ، بل هو من أسماء البَارِي تعالى ، والتقدير : يا آمين ، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين :

أحدهما : أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبنى على الضَّمِّ ، لأنه منادى مفرد معرفة .

والثاني : أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ .

ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى : أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى ؛ لأنه اسم فعل ، وهو توجيه حسن نقله صاحب " المُغْرِب " .

وفي " آمين " لغتان : المَدّ ، والقَصْر ، فمن الأول قول القائل : [ البسيط ]

93- آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ- *** -حَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا[2]

وقال الآخر : [ البسيط ]

94- يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَداً- *** -وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ : آمِينَا[3]

ومن الثاني قوله : [ الطويل ]

95- تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ رَأَيْتُهُ- *** -أَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا[4]

وقيل : الممدود : اسم أَعْجَمِيّ ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيل وهَابِيل .

وهل يجوز تشديد الميم ؟

المشهور أنه خطأ ، نقله الجَوْهَرِيّ[5] - رحمه الله تعالى - ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ ، من أمَّ : إذا قصد ، أي : نحن قاصدون نحوك .

ومنه : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .

وقيل : معناه : هو طابع الدعاء .

وقيل : هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ ، وظهور ما فيه . وقال النَّووي[6] - رحمه الله تعالى - في " التهذيب " : وقال عطية العوفي[7] : [ " آمين " ][8] كلمة عبرانية ، أو سُرْيانية ، وليست عربية .

وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد : " آمِينَ " كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى .

وروي فيها الإِمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي ، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل : أَيْنَ وَكَيْفَ .

وقيل : آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها .

وقيل : معناه : اللَّهم آمنا بخير .

وقال بعضهم : بنيت لأنها ليست عربية ، وأنها اسم فعل [ ك " صَهٍ " " ومَهٍ " أَلاَ ترى أن معناها : " اللهم استجب ، وأعطنا ما سألناك " .

وقالوا : إن مجيء " آمِين " دليلٌ على أنها ليست عربيةً ][9] ؛ إذ ليس في كلام العرب " فَاعِيل " .

فأما " آري " فليس ب " فَاعِيل " ، بل هو عند جماعة " فَاعُول " .

وعند بعضهم " فَاعِلي " .

وعند بعضهم [ " فَاعِي " ][10] بالنقصان .

وقال بعضهم : إن " أمين " المقصورة لم يجىء عن العرب ، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو : [ الطويل ]

96- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . - *** -فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا[11]

روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا قَالَ الإمَامُ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ }[12] ، فقولوا : آمِين ، فإنّ المَلائِكَةَ تقول : آمين ، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ " .

فصل في وجوب القراءة في الصلاة

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة .

وعن الأَصَمّ[13] والحسن بن صالح[14] - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا : لا تجب لنا [ أن كلّ دليل نذكره في بيان أن ][15] قراءة الفاتحة واجبة ، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب ، ونزيد - ها هنا - وجوهاً :

الأول : فهو قوله تبارك وتعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } [ الإسراء : 78 ] .

والمراد بالقرآن القراءة ، والتقدير : أقم قراءة الفجر ، وظاهر الأمر الوجوب .

الثاني : عن أبي الدَّرْدَاء[16] - رضي الله تعالى عنه - " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال : " نَعَمْ " فقال السَّائل : وجبت ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله : " وَجَبَتْ " [17] .

الثالث : عن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله تعالى عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : أيقرأ في الصلاة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " أتَكُونُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ " [18] ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني[19] .

وحجّة الأصم - رحمه الله تعالى - قوله عليه الصلاة والسلام : " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي " [20] جعل الصلاة من الأشياء المرئية ، والقراءة ليست مرئية ، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة ، والجواب : أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم .

فصْلٌ

قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة ، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته ، وبه قال الأكثرون .

وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ .

لنا وجوه :

الأول : أنه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة ، فوجب علينا ذلك ، لقوله تعالى : { وَاتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] ، ولقوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [ النور : 63 ] ، ولقوله تعالى : { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] .

ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ ، في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على النّاصية ، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة ، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب على قراءة الفاتحة ، ثم قال : إن صحّة الصَّلاة غير موقوفةٍ عليها ، وهذا من العَجَائب .

الثاني : قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [ البقرة : 43 ] ، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام ، فيكون المراد منها المعهود السَّابق ، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاة إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها .

وإذا كان كذلك كان قوله تعالى :{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [ البقرة :43 ] جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة ، وظاهر الأمر [ الوجوب ][21] ، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة ، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتحَةِ في الصَّلاةِ .

الثالث : أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدلُّ عليه ما روي في " الصّحيحين " " أن النَّبي - عليه الصلاة والسلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة ب { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[22] ، وإذا ثبت هذا وجَبَ علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي " [23] .

ولقوله عليه الصلاة والسلام : " اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي : أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ " رضي الله عنهما .

والعجب من أبي حنيفة - رحمه الله - أنه تمسَّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان[24] - رضي الله عنه - مع أن عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث ، فلم يتمسّك بعمل [ كل ] الصحابة - رضي الله عنهم - على سبيل الإطباق ، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة ، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن ، والإخبار ، والمعقول !

الرابع : أن الأمّة [ وإن ][25] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا ؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَلِ فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة ، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول : إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين ، فيدخل تحت قوله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 115 ] فإن قالوا : إنَّ الذين اعتقدوا أنَّهُ لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد النّدبية ، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها .

فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بَيَّنَّا إطباق الكُلّ على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَلِ فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ ، وهذا القدر يكفينا في الدَّلِيلِ ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادِّعَاء الإجماع في اعتقاد الوجوب .

الخامس : قوله عَزَّ وجَلَّ : " قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن ، فإذا قَالَ العَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يقول الله تَعَالى : حَمِدَنِي عَبْدِي . . . " [26] ، إلى آخر الحديث .

وجه الاستدلال : أنه - تَعَالَى - حكم على كلّ صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلاّ بسبب آيات هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم[27] لا يحصل إلا إذا قلنا : قراءة الفاتحة شرط في صِحّة الصلاة .

السَّادس : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " .

قالوا : حرف النفي دخل على الصَّلاة ، ودخل على غير مُمْكِنٍ ، فلا بُدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصَّلاة ، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال .

والجواب من وجوه :

الأول : أنه جاء في بعض الرِّوَايات : " لا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة ، وإنما دخل على حصولها للرَّجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها ، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها ، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على ظاهره .

الثاني : من اعتقدوا أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة ، فعند عدم القراءة لا توجد ماهية الصلاة ؛ لأنّ الماهية تمنع حصولها حال عدم بعض أجزائها ، وإذا ثبت هذا فقولهم : إنه لا يمكن إدخال حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة ، وهذا [ هو ][28] أول المسألة ، فثبت أن قولنا : يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه متى تعذّر العمل بالحقيقة ، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما : أقرب إلى الحقيقة ، والثاني : أبعد ؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب .

إذا ثبت هذا فنقول : المُشَابهة بين المعدوم ، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [ أتم من المُشابَهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً ][29] ، لكنه لا يكون كاملاً ، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى .

الحُجَّة السَّابعة : عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج ، فهي خداج " [30] أي غير تمام ، قالوا : الخِدَاجُ هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز .

قلنا : بل هذا يدلّ على عدم الجواز ؛ لأن التكليف بالصَّلاة دائم ، والأصل في الثابت ، البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ ، فعند الإتيان بها على سبيل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه قال : لو صام يوم العِيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح ؛ لأن الواجب عليه هو الصَّوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب ألا يفيد هذا القضاء الخروج عن العُهْدَةِ .

وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا ؟

الحُجّة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في " تعليقه " عن ابن المُنْذِرِ[31] أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " .

الحُجّة التاسعة : روى رفاعة بن مالك[32] - رضي الله عنه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى ، فلما فرغ من صلاته ، ذكر في الخبر أن الرجل قال : علّمني الصَّلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبِّرُوا ، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَابِ " [33] ، وهذا أمر ، والأمر للوجوب .

الحُجّة العاشرة : " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها " ، قالوا : نعم ، قال : " فما تقرءونه في صَلاَتكم " ؟ فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين ، قال : " هِيَ هِيَ " " .

وجه الدليل : " أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال : " ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم " ؟ قالوا : الحمد لله رب العالمين " [34] ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة ، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم .

الحُجّة الحادية عشرة : التمسُّك بقوله تعالى : { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] فهذا أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ .

فنقول : المراد بما تيسّر من القرآن ، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع ، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة ، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها .

وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة ، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز .

واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن ؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين ، فهي متيسّرة للكل ، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة ، وقد لا تكون ، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ .

الحُجّة الثَّانية عشرة : الأصل بقاءُ التكليف ، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة ، إما أنْ يعرف بالنَّص[35] أو بالقياس[36] .

أما الأول فباطل .

[ لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى :{ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[ المزمل :20 ] وقد بينا أنه دليلنا .

وأما القياس ][37] فباطل ؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاة ، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس .

الحُجّة الثالثة عشرة : أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره ، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع ، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : " اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا " ، و " أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمّدٍ ، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا " [38] .

واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر .

أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى : { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل :20 ] .

وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي[39] عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لا صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ ، ولو بفاتحة الكِتَاب " [40] .

والجواب عن الأول : أنا بَيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا .

وعن الثاني : أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة ، وأيضاً لا يجوز أن يقال : المراد من قوله : " لا صَلاَةَ إلا بقراءة ، ولو بفاتحة الكتاب " وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 1000

فَصْلٌ

قال ابن الخطيب - رحمه الله - : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم ، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن .

واعلم أن هذا في غاية الصعوبة ؛ لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة[59] بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن ، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رضي الله عنه - عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل .

وإن قلنا : النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال : إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية .

والأغلب على الظن أن يقال : هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ ، والله الهادي إلى الصواب ، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب .