السورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثرهم لها اسم يعرف بطريق الرواية ، وقد روى لهذه السورة عدة أسماء اشتهر منها : أم الكتاب ، أم القرآن . { لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على الله والتعبد بأمره ونهيه ، وبيان وعده ووعيده } ، والسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة } ، والأساس { لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه } ، والفاتحة { لأنها أول القرآن في هذا الترتيب أو أول سورة نزلت } فقد أخرج البيهقي في كتابه الدلائل عن أبي ميسرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا . فقالت معاذ الله ، ما كان الله ليفعل بك ، فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم . وتصدق . ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخبر ورقة بذلك ، وإن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء ، وإنه صلى الله عليه وسلم لما خلا ناداه الملك يا محمد قل : بسم الله الرحمان الرحيم ، الحمد لله رب العالمين –حتى بلغ ولا الضالين " .
وقد رجح هذا بأنها مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال ، ثم فصل ما أجملته بعد .
بيان هذا أن القرآن الكريم اشتمل على التوحيد ، وعلى وعد من أخذ به بحسن المثوبة ووعيد من تجافى عنه وتركه بسيء العقوبة ، وعلى العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس ، وعلى بيان سبيل السعادة الموصل إلى نعيم الدنيا والآخرة ، وعلى القصص الحاوي أخبار المهتدين الذين وقفوا عند الحدود التي سنها الله لعباده ، وفيها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم ، والضالين الذين تعدوا الحدود ، ونبذوا أحكام الشرائع وراءهم ظهريا .
وقد حوت الفاتحة هذه المعاني جملة ، فالتوحيد يرشد إليه قوله : { الحمد لله رب العالمين } لأنه يدل على أن كل ثناء وحمد يصدر عن نعمة فهو له ، ولن يكون هذا إلا كان عز اسمه مصدر النعم التي تستوجب الحمد ، وأهمها نعمة الإيجاد والتربية وذلك صريح قوله : { رب العالمين } وقد استكمله بقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } وبذلك اجتث جذور الشرك التي كانت فاشية في جميع الأمم ، وهي اتخاذ أولياء من دون الله يستعان بهم على قضاء الحاجات ويتقرب بهم إلى الله زلفى .
والوعد والوعيد يتضمنهما قوله { مالك يوم الدين } إذ الدين هو الجزاء وهو إما ثواب للمحسن وإما عقاب للمسيء .
والعبادة تؤخذ من قوله : { إياك نستعين } .
وطريق السعادة يدل عليه قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } إذ معناه أنه لا تتم السعادة إلا بالسير على ذلك الصراط المستقيم ، فمن خالفه وانحرف عنه كان في شقاء مقيم .
والقصص والأخبار يهدي إليها قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } فهو يرشد إلى أن هناك أمما قد مضت وشرع الله شرائع لهديها فاتبعتها وسارت على نهجها ، فعلينا أن نحذو حذوها ونسير على سننها .
وقوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يدل على أن غير المنعم عليهم صنفين : صنف خرج عن الحق بعد علمه به ، وأعرض عنه بعد أن استبان له ، ورضي بما ورثه عن الآباء والأجداد وهؤلاء هم المغضوب عليهم ، وصنف لم يعرف الحق أبدا أو عرفه على وجه مضطرب مهوش ، فهو في عماية تلبس الحق بالباطل وتبعد عن الجادة الموصلة إلى الصراط السوي ، وهؤلاء هم الضالون .
وهذه السورة إحدى السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وعدة آيها سبع .
وقد نزل القرآن الكريم منجما أي مفرقا في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي دعت إلى نزوله ، وقد نزل بعضه بمكة قبل الهجرة وبعضه بالمدينة ، ولكل من المكي والمدني ميزات يعرف بها .
ميزات المكي :
فمن ميزات المكي أنه نزل لبيان أسس الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر ، والملائكة والكتاب والنبيين ، وفعل الخيرات وترك المنكرات ، مع إيجاز في التعبير ، واختصار في الأسلوب ، ويتضح ذلك جليا في قصار المفصل كالحاقة والواقعة والمرسلات .
ميزات المدني :
ومن ميزات المدني أنه جاء بأحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية في السلم والحرب ، وأصول التشريع للحكومات الإسلامية ، إلى إسهاب في الأسلوب وبسطة في القول ، ولا سيما عند محاجة أهل الكتاب ، والنعي عليهم بتحريف ما أنزل إليهم ودعوتهم إلى التوحيد الخالص ، وبيان أن الإسلام الذي جاء به القرآن هو دين الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا .
بسم الله الرحمان الرحيم{ 1 }
تمهيد
يرى بعض الصحابة كأبي هريرة وعلي وابن عباس وابن عمر ، وبعض التابعين كسعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك وبعض فقهاء مكة وقرائها ومنهم ابن كثير ، وبعض قراء الكوفة وفقهائها ومنهم عاصم والكسائي والشافعي وأحمد ، أن البسملة آية من كل سور القرآن الكريم .
ومن أدلتهم على ذلك :
إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة عدا سورة براءة ، مع الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه ، ومن ثم لم يكتبوا { آمين } في آخر الفاتحة .
ما ورد في ذلك من الأحاديث ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمان الرحيم ) ، وروى أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف انقضاء السورة ، حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمان الرحيم } وروى الدارقطني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمان الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمان الرحيم إحدى آياتها ) .
أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى ، والبسملة بينهما فوجب جعلها منه .
ويرى مالك وغيره من علماء المدينة ، والأوزاعي من علماء الشام ، وأبو عمرو يعقوب من قراء البصرة وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة –أنها آية مفردة من القرآن أنزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها .
ويرى عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا وهو رأي بعض الحنفية .
ومن أدلتهم على ذلك حديث أنس قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان . وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمان الرحيم في أول قراءة ولا آخرها .
الإيضاح :
{ بسم } الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات كمحمد وإنسان ، أو معنى كعلم وأدب .
وقد أمرنا الله بذكره وتسبيحه في آيات فقال : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم } وقال : { فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } وقال : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } .
وأمرنا بذكر اسمه وتسبيحه في آيات أخرى فقال : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } وقال : { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } وقال : { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } .
ومن ذلك يعلم أن ذكر المسمى مطلوب بتذكر القلب إياه ونطق اللسان به لتذكر عظمته وجلاله ونعمه المتظاهرة على عباده ، وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر إليه وطلب المعونة منه على إيجاد الأفعال وإحداثها .
وذكر الاسم مشروع ومطلوب كذلك ، فيعظم الاسم مقرونا بالحمد والشكر وطلب المعونة في كون الفعل معتدا به شرعا ، فإنه ما لم يصدر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم .
{ الله } علم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى ، وكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلق السماوات والأرض ؟ يقول الله : وإذا سئل هل خلقت اللات والعزى شيئا من ذلك ؟ يجيب { لا } .
والإله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بالحق .
{ الرحمان الرحيم } كلاهما مشتق من الرحمة وهي معنى يقوم بالقلب يبعث صاحبه على الإحسان إلى سواه ، ويراد منها في جانب المولى عز اسمه أثرها وهو الإحسان .
إلا أن لفظ { الرحمان } يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة وهي إسباغ النعم والإحسان ، ولفظ { الرحيم } يدل على منشأ هذه الرحمة ، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له ، فإذا وصف الله جل ثناؤه بالرحمان استفيد منه لغة أنه المفيض للنعم ، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما . وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم علم أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم ، وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين ، وإذا يكون ذكر الرحيم بعد الرحمان كالبرهان على أنه يفيض الرحمة على عباده دائما لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار .
افتتح عز اسمه كتابه الكريم بالبسملة إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها ، وقد ورد في الحديث ( كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر ) " أي مقطوع الذنب ناقص " .
وقد كان العرب قبل الإسلام يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات أو باسم العزى ، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم ، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول أعمله باسم فلان ، أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الملك أو الأمير .
وإذا فمعنى أبتدئ عملي باسم الله الرحمان الرحيم أنني أعمله بأمر الله ولله لا لحظ نفسي وشهواتها .
ويمكن أن يكون المراد –أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله ولولا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا ، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي ، بل هو باسمه تعالى ، لأنني أستمد القوة والعون منه ، ولولا ذلك لم أقدر على عمله ، وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم ، أن جميع ما جاء في القرآن من الأحكام والشرائع والأخلاق والآداب والمواعظ –هو لله ومن الله ليس لأحد غيره فيه شيء ، وكأنه قال اقرأ يا محمد هذه السورة بسم الله الرحمان الرحيم ، أي اقرأها على أهل من الله لا منك ، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وتلاوتها على أمته أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه أي أنها من الله لا منه ، فإنما هو مبلغ عنه تبارك وتعالى كما جاء في قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين } .